17 Oct 2016
معارضة القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والعرضة الأخيرة
معارضة جبريل النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالقرآن
كان جبريل عليه السلام
يُعارِضُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالقرآن في رمضان من كلّ عام، حتى كان
العام الذي توفّي فيه النبي صلى الله عليه وسلم فعارضه به مرتين، وقد فهم
النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك دنوّ أجله.
فكان يعارضه في كلّ عام بما نزل من القرآن إلى ذلك الوقت على الترتيب الذي أراده الله للآيات في كلّ سورة مما لم تُنسخ تلاوته.
قال داود بن أبي هند: قلت للشعبي: قوله {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن..} أما نزل عليه القرآن في سائر السنة، إلا في شهر رمضان؟ قال: بلى، ولكن جبريل كان يعارض محمدا صلى الله عليه وسلم بما ينزل في سائر السنة في شهر رمضان). رواه أبو عبيد في فضائل القرآن ورواه أيضاً ابن الضريس ولفظه: قال: «كان
الله تعالى ينزل القرآن السنة كلها، فإذا كان شهر رمضان عارضَهُ جبريلُ
عليه السلام بالقرآن، فينسخ ما ينسخ، ويثبت ما يثبت، ويحكم ما يحكم، وينسئ
ما ينسئ». قال ابن كثير رحمه الله: (والمراد من معارضته له
بالقرآن كل سنةٍ: مقابلته على ما أوحاه إليه عن الله تعالى، ليبقي ما بقي،
ويذهب ما نسخ توكيدًا، أو استثباتًا وحفظًا؛ ولهذا عرضه في السنة الأخيرة
من عمره، عليه السلام، على جبريل مرتين، وعارضه به جبريل كذلك؛ ولهذا فهم،
عليه السلام، اقتراب أجله)ا.هـ. وقد دلَّ على ثبوت معارضة القرآن أحاديث صحيحة منها: 1. حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان
النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان،
لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح
المرسلة» متفق عليه من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس. وفي رواية في صحيح البخاري: «فيدارسُه القرآن» 2. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «كان
يُعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين
في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف كل عام عشرا، فاعتكف عشرين في العام
الذي قبض فيه» رواه أحمد والبخاري والدارمي وأبو داوود وابن ماجه
والنسائي كلهم من طريق أبي حصين عثمان بن عاصم الأسدي عن أبي صالح
السمَّان، عن أبي هريرة. 3. وحديث
عائشة رضي الله عنها قالت: إنا كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده
جميعا، لم تغادر منا واحدة، فأقبلت فاطمة عليها السلام تمشي، لا والله ما
تخطى مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فلما رآها رحَّب
قال: «مرحبا بابنتي» ثم أجلسها عن يمينه أو عن
شماله، ثم سارَّها، فبكت بكاء شديدا، فلما رأى حزنها سارَّها الثانية، فإذا
هي تضحك، فقلت لها أنا من بين نسائه: خصَّكِ رسولُ الله صلى الله عليه
وسلم بالسرِّ من بيننا، ثم أنت تبكين؟!! فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتُها: عمَّا سارَّك؟ قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم سرَّه. فلما توفي قلت لها:
عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما أخبرتني، قالت: أما الآن فنعم،
فأخبرتني، قالت: أما حين سارَّني في الأمر الأول، فإنَّه أخبرني: «أن
جبريل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضني به العام مرتين، ولا
أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإني نِعْمَ السلَفُ أنا لك». قالت: فبكيت بكائي الذي رأيتِ، فلما رأى جزعي سارَّني الثانية، قال: «يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين [أو سيدة نساء هذه الأمة]» متفق عليه من حديث الشعبيّ عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها. والأحاديث المروية في معارضة القرآن رويت بألفاظ: - منها: ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الذي يعرض القرآن على جبريل. - ومنها: ما يفيد أن جبريل عليه السلام كان هو الذي يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم. - ومنها: ما هو نصّ على المعارضة التي تفيد المفاعلة من الطرفين. - ومنها: لفظ المدارسة كما في رواية في الصحيحين (وهو أعمّ من المعارضة؛ إذ المعارضة مختصة بالألفاظ، والمدارسة تشمل الألفاظ والمعاني. والمتوجّه الجمع بين هذه الألفاظ إذْ صحّت بها الرواية، وهي صحيحة المعنى لا تعارض بينها. قال ابن حجر رحمه الله
في شرحه على صحيح البخاري: (قوله: "يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
القرآن" هذا عكس ما وقع في الترجمة لأنَّ فيها أن جبريل كان يعرض على
النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض
على جبريل، وتقدم في بدء الوحي بلفظ: "وكان يلقاه في كل ليلةٍ من رمضان
فيدارسه القرآن" فيحمل على أن كلا منهما كان يعرض على الآخر)ا.هـ. معارضة أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم له بالقرآن وكان قراء الصحابة يعرضون قراءتهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فيقوّمهم ويجيزهم بالإقراء والتعليم، وربما عرَضَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن أو بعضه أو عرضوا عليه فحفظوا عنه. - وقد روى الإمام أحمد
وابن أبي شيبة وغيرهما من طريق عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه،
قال: سمعت أبي بن كعب، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرتُ أن أعرض عليك القرآن»، قلت: سماني لك، قال: «نعم»، فقال أبيّ: {بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون}). -
وروى البخاري ومسلم من طريق همام عن قتادة، عن أنس بن مالك، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، قال لأبي: «إنَّ الله أمرني أن أقرأ عليك»، قال:
آلله سماني لك؟ قال: «الله سماك لي»، قال: فجعل أبيّ يبكي. لكن حديث أنس ليس فيه لفظ العرض، ولعله مختصر من خبر قراءة سورة البيّنة، لكن المعوَّل في الاستدلال على رواية ابن أبزى عن أبيّ. - وقال ابن مسعود رضي الله عنه:
(وإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعارَض بالقرآن في كلّ رمضان،
وإني عَرضْتُ في العام الذي قبض فيه مرتين، فأنبأني أني محسن). رواه الإمام أحمد وسيأتي بطوله إن شاء الله. العرضة الأخيرة - قال محمد بن سيرين: (كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم في كل شهر رمضان؛ فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين). قال: (فيرجى أن تكون قراءتنا هذه على العرضة الأخيرة). رواه سعيد بن منصور عن هشيم عن منصور بن زاذان عن ابن سيرين وهذا إسناد صحيح إلى ابن سيرين. - وأخرج ابن شبّة في
تاريخ المدينة عن عبد الأعلى عن هشام عن ابن سيرين في قصة جمع عثمان وفيه
أن محمد بن سيرين قال: فحدثني كثير بن أفلح: أنه كان فيمن يكتب لهم، فكانوا
كلما اختلفوا في شيء أخَّروه. قلت: لم أخروه؟ قال: لا أدري. قال محمد: فظننت أنا
فيه ظنا، ولا تجعلوه أنتم يقينا، ظننت أنهم كانوا إذا اختلفوا في الشيء
أخروه حتى ينظروا آخرهم عهداً بالعرضة الأخيرة فكتبوه على قوله). قال ابن شبّة: حدثنا وهب بن جرير قال: حدثنا هشام بنحوه، وزاد: قال محمد: (فأرجو أن تكون قراءتنا هذه آخرتها عهدا بالعرضة الأخيرة). وهذا الذي قاله ابن
سيرين باجتهاده هو المتوجّه؛ لأن ما اتفقوا عليه فلا إشكال فيه؛ فتكون
كتابتهم له موافقة للعرضة الأخيرة بإجماعهم، وما اختلفوا فيه فإنَّ تأخيره
لأجل أن يجتمعوا له ليكتبوه على وجهه الصحيح وهو ما اقتضته العرضة الأخيرة
ولا بدّ، إذ لو كان فيه ما نسخ أو بُدّل لم يكن لهم أن يكتبوه على خلاف
العرضة الأخيرة وهم حينئذ متوافرون يشهد بعضهم بصدق بعض. وإنما كان اختلافهم
اختلاف تأريخ واختلاف أحرف لا اختلاف ضبط؛ فاختلاف التاريخ لا بدَّ أن يكون
مُعتمدهم فيه ما اقتضته العرضة الأخيرة، وأما اختلاف الأحرف التي يجزئ
بعضها عن بعض؛ فقد وقع إجماعهم على ما احتمله رسم المصاحف العثمانية، وترك
ما سواها. - قال البغوي في شرح
السنة: (وروي عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: "كانت قراءة أبي بكر، وعمر،
وعثمان، وزيد بن ثابت، والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرءون قراءة
العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل
مرتين في العام الذي قبض فيه". وكان على طول أيامه يقرأ مصحف عثمان، ويتخذه إماما)ا.ه. - وقال: (قال أبو عبد الرحمن السلمي: قرأ زيد بن ثابت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفاه الله فيه مرتين. وإنما سميت هذه القراءة
قراءة زيد بن ثابت، لأنه كتبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأها
عليه، وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو
بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كَتَبَةَ المصاحف رضي الله عنهم أجمعين). وهذا الأثر عن أبي عبد الرحمن السلمي لم أجده مسنداً، ولعل قوله: (وإنما سميت...) إلخ من كلام البغوي. - وروى شعبة عن عبد
الرحمن بن عابس النخعي أنه قال: حدثنا رجل من همدان من أصحاب عبد الله، وما
سماه لنا، قال: لما أراد عبد الله أن يأتي المدينة جمع أصحابه، فقال: (والله
إني لأرجو أن يكون قد أصبح اليوم فيكم مِن أفضلِ ما أصبح في أجنادِ
المسلمين من الدين والفقهِ والعلمِ بالقرآن، إنَّ هذا القرآنَ أُنزلَ على
حُروف، والله إن كان الرجلان ليختصمان أشدَّ ما اختصما في شيء قط، فإذا قال
القارئ: هذا أقرأني، قال: "أحسنت" وإذا قال الآخر، قال: "كلاكما محسن"، فأقرأنا: [إن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، والكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار]، واعتبروا ذلك بقول أحدكم لصاحبه: كذب وفجر، وبقوله إذا صدقه: صدقت وبررت. إن
هذا القرآن لا يختلف ولا يستشِنُّ ولا يَتْفَهُ لكثرة الرد، فمن قرأه على
حرف فلا يدعْه رغبةً عنه، ومن قرأه على شيء من تلك الحروف التي علم رسول
الله صلى الله عليه وسلم فلا يدعه رغبة عنه، فإنه من يجحد بآية منه يجحد به
كله، فإنما هو كقول أحدكم لصاحبه: اعجل، وحيَّ هلا، والله لو أعلم رجلا
أعلم بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم مني لطلبته، حتى أزداد
علمه إلى علمي، إنه سيكون قوم يميتون الصلاة، فصلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا
صلاتكم معهم تطوعا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعارَض بالقرآن
في كلّ رمضان، وإني عرضت في العام الذي قبض فيه مرتين، فأنبأني أني محسن،
وقد قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة). رواه
أحمد وابن الضريس ورجاله ثقات معروفون إلا الهمداني الذي أبهمه ابن عابس؛
ورواه عمر بن شبة والبيهقي في شعب الإيمان من طريق محمد بن طلحة بن مصرف عن
زبيد بن الحارث اليامي عن عبد الرحمن بن عابس به. وقد صحب ابنَ مسعود جماعة من الهمدانيين منهم مسروق بن الأجدع ومرة الطيب
وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل، وهؤلاء من الأئمة الثقات ومن خاصة أصحاب ابن
مسعود؛ وقد يكون المبهم من غيرهم؛ فلا يجزم بحاله، وإن كان قوله بأنه من
أصحاب ابن مسعود يشعر بشيء من التزكية مع قرينة كونه من الخاصة الذين جمعهم
ابن مسعود، وأكثر ما تضمنه هذا الأثر عن ابن مسعود له شواهد صحيحة. وقد رواه ابن جرير من طريق عليّ بن أبي عليّ عن علقمة عن ابن مسعود؛ هكذا
موصولاً، لكن عليّ بن أبي عليّ هو اللَّهبي القرشي من ولد أبي لهب منكر
الحديث. والشاهد فيه قوله: (وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعارَض بالقرآن في كلّ رمضان، وإني عرضت في العام الذي قبض فيه مرتين، فأنبأني أني محسن). وهذه الزيادة لها شواهد: - منها ما رواه أبو عبيد القاسم بن سلام من طريق أيوب، عن ابن سيرين، قال: نبئت أن ابن مسعود، قال: «لو أعلم أنَّ أحدا تبلغنيه الإبل أحدث عهدا بالعرضة الأخيرة مني لأتيته، أو لتكلفت أن آتيه». - ومنها:
ما رواه الإمام أحمد والبخاري في خلق أفعال العباد والنسائي في الكبرى
والحاكم وغيرهم من طريق الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: أيّ
القراءتين تعدون أول؟ قالوا: قراءة عبد الله. قال: لا، بل هي الآخرة،
كان يعرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل عام مرة؛ فلما
كان العام الذي قبض فيه عرض عليه مرتين، فشهد عبد الله؛ فعلم ما نُسخ وما
بُدِّل). وقد صححه الحاكم وابن
حجر، وأعلّه بعضهم بعنعة الأعمش وقد وصف بالتدليس، ولا أرى لهذا الإعلال
موجباً؛ إذ لا نكارة في المتن ولا مخالفة توجب المصير إلى إعلاله بهذه
العلة، والأعمش من القراء الكبار، وقوله في هذا الباب حجة. وهذه الآثار متوافقة غير مختلفة يقوّي بعضها بعضاً. وتفسيرها أنَّ النبي
صلى الله عليه وسلم كان بعد كلّ عرضة يعارضه بها جبريل القرآن يعارض قرّاء
أصحابه فيثبتون ما اقتضاه ذلك العرض من الترتيب والإثبات. فلما كان في العام الذي قبض فيه كان ابن مسعود ممن عارضه النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن. وقد توهَّم أناسٌ أن
العرضة الأخيرة على قراءة زيد وأن قراءة ابن مسعود هي القراءة الأولى
وشبهتهم في ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث ابن مسعود إلى العراق
معلّماً فكان في العراق بقية خلافة عمر وشطر خلافة عثمان وقد توفي سنة 32هـ
وأن زيد بن ثابت كان في المدينة وهو الذي ولاه عثمان كتابة المصاحف وقد
علموا أن عثمان جمع الناس على حرف واحد فظنوا أن قراءة ابن مسعود هي
القراءة الأولى وأن قراءة زيد هي القراءة الثانية. وهذا الوهم قديم وقد ردّه ابن عباس رضي الله عنهما كما تقدّم من رواية أبي ظبيان. - وقال مسدد بن مسرهد –
كما في المطالب العالية وإتحاف الخيرة-: ثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن
إبراهيم أن ابن عباس سمع رجلا يقول: الحرف الأول؛ فقال ابن عباس: ما الحرف
الأول؟! فقال له الرجل: يا ابن
عباس، إن عمر بعث ابن مسعود معلماً إلى أهل الكوفة، فحفظوا من قراءته
فغيَّر عثمان القراءة فهم يدعونه: "الحرف الأول". فقال ابن عباس: إن
جبريل كان يعارض رسول الله صلى الله عليه وسلم عند كل رمضان مرة، وإنه
عارضه في السنة التي قبض فيها مرتين، وإنه لآخر حرف عرض به النبي صلى الله
عليه وسلم جبريل". - وروى إبراهيم بن مهاجر البجلي عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال: أي القراءتين كانت أخيرا، قراءة عبد الله أو قراءة زيد؟ قال: قلنا: قراءة زيد قال: لا، إلا أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم - كان يعرض القرآن على جبرائيل كل عام مرة، فلما
كان في العام الذي قبض فيه عرضه عليه مرتين، وكانت آخر القراءة قراءة عبد
الله). رواه أحمد والبزار والطحاوي والحاكم. وإبراهيم بن مهاجر ليّن
الحديث لا يحتجّ به إذا تفرّد أو خالف لكنَّه معتبر الحديث في الشواهد
والمتابعات، وروايته هنا موافقة لما روي في هذا الباب. قال أبو جعفر الطحاوي:
(والاختلاف في هاتين القراءتين في هذا الحرف من أيسر الاختلاف ; لأنا إذا
صححنا ما روي في العين التي تغرب فيها الشمس استحق بذلك الحمأ والحرارة
جميعا فكانتا من صفاتها وكان من قرأ حامية وصفها بإحدى صفاتها ومن قرأ حمئة
وصفها بصفتها الأخرى , وذلك واسع غير ضيق على أحد ممن روى قراءة من هاتين
القراءتين). وقد تقدّم قول ابن مسعود: (فمن
قرأه على حرف فلا يدعْه رغبةً عنه، ومن قرأه على شيء من تلك الحروف التي
علم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يدعه رغبة عنه، فإنه من يجحد بآية
منه يجحد به كله، فإنما هو كقول أحدكم لصاحبه: اعجل، وحيَّ هلا). وأبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله الذي ترجع إليه أكثر أسانيد القراءات أخذ القراءة على أبيّ وعثمان وعليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت. وأقرأَ الناس في المسجد
الأعظم في الكوفة أربعين سنة، فكانت قراءتهم واحدة ليس فيها من الخلاف إلا
نحو ما هو معروف اليوم لدى القراء. وروى ابن أبي شيبة من
طريق ابن عيينة، عن ابن جريج وعن ابن سيرين [هكذا بالعطف] عن عَبيدة قال:
«القراءة التي عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي قبض فيه هي
القراءة التي يقرؤها الناس اليوم فيه». قال ابن الجزري: (القراءات
التي تواترت عندنا عن عثمان وعنه [أي عن عليّ بن أبي طالب] وعن ابن مسعود
وأبيّ وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم لم يكن بينهم فيها إلا الخلاف
اليسير المحفوظ بين القراء)ا.هـ. وقد تقدّم قوله: (كانت
قراءة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وزيد بن ثابت، والمهاجرين والأنصار واحدة،
كانوا يقرءون قراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله
عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه)ا.ه. وهو القائل: (حدثني
الذين كانوا يقرءوننا عثمان وابن مسعود وأبي بن كعب رضي الله عنهم أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم العشر فلا يجاوزنها إلى عشر أخرى، حتى
يتعلموا ما فيها من العمل فتعلمنا القرآن والعمل جميعا)ا.هـ. وقال الذهبي في معرفة القراء الكبار: (وقال
عبد الواحد بن أبي هاشم: حدثنا محمد بن عبيد الله المقرئ، حدثنا عبيد الله
بن عبد الرحمن، حدثنا أبي حدثنا حفص بن عمر عن عاصم بن بهدلة وعطاء بن
السائب، ومحمد بن أبي أيوب الثقفي، وعبد الله بن عيسى بن أبي ليلى، أنهم
قرءوا على أبي عبد الرحمن، وذكروا أنه أخبرهم أنه قرأ على عثمان رضي الله
عنه عامَّة القرآن، وكان يسأله عن القرآن وكان وليَ الأمرَ فشقَّ عليه،
وكان يسأله عن القرآن فيقول: إنك تشغلني عن أمر الناس؛ فعليك بزيد بن ثابت؛
فإنه يجلس للناس ويتفرَّغ لهم ولست أخالفه في شيء من القرآن)ا.هـ. وروى حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، قال: « عُرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضات؛ فيقولون: إن قراءتنا هذه هي العرضة الأخيرة». رواه البزار والروياني والحاكم واللفظ له وصححه ووافقه الذهبي، وحسَّن الحافظ ابن حجر إسناده. والمقصود أن قراءة زيد
وقراءة ابن مسعود وقراءات غيرهما من الذين أخذت عنهم القراءة واشتهرت من
قراء الصحابة رضي الله عنهم كانت على العرضة الأخيرة وأن الخلاف بينهما
خلاف أحرف فقط؛ فإنَّ العرضة الأخيرة لم تنسخ الأحرف. ومن قراء الصحابة من كان يقرأ على حرف، ومنهم من يقرأ على أكثر من ذلك؛ كما دلّ عليه قول ابن مسعود المتقدم. ومما يدلّ على ذلك أيضاً ما رواه البخاري في صحيحه من حديث حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال عمر: « أُبيّ أقرؤنا، وإنا لندع من لحن أبيّ، وأبيّ يقول: أخذته من في رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أتركه لشيء ». ولحن أبيّ لُغَته
وطريقته في القراءة؛ وهي بعض الأحرف التي قرأ بها مما علّمه رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وإنما ساغ لعمر أن يدع من لحن أبيّ لأنَّ هذه الأحرف يجزئ
بعضها عن بعض كما تقدّم بيانه، ومن أظهر الأمثلة على ذلك اختلاف قراءة زيد
بن ثابت ومن معه في (التابوت) فكان زيد يقرؤها (التابوه) وقرّاء المهاجرين
القرشيين يقرؤونها (التابوت)؛ فرفع اختلافهم إلى عثمان رضوان الله عليه،
فقال: «اكتبوه التابوت، فإنه لسان قريش» ؛ فكتبوها بالتاء اختياراً لا ردّا لقراءة زيد. وقد فُسّر قول عمر (وإنا لندع من لحن أبيّ) أي مما يقرأ به مما نسخت تلاوته، وهو معنى صحيح يوافق ما تقدّم ولا يخالفه؛ لأنَّ قول عمر (وإنا لندع)
يشعر بأنَّ عمل قراء الصحابة على ترك القراءة بما نسخت تلاوته وأنهم لم
يتابعوا أبيَّ بن كعب في قراءته لما نُسخت تلاوته، وأنَّ ما عليه عمر
وجماعة القراء هو السنة المتَّبعة الموافقة للعرضة الأخيرة. المراد بالعرضة الأخيرة الذي يظهر من تأمّل الآثار الواردة في هذا الباب أن لفظ "العرضة الأخيرة" يطلق على معنيين: أحدهما: ما عرضه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر رمضان شهده النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه العرضة قد نزل بعدها باتّفاق آيات من القرآن؛ كما ثبت في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّ قول الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا..} نزل يوم عرفة من حجة الوداع، ولم يعش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها إلا نحو ثلاثة أشهر. والمعنى الثاني:
ما عرضه الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم آخر الأمر، فيدخل في ذلك ما
نزل بعد رمضان من السنة العاشرة؛ فيكون بهذا الاعتبار كلّ من عرض القرآن
على النبي صلى الله عليه وسلم بعد رمضان من السنة العاشرة للهجرة، فيكون
لكلّ قارئ منهم عرضة أخيرة له عرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فيقع التفاضل في وصف الآخرية باعتبار تعدد العرض، وقد مكث النبي صلى الله
عليه وسلم نحو ستة أشهر كانت مدة كافية لأن يعرض عليه قراء أصحابه قراءاتهم
مع ما عرف من شدة عنايتهم بالقرآن وحرصهم على مدارسته. وهذا المعنى يدلّ عليه مفهوم قول ابن مسعود رضي الله عنه: (وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعارَض بالقرآن في كلّ رمضان، وإني عَرضْتُ في العام الذي قبض فيه مرتين، فأنبأني أني محسن). رواه الإمام أحمد وسيأتي بطوله إن شاء الله. مع قوله: «لو أعلم أنَّ أحدا تبلغنيه الإبل أحدث عهدا بالعرضة الأخيرة مني لأتيته، أو لتكلفت أن آتيه». وهذا شبه الصريح بأنه
لا يعلم أحداً أحدث عرضاً للقرآن منه، إذ لو كان المراد هنا بالعرضة
الأخيرة ما كان في رمضان لم يكن للمفاضلة معنى. ويدلّ على هذا المعنى أيضاً قول ابن سيرين: (إنما كانوا يؤخرونها لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الآخرة فيكتبونها على قوله). معنى شهود العرضة الأخيرة - قال ابن أبي شيبة:
حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس أنَّ رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يعرض القرآن في كل رمضان مرة إلا العام الذي قُبض فيه
فإنه عُرض عليه مرتين بحضرة عبد الله فشهد ما نسخ منه وما بدل. - وقال البغوي في شرح
السنة: (قال أبو عبد الرحمن السلمي: قرأ زيد بن ثابت على رسول الله صلى
الله عليه وسلم في العام الذي توفاه الله فيه مرتين، وإنما سميت هذه
القراءة قراءة زيد بن ثابت، لأنه كتبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم،
وقرأها عليه، وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك
اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف رضي الله عنهم
أجمعين)ا.هـ. وشهود العرضة هنا يحمل على واحد من ثلاثة معانٍ كلها صحيحة: المعنى الأول:
أن يكون حاضراً في المجلس الذي نزل فيه جبريل على النبي صلى الله عليه
وسلم، وكان من الصحابة من يشهد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه
وسلم كما ثبت في غير ما حديث، وقد تقدّم قول زيد بن ثابت في نزول قول الله
تعالى: {غير أولي الضرر..} وهذا لا يلزم منه أن يسمعوا قراءة جبريل عليه السلام ولا أن يروه، ولا أن يكون حضورهم مستغرقاً لجميع آيات القرآن. والمعنى الثاني:
أن يراد به أن يكون حاضراً في ذلك الوقت في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم
حضور القارئ المعتني بمعرفة ما نُسخ وما أُثبت من القرآن، وإن لم يحضر
مجلس العرض؛ فيصدق عليه أنه شهد العرضة الأخيرة لمعرفته بما تضمنته من نسخ
وتغيير؛ لكونه حاضراً آنذاك غير مسافر ولا منقطع عن مجالس النبي صلى الله
عليه وسلم وإقرائه القرآن. والمعنى الثالث: أن تكون هذه اللفظ قد رويت بالمعنى وأنَّ المراد بها عرض الصحابي قراءته على النبي صلى الله عليه وسلم بعد العرضة الأخيرة. وهذا الأمر محتمل فإنَّ
الأثر الأول قد روي بألفاظ متعددة، والأثر الثاني لا أعلم له إسناداً وهو
مشتهر في كتب القراءات وعلوم القرآن، وفي بعض الألفاظ ما يفيد التفاضل ولا
يقع التفاضل في الآخرية إلا أن يكون المراد به عرض الصحابي قراءته على
النبي صلى الله عليه وسلم عرضاً يطمئنّ به إلى ثبوت حفظه على ما أراد الله
أن يستقرّ عليه ترتيب آيات القرآن وإحكام ما أراد الله أن تبقى تلاوته ولا
تنسخ. وعلى جميع هذه المعاني لا يختلف تقرير أن القرآن قد نقل متواتراً على ما
اقتضته العرضة الأخيرة بإجماع من قرّاء الصحابة رضي الله عنهم، واتّفاقهم
على ذلك اتفاقاً تقوم به الحجة وتنتفي به الشبهة.