30 Nov -0001
كذلك
أيضًا نجد أن كتب التفسير تضمنت بعض المرويات الإسرائيلية والتي أحيانًا
تروى وكأنها أحاديث أو تروى على أنها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
أو على أنها من أقوال الصحابة رضي الله تعالى عنهم، مثل ما نجده في تفسير
قول الله جل وعلا: {ببابل هاروت وماروت}
والقصة الطويلة جداً، ويمكن أن تنظروا لها وإلى اختلاف الروايات فيها، إن
في كتاب القول المسدد للحافظ ابن حجر لأن الحديث رواه الإمام أحمد في
المسند، يعني لاحظوا هذا الحديث من الأحاديث التي رويت في مسند الإمام
أحمد، وقد اجتهد الحافظ ابن حجر رحمه الله في محاولة الدفاع عن هذا على
الأقل ليثبت أن له أصلاً ولو عن الصحابي الذي روي عنه هذا الحديث إما عن
عبد الله بن عمر، أو عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما،
وقد تكلمت على هذا في تفسير سعيد بن منصور لمن أراد أن ينظر في الكلام على
هذه الرواية وبينت أنها رواية لا تصح ورحم الله الحافظ ابن كثير، فإننا
بحاجة إلى مفسرين مثل الحافظ ابن كثير رحمة الله تعالى عليه، الذي جمع بين
الحديث وبين القدرة على تفسير كتاب الله جل وعلا، فابن كثير رحمه الله إذا
مر على بعض هذه الأحاديث أو الروايات التي فيها ما يستدعي تطبيق قواعد
المحدثين طبقها، ولم يقل إن هذا مما يسع فيه الأمر، فهذه القصة التي وردت
وهي قصة هاروت وماروت وأنهما ملكان يعني سخرا ببني آدم وما يصعد إلى الرب
جل وعلا من عصاة بني آدم وأن الله جل وعلا ابتلاهما فأهبطهما إلى الأرض،
وابتلاهما بامرأة يقال لها الزهرة، وأنهما شربا الخمر، وقتلا الغلام، وفجرا
بالزهرة هذه، ثم إنها مسخت في هذا الكوكب، أو إلى هذا الكوكب الذي نراه في
السماء وهو كوكب الزهرة، فهذا كله من الإسرائيليات، لكن دخل في كتب
التفسير عن طريق خطأ بعض الرواة، فصارت هناك حاجة إلى أولئك المحدثين الذين
ينقدون هذه الروايات ويبينون من أين جاء الخلل في هذه الرواية وأنها لا بد
أن ترجع إلى أصلها، وأصلها هو الإسرائيليات، فالصواب أن هذا.. وهذا الذي
رجحه الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى على أنه من الزاملتين اللتين أصابهما
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما يوم اليرموك لأن عبد الله
بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في وقعة اليرموك كان قد غنم زاملتين
عليهما أحمال من كتب أهل الكتاب فصار يقرأ من هذه الكتب ويحدث بها، بطبيعة
الحال عبد الله بن عمرو بن العاص كان يحدث على أساس وضوح الضوابط الشرعية
في عصره لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما تعلمون قال: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد" فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا يُشعر بأن هناك ما يمكن أن يُصدق وهناك ما يمكن أن يُكذب من ما يأتي عن أهل الكتاب، وهناك ما يمكن أن يُتوقف فيه.
[تفريغ الدقائق: 28 - 39]
الجزء الثالث
إذن
ما كان مما يمكن أن يُصدّق بدليل من شرعنا؛ فإننا نقول: لعل هذا مما صحّ من
أخبار أهل الكتاب، وما كان فيه من شيء يدلّ شرعنا على عدم صحته، مثل:
الإخبار بأن لوطا عليه السلام شرب الخمر ففجر بابنتيه؛ فإن هذا كذب قطعاً؛
هذا لا يمكن أن يُقبل بحال من الأحوال، ولو كان موجودا في التوراة ونحو
ذلك، فهذا مما نجزم بأنه كذب، ولا تجوز روايته بحال إلا على سبيل الإنكار
أو البيان.
وهناك أشياء لا نستدلّ على صدقها ولا كذبها، فنحن في هذه الحال، نطبّق قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم"، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج".
إذن هذه التي لا نعلم صدقها من كذبها يجوز لنا أن نحدّث بها، ولا حرج في
ذلك، لكن ليس معنى التحديث بها التسليم بصحتها، وإنما مما يمكن أن تتشوف
إليه النفوس البشرية من مزيد علم، وإن كان علما لا يترتب عليه الصدق
الجازم، مثل: حينما تتشوف النفوس مثلا لعدة أصحاب الكهف، أو إلى لون كلبهم،
أو إلى بعض التفاصيل التي وردت مجملة في كتاب الله جل وعلا مثل: قصة صاحب
الحمار الذي أحياه الله جل وعلا ونحو ذلك؛ فكل هذه القصص إنما تورد في كتاب
الله جل وعلا لأجل ما فيها من مواطن العبرة، وأما التفاصيل فإن القرآن ما
كان يأتي بتفاصيل هذه القَصص، لكن إذا كانت النفوس تتشوف إلى بعض هذه
التفاصيل، ووجدناها في بعض أخبار بني إسرائيل مما لا يمكن أن يُقطع معه
بأنه كذب، وكذلك أيضا لا يُمكن أن يجزم بأنه صدق، فإن هذا مما أباحت لنا
الشريعة أن نحدّث به، لكن لما حدّث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله
عنهما بهذه القصة، تُنوقل ذلك عنه من باب الخطأ من بعض الرواة، فبعضهم
رفعه، وجعله من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه
وسلم، وبعضهم جعله من كلام عبد الله بن عمرو بن العاص، وإذا كان من كلام
عبد الله بن عمرو بن العاص، فإنه يمكن أن يكون مما أخذه من كتب أهل الكتاب
-هذه التي أشرت إليها - والله تعالى أعلم.
لكن
في المقابل نجد أن هناك بعض الأحاديث الصحيحة التي وردت في تفسير كتاب الله
جل وعلا، وهذا تزخر به كثير من كتب التفسير، وبخاصّة كتب التفسير التي
أُودعت في بطون بعض الكتب، مثل: كتاب التفسير من صحيح البخاري، أو كتاب
التفسير من صحيح مسلم، أو المرويات المنثورة في صحيح مسلم ويمكن أن تُضم
إلى كتاب التفسير؛ لأن كتاب التفسير من صحيح مسلم مختصَر، ليس كطول كتاب
التفسير في صحيح البخاري، يعرف هذا من قرأه، لكن ممكن أن يُجمع من باقي
صحيح مسلم عدة أحاديث يُمكن أن تُلحق بكتاب التفسير، بل بعضها نجد أن
البخاري أفردها في كتاب التفسير، وبعضها يكون مخرّجا في بعض كتب التفسير
الأخرى كتفسير النسائي ونحوه، ومما أشار به بعض الأفاضل مثل الشيخ إبراهيم
بن يوسف الموريتاني، كان مشاركا معي في دورة في شرح صحيح مسلم في الكويت،
فلما مررنا ببعض المرويات، كان قد أشار بأنه يُحبذ أن تجمع مثل هذه
المرويات وتُضاف إلى كتاب التفسير، يعني يُمكن أن يُستلّ كتاب كبير أكبر
مما هو موجود، من صحيح مسلم، وقد قام بذلك خاصة بعض الأخوات الفُضليات
الحاضرات لتلك الدورة، وأطلعونا على المشروع الأول من هذا الجمع، يعني مجرد
جمع فقط من المجلس السابق، وسيتحفونا أيضا بما جُمع من خلال المجلس الثاني
هذا، وسيكون هناك - إن شاء الله تعالى - أيضا بعض المجالس الأخرى التي
تُجمع فيها البقية الباقية، فمثل هذا يُمكن أن يجتمع حتى من كتب الحديث
التي لم تُفرد كتابا في التفسير، أيًّا كانت تلك الكتب، كسنن أبي داوود،
وإن كان فيها كتاب للقراءات لكن ليس فيها كتاب للتفسير، بينما نجد أن
النسائي رحمة الله تعالى عليه في السنن الكبرى، أفرد كتابا كبيرا للتفسير،
وأورد فيه الكثير من الأحاديث والتي يُعد كثير منها من الصحيح، فبعضها مما
خُرّج في الصحيحين أو في أحدهما وهلم جرّا.
وإذا
جئنا للحديث الذي أشرت إليه قبل قليل، وهو تفسير النبي صلى الله عليه وسلم
الظلم بأنه الشرك، نجد أن الحديث مخرج في الصحيحين، لمّا قرأ النبي صلى
الله عليه وسلم: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون …}
الآية من سورة الأنعام؛ تعاظم الصحابة رضي الله تعالى عنهم ذلك، وقالوا:
"يا رسول الله، وأينا لم يظلم نفسه؟"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه ليس الظلم الذي تعنون، أولم تسمعوا إلى ما قال العبد الصالح: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}"، إذن النبي صلى الله عليه وسلم فسّر الظلم الوارد في سورة الأنعام بأنه الظلم الذي عناه لقمان عليه السلام بقوله: {إن الشرك لظلم عظيم}،
إذن الظلم الذي ينبغي للمرء أن يحذر منه هو الشرك بالله، وأما ما دون ذلك
فكل بني آدم خطّاء. إذن هذا من المرويات الصحيحة التي يُعتنى بها في كتب
التفسير.
مما
أحب أن أشير إليه أن علماء الحديث حينما وضعوا هذه الضوابط لقَبول الأخبار
وردّها، ليس معنى هذا أنهم لا يقبلون إلا ما.. أو لا يستعملون إلا ما توفرت
فيه شروط الصحة، بل في إطلاقاتهم - خاصة في العصور الثلاثة الأولى بل
أستطيع أن أقول إلى عصر ابن الصلاح -، في إطلاقهم لفظ الحُسن على بعض
المرويات ما يُشعر بتخفيف هذه الشروط، ولست أقصد بالحسن هنا على تعريف ابن
الصلاح، أو الحديث الحسن بتعريف ابن الصلاح، لا، وإنما أعني الحديث الحسن
بالإطلاق القديم؛ فإطلاق وصف الحُسن على بعض الأحاديث كان موجودا في كلام
عروة بن الزبير وهو من التابعين، وكان يوجد في عصر أتباع التابعين كشعبة،
كان يطلق لفظ الحسن على بعض المرويات، هكذا: عبد الله بن المبارك، وكيع بن
الجراح، الإمام الشافعي. بالنسبة لبقية علماء الحديث كالإمام أحمد، أو علي
بن المَديني، أو أبي حاتم الرازي، أو البخاري، أو غيرهم، فهذا موجود في
كلامهم بكثرة، ولكن الترمذي رحمه الله تعالى، مِن أكثر من أشاع ذلك وأشهره،
وأكثر من ذِكْرِه، لكن إذا نظرنا لإطلاقهم وصف الحُسن فإذا به في كثير من
الأحيان يُطلق هذا الوصف على بعض الأحاديث التي فيها ضعف، ولكن هذا الضَعف
يمكن أن يُتسامح فيه، ونحن نعرف أن الضعف يختلف؛ فهو إما بسبب سقط في
الإسناد، وإما بسبب طَعْن في الراوي، هذا في حقيقته، وما يكون من طعن في
الراوي، فإن هذا الطعن إما أن يكون إما في عدالته، وإما في حفظه، وإما في
صفة روايته، وهذا مما أرجو أن يُتنبه له؛ لأن الذي شاع أن الطعن في الراوي
إما أن يكون في العدالة أو الضبط، وهذا صحيح، لكن أيضا يُمكن أن يكون الطعن
في صفة روايته، وإن كان هذا سيعود إلى سبب من أسباب الضعف الأخرى، وهو
مثلا: السقط في الإسناد، لكن صفة الرواية حينما نأتي على سبيل المثال
للحديث الذي مرّ معنا قبل قليل، في رواية عبيد الله بن موسى- وهو العبسي-،
عن سفيان بن عيينة، ويبدو أن عبيد الله بن موسى هو الذي يتحمّل تبعة الخطأ
في تلك الرواية، حتى إن الإمام أحمد شدّد - كما رأينا - ووصفها بأنها كذب،
فليس معنى هذا أن عبيد الله بن موسى يمكن أن يكذب، عبيد الله بن موسى عدْل
في نفسه، وهو موثوق أيضا بالحفظ، ولكن تُكلم في حفظه، في بعض رواياته، وهذا
لا يمكن إطلاقا أن يكون عن عمد من عبيد الله بن موسى، ولكن يمكن أن يكون
بأحد سببين: إما على سبيل الوهم الذي لا يسلم منه بشر، - وهذا الذي أُنشئ
لأجله علم العلل؛ علم علل الحديث مبناه على أوهام الثقات؛ لأنه علم نشأ
لبيان أوهام الثقات -، وإما أن يكون عبيد الله بن موسى أَسْقَط من الإسناد؛
يعني دلّس، حتى لو لم يكن موصوفا بالتدليس، فإن الذي لا يكون موصوفا
بالتدليس ليس معنى ذلك أنه لا يَصْنع هذا، قد يكون يصنعه أحيانا ولكن لم
يُتفطن له، أو لم يُكثر منه حتى يُعرف به، وهذا يتبين من ردّ بعض المحدثين
للإسناد، أو تحميل العلّة على الإسناد المعنعن إذا لم يجدوا موطنا للعلة في
باقي الإسناد إلا ذلك الموضع؛ فإنه يمكن أن يُعلّه أيضا بالعنعنة، ولو
كانت صادرة من غير مدلّس، وبعضهم يُصرّح يقول: لعله سمعه من غيره. خاصة إذا
كان ذلك الخبر مما للراوي فيه هوى؛ مثل أن تكون تلك الرواية يُمكن أن
توافق هوى إنسان موصوف بالتشيع؛ ...
[تفريغ الدقائق: 40-51]
الجزء الرابع [تفريغ الأخت: سنا]
فإذا كانت توافق هوى من هو موصوف بالتشيع, ثم
دلّس فيها؛ لأجل أنها توافق هواه؛ فإن هذا الذي جعل بعض علماء الحديث لا
يقبلون رواية المبتدع؛ إذا روى ما يؤيد بدعته، (أنا لا أقول أنّ هذا هو
الحق)، هذه فيها تفصيل؛ ولكن هذا الذي جعل بعض العلماء يطلقون القول: (بأنه
لا تقبل رواية الراوي إذا روى ما يؤيد بدعته)، إذن صفة الراوي.. أو صفةالرواية،
هذه يمكن أن يدخل فيها بعض أسباب الضعف, أو بعض أسباب الرد؛ الذي ترد من
أجله الرواية؛ لكنّ المحدثين تساهلوا أحيانا، ليس فقط في أبواب التفسير،
وليس فقط في باب التاريخ والسيرة، بل حتى في أحاديث الأحكام؛ فإنه إذا كان
ذلك الحديث من الأحاديث التي تضمنت بعض الأحكام المقررة في بعض الأحاديث
الأخرى؛ يعني: أن لهذا الحكم أصلا؛ فإنهم يتساهلون أيضا في قبوله، مثل ما
لو جاء حديث يدل على فضل صلاة الجماعة -صلاة الجماعة مقررة بأحاديث أخرى-؛
فإنهم يتسمحون في ذلك, ويعدون هذا من باب الترغيب والترهيب، ونحو ذلك؛ إما
ترغيب في حضور صلاة الجماعة, أو الترهيب من ترك صلاة الجماعة، أما ما يتعلق
بأبواب الفضائل الأخرى؛ مثل: فضائل الصحابة، أو فضائل القرآن، أو فضائل
بعض الأذكار والأدعية، ونحو ذلك, وما يتعلق بالترغيب والترهيب عموما؛ فإن
قاعدة المحدثين فيه معروفة، وعبارتهم مشتهرة؛ مثل: سفيان الثوري، عبد الله
بن المبارك، والإمام أحمد وورد أيضا عن عبد الرحمن بن المهدي وغيرهم, حينما
يقولون: إذا روينا في الحرام والحلال شددنا، ويَقبل الواحد منهم (42:20)،
وإذا روينا في الفضائل؛ تساهلنا، إذن هذا مبدأ عند المحدثين, هذا المبدأ
يهمنا فيما نحن بصدده -في كلامنا هذا -، إذا أضفنا لذلك ما ذكرته سابقاً عن
سعة لغة العرب وأنه يمكن أن نتقبل من لسانٍ حتى في هذا العصر لو أنه بيّن
معنى آية-وهذا البيان مقبول-؛ لأنه يتفق مع لغة العرب؛ حتى ولو تضمن هذا
تدبرا واستنباطا لبعض المعاني التي لا نجدها مثلا: في بعض كتب التفسير
القديمة؛ مثل: بعض اللطائف التي تأتي (43:06) [مستاً]
مثل: من يوفق لذلك من بعض الذين تدبروا القرآن فإن هذا يمكن أن يكون
مقبولاً -هل يطلق عليه أنه تساهل ولا تطبق عليه قواعد المحدثين؟!-، أقول:
إذا قلنا هذا؛ فإن هذا تجوز، لكن هذا مبدأ له أصل، وينبغي أن يوضَح هذا
الأصل، ولا يخلط معه غيره, فينبغي للإخوة الذين يُعنون بتفسير القرآن أن
يوضحوا هذا توضيحاً يعيه كل من يقرأ، وكل من يسمع، بحيث.. كما يقال: (لا
تخلط الأوراق), لا يخلط هذا بذاك, ولا يطلق القول: (بأنه لا تطبق قواعد
المحدثين على مرويات التفسير)، فإن إطلاق القول هكذا جزافاً؛ غلط، بل الأصل
أن تطبق قواعد المحدثين على المرويات، ولكن يمكن أن يتسامح في قبول بعض
المرويات؛ مثل: ما نجده -مثلا- من تسامح المحدثين من قبول رواية (الضحاك عن
ابن عباس) وهي منقطعة، بل أشد من ذلك، من قبول رواية (جويبر بن سعيد عن
الضحاك)؛ سواء عن (الضحاك) من قوله، أو من رواية (الضحاك عن ابن عباس)، فإن
بعض المحدثين تسمحوا في هذا بل استحسنوا هذه الرواية، (لماذا؟)؛ لأنّها
عبارة عن بيان لمعاني الآيات، ولا تتضمن أحكاما؛ ولكن لو أنّ رواية (جويبر
بن سعيد) تضمنت حكماً شرعياً؛ يحتاج إلى دعامة، يحتاج إلى ما يقويه، يحتاج
إلى ما يستند عليه من أصل ثابت؛ فإنه لا بد من تطبيق قواعد المحدثين في هذه
الحالة، هذه مسألة من خالفها فإنه ينبغي أن يراجع هذه القضية، ولا يتعجل
فإنّ هذا الرأي غلط محض، ومثل ما ذكرت لكم من وجود هذه الروايات الكثيرة في
كتب العلل، أو في أحكام الأئمة الذين يحكمون على هذه الروايات -قد يقول
قائل- نحن بحاجة إلى إعطائنا ما يحتاجه المفسر من هذه القواعد الضابطة؛
بمعنى أنّ المفسر لا يمكن أن يكون محدثاً، أو إذا قلنا: إنه لا يفسر القرآن
إلاّ محدث يملك الآلة والقدرة؛ فمعنى ذلك أننا ضيقنا واسعاً، أو حجرنا
واسعاً، (فهل يمكن أن تعطونا الخطوط العريضة التي يحتاجها المفسر للتعامل
مع كتاب الله جل وعلا؟)، فأقول: نعم، المفسر ينبغي له أولا: أن يعمد إلى ما
وجده من روايات فينظر في أحكام الأئمة عليها مادام أنه يمكن أن يكون
محكوماً في هذا، ليس بشرط أن يجتهد هو في تمحيص تلك الرواية؛ وإنما قد
يكونوا هناك بعض الأئمة الذين حكموا على هذه المرويات، مثل ما قلته مثلا:
عن (كتاب العلل لابن أبي حاتم)، أو (كتاب العلل للترمذي) أو يأتي لـ(كتاب
العلل للدارقطني) أو غير ذلك من كتب العلل_ فيجد فيها بعض المرويات التي
أعلها هؤلاء الأئمة؛ فإذا وجد هذه الرواية مما أعله بعض الأئمة؛ فإنه قد
خُدم وقد كُفي فيحمد الله على هذه النعمة أنه قد كُفي، فيقول: هذا الحديث
أعله الإمام الفلاني ويتنبه لهذا ولا يستشهد به، ولا يستدل به؛ بل ينبه
عليه، والعكس كذلك، لو وجد هذه الرواية من الروايات التي صححها بعض الأئمة،
سواء كانت موجودة في بعض الكتب التي اشترطت الصحة مثل صحيح البخاري، أو
صحيح مسلم، أو وجدناها -مثلا- في (كتاب الترمذي), وحكم عليها الترمذي
بالصحة ولم يُخالف من إمام آخر، أو وجدناها -مثلا- في (مستدرك أبي عبد الله
الحاكم) وصححها الحاكم، ولم يتعقبه الذهبي، ولم نجد كلاما لأحد من الأئمة؛
مع العلم أن التعامل مع مستدرك (أبي عبد الله الحاكم ) ينبغي أن يكون أدق
من هذا -مثل ما نبه عليه علماء الحديث في كتب المصطلح- لأنه لا بد من النظر
في أسانيد (أبي عبد الله الحاكم) ولا يكتفى بحكمه، وليس شرطا أن يكون
الذهبي قد تعقبه في كل شيء؛ لأن (الذهبي) -رحمه الله- ألف كتابه هذا الذي هوالتلخيص
في بداية عمره وكان متعجلاً في كتابته، فترك (الذهبي) أشياء كثيرة لم
يتعقب الحاكم فيها، وهي متعَقَبة في حقيقة الأمر؛ فينبغي في الحقيقة أنه
إذا نظر في كتاب التفسير في (مستدرك أبي عبد الله الحاكم) ينبغي أن يبذل
جُهدا آخر، يحاول أن ينظر هل هناك من تكلم على هذه الرواية تصحيحاً، أو
تضعيفا من أئمة آخرين؛ خاصة من الأئمة الذين يمكن أن تشد اليد بأحكامهم؛
يعني: لا يعتمد على الأئمة الذين عرفوا بالتساهل، أو لهم منهج في التصحيح
واسع مثل: (ابن حبان -مثلا-)، وهلم جرا، فضلا عن (أبي عبد الله الحاكم)؛ بل
ينبغي أن يعمد إلى أئمة أشد تطبيقاً لقواعد المحدثين من هؤلاء الأئمة فإن
لم يجد فإنه على الأقل يمكن أن يأخذ من علوم الحديث بالمقدار الذي يعينه
إلى حد ما؛ مثل: أن ينظر في الإسناد، هل فيه أحد ضُعِّف -وربما خُدم-، مثل
ما نجده في (تقريب التهذيب) من أحكام الحافظ ابن حجر على أولئك الرجال.
قد
يقول قائل: أنت الآن تجرئ الناس على الحكم على الأحاديث، أقول: لا، ليس هذا
من هذا الموضوع؛ وإنما هذا من باب أخذ الحيطة؛ يعني أنه إذا جاء لي حديث،
ونظر في هذا الحديث؛ وإذا بهذا الحديث مداره على راوٍ معين، مثلاً: (ابن
لهيعة)، وعرف -مثلا- ضعف ابن لهيعة مطلقاً، أو عرفه عن طريق (تقريب
التهذيب)؛ فإن غاية ما هنالك أن لا يستشهد بهذه الرواية في حالته العجلى
التي هو متعجل فيها (وسأذكر أنا بعض الأشياء الخادمة-إن شاء الله تعالى-
الأخرى)؛ لكن أهم شيء أن لا يستشهد بهذه الرواية مادام أنه وجد فيها راوياً
ضعيفاً، أو تبين له من ضعف في الرواية أنها مرسلة؛ بمعنى أنه إن وجد علة
ظاهرة؛ فإنه لا بأس أن يتوقف عن قبول الرواية لوجود تلك العلة الظاهرة؛
(العلة الظاهرة): إما سقط ظاهر في الإسناد, وإما وجود راوٍ مطعون فيه؛ إما
في عدالته أو ضبطه, وأما بالنسبة للعلل الخفية, أو الحكم الجازم على
الرواية ضعفاً، أو تصحيحاً فإن هذا يحتاج إلى دقة، لو كان طالب العلم الذي
يريد أن يفسر قد تزود من علم الحديث، بحيث صار يملك القدرة على الحكم على
الحديث، وعنده الآلة التي تعينه فكما يقال: (الصلاة خيرٌ من النوم) هذا
نورٌ على نور؛ لا بد أن يكون كل الذين يتولون التفسير بهذه الصفة، لكن كما
قلت: لا نحجرواسعًا لكن على الأقل يمكن للواحد
منهم أن يأخذ الخطوط العريضة، والخطوط العريضة لا بد أن يصاحبها الحذر من
إطلاق الحكم، وإنما يمكن أن يستعين بها من باب أخذ الحيطة، من باب الورع عن
قبول تلك الرواية، فإذا أراد أن يدقق ويفتش أكثر، فإنه يمكن.. وهو لا يملك
الآلة، أو لا يملك الآلة الدقيقة....
[تفريغ الدقائق: 52 - 63]
الجزء الخامس [تفريغ الأخت: رجاء]
..
فإنه يمكن أن يستعين بمن يمكن أن يخدمه في هذا من طلبة العلم المعروفين
بالقدرة على الحكم على الأحاديث، وهم بحمد الله تعالى قد كثُروا في هذا
العصر بحكم وجود الدراسات الحديثية في الجامعات التي خرّجت لنا بعض الأجيال
بالإضافة إلى بعض الذين انبروا من أنفسهم لخدمة سنة النبي صلّى الله عليه
وسلّم، وشُغفوا بها، وأحبوها، فكلّ هؤلاء نسأل الله - جل وعلا - أن يجعل ما
قدموه لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في موازين حسناتهم.
فهذا
كله مما يمكن أن يخدم الـمُفسّر الذي لا يملك القدرة، وهناك بعض الذين لهم
دراسات تاريخيّة وعُرفوا بأنهم ممن تخصّص في هذا الجانب ويتصل - وهم أساتذة
كبار يعني في طبقة مشائخي وقد تقاعدوا - ومع ذلك إذا عرضت لهم بعض
المرويّات في التاريخ أو السيرة يتصل ويستفسر عن هذه المرويات، وأبين له ما
أراه فيها.
فكما
أن هذا في باب التاريخ والسيرة كذلك أيضا نقوله أيضا في باب التفسير، فيمكن
للذي يريد أن يفسر وتوقف في شيء من المرويّات، يمكن له أن يتصل بأحد
المشايخ طلبة العلم الموجودين في الساحة الذين يعينونه في الحكم على هذه
الرواية إن لم يتضح له شيء منها من خلال أقوال الأئمة أو من خلال مثلا
العلل الظاهرة التي تكلمت عليها.
أرجو
إن شاء الله تعالى أن تكون هذه المعاني التي طرقتها موضحة لصورة قائمة في
الذهن كان بودي أن أتحدث عنها بشيء من التفصيل أكثر حينما علمت أن هناك بعض
الجدل الذي وُجد في ملتقى أهل التفسير وفي بعض الملتقيات العلمية، وصار
هناك خلاف بين بعض طلبة العلم في مسألة تطبيق قواعد المحدثين على مرويات
التفسير، وكان بودي أن أشارك وأدلي بدلوي في هذا ولكن أنا عندي ظروفي من
خلال محاصرة بعض الأعمال العلمية لي والتي لا بد من تقديمها على غيرها
لأنها هي من باب الواجب، وليس هناك ما يدعوني للتفصيل في لماذا صارت من
الواجب؟، لكن ما لا يدرك جلّه لا يترك كلّه فالشيخ عبد العزيز الداخل -
وفقه الله لكل خير- حينما طلب مني هذا وأنا والله كنت مشغول بالتصحيح وما
سلمت النتائج إلا اليوم بعد الظهر حتى لم يكن عندي فرصة إطلاقا لتحضير هذه
المادة العلمية، ولعله يكون هناك مني جمع لأشياء يمكن أن تخدم في هذا ويمكن
أن تكون إن شاء الله تعالى أكثر إيضاحاً مما ذكرته، فهذا الذي ذكرته يمكن
أن يكون كما يقال خطوط عريضة في هذا الموضوع وربما يستثار العلم بالسؤال،
يمكن أن يكون هناك شيء يُستثار عن طريق السؤال أدع الفرصة الآن لبعض
الأسئلة التي يمكن أن تذكرني أشياء غفلت عنها أو نسيتها والأمر عائد لكم
وأسأل الله - جل وعلا - للجميع التوفيق والسداد وصلّى الله وسلم على نبينا
محمد.