13 Oct 2016
جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
تكفّل الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم بجمع القرآن في صدره وأن يقرأه كما أنزل الله، قال الله تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه}.
قال ابن عباس: (جمعه لك في صدرك وتقرأه).
وقال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}
وقال تعالى: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله}
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحفظ ما أنزل الله إليه من القرآن ولا ينسى منه إلا ما شاء الله مما اقتضت حكمته أن تُنسخ تلاوته.
وهذه أُولى مراتب جمع القرآن، وأصلها، وهي جمعه في صدر النبي صلى الله
عليه وسلم، جمعاً تاماً محفوظاً بضمان الله تعالى لا يتفلَّت ولا يختلف،
ولا يخشى عليه ضياعاً ولا نسياناً.
ذِكْرُ قُرّاء الصحابة رضي الله عنهم ومَنْ جَمَعَ القرآن منهم:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يُقرئ أصحابه القرآن، فيحفظ كلّ واحد منهم
ما شاء الله أن يحفظ، وكانوا أهل حفظ وضبطٍ، وقيام بآيات الله آناء الليل
وأطراف النهار؛ وكان ربما أمر بعض من يريد القراءة عليه بالقراءة على بعض
قرّاء أصحابه أولاً.
- قال عبد الله بن مسعود: جاء معاذٌ إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله أقرئني! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( يا عبد الله أقرئه )) فأقرأتُه
ما كان معي، ثمّ اختلفتُ أنا وهو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقرأه
معاذٌ، وكان معلّمًا من المعلّمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم).
رواه ابن أبي شيبة من عبد الله بن إدريس عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن
ابن مسعود.
- وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «خذوا القرآن من أربعةٍ من عبد الله بن مسعودٍ، وسالمٍ، ومعاذ بن جبلٍ، وأبي بن كعبٍ» رواه البخاري من طريق عمرو بن مرة عن إبراهيم النخعي عن مسروق عن عبد الله بن عمرو.
- وقال أنس بن مالك:
(جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار:
أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد أحد عمومتي) متفق عليه من حديث شعبة عن قتادة عن أنس.
وهذا القول من أنس رضي الله عنه وإن كان خاصاً بذكر من جَمع القرآن على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس على سبيل الحصر؛ فإنه قد ثبت جمع
غيرهم للقرآن كابن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص، وقد يكون إنما ذكر ما
بلغه من ذلك.
- وقال
عامر بن شراحيل الشعبي وكان لقي نحو خمسمائة من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (قرؤوا القرآن في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أبيٌّ،
ومعاذٌ، وزيدٌ، وأبو زيدٍ، وأبو الدّرداء، وسعيد بن عبيدٍ، ولم يقرأه أحدٌ
من الخلفاء من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلاّ عثمان، وقرأه مجمّع
ابن جارية إلاّ سورةً أو سورتين). رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن
إدريس عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي.
ثمّ بلغ الذين جمعوا القرآن من الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم عددا كبيراً يصعب حصرهم.
قال أبو شامة المقدسي في كتابه "المرشد الوجير": (وقد سمَّى الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام أهلَ القرآن من الصحابة في أول "كتاب القراءات" له
- فذكر من المهاجرين: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلياً، وطلحة، وسعداً، وابن
مسعود، وسالماً مولى أبي حذيفة، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس،
وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعمرو بن العاص، وأبا هريرة،
ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن السائب قارئ
مكة.
- ومن الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبا الدرداء، وزيد بن ثابت، ومجمع بن جارية، وأنس بن مالك.
- ومن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: عائشة، وحفصة، وأم سلمة.
قال: وبعض ما ذكرنا أكثر في القراءة وأعلى من بعض، وإنما خصصنا بالتسمية كل من وصف بالقراءة، وحكي عنه منها شيء)ا.هـ.
وكتاب القراءات لأبي عبيد مفقود، ويضاف إلى من ذكرهم على وصفه: ثابت بن قيس
بن شماس، وأسيد بن الحضير، وأبو اليسر الأنصاري، وعثمان بن أبي العاص،
وعقبة بن عامر، وشريح الحضرمي رضي الله عنهم أجمعين.
وقتلى بئر معونة من الصحابة رضي الله عنهم عامّتهم من القراء وكانوا سبعين رجلاً.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (ما رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم
وجدَ على سريَّة ما وجد على السبعين الذين أصيبوا يوم بئر معونة، كانوا
يُدعون القُرَّاء؛ فمكث شهراً يدعو على قتلتهم). رواه مسلم من حديث سفيان
الثوري عن عاصم الأحول عن أنس.
وهؤلاء كانوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح البخاري وغيره من حديث ابن شهاب عن عبيد بن السباق أن زيد بن ثابت
رضي الله عنه قال: (أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب
عنده؛ قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم
اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب
كثير من القرآن..) فذكر الحديث.
وهذا مما يدلّ على كثرة القرّاء من الصحابة لأنهم يبلغون أن يكونوا جيشاً يقاتل الأعداء ولهم شوكة.
قال الحافظ ابن حجر: (وهذا
يدلّ على أن كثيراً ممن قُتل في وقعة اليمامة كان قد حفظ القرآن، لكن يمكن
أن يكون المراد أنَّ مجموعهم جمعه لا أن كلَّ فرد جمعه)ا.هـ.
والمقصود أنّ القرآن كان مجموعاً في صدور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على نوعين من الجمع:
النوع الأول: الجمع الفردي؛ والمراد به أن
يجمعه الفرد من أوّله إلى آخره في صدره حفظاً واستظهاراً، وقد جمعه بهذا
المعنى جماعة من قرّاء الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم: عثمان بن عفان، وعليّ
بن أبي طالب، وأبيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وزيد بن
ثابت، وأبو الدرداء، وأبو زيد النجاري، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومجمع بن جارية، وغيرهم.
والنوع الثاني:
الجمع العام، وهو أن تكون كلّ آية من القرآن محفوظة في صدور أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم، بحيث لا تبقى آية غير محفوظة في صدورهم، وهذا النوع
مظاهر للنوع الأول؛ فإنّ الذين يحفظون بالمعنى الثاني عدد كثير يصعب حصرهم،
وتحصل الطمأنينة بحفظهم وضبطهم.
قال بدر الدين الزركشي: (كل قطعة منه كان يحفظها جماعة كثيرة أقلُّهم بالغون حدَّ التواتر).
كتابة القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه شيء من القرآن يأمرُ بعض
الكُتّاب من أصحابه أن يكتبوا له، وكان من أؤلئك الكُتّاب: خالد بن سعيد بن
العاص، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وشرحبيل بن حسنة، وأبيّ بن كعب،
وزيد بن ثابت، وحنظلة بن الربيع، وأبان بن سعيد بن العاص، ومعاوية بن أبي
سفيان رضي الله عنهم أجمعين.
وكانت الآيات تكتب في الرِّقَاع واللِّخَافِ والعُسُب والأكتاف والألواح، ونحو ذلك.
- روى البخاري في صحيحه من طريق إسرائيل بن يونس عن جدّه أبى إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (لما نزلت {لا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون فى سبيل الله} قال النبى صلى الله عليه وسلم: « ادع لى زيداً وليجئ باللوح والدواة والكتف » - أو الكتف والدواة - ثم قال « اكتب: {لا يستوى القاعدون} »
وخلف ظهر النبيّ صلى الله عليه وسلم عمرو بن أم مكتوم الأعمى، قال: يا
رسول الله؛ فما تأمرنى؛ فإنى رجلٌ ضريرُ البصر؛ فنزلت مكانها: [لا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله غير أولي الضرر]).
هكذا ترتيب الآية في هذه الررواية، ولعلها - إن كانت محفوظة - حرفاً من
الأحرف السبعة التي نسخت بما أُثبتَ في الجمع العثماني كما هو مشهور في
المصاحف اليوم.
قال ابن حجر: (هكذا وقع بتأخير لفظ {غير أولي
الضرر} والذي في التلاوة {غير أولى الضرر} قبل {والمجاهدون في سبيل الله}
وقد تقدم على الصواب من وجه آخر عن إسرائيل)ا.هـ.
وفي رواية عند الإمام أحمد وغيره من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد عن أبيه زيد بن ثابت أنه قال: (فألحقتُها؛ فوالله لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدعٍ كانَ في الكتف).
وكان من الصحابة من يَكتب لنفسه، فمستقلّ ومستكثر، ومنهم من يحفظ ولا
يكتب، لكن ثبت في الصحيح أنه وجد مكتوباً تاماً من مجموع ما عند الصحابة
رضي الله عنهم.
تأليف القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر كُتَّاب
الوحي بتأليف القرآن أي جمع آيات كلّ سورة منه ووضع الآيات في مواضعها التي
أرادها الله، ولم يكن الوحي قد انقطع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم،
فكان إذا أوحي إليه بشيء من القرآن بعث إلى بعض الكتّاب من أصحابه فكتبوا
له وعيّن لهم مواضع الآيات من كلّ سورة .
ومما رُوي في ذلك حديث عوف بن أبي جميلة عن
يزيد الفارسي عن ابن عباس عن عثمان بن عفان أنه قال: (كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه من السور ذوات العدد،
فكان إذا أنزل عليه الشىء دعا بعض من يكتب له فيقول: (( ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا )) ، وإذا أنزلت عليه الآيات قال: (( ضعوا هذه الآيات فى السورة التي يذكر فيها كذا وكذا )) ، وإذا أنزلت عليه الآية قال: (( ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا)) ). رواه
الإمام أحمد وأبو داوود والترمذي وغيرهم في خبر طويل، ومداره على يزيد
الفارسي، وقد اختلف فيه؛ فقال أبو حاتم الرازي لا بأس به، وقال ابن حجر:
مقبول، وهو تابعي من أهل البصرة، قليل الرواية، لم يرو عنه غير عوف بن أبي
جميلة الأعرابي في قول يحيى بن معين.
وسيأتي الحديث عن تمام الخبر إن شاء الله، لكن هذا القدر منه مما لا نكارة فيه.
وقال زيد بن ثابت رضي الله عنه: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع إذ قال: (( طوبى للشام ))
قيل: ولم ذلك يا رسول الله؟
قال: (( إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها )).
رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والترمذي وابن حبان والبيهقي وغيرهم من
طريق يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شماسة عن زيد بن
ثابت.
قال أبو بكر البيهقي رحمه الله: (وهذا يشبه أن
يكون أراد به تأليف ما نزل من الآيات المتفرقة في سورها، وجمعها فيها
بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كانت مثبتة في الصدور مكتوبة في
الرقاع واللخاف والعسب)أ.ه.
والمقصود أن آيات السور ذوات العدد الكثير من
الآيات قد يتراخى نزولها فيستتم بعد سنوات وكان النبي صلى الله عليه وسلم
يرشد كتّاب الوحي إلى موضع كلّ آية في السورة التي يعيّنها لهم؛ فيكتبونها
كما أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال النووي رحمه الله:
(اعلم أن القرآن العزيز كان مؤلَّفاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على
ما هو في المصاحف اليوم، ولكن لم يكن مجموعاً في مصحف، بل كان محفوظاً في
صدور الرجال؛ فكان طوائف من الصحابة يحفظونه كلَّه، وطوائف يحفظون أبعاضاً منه)ا.هـ.
قلت: وهو كما هو محفوظ في الصدور؛ فهو محفوظ في السطور، لكنّه كان متفرّقاً
في صحائف الصحابة رضي الله عنهم، وقد تتبعه زيد بن ثابت بأمر أبي بكر رضي
الله عنه حتى وجده مكتوباً تاماً على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
ولم يجمع القرآن في مصحف واحد بين دفّتين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف بين أهل العلم.
قال الديرعاقولي: حدثنا إبراهيم بن بشار، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد، عن زيد بن ثابت قال: « قُبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع في شيء ». ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح.
وقال ابن جرير الطبري: حدثني سعيد بن الربيع، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، قال: « قُبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جُمع، وإنما كان في الكرانيف والعسب »
وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوماً من أن ينسى شيئاً من القرآن؛ فكانت حياته ضماناً لحفظ القرآن وإن لم يُكتَب، ولأنَّ
القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان يزاد فيه وينسخ منه ؛ فكان
جمعه في مصحف واحد في عهده مظنة لاختلاف المصاحف، وفي ذلك مشقة بالغة.
قال النووي: (وإنما
لم يجعله النبي صلى الله عليه وسلم في مصحف واحد لما كان يتوقع من زيادته
ونسخ بعض المتلو، ولم يزل ذلك التوقع إلى وفاته صلى الله عليه وسلم)ا.هـ