9 Sep 2015
اختلاف الفِرَق في القرآن
ذكرنا أن أئمة أهل السنة كانوا إنما يردّون على المعتزلة وغيرهم بالكتاب والسنة، ولا يتعاطون علم الكلام في الرد عليهم، ولا يتشاغلون به؛ فسلموا بذلك من فتن كثيرة.
ثم نشأ أقوام أرادوا الردّ على المعتزلة والانتصار لأهل السنة بالحجج المنطقية والطرق الكلامية؛ فخاضوا فيما نهاهم عنه أهل العلم؛ ووقعوا في بدع أخرى، وخرجوا بأقوال محدثة مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة.
فمن ذلك أن أبا محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري (ت: 243هـ) - وكان معاصراً للإمام أحمد بن حنبل- أراد الرد على المعتزلة بمقارعتهم بأصولهم المنطقية وحججهم الكلامية؛ فأدّاه ذلك إلى التسليم لهم ببعض أصولهم الفاسدة، وتمكّن من ردّ بعض قولهم وبيان فساده وإفحام بعض كبرائهم؛ فغرّه ذلك، وصنّف الكتب في الردّ على المعتزلة، واجتهد في ذلك اجتهاداً بالغاً، واشتهرت ردوده على المعتزلة، وإفحامه لبعض كبرائهم، وانقطاعهم عند مناظرته، فظنّ بذلك أنّه نصر السنة، وأعجبت ردودُه ومناظراته بعض من كان مغتاظاً من المعتزلة، فذاع صيته واشتهر ذكره، وأشادوا بذكائه وبراعته في المجادلة، حتى تبعه على طريقته بعض الناس وفتن بها.
وكان بسبب تقصيره في معرفة السنة وعلوم أهلها، وسلوكه طريقة المتكلّمين، وتسليمه للمعتزلة بعض أصولهم الفاسدة قد خرج بقول بين قول أهل السنة وقول المعتزلة، وأحدث أقوالاً لم تكن تعرف في الأمّة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وابن كلاب لما رد على الجهمية لم يهتدِ لفساد أصل الكلام المحدث الذي ابتدعوه في دين الإسلام بل وافقهم عليه).
فإنّه وافقهم على أصلهم الذي أصّلوه، وهو مبدأ امتناع حلول الحوادث به جلّ وعلا؛ وتفسيرهم لهم يقتضي نفي كلام الله تعالى، بل جميع الصفات الفعلية المتعلّقة بالمشيئة.
فلذلك خرج ابن كلاب بقول محدث في القرآن، وهو أنّه القرآن حكاية عن المعنى القديم القائم بالله تعالى، وأنّه ليس بحرف ولا صوت، ولا يتجزأ ولا يتباعض، ولا يتفاضل إلى آخر ما قال.
وهذا كلّه بسبب أنّه التزم هذا الأصل الذي أصّلوه وهو باطل.
ولابن كلاب أقوال أخرى محدثة في الصفات والإيمان والقدر.
قال ابن تيمية: (فأحدث ابن كلاب القول بأنه كلام قائم بذات الرب بلا قدرة ولا مشيئة. فهذا لم يكن يتصوره عاقل، ولا خطر ببال الجمهور، حتى أحدث القول به ابن كلاب).
وقال الذهبي عن ابن كلاب: (وقد صنف كتبا كثيرة في التوحيد والصفات، وبين فيها أدلة عقلية على فساد قول الجهمية. وبين أن علو الله تعالى على عرشه ومباينته لخلقه معلوم بالفطرة والأدلة العقلية، كما دل على ذلك الكتاب والسنة).
وظنّ بعض الجهلة أن ابن كُلاب قد انتصر لأهل السنة لمّا بيّن بعض باطل المعتزلة وتناقضهم بتلك الطريقة المبتدعة، ووافقه على طريقته من انتحل الطرق الكلامية في الردّ على المعتزلة؛ كالحارث بن أسد المحاسبي وأبي العباس أحمد بن عبد الرحمن القلانسي، ثم سلك هذه الطريقة فيما بعد أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري(324هـ) وأبو منصور محمد بن محمد الماتريدي (ت:333هـ) وامتاز كلّ واحد منهما عن الآخر بأقوال انفرد بها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كان الناس قبل أبي محمد ابن كلاب صنفين:
- فأهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها.
- والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا وهذا.
فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به، ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها. ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري، وغيرهما)ا.هـ.
وقد أنكر أئمّة أهل السنة على ابن كلاب طريقته المبتدعة، وما أحدث من الأقوال، وحذّروا منه ومن طريقته.
قال ابن خزيمة: (كان أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبد الله بن سعيد بن كلاب، وعلى أصحابه مثل الحارث وغيره).
وكان الحارث المحاسبي في أوّل أمره على طريقة أهل السنة وينزع إلى التصوف والكلام في الخطرات والوساوس ودقائق علم السلوك، وكان يُبكي الناس بمواعظه، وكَفّر أباه لأنّه كان واقفياً، ولم يرث من ماله الوفير شيئاً بعد موته على شدة فقره، ولمّا سُئل عن ذلك قال: (لا يتوارث أهل ملتين).
ثم إنّ الحارثَ أعجبته ردود ابن كلاب على المعتزلة فتبعه على قوله، وتكلّم بشيء من علم الكلام؛ فهجره الإمام أحمد وأمر بهجره وحذّر منه؛ فهجره أهل الحديث، حتى إنه لما مات لم يشهد جنازته سوى أربعة نفر.
وقد قيل: إنه رجع عن علم الكلام قبل موته، والله تعالى أعلم.
وكذلك كان إمام الأئمّة ابن خزيمة (ت:311هـ) من أشدّ العلماء على الكلابية، وأكثرهم تحذيراً منهم، وردّا عليهم.
وأما أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (ت:324هـ)؛ فإنّه كان معتزلياً في شبابه حتى بلغ الأربعين من عمره، وقد نشأ في كنف زوج أمّه أبي علي الجبّائي، وكان الجبّائي من رؤوس المعتزلة في زمانه، وعنه أخذ الأشعري علمَ الكلام حتى بلغ فيه الغاية عندهم؛ وعدّوه إماما من أئمّتهم، حتى كان الجبّائي ينيبه في بعض مجالسه.
وكان الأشعري تحيك في نفسه أسئلة لا يجد لها جواباً شافياً فيتحيّر فيها، ويسأل الجبّائيَّ فلا يجد عنده ما يشفيه، حتى ناظره في مسائل انقطع عنها الجبّائيّ؛ وتبيّن للأشعري فساد قول المعتزلة، وأدرك أنّهم موّهوا على الناس وفتنوهم.
فأصابته حيرة شديدة احتبس بسببها عن الناس خمسة عشر يوماً، ثم دخل جامع البصرة يوم الجمعة واعتلى المنبر، وأعلن للناس توبته من الاعتزال، والتزامه قول أهل السنة؛ وعزمه على الانتصار لها، والردّ على المعتزلة، وكان قد امتلأ غيظاً من المعتزلة بسبب تمويههم على الناس بشبهات تبيّن له بطلانها وفسادها وقبح مؤدّاها، وضياع شطر من عمره في أباطيلهم.
لكنّه كان متبحّراً في علم الكلام، قليل البضاعة في علوم السنّة؛ بصيراً بعلل أقوال المعتزلة وتناقضهم وتهافت أقوالهم، وأعجبته طريقة ابن كلاب؛ لقربها من فهمه وإدراكه؛ وكان يرى أنّ ابن كلاب متكلّم أهل السنّة، والمحاجّ عنهم؛ فانتهج طريقته واستدرك عليه فيها، وزاد فيها، واجتهد في الرد على المعتزلة ومناظرتهم حتى اشتهرت أخبار مناظراته وردوده، وإفحامه لعدد من أكابرهم بالطرق الكلامية والحجج العقلية المنطقية؛ حتى أحرجهم وصار بعضهم يتجنّب المجالس التي يغشاها الأشعري؛ فعظّمه بعض الناس لذلك، وعدّوه منافحاً عن السنّة، مبطلا لقول خصوم أهل السنة من المعتزلة.
ثمّ إنّه خاض في معامع الردود مدّة من عمره على هذه الطريقة، وهو يظنّ أنه ينصر السنّة المحضة، وهو – وإن كان أقرب إلى السنة من المعتزلة – إلا أنّه قد خالف أهل السنة وطريقتهم، وأحدث أقوالاً في مسائل الدين وأصوله لم تكن تعرف من قبل.
ثم إنّه في آخر حياته ألّف كتابه "الإبانة" الذي رجع فيه عن الطريقة الكلامية ، والتزم قول أهل الحديث، وكان مما قال فيه: (قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب الله ربنا عز وجل، وبسنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما روي عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل- نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين؛ فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم...) إلى آخر ما قال.
فهذا رجوع عامٌّ مجمل إلى قول أهل السنة، وقد حكى في الإبانة من عقيدته ما خالف فيه ابن كلاب في مسائل الصفات والكلام والقرآن وغيرها، وأخطأ في مسائل ظنّ أنه وافق فيها أهل السنة، وهو مخالف لهم؛ كمسألة الاستطاعة وغيرها.
ولذلك اختلف في شأنه أهل العلم؛ فمنهم من قال إنه رجع رجوعاً صحيحاً إلى مذهب أهل السنة، ومنهم من ذهب إلى أنّ رجوعه كان رجوعاً مجملاً لم يخل من أخطاء في تفاصيل مسائل الاعتقاد.
وعلى كلّ حال فإنّ أتباعه بقوا على طريقته الأولى، بل زادوا في أخذهم بالطرق الكلامية، ولم يزل الانحراف يزداد شيئاً فشيئا حتى عظمت الفتنة بالأشاعرة فيما بعد.
قال ابن تيمية: (ويوجد في كلام أبي الحسن من النفي الذي أخذه من المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي محمد بن كلاب الذي أخذ أبو الحسن طريقَه، ويوجد في كلام ابن كلاب من النفي الذي قارب فيه المعتزلة ما لا يوجد في كلام أهل الحديث والسنة والسلف والأئمة، وإذا كان الغلط شبراً صار في الأتباع ذراعاً ثم باعاً حتى آل هذا المآل؛ فالسعيد من لزم السنة)ا.هـ.
قال الإمام أحمد: (لا تجالس صاحب كلام وإن ذب عن السنة فإنه لا يؤول أمره إلى خير).
وقال أبو محمّد البربهاري: (ت:328هـ): ( احذر صغار المحدثات من الأمور؛ فإن صغار البدع تعود كبارا).
وكان البربهاري شيخ الحنابلة في زمانه، مهيباً مسموع الكلمة كثير الأتباع، وهو معاصر لأبي الحسن الأشعري، فدخل عليه أبو الحسن وعرض عليه ردوده على المعتزلة ؛ فأنكر عليه أبو محمد البربهاري طريقته.
وفي القرن الخامس ألّف الإمام الحافظ أبو نصر السجزي (ت:444هـ) في الردّ على ابن كلاب والأشعري والقلانسي رسالته في الحرف والصوت، وكتاب الإبانة، واجتهد في نصرة السنّة والذبّ عنها.
والمقصود أن ابن كلاب على ما لديه من المخالفات والمحدثات كان أقرب إلى أقوال السلف من أبي الحسن الأشعري، وكان أبو الحسن الأشعري مع ما أحدث أقرب من أتباعه الذين انتحلوا طريقته وزادوا فيها.
فإنّ الأشاعرة بعده كانوا على طبقات؛ كل طبقة يكون في بعض متكلميهم من الانحراف والأقوال المحدثة ما ليس عند متقدّميهم، فازدادوا بذلك بعداً عن السلف وعن طريقة أبي الحسن الأشعري التي كان عليها مع انتسابهم إليه، إلى أن وصل الأمر بمتأخري الأشاعرة كأبي المعالي الجويني وأبي بكر الرازي إلى نفي الصفات الخبرية جملة فلا يثبتون منها إلا ما دلّ على العقل، وجرّدوا القول بتقديم العقل على النقل.
وخلط بعض متأخري الأشاعرة التصوف بالكلام؛ فأنتج لهم ذلك أنواعاً من الأقوال الفاسدة المحدثة، والفتن العظيمة التي سرى أثرها في الأمّة بسبب تعصّب أتباعهم لأقوالهم، وتقريب بعض أصحاب السلطان للقضاة والفقهاء من ينتحلون هذه المذاهب؛ فعظمت الفتنة بهم في القرن السابع والثامن، وانبرى للردّ عليهم أئمة أهل السنة من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما ، ولقوا في ذلك ما لقوا.
والمقصود التنبيه إلى أنّ فتنة القول بخلق القرآن؛ كانت فتنة عظيمة، سرى أثرها في الأمّة وتشعّب، وكانت سبباً من أسباب تفرّق الفرق وظهور النحل المخالفة لأهل السنة.