الدروس
course cover
تفسير سورة الصف [ من الآية (5) إلى الآية (6) ]
24 Aug 2015
24 Aug 2015

5134

0

0

course cover
تفسير جزء قد سمع

القسم الثاني

تفسير سورة الصف [ من الآية (5) إلى الآية (6) ]
24 Aug 2015
24 Aug 2015

24 Aug 2015

5134

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) }


تفسير قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) )

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أنّي رسول اللّه إليكم فلمّا زاغوا أزاغ اللّه قلوبهم واللّه لا يهدي القوم الفاسقين (5) وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إنّي رسول اللّه إليكم مصدّقًا لما بين يديّ من التّوراة ومبشّرًا برسولٍ يأتي من بعدي اسمه أحمد فلمّا جاءهم بالبيّنات قالوا هذا سحرٌ مبينٌ (6) }
يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السّلام أنّه قال لقومه: {لم تؤذونني وقد تعلمون أنّي رسول اللّه إليكم} أي: لم توصلون الأذى إليّ وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرّسالة؟. وفي هذا تسليةٌ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيما أصاب من الكفّار من قومه وغيرهم، وأمرٌ له بالصّبر؛ ولهذا قال: "رحمة اللّه على موسى: لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر" وفيه نهيٌ للمؤمنين أن ينالوا من النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أو يوصّلوا إليه أذًى، كما قال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تكونوا كالّذين آذوا موسى فبرّأه اللّه ممّا قالوا وكان عند اللّه وجيهًا} [الأحزاب: 69]
وقوله: {فلمّا زاغوا أزاغ اللّه قلوبهم} أي: فلمّا عدلوا عن اتّباع الحقّ مع علمهم به، أزاغ اللّه قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الشّكّ والحيرة والخذلان، كما قال تعالى: {ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّةٍ ونذرهم في طغيانهم يعمهون} [الأنعام: 110] وقال {ومن يشاقق الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيرًا} [النّساء: 115] ولهذا قال اللّه تعالى في هذه الآية: {واللّه لا يهدي القوم الفاسقين} ).[تفسير القرآن العظيم: 8/108-109]

قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ({وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ *}.
(5) أيْ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} مُوَبِّخاً لهم على صَنِيعِهم، ومُقَرِّعاً لهم على أَذِيَّتِه، وهم يَعْلَمُونَ أنَّه رسولُ اللَّهِ: {لِمَ تُؤْذُونَنِي} بالأقوالِ والأفعالِ، {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ}؟! والرسولُ مِن حَقِّه الإكرامُ والإعظامُ، والقيامُ بأوامِرِه والابتدارُ لحُكْمِه.
وأمَّا أذِيَّةُ الرسولِ الذي إحسانُه إلى الخَلْقِ فوقَ كلِّ إحسانٍ بعدَ إحسانِ اللَّهِ، ففي غايةِ الوَقاحةِ والْجَراءَةِ والزَّيْغِ عن الصِّراطِ الْمُستقيمِ، الذي قدْ عَلِمُوه وتَرَكُوه.
ولهذا قالَ: {فَلَمَّا زَاغُوا}؛ أي: انْصَرَفوا عن الحقِّ بقَصْدِهم, {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}؛ عُقوبةً لهم على زَيْغِهم الذي اختارُوه لأنفُسِهم ورَضُوه لها، ولم يُوَفِّقْهُم اللَّهُ للهُدَى؛ لأنَّهم لا يَلِيقُ بهم الخيْرُ, ولا يَصْلُحونَ إلاَّ للشَّرِّ.
{وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}؛ أي: الذينَ لم يَزَلِ الفِسْقُ وَصْفاً لهم، ليسَ لهم قَصْدٌ في الْهُدَى.
وهذه الآيةُ الكريمةُ تُفيدُ أنَّ إضلالَ اللَّهِ لعَبِيدِه ليسَ ظُلْماً منه ولا حُجَّةً لهم عليهِ، وإِنَّما ذلكَ بسببٍ منهم؛ فإِنَّهم الذينَ أغْلَقُوا على أنْفُسِهم بابَ الهُدَى بعدَما عَرَفُوه، فيُجَازِيهِم بعدَ ذلك بالإضلالِ والزَّيْغِ وتَقليبِ القلوبِ؛ عُقوبةً لهم وعَدْلاً منه بهم؛ كما قالَ تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} ). [تيسير الكريم الرحمن: 858-859]

قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (5- {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ}: لَمَّا ذكَرَ سُبحانَه أنه يُحِبُّ المقاتِلِينَ في سبيلِه بَيَّنَ أنَّ موسى وعيسى أُمِرَا بالتوحيدِ وجاهَدَا في سبيلِ اللهِ وحَلَّ العِقابُ بِمَن خالَفَهما؛ لتَحْذَرَ أمَّةُ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَفعلوا مع نَبِيِّهم ما فَعَلَه قومُ موسى وعيسى معهما.
{يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي} بمخالَفَةِ ما آمُرُكم به مِن الشرائعِ التي افتَرَضَها اللهُ عليكم، أو تُؤْذُونَنِي بالشتْمِ والانتقاصِ؟ وقد تَقَدَّمَ بيانُ هذا في سورةِ (الأحزابِ الآيةِ 69).
{وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} المعنى: كيف تُؤْذُونَنِي مع علْمِكم بأني رسولُ اللهِ، والرسولُ يُحْتَرَمُ ويُعَظَّمُ، ولم يَبْقَ معكم شكٌّ في الرسالةِ؛ لِمَا قد شَاهَدْتُم مِن الْمُعْجِزَاتِ التي تُوجِبُ عليكم الاعترافَ برِسالَتِي، وتُفيدُكم العلْمَ بها عِلْماً يَقينيًّا؟!
{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}: يَعني أنهم لَمَّا تَرَكوا الحقَّ ـ بإيذاءِ نَبِيِّهم ـ أمالَ اللهُ قُلوبَهم عن الحقِّ؛ جَزاءً بما ارْتَكَبوا). [زبدة التفسير: 551]


تفسير قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) )
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إنّي رسول اللّه إليكم مصدّقًا لما بين يديّ من التّوراة ومبشّرًا برسولٍ يأتي من بعدي اسمه أحمد} يعني: التّوراة قد بشّرت بي، وأنا مصداق ما أخبرت عنه، وأنا مبشّر بمن بعدي، وهو الرّسول النّبيّ الأمّيّ العربيّ المكّيّ أحمد. فعيسى، عليه السّلام، وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد أقام في ملإ بني إسرائيل مبشّرًا بمحمّدٍ، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين، الّذي لا رسالة بعده ولا نبوّة. وما أحسن ما أورد البخاريّ الحديث الّذي قال فيه:
حدّثنا أبو اليمان، حدّثنا شعيبٌ، عن الزّهريّ قال: أخبرني محمّد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "إنّ لي أسماءٌ: أنا محمّدٌ، وأنا أحمد، وأنا الماحي الّذي يمحو اللّه به الكفر، وأنا الحاشر الّذي يحشر النّاس على قدمي، وأنا العاقب".
ورواه مسلمٌ، من حديث الزّهريّ، به نحوه
وقال أبو داود الطّيالسيّ: حدّثنا المسعوديّ، عن عمرو بن مرّة، عن أبي عبيدة، عن أبي موسى قال: سمّى لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نفسه أسماءً، منها ما حفظنا فقال: "أنا محمّدٌ، وأنا أحمد، والحاشر، والمقفّي، ونبيّ الرّحمة، والتّوبة، والملحمة".
ورواه مسلمٌ من حديث الأعمش، عن عمرو بن مرّة، به
وقد قال اللّه تعالى: {الّذين يتّبعون الرّسول النّبيّ الأمّيّ الّذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التّوراة والإنجيل} [الأعراف: 157] وقال تعالى: {وإذ أخذ اللّه ميثاق النّبيّين لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ ثمّ جاءكم رسولٌ مصدّقٌ لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشّاهدين} [آل عمران: 81]
قال ابن عبّاسٍ: ما بعث اللّه نبيًّا إلّا أخذ عليه العهد: لئن بعث محمّدٌ وهو حيٌّ ليتّبعنّه، وأخذ عليه أن يأخذ على أمّته لئن بعث محمّدٌ وهم أحياءٌ ليتّبعنّه وينصرنّه.
وقال محمّد بن إسحاق: حدّثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّهم قالوا: يا رسول اللّه، أخبرنا عن نفسك. قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمّي حين حملت بي كأنّه خرج منها نورٌ أضاءت له قصور بصرى من أرض الشّام".
وهذا إسنادٌ جيّدٌ. وروي له شواهد من وجوهٍ أخر، فقال الإمام أحمد:
حدّثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ، حدّثنا معاوية بن صالحٍ، عن سعيد بن سويد الكلبيّ، عن عبد الأعلى بن هلالٍ السّلميّ، عن العرباض بن سارية قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّي عند اللّه لخاتم النّبيّين، وإنّ آدم لمنجدلٌ في طينته، وسأنبئكم بأوّل ذلك دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمّي الّتي رأت، وكذلك أمّهات النّبيّين يرين".
وقال أحمد أيضًا: حدّثنا أبو النّضر، حدّثنا الفرج بن فضالة، حدّثنا لقمان بن عامرٍ قال: سمعت أبا أمامة قال: قلت يا نبيّ اللّه، ما كان بدء أمرك؟ قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمّي أنّه يخرج منها نورٌ أضاءت له قصور الشّام"
وقال أحمد أيضًا: حدّثنا حسن بن موسى: سمعت خديجًا أخا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق عن عبد اللّه بن عتبة، عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال: بعثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى النّجاشيّ ونحن نحوٌ من ثمانين رجلًا منهم: عبد اللّه بن مسعودٍ، وجعفرٌ، وعبد اللّه بن [عرفطة] وعثمان بن مظعونٍ، وأبو موسى. فأتوا النّجاشيّ، وبعثت قريشٌ عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد بهديّةٍ، فلمّا دخلا على النّجاشيّ سجدا له، ثمّ ابتدراه عن يمينه وعن شماله، ثمّ قالا له: إنّ نفرًا من بني عمّنا نزلوا أرضك، ورغبوا عنّا وعن ملّتنا. قال: فأين هم؟ قالا هم في أرضك، فابعث إليهم. فبعث إليهم. فقال جعفرٌ: أنا خطيبكم اليوم. فاتبعوه فسلّم ولم يسجد، فقالوا له: ما لك لا تسجد للملك؟ قال: إنّا لا نسجد إلّا للّه عزّ وجلّ. قال وما ذاك؟ قال: إنّ اللّه بعث إلينا رسوله، فأمرنا ألّا نسجد لأحدٍ إلّا للّه عزّ وجلّ، وأمرنا بالصّلاة والزّكاة.
قال عمرو بن العاص: فإنّهم يخالفونك في عيسى ابن مريم. قال: ما تقولون في عيسى ابن مريم وأمّه؟ قالوا: نقول كما قال اللّه عزّ وجلّ: هو كلمة اللّه وروحه ألقاها إلى العذراء البتول، الّتي لم يمسّها بشر ولم يفرضها ولدٌ. قال: فرفع عودًا من الأرض ثمّ قال: يا معشر الحبشة والقسّيسين والرّهبان، واللّه ما يزيدون على الّذي نقول فيه، ما يساوي هذا. مرحبًا بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنّه رسول اللّه، وأنّه الّذي نجد في الإنجيل، وأنّه الّذي بشّر به عيسى ابن مريم. انزلوا حيث شئتم، واللّه لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتّى أكون أنا أحمل نعليه وأوضّئه. وأمر بهديّة الآخرين فردّت إليهما، ثمّ تعجّل عبد اللّه بن مسعودٍ حتّى أدرك بدرًا، وزعم أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم استغفر له حين بلغه موته
وقد رويت هذه القصة عن جعفرٍ وأمّ سلمة رضي اللّه عنهما، وموضع ذلك كتاب السّيرة. والمقصد أنّ الأنبياء عليهم السّلام لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها على أممها، وتأمرهم باتّباعه ونصره وموازرته إذا بعث. وكان ما اشتهر الأمر في أهل الأرض على لسان إبراهيم الخليل والد الأنبياء بعده، حين دعا لأهل مكّة أن يبعث اللّه فيهم رسولًا منهم، وكذا على لسان عيسى ابن مريم؛ ولهذا قالوا: "أخبرنا عن بدء أمرك" يعني: في الأرض، قال: "دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى ابن مريم، ورؤيا أمّي الّتي رأت" أي: ظهر في أهل مكّة أثر ذلك والإرهاص بذكره صلوات اللّه وسلامه عليه.
وقوله: {فلمّا جاءهم بالبيّنات قالوا هذا سحرٌ مبينٌ} قال ابن جريجٍ وابن جريرٍ: {فلمّا جاءهم} أحمد، أي: المبشّر به في الأعصار المتقادمة، المنّوه بذكره في القرون السّالفة، لمّا ظهر أمره وجاء بالبيّنات قال الكفرة والمخالفون: {هذا سحرٌ مبينٌ}).[تفسير القرآن العظيم: 8/109-111]

قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ( {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ *}.
(6) يقولُ تعالى مُخْبِراً عن عِنادِ بني إسرائيلَ الْمُتَقَدَّمِينَ الذينَ دَعاهم عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ وقالَ لهم: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم}؛ أيْ: أرْسَلَنِي اللَّهُ لأَدْعُوَكم إلى الخَيْرِ وأَنهاكُم عن الشرِّ، وأَيَّدَنِي بالبَراهِينِ الظاهِرةِ.
ومِمَّا يَدُلُّ على صِدْقِي كوني {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ}؛ أيْ: جِئتُ بما جاءَ به مُوسَى مِن التوراةِ والشرائعِ السماويَّةِ، ولو كُنْتُ مُدَّعِياً للنبوَّةِ؛ لَجِئْتُ بغيرِ ما جاءَ به المرسَلونُ، و{مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ}, أيضاً أنَّها أخْبَرَتْ بِي وبَشَّرَتْ، فجِئتُ وبُعِثْتُ مصَدِّقاً لها.
{وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}: وهو محمَّدُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ النبيُّ الهاشميُّ، فعِيسَى عليهِ الصلاةُ والسلامُ كسائرِ الأنبياءِ؛ يُصَدِّقُ بالنبيِّ السابقِ، ويُبشِّرُ بالنبيِّ اللاحِقِ، بخِلافِ الكذَّابِينَ، فإنَّهم يُناقِضُونَ الأنبياءَ أشَدَّ مُناقَضَةً، ويُخالِفونَهم في الأوصافِ والأخلاقِ والأمْرِ والنهيِ.
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ} محمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ الذي بَشَّرَ به عِيسَى.
{بِالْبَيِّنَاتِ}؛ أي: الأدلَّةِ الواضحةِ الدالَّةِ على أنَّه هو، وأنَّه رسولُ اللَّهِ حَقًّا,
{قَالُوا} مُعاندِينَ للحقِّ مُكَذِّبِينَ له: {هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}.
وهذا مِن أعجَبِ العجائبِ، الرسولُ الذي قدْ وَضَحَتْ رسالتُه وصارَتْ أَبْيَنَ مِن شَمْسِ النهارِ، يُجْعلُ ساحراً بَيِّناً سِحْرُه، فهل في الْخِذلانِ أعظَمُ مِن هذا؟!
وهل في الافتراءِ أبلَغُ مِن هذا الافتراءِ الذي نَفَى عنه ما كانَ مَعلوماً مِن رِسالتِه، وأَثْبَتَ له ما كانَ أبعدَ الناسِ عنه؟!). [تيسير الكريم الرحمن: 859]

قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (6- {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} أيْ: إنِّي رسولُ اللهِ إليكم بالإنجيلِ، لَمْ آتِكُمْ بشيءٍ يُخالِفُ التوراةَ، بل هي مُشتَمِلَةٌ على التبشيرِ بي، فكيف تَنْفِرونَ عني وتُخَالِفونني؟!
{وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} وإذا كنتُ كذلك فلا مُقتَضَى لتَكذيبِي. وأحمدُ اسمُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وتفسيرُه في الأصلِ: الذي يُحْمَدُ بما فيه مِن خِصالِ الخيرِ أكثرَ مِمَّا يُحْمَدُ غيرُه.
{فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} أيْ: لَمَّا جَاءَهم عيسى بالمعْجِزَاتِ قالوا: هذا الذي جاءَنا به سحْرٌ واضحٌ ظاهِرٌ. وقيلَ:المرادُ محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. أيْ: لَمَّا جاءَهم بذلك قالوا: ساحِرٌ). [زبدة التفسير: 551-552]



* للاستزادة ينظر: هنا