الدروس
course cover
شرح مسائل نزول سورة الفاتحة
9 Aug 2016
9 Aug 2016

8901

0

0

course cover
تفسير سورة الفاتحة

القسم الأول

شرح مسائل نزول سورة الفاتحة
9 Aug 2016
9 Aug 2016

9 Aug 2016

8901

0

0


0

0

0

0

0

شرح مسائل نزول سورة الفاتحة



من المسائل التي يبحثها أهل العلم في شأن نزول الفاتحة:
هل سورة الفاتحة مكية أو مدنية؟
● هل تكرر نزولها؟
● هل نزلت جميعاً؟
● كيف كان حال نزولها؟
● وما ترتيب نزولها؟
وهل صحّ أنها نزلت من كنز تحت العرش؟
● وهل نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على الأرض أم في السماء حين فرضت الصلاة؟
● وبيان اختصاص هذه الأمة بتنزيل سورة الفاتحة.

وموضوع هذا الدرس الجواب على هذه الأسئلة المتقدّمة، وقد أُدخِلُ الحديثَ عن بعض المسائل في بعض.

الخلاف في مكيّة سورة الفاتحة:
اختلف العلماء في نزول سورة الفاتحة على أقوال:
القول الأول: هي سورة مكية، وهو قول أبي العالية الرياحي والربيع بن أنس البكري.
وروي عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وفي الرواية عنهم ما يأتي توضيحه إن شاء الله.
وروي عن الحسن البصري وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وقتادة السدوسي وغيرهم.

وقد استدلَّ جماعة من المفسّرين لهذا القول بقوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم}، وهذه الآية من سورة الحجر وهي مكيَّة باتفاق العلماء.
وقد صحّت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنّ المراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم فاتحة الكتاب، وقد تقدَّم ذكرها.
روى ابن جرير الطبري بإسناده عن أبي جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنس البكري، عن أبي العالية الرياحي في قول اللّه تعالى: {ولقد آتيناك سبعًا من المثاني} قال: (فاتحة الكتاب، سبع آياتٍ)
قال أبو جعفر الرازي: قلت للرّبيع: إنّهم يقولون: السّبع الطّول.
فقال: (لقد أنزلت هذه وما نزل من الطّول شيءٌ).
وروى ابن جرير نحوه موصولاً إلى أبي العالية الرياحي.

تحقيق نسبة هذا القول إلى بعض الصحابة رضي الله عنهم:
روي هذا القول عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين.
فأما عمر بن الخطاب فعمدة نسبة هذا القول إليه ما روي عنه من تفسير السبع المثاني بفاتحة الكتاب.
روى ابن جرير في تفسيره من طريقين عن سعيد الجريري عن أبي نضرة العبدي أنه قال: قال رجلٌ منّا يقال له جابرٌ أو جويبرٌ: طلبت إلى عمر حاجةً في خلافته، فقدمت المدينة ليلاً فمثلت بين أن أتّخذ منزلاً وبين المسجد، فاخترت المسجد منزلاً فأرقت نشوًا من آخر اللّيل، فإذا إلى جنبي رجلٌ يصلّي يقرأ بأمّ الكتاب ثمّ يسبّح قدر السّورة، ثمّ يركع ولا يقرأ، فلم أعرفه حتّى جهر، فإذا هو عمر، فكانت في نفسي، فغدوت عليه، فقلت: يا أمير المؤمنين حاجةٌ مع حاجةٍ قال: هات حاجتك قلت: إنّي قدمت ليلاً فمثلت بين أن أتّخذ منزلاً وبين المسجد، فاخترت المسجد، فأرقت نشوًا من آخر اللّيل، فإذا إلى جنبي رجلٌ يقرأ بأمّ الكتاب ثمّ يسبّح قدر السّورة ثمّ يركع ولا يقرأ، فلم أعرفه حتّى جهر، فإذا هو أنت، وليس كذلك نفعل قبلنا. قال: وكيف تفعلون؟ قال: يقرأ أحدنا أمّ الكتاب، ثمّ يفتتح السّورة فيقرأها، قال: " ما لهم يعلمون ولا يعملون؟ ما لهم يعلمون ولا يعملون؟ ما لهم يعلمون ولا يعملون؟ وما يبتغى عن السّبع المثاني وعن التّسبيح صلاة الخلق).
وهذه القصّة فيها نكارة، وفيها جهالة حال شيخ أبي نضرة، وأمَّا الجريري وأبو نضرة فثقتان.
وليس في هذه الرواية تصريح بمكيّة الفاتحة سوى تفسير السبع المثاني بفاتحة الكتاب مع ما عُلِم من أنّ سورة الحجر مكية.

وأمّا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فرويت عنه روايتان إحداهما صحيحة غير صريحة، والأخرى صريحة غير صحيحة.
فأمّا الرواية الأولى: فما رواه السّدّيّ، عن عبد خيرٍ، عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: (السّبع المثاني: فاتحة الكتاب). رواه ابن جرير وسفيان الثوري والطحاوي في شرح مشكل الآثار والدارقطني في سننه والبيهقي في شعب الإيمان من طرق عن السدّي عن عبد خير عن علي رضي الله عنه، وهو إسناد حسن.

وأما الرواية الأخرى: فما روي عنه أنه قال: (نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش). رواه الثعلبي في تفسيره ومن طريقه تلميذه الواحدي في أسباب النزول بإسنادهما إلى مروان بن معاوية الفزاري عن العلاء بن المسيب عن الفضيل بن عمرو عن علي.
وهذه الرواية ضعيفة لعلَّتين:
إحداهما: انقطاع الإسناد فإنّ فضيل بن عمرو لم يدرك عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
والأخرى: أنّ هذا الأثر رواه إسحاق بن راهويه كما في إتحاف الخيرة قال: حدثنا يحيى بن آدم ثنا أبو زبيد واسمه عبثر عن العلاء بن المسيب عن فضيل بن عمرٍو، عن علي بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه أنّه سئل عن فاتحة الكتاب، فقال: ثنا نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثمّ تغيّر لونه، وردّدها ساعةً حين ذكر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ثمّ قال: (أنها نزلت من كنزٍ تحت العرش).
فلم يذكر فيه نزول سورة الفاتحة بمكّة.

وأما ابن مسعود رضي الله عنه فلما روى ابن جرير في تفسيره من طريق عبد الله بن إدريس عن هشام بن حسان عن ابن سيرين، قال: سئل ابن مسعودٍ عن سبعٍ من المثاني، قال: (فاتحة الكتاب).
وهذا الأثر رجال إسناده أئمة ثقات لكنَّه منقطع؛ فابن سيرين لم يدرك ابن مسعود.

وأمّا ابن عباس رضي الله عنهما فأخرج له ابن الضريس في فضائل القرآن رواية من طريقين عن عطاء الخراساني عن ابن عباس أنه قال: (أول ما نزل من القرآن بمكة، وما أنزل منه بالمدينة الأول فالأول، فكانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة، فكتبت بمكة، ثم يزيد الله فيها ما يشاء، وكان أول ما أنزل من القرآن: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} ، ثم {ن والقلم}، ثم {يا أيها المزمل}، ثم {يا أيها المدثر}، ثم الفاتحة، ثم {تبت يدا أبي لهب}...) ثم ساق سور القرآن كلها
وهذه الرواية ضعيفة جداً، في أحد طريقيها عمر بن هارون متروك الحديث، وفي الثانية ابن جريج وقد عنعن، وعطاء الخراساني لم يدرك ابن عباس، ومتن الأثر فيه نكارة ومخالفة ظاهرة لبعض ما صحّ في نزول السور.
وابن عباس رويت عنه روايتان في المراد بالسبع المثاني أصحّهما التي من طريق عبد الملك بن جريج عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن قال في قول الله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني} قال: (هي فاتحة الكتاب). رواه الشافعي وعبد الرزاق وابن جرير.
وقد اختلفت الرواية عن أبي هريرة في هذه المسألة، وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله تعالى.
وأما سعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة وعطاء بن أبي رباح فعمدة الرواية عنهم ما صحّ من تفسيرهم السبع المثاني بأنّها سورة الفاتحة مع علمهم بأنّ سورة الحجر مكية.

وهذا القول هو قول جمهور المفسّرين:
قال الثعلبي: (وعلى هذا أكثر العلماء).
وقال البغوي: ( وهي مكية على قول الأكثرين).
قال الثعلبي: (ومعلوم أن الله تعالى لم يمتنّ عليه بإتيانه السبع المثاني وهو بمكة، ثم أنزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان بمكة يصلي عشر سنوات بلا فاتحة الكتاب، هذا ممّا لا تقبله العقول).
وقال ابن عطية: (ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنها كانت قط في الإسلام صلاة بغير الحمد لله رب العالمين).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وفاتحة الكتاب نزلت بمكة بلا ريب كما دل عليه قوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته)) وسورة الحجر مكية بلا ريب).
قال: (وكذلك قول من قال: الفاتحة لم تنزل إلا بالمدينة غلط بلا ريب. ولو لم تكن معنا أدلة صحيحة تدلنا على ذلك لكان من قال إنها مكية معه زيادة علم)ا.هـ
وتفسير آخر كلامه أنَّ الفاتحة من القرآن بلا ريب، وهي إما مكية وإما مدنية؛ فمن قال إنها مكيَّة فلِمَا لديه من زيادة علم بتقدّم نزولها.

والقول الثاني: هي مدنية، وهو قول مجاهد بن جبر.
وقد نُسب خطأ إلى أبي هريرة وعبد الله بن عبيد بن عمير، وعطاء بن يسار، وعطاء الخراساني، وسوادة بن زياد، والزهري.
وقد حكى هذه الأقوال عنهم أبو عمرو الداني وابن عطية وابن الجوزي وعلم الدين السخاوي والقرطبي وابن كثير، وكَثُر تداولها في كتب التفسير وعلوم القرآن، وقد زاد بعضهم على بعض، ووقع في بعض هذه الأسماء تصحيف في بعض كتب التفسير.
فربما ظنَّ من رأى كثرة من نُسب إليهم هذا القول أن في المسألة خلافاً قوياً، وهي لا تصحّ عنهم، ولا أصل لها فيما بين أيدينا من الكتب المسندة إلا ما كان من الخطأ في رواية هذا القول عن أبي هريرة رضي الله عنه، وسيأتي توضيحه.
قال ابن حجر العسقلاني: (وأغرب بعض المتأخّرين فنسب القول بذلك لأبي هريرة والزّهريّ وعطاء بن يسارٍ).
قلت: وقد توسّع من بعدهم في نسبة هذا القول إلى آخرين.

بيان أنواع ما يُنسب إلى المفسّرين من الأقوال:
ومما ينبغي أن يعلمه طالب علم التفسير أن الأقوال المنسوبة إلى المفسّرين على نوعين:
النوع الأول: أقوال منصوصة، تدلُّ بنصّها على ما استدلَّ بها عليه، وهذه الأقوال يكون فيها الصحيح والضعيف من جهة الإسناد ومن جهة المتن.
والنوع الثاني: أقوال مستخرجة على أصحابها؛ لم يقولوا بنصّها؛ لكنّها فُهمت من قصّة وقعت لهم، أو من نصّ آخر على مسألة أخرى؛ ففُهم من ذلك النص أنه يلزم منه أن يقول في هذه المسألة بكذا وكذا، أو بطرق أخرى من طرق الاستخراج.
واستخراج الأقوال على قسمين:
- فمنه استخراج ظاهر؛ لظهور الدلالة عليه ولزومه لقول صاحبه مع ظهور التزامه به، فهذا النوع قد جرى عمل العلماء على نسبته، ومع هذا فيفضّل عند السعة والبسط أن يبيّن أنه قول مستخرج.
- ومنه استخراج غير ظاهر؛ إما لخفاء وجه الدلالة، أو عدم ظهور وجه اللزوم، أو وجود نصّ آخر له يعارض هذا اللزوم، وهذا القسم من الاستخراج لا يصحّ أن ينسب إلى العالم القول بمقتضاه؛ وقد تساهل في ذلك بعض المفسرين، ومنهم من يستخرج القول؛ فينُقل عنه ويشيع.

وقد يجتمع مع عدم صراحة الدلالة عدم صحّة الرواية، ثم ينتشر القول في كتب المفسّرين بسبب كثرة نقل بعضهم عن بعض إلى أن ينبّه إلى ذلك بعض العارفين بالأسانيد من أهل الحديث والتفسير؛ لكن ربما يخفى ذلك التنبيه على بعض طلاب العلم.
ولذلك حرصت في هذا الكتاب على محاولة التقصّي والتثبّت من نسبة الأقوال إلى قائليها، وتمييز ما صحّ مما لم يصح مما فيه إشكال، وبيان علل الأقوال الضعيفة وأسباب ضعفها ما أمكنني ذلك، جعله الله نصيحةً له تعالى ولكتابه ولطلاب العلم، والله المستعان وعلى التوكّل وبه التوفيق.
ثم لطالب العلم بعد ذلك أن يلخّص ما ترجح بعد معرفته ما صحّ مما لم يصح، وأن يتجاوز الحديث عن كثير من التفصيل في صحة نسبة الأقوال وبيان عللها.

ونسبة القول بأن الفاتحة مدنية إلى أبي هريرة رضي الله عنه لها علّة ينبغي أن تُكشف ليتبيّنها طالب علم التفسير:
فقد روى أبو الأحوص الكوفي عن منصور بن المعتمر عن مجاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «رنَّ إبليس حين أنزلت فاتحة الكتاب، وأنزلت بالمدينة» أخرجه الطبراني في الأوسط، وابن الأعرابي في معجمه كلاهما من طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي الأحوص به، وهو في مصنف ابن أبي شيبة مختصراً بلفظ: «أنزلت فاتحة الكتاب بالمدينة»
وهذا الإسناد رجاله ثقات إلا أنّه منقطع، فإنّ مجاهداً لم يسمع من أبي هريرة.
وقد سُئل الدارقطني عن هذا الحديث فقال: (يرويه منصور بن المعتمر واختلف عنه؛ فرواه أبو الأحوص عن منصور عن مجاهد عن أبي هريرة، وغيره يرويه عن منصور، عن مجاهد من قوله وهو الصواب)ا.هـ.
ورواه ابن أبي شيبة مقطوعاً على مجاهد من طريق زائدة، عن منصور، عن مجاهد، قال: «الحمد لله رب العالمين أنزلت بالمدينة».
ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: (نزلت فاتحة الكتاب بالمدينة).
فالأثر ثابت عن مجاهد رحمه الله، لكنْ وصله إلى أبي هريرة خطأ.
قال الحسين بن الفضل البجلي(ت:282هـ): (لكل عالم هفوة، وهذه منكرة من مجاهد لأنّه تفرَّد بها، والعلماء على خلافه). ذكره الثعلبي.

وأما نسبة هذا القول إلى محمّد بن مسلم الزهري فلأجل ما روي عنه في كتاب "تنزيل القرآن" المنسوب إليه، وأنه عدَّ الفاتحة أول ما نزل بالمدينة، وفي إسناده الوليد بن محمد الموقّري وهو متروك الحديث.

وأما عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي فمن أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما، وله مرويات كثيرة في كتب التفسير، وكان إمام المسجد الحرام في زمانه، وقد روى عنه ابن جرير من طريقين ما يوافق قول الجمهور في المراد بالسبع المثاني بأنها فاتحة الكتاب؛ فلو استُخرج له من هذا الأثر رواية بمكية سورة الفاتحة لكان أهون من أن يُنسب إليه ضدها.
وقد تحرّف اسمه في بعض كتب التفسير إلى عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وهو خطأ.
وكذلك عطاء الخراساني روى عنه عبد الرزاق وابن جرير ما يوافق قول الجمهور في المراد بالسبع المثاني .
وأمَّا عطاء بن يسار وسوادة بن زياد البرجمي فحكى ابن عطيَّة في تفسيره نسبة هذا القول إليهما، ولا أعلم للرواية عنهما في هذه المسألة أصلاً فيما بين أيدينا من الكتب المسندة، وقد تقدّم ذكر استغراب ابن حجر لنسبة هذا القول.
والقول الثالث: نزلت مرتين: مرة بمكَّة ومرة بالمدينة، وهذا القول نسبه الثعلبي والواحدي في البسيط والبغوي في معالم التنزيل إلى الحسين بن الفضل البجلي(ت:282هـ).

- قال الثعلبي في تفسير سورة الفاتحة: (قال بعض العلماء - وقد لفَّق بين هذين القولين- : أنها مكية ومدنية، نزل بها جبرئيل مرتين، مرّة بمكة ومرّة بالمدينة حين حلّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعظيماً وتفضيلاً لهذه السورة على ما سواها ولذلك سميت مثاني، والله أعلم).

- وقال الثعلبي أيضاً في تفسير سورة الحجر: (وقال الحسين بن الفضل وغيره: لأنها نزلت مرّتين كل مرّة معها سبعون ألف ملك، مره بمكة من أوائل ما نزل من القرآن، ومرة بالمدينة).

- وقال الواحدي: (وقال الحسين بن الفضل: سميت مثاني؛ لأنها نزلت مرتين اثنتين؛ مرة بمكة في أوائل ما نزل من القرآن، ومرة بالمدينة)ا.هـ.
- وقال البغوي: (وقال الحسين بن الفضل: سميت مثاني لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة كل مرة معها سبعون ألف ملك).
والحسين بن الفضل البجليّ من كبار المفسّرين، وله تفسير مفقود ينقل عنه الثعلبي كثيراً؛ وقد تقدَّم ذكر انتقاده لرواية مجاهد، وعدّه إيَّاها هفوة، فلعلَّ لحكاية هذا القول عنه علَّة يكشفها النظر في تفسيره أو العثور على نقل تامّ لعبارته.
وفي نقل الثعلبي والبغوي ما يُشعر أنَّ النص مأخوذ من أثرٍ حكاه البجلي في تفسيره؛ فنُسب إليه؛ لأنه يبعد أن يُنشئ القول بذكر نزول هذا العدد من الملائكة مع سورة الفاتحة من تلقاء نفسه.
وقال بهذا القول القشيري (ت:465هـ) في تفسيره المسمَّى لطائف الإشارات، قال في تفسير قول الله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم}: (أكثر المفسرين على أنها سورة الفاتحة، وسميت مثانى لأنها نزلت مرتين: مرة بمكة، ومرة بالمدينة)ا.هـ.

وذكر هذا القول بعد ذلك الكرماني والزمخشري وابن كثير وغيرهم من غير نسبة إلى أحد.
وقد حمل الشوكانيُّ هذا القول على إرادة الجمع بين القولين المتقدّمين، وهو جمع فيه نظر، والقول بتكرر النزول لا يصحّ إلا بدليل صحيح يُستند إليه.
والخلاصة أن هذا القول ضعيف، وفي النفس من نسبته إلى الحسين بن الفضل شيء.

والقول الرابع: نزل نصفها بمكة، ونصفها الآخر بالمدينة، وهذا القول ذكره أبو الليث السمرقندي (ت:375هـ) في تفسيره، قال: (ويقال: نصفها نزل بمكة، ونصفها نزل بالمدينة)ا.هـ.
وهو قول باطل لا أصل له، ولم ينسبه أبو الليث إلى أحد.
وقد ذكر هذا القول القرطبي وابن كثير من باب جمع ما قيل في هذه المسألة لا على سبيل الإقرار.
قال ابن كثير: (وهو غريب جداً).

وتلخيص ما سبق في نزول سورة الفاتحة أنها مكية لقول الله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم}، وقد صحّ تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للمراد بالسبع المثاني أنها فاتحة الكتاب من حديث أبيّ بن كعب وحديث أبي سعيد بن المعلى وحديث أبي هريرة رضي الله عنهم جميعاً، وهي أحاديث صحيحة لا مطعن فيها، وسورة الحجر سورة مكية باتفاق العلماء.
وقد صح عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ما يوافق تفسير النبي صلى الله عليه وسلم، وروي ما يوافقه عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة بأسانيد فيها مقال.
وصحّ هذا التفسير عن جماعة من التابعين.
وصحّ ما يفيد النصّ على أنها مكية عن أبي العالية الرياحي والربيع بن أنس البكري.
ولا يصحّ خلاف ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولا عن أحد من التابعين إلا ما سبق بيانه عن مجاهد رحمه الله.
وجمهور أهل العلم على أنَّ الفاتحة مكيَّة، وهو الصواب، والله تعالى أعلم.

خبر نزول سورة الفاتحة
كان لنزول سورة الفاتحة شأن خاصٌّ يدلّ على فضلها وعظمتها، وفيه إشارة إلى ما ينبغي أن تُتلقَّى به هذه السورة من حسن التلقّي والقبول والتكريم.
روى عمَّار بن رُزيق عن عبد الله بن عيسى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم، سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه، فقال: " هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم"، فنزل منه ملك، فقال: "هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم"؛ فسلَّم وقال: (أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته). رواه مسلم وابن أبي شيبة والنسائي في الكبرى وغيرهم.
النقيض هو الصوت، ونقيض السقف تحرّك أجزائه حتى يُحدث صوتاً.
وفي هذا الحديث بشارة عظيمة للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولأمّته بما اختصّهم الله به من إنزال سورة الفاتحة وخواتيم سورة البقرة عليهم دون سائر الأمم.
وأنزلَ ملكاً كريماً إلى السماء لم ينزل من قبل، وما نزل إلا ليبلّغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم هذه البشارات العظيمة، وما تضمّنته كلّ بشارة منها من كرامات جليلة للنبيّ صلى الله عليه وسلّم ولأمّته تستوجب شكر الله تعالى ومحبّته واتّباع رضوانه.
فالبشارة الأولى: أنها نور عظيم البركة واسع الهدايات جليل البصائر:
- فهي نور يبصّر العبد بما يعرّفه بربِّه جلّ وعلا، وبأسمائه الحسنى وصفاته العليا التي تقتضي من العبد اجتماع عبوديّات المحبّة والخوف والرجاء.
- وهي نور يبصّر المؤمن بمقصد خلقه، والحكمة من إيجاده، وأنه إنما خُلق ليقوم بعبادة ربّه وحده لا شريك له.
- وهي نور يبصّر المؤمن بحاجته إلى عون الله تعالى في كلّ شأن من شؤونه، ويرشده إلى استصحاب حال العبودية والاستعانة في جميع شؤونه.
- وهي نور يبصّر المؤمن بسبب الهداية ومصدرها، ووصف سبيلها، وحال أهلها، وعاقبتهم.
- وهي نور يبصّر المؤمن بأنه لا فلاح له إلا بالعلم النافع والعمل الصالح.
- وهي نور يبصّر المؤمن بسوء عاقبة الذين فرّطوا في العلم والذين فرّطوا في العمل من المغضوب عليهم والضالين.
وهذه الأمور تنتظم حياة المؤمن كلّها، لا تخلو حالة من حالاته من حاجة إلى التبصّر بمعاني هذه السورة العظيمة والاهتداء بهداياتها.
فهذا بعض معاني البشارة الأولى فيما يخصّ سورة الفاتحة.
والبشارة الثانية: أنّ هذه السورة كرامة خاصّة لهذه الأمّة ؛ لم تُعطها أمّة من الأمم، وفي ذلك من تشريف هذه الأمّة وتكريمها ما لا يخفى، وهذا التكريم يقتضي من المكرَّمين به تقبّله بما يحبّه الله تعالى من الفرح بفضله، والقيام بشكره، واتّباع رضوانه؛ فمن شكر كانت هذه البشارات نعمة عظيمة في حقّه يغتبط بها في دنياه وأخراه، ويجد من فضلها وكرامتها على قدر ما يتّبع من هداياتها.
ومن كفر كانت تلك البشارات حسرة عليه؛ لما يرى من خسرانه بتفريطه، وفوز من تلقّوا هذه البشارة بالقبول والشكر.
والبشارة الثالثة: أنَّ دعاء الداعي بها مستجاب؛ وأكّد هذه البشارة بتأكيد جامع بين أسلوبي الحصر والاستغراق؛ (لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته)
(بحرفٍ) نكرة في سياق النفي؛ ودخلت عليها الباء لإفادة استغراق العموم؛ فلا يُستثنى منه حرف، والحرف هنا كلّ جملة طلبية كانت أو خبرية؛ فالجملة الطلبية عطاؤها الإجابة، والجملة الخبرية الذكرُ والإثابة.
(إلا أعطيته) تأكيد للعطاء بأسلوب الحصر بإلا؛ الدالّ على إعطاء جميع المطلوب.

فحريّ بمن نصح لنفسه أن يعرف قدر هذه البشارات العظيمة، وحقّ هذا الفضل والتكريم، وأن يحرص كلّ الحرص أن يكون ممن ينفعهم الله بما أنزل الله من الهدى والنور في هذه السورة العظيمة، وأن يحرص كلّ الحرص على اجتناب ما تنقلب به هذه البشارات إلى حسرات عليه.
فقوله: (لن تقرأ) القراءة المعتبرة هنا هي القراءة التي يحبّها الله تعالى ويرضاها، وهي القراءة التي اشتملت على شرطي القبول من الإخلاص والمتابعة؛ فإذا قرأ العبد الفاتحة قراءة مخلصاً فيها لله جلّ وعلا، ومتبعاً فيها النبي صلى الله عليه وسلم كانت قراءته متّقبَّلة نافعة، وتحت هذه الجملة ما يطول شرحه، واللبيب من وفّقه الله لفقهها.

ترتيب نزول سورة الفاتحة
لا يصحّ في ترتيب نزول سورة الفاتحة حديث ولا أثر مما وقفت عليه، ولا تحديد لتاريخ نزولها، وقد روي في ذلك حديث مرسل عن أبي ميسرة الهمداني، وآثار ضعيفة عن ابن عباس وجابر بن زيد وعطاء الخراساني وابن شهاب الزهري، وهي آثار ضعيفة جداً في ترتيب نزول سور القرآن، لا يصحّ منها شيء؛ فلا نطيل الكلام عليها.
وأما مرسل أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل الهمداني فهو ما أخرجه البيهقي في دلائل النبوة من طريق يونس بن بكير عن يونس بن عمرو عن أبيه عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لخديجة: ((إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، وقد والله خشيت أن يكون هذا أمراً))
فقالت: (معاذ الله ما كان الله ليفعل بك فو الله إنك لتؤدي الأمانة، أو تصل الرحم، وتصدق الحديث)
فلما دخل أبو بكر وليس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ذكرت خديجة حديثه له وقالت: يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ أبو بكر بيده، فقال: انطلق بنا إلى ورقة، فقال: ومن أخبرك؟
قال: خديجة، فانطلقا إليه، فقصَّا عليه.
فقال: (( إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد، يا محمد، فأنطلق هاربا في الأرض))
فقال: لا تفعل فإذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرني؛ فلما خلا ناداه يا محمد قل: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. حتى بلغ. ولا الضالين قل: لا إله إلا الله، فأتى ورقة فذكر ذلك له فقال له ورقة أبشر، ثم أبشر، فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل، وأنك سوف تُؤمر بالجهاد بعد يومك هذا ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك).
وهذا الخبر رجاله ثقات يونس بن عمرو هو ابن أبي إسحاق السبيعي، وأبو ميسرة تابعيٌّ ثقة من كبار التابعين وفضلائهم، لكن هذا الخبر فيه حروف منكرة؛ فلا يحتجّ به لإرساله، ولما فيه من نكارة، ولمخالفته ما صحّ في الأحاديث الصحيحة من أنَّ أوَّل ما نزل من القرآن صدر سورة اقرأ.
وقد رواه أيضاً الثعلبي والواحدي من طريق أبي إسحاق السبيعي عن أبي ميسرة، وقد اختلفا في إسناده ومتنه.
قال ابن حجر في العجاب: (وهو مرسل ورجاله ثقات؛ فإن ثبت حمل على أنَّ ذلك كان بعد قصة غار حراء، ولعله كان بعد فترة الوحي والعلم عند الله تعالى).

ومما ينبغي التنبيه عليه قول الزمخشري في كشافه: (وأكثر المفسرين إلى أن أول سورة نزلت فاتحة الكتاب).
وقد نقل هذا القولَ عنه بعض المفسّرين، وهو خطأ محض، وقد ردّه ابن حجر في فتح الباري؛ فقال في باب تفسير سورة العلق: (قال صاحب الكشاف: "ذهب بن عباس ومجاهد إلى أنها أول سورة نزلت وأكثر المفسرين إلى أن أول سورة نزلت فاتحة الكتاب" كذا قال والذي ذهب أكثر الأئمة إليه هو الأول وأما الذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول)ا.هـ.

وقال ابن عاشور: (وقد حقّق بعض العلماء أنّها نزلت عند فرض الصّلاة فقرأ المسلمون بها في الصّلاة عند فرضها)ا.هـ.
وهذا القول يفتقر إلى دليل، وحديث ابن عباس المتقدّم دالٌّ على أنّ سورة الفاتحة نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في الأرض، والصلاة فرضت عليه في السماء لمّا عُرج به.

نزولها من كنز تحت العرش:
وأما نزولها من كنز تحت العرش فروي فيه حديثان ضعيفان:
أحدهما: حديث صالح بن بشير عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:« إن الله عز وجل أعطاني فيما منَّ به علي؛ إني أعطيتك فاتحة الكتاب، وهي من كنوز عرشي، ثم قسمتها بيني وبينك نصفين » رواه ابن الضريس في فضائل القرآن والعقيلي في الضعفاء والبيهقي في شعب الإيمان والديلمي في مسند الفردوس كلهم من طريق مسلم بن إبراهيم عن صالح بن بشير المري عن ثابت عن أنس، وصالح بن بشير ضعيف الحديث، قال النسائي: متروك الحديث.
والآخر: حديث العلاء بن المسيّب، عن فضيل بن عمرٍو، عن علي بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه أنّه سئل عن فاتحة الكتاب، فقال: حدّثنا نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثمّ تغيّر لونه، وردّدها ساعةً حين ذكر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ثمّ قال: (أنها نزلت من كنزٍ تحت العرش). رواه إسحاق بن راهويه كما في إتحاف الخيرة والديلمي في مسند الفردوس كلاهما من هذا الطريق، وهو ضعيف لانقطاع إسناده؛ فإنّ فضيلاً لم يدرك عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

وقد صحّ من حديث حذيفة بن اليمان وحديث أبي ذرٍّ رضي الله عنهما أنّ الذي نزل من تحت العرش خواتيم سورة البقرة:
- فأما حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما فرواه أبو داوود الطيالسي وابن أبي شيبة وأحمد والنسائي وغيرهم من طريق أبي مالك الأشجعي عن ربعيّ بن حراشٍ عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( فُضّلنا على الناس بثلاث: جعلت لي الأرض كلها لنا مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا، وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وأوتيت هؤلاء الآيات آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعط منه أحد قبلي ولا يعطى منه أحد بعدي)).
وأصل الحديث في صحيح مسلم غير أنّه ذكر الخصلتين الأوليين ثم قال: (وذكر خصلة أخرى..)
قال الألباني: (وهي هذه قطعا).
- وأما حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه فرواه الإمام أحمد من طريق شيبان عن منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش، عن خرشة بن الحر، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خواتيم سورة البقرة من بيت كنز من تحت العرش، ولم يعطهن نبي قبلي».
وله طرق أخرى، وقد اختلف الرواة فيه على منصور، وقال الدارقطني: (القول قول شيبان).