1 Sep 2014
تفسير قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ومنهم أمّيّون لا يعلمون الكتاب إلّا أمانيّ وإن هم إلّا يظنّون} معنى "الأمّي" في اللغة: المنسوب إلى ما عليه جبلّة أمّته، أي: لا يكتب فهو في أنه لا يكتب على ما ولد عليه، وارتفع {أمّيّون} بالابتداء و{منهم} الخبر، ومن قول الأخفش يرتفع {أمّيّون} بفعل "هم"، كان المعنى: واستقر منهم أمّيّون. ومعنى {إلّا أمانيّ} قال الناس في معناه قولين: قالوا: معناه: لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة، كما قال عزّ وجلّ: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ إلّا إذا تمنّى ألقى الشّيطان في أمنيّته} أي: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته. وقد قيل: الأماني أكاذيب العرب، تقول أنت إنما تتمنى هذا القول، أي: تختلقه. ويجوز
أن يكون أماني منسوبا إلى القائل إذا قال ما لا يعلمه فكأنه إنما يتمناه،
وهذا مستعمل في كلام الناس، تقول للذي يقول ما لا حقيقة له وهو يحبه: هذا
منى، وهذه أمنية. وفي لفظ أماني وجهان: العرب تقول هذه أمان وأمانيّ يا هذا، بالتشديد والتخفيف، فمن قال (أمانيّ) بالتشديد فهو مثل أحدوثة وأحاديث، وقرقورة وقراقير، ومن قال (أمان) بالتخفيف فهو مما اجتمعت فيه الياءان أكثر لثقل الياء. والعرب تقول في أثفية أثافيّ وأثاف، والتخفيف أكثر لكثرة استعمالهم أثاف، والأثافي: الأحجار التي تجعل تحت القدر). [معاني القرآن: 1/ 159-160] تفسير
قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ
ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا
قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ
مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فويل
للّذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا من عند اللّه ليشتروا به
ثمنا قليلا فويل لهم ممّا كتبت أيديهم وويل لهم ممّا يكسبون} "الويل" في اللغة: كلمة يستعملها كل واقع في هلكة، وأصله في العذاب والهلاك، وارتفع "ويل" بالابتداء، وخبره {للّذين}،
ولو كان في غير القرآن لجاز (فويلا للذين) على معنى: جعل الله ويلا للذين،
والرفع على معنى: ثبوت الويل للّذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا
من عند اللّه ليشتروا به ثمنا قليلا. يقال: إن هذا في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كتبوا صفته على غير ما كانت عليه في التوراة، ويقال
في التفسير: إنهم كتبوا صفته أنه آدم طويل، وكانت صفته فيها أنه آدم ربعة،
فبدّلوا فألزمهم الله الويل بما كتبت أيديهم ومن كسبهم على ذلك، لأنهم
أخذوا عليه الأموال وقبلوا الهدايا). [معاني القرآن: 1 /160] تفسير
قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا
مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ
اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وقالوا لن تمسّنا النّار إلّا أيّاما معدودة قل أتّخذتم عند اللّه عهدا فلن يخلف اللّه عهده أم تقولون على اللّه ما لا تعلمون} {تمسنا} نصب بـ{لن}، وقد اختلف النحويون في علة النصب بـ"لن". فروي عن الخليل قولان؛ أحدهما:
أنها نصبت كما نصبت "أن" وليس ما بعدها بصلة لها، لأن "لن يفعل"، نفي
"سيفعل" فقدم ما بعدها عليها، نحو قولك: زيدا لن أضرب، كما تقول: زيدا لم
أضرب، وقد
روى سيبويه عن بعض أصحاب الخليل عن الخليل أنه قال: الأصل في "لن": "لا
أن"، ولكن الحذف وقع استخفافا، وزعم سيبويه أن هذا ليس بجيد، لو كان كذلك
لم يجز (زيدا لن أضرب)، وعلى مذهب سيبويه جميع النحويين، وقد حكى هشام عن
الكسائي في "لن" مثل هذا القول الشاذ عن الخليل، ولم يأخذ به سيبويه ولا
أصحابه. ومعنى {أيّاما معدودة}
قالوا: إنّما نعذّب لأننا عبدنا العجل أياما، قيل في عددها قولان، قيل:
سبعة أيام، وقيل: أربعون يوما، وهذه الحكاية عن اليهود، هم الذين قالوا: {لن تمسّنا النّار إلّا أيّاما معدودة}. وقوله عزّ وجلّ: {قل أتّخذتم عند اللّه عهدا} بقطع الألف هي تقرأ على ضربين: {أتخذتم} بتبيين الذال، و(اتختم) بإدغام الذال في التاء، والألف قطع لأنها ألف استفهام وتقرير. وقوله عزّ وجلّ: {عند اللّه عهدا} المعنى: عهد اللّه إليكم في أنه لا يعذبكم إلا هذا المقدار. وقوله عزّ وجلّ: {فلن يخلف اللّه عهده} أي: إن كان لكم عهد فلن يخلفه اللّه، {أم تقولون على الله ما لا تعلمون}). [معاني القرآن: 1/ 160-161] تفسير
قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ
فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (ثم قال عزّ وجلّ: {بلى من كسب سيّئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون} ردا لقولهم: {لن تمسّنا النّار إلّا أيّاما معدودة}. وقوله عزّ وجلّ: {وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون} فألحق في هذه الآية، والإجماع أن هذا لليهود خاصة لأنه عزّ وجلّ في ذكرهم، وقد قيل: {من كسب سيئة}: الشرك باللّه، {وأحاطت به خطيئته}: الكبائر، والذي جرى في هذه الأقاصيص إنما هو إخبار عن اليهود). [معاني القرآن: 1/ 162] تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}
تفسير قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)}
قال أبو العالية ومجاهد وغيرهما: «المعنى: ومن هؤلاء اليهود المذكورين»، فالآية منبهة على عامتهم وأتباعهم، أي: إنهم ممن لا يطمع في إيمانهم لما غمرهم من الضلال،
وقيل: المراد هنا بالأميين قوم ذهب كتابهم لذنوب ركبوها فبقوا أميين،
وقال عكرمة والضحاك: «هم في الآية نصارى العرب»،
وقيل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنه قال: «هم المجوس».
والضمير في (منهم) على هذه الأقوال هو للكفار أجمعين،
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقول أبي العالية ومجاهد أوجه هذه الأقوال،
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «أميون» بتخفيف الميم،
والأمي في اللغة: الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب،
- نسب إلى الأم: إما لأنه بحال أمه من عدم الكتاب لا بحال أبيه، إذ النساء ليس من شغلهن الكتاب، قاله الطبري، وإما لأنه بحال ولدته أمه فيها لم ينتقل عنها،
- وقيل: نسب إلى الأمة وهي القامة والخلقة، كأنه ليس له من الآدميين إلا ذلك،
- وقيل: نسب إلى الأمة على سذاجتها قبل أن تعرف المعارف، فإنها لا تقرأ ولا تكتب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في العرب: «إنا أمة أميّة لا نحسب ولا نكتب»، الحديث.
والألف واللام في (الكتاب) للعهد، ويعني به التوراة في قول أبي العالية ومجاهد.
والأماني جمع
أمنية، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع في بعض ما روي عنه «أماني» بتخفيف الياء،
وأصل أمنية أمنوية على وزن أفعولة، ويجمع هذا الوزن على أفاعل، وعلى هذا
يجب تخفيف الياء، ويجمع على أفاعيل فعلى هذا يجيء أمانيي أدغمت الياء في
الياء فجاء «أماني».
واختلف في معنى أمانيّ؛
- فقالت طائفة: هي هنا من تمني الرجل إذا ترجى، فمعناه أن منهم من لا يكتب ولا يقرأ وإنما يقول بظنه شيئا سمعه، فيتمنى أنه من الكتاب،
- وقال آخرون: هي من تمنى إذا تلا، ومنه قوله تعالى: {إلّا إذا تمنّى ألقى الشّيطان في أمنيّته}[الحج: 52] ، ومنه قول الشاعر:
تمنى كتاب الله أول ليله ....... وآخره لاقى حمام المقادر
فمعنى الآية أنهم لا يعلمون الكتاب إلا سماع شيء يتلى لا علم لهم بصحته،
-
وقال الطبري: هي من تمنى الرجل إذا حدث بحديث مختلق كذب، وذكر أهل اللغة
أن العرب تقول تمنى الرجل إذا كذب واختلق الحديث، ومنه قول عثمان رضي الله
عنه: «ما تمنيت ولا تغنيت منذ أسلمت».
فمعنى الآية أن منهم أميين لا يعلمون الكتاب إلا أنهم يسمعون من الأحبار أشياء مختلقة يظنونها من الكتاب،
و(إن) نافية بمعنى (ما)، والظن هنا على بابه في الميل إلى أحد الجائزين). [المحرر الوجيز: 1/ 262-263]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ومنهم
أمّيّون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ وإن هم إلا يظنّون (78) فويلٌ للّذين
يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا من عند اللّه ليشتروا به ثمنًا
قليلا فويلٌ لهم ممّا كتبت أيديهم وويلٌ لهم ممّا يكسبون (79)}
يقول تعالى: {ومنهم أمّيّون}:«أي: ومن أهل الكتاب»، قاله مجاهدٌ،
والأمّيّون جمع أمّيٍّ،«وهو: الرّجل الذي لا يحسن الكتابة»، قاله أبو العالية، والرّبيع، وقتادة، وإبراهيم النّخعي، وغير واحدٍ وهو ظاهرٌ في قوله تعالى: {لا يعلمون الكتاب [إلا أمانيّ]} أي: لا يدرون ما فيه. ولهذا في صفات النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه أمّيٌّ؛ لأنّه لم يكن يحسن الكتابة، كما قال تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتابٍ ولا تخطّه بيمينك إذًا لارتاب المبطلون}[العنكبوت: 48] ، وقال عليه الصّلاة والسّلام: «إنّا أمّةٌ أمّيّةٌ، لا نكتب ولا نحسب، الشّهر هكذا وهكذا وهكذا» الحديث. أي: لا نفتقر في عباداتنا ومواقيتها إلى كتابٍ ولا حسابٍ، وقال تعالى: {هو الّذي بعث في الأمّيّين رسولا منهم}[الجمعة: 2].
وقال ابن جريرٍ:
نسبت العرب من لا يكتب ولا يخط من الرّجال إلى أمّه في جهله بالكتاب دون
أبيه، قال: وقد روي عن ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما قولٌ خلاف هذا، وهو ما
حدّثنا به أبو كريب: حدّثنا عثمان بن سعيدٍ، عن بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ،
عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {ومنهم أمّيّون} قال: «الأمّيّون قومٌ لم يصدّقوا رسولًا أرسله اللّه، ولا كتابًا أنزله اللّه، فكتبوا كتابًا بأيديهم، ثمّ قالوا لقومٍ سفلة جهّال: {هذا من عند اللّه}»، وقال:«قد أخبر أنّهم يكتبون بأيديهم، ثمّ سمّاهم أمّيّين، لجحودهم كتب اللّه ورسله». ثمّ قال ابن جريرٍ: وهذا التّأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم. وذلك أنّ الأمّيّ عند العرب: الذي لا يكتب.
قلت: ثمّ في صحّة هذا عن ابن عباس بهذا الإسناد، نظر. والله أعلم.
قوله تعالى: {إلا أمانيّ} قال ابن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ: «{إلا أمانيّ} إلّا أحاديث».
وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {إلا أمانيّ} يقول: «إلّا قولًا يقولونه بأفواههم كذبًا».
وقال مجاهدٌ: «إلّا كذبًا».
وقال سنيدٌ، عن حجّاجٍ، عن ابن جريجٍ عن مجاهدٍ: {ومنهم أمّيّون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ} قال: «أناس
من يهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئًا، وكانوا يتكلّمون بالظّنّ بغير
ما في كتاب اللّه، ويقولون: هو من الكتاب، أمانيّ يتمنّونها».
وعن الحسن البصريّ، نحوه.
وقال أبو العالية، والرّبيع وقتادة: «{إلا أمانيّ}يتمنّون على اللّه ما ليس لهم».
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: {إلا أمانيّ} قال: «تمنّوا فقالوا: نحن من أهل الكتاب. وليسوا منهم».
قال ابن جريرٍ: والأشبه بالصّواب قول الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ،
وقال مجاهدٌ: «إنّ
الأمّيّين الّذين وصفهم اللّه أنّهم لا يفقهون من الكتاب -الذي أنزل اللّه
على موسى- شيئًا، ولكنّهم يتخرّصون الكذب ويتخرّصون الأباطيل كذبًا وزورًا».
والتّمنّي في هذا الموضع هو تخلّق الكذب وتخرّصه. ومنه الخبر المرويّ عن عثمان بن عفّان رضي اللّه عنه: «ما تغنّيت ولا تمنّيت». يعني: ما تخرّصت الباطل ولا اختلقت الكذب.
وقال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ وإن هم إلا يظنّون} ولا يدرون ما فيه، وهم يجحدون نبوّتك بالظّنّ».
وقال مجاهدٌ: «{وإن هم إلا يظنّون} يكذبون».
وقال قتادة: وأبو العالية، والرّبيع: «يظنّون الظّنون بغير الحقّ»). [تفسير ابن كثير: 1/ 310-311]
(الذين) في هذه الآية يراد بهم الأحبار والرؤساء،
قال الخليل: الويل
شدة الشر، وقال الأصمعي: الويل القبوح وهو مصدر لا فعل له، ويجمع على
ويلات، والأحسن فيه إذا انفصل الرفع، لأنه يقتضي الوقوع، ويصح النصب على
معنى الدعاء أي: ألزمه الله ويلا، وويل وويح وويس وويب تتقارب في المعنى،
وقد فرق بينها قوم،
- وروى سفيان وعطاء بن يسار أن الويل في هذه الآية: «واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار»،
- وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أنه واد في جهنم بين جبلين يهوي فيه الهاوي أربعين خريفا»،
- وقال أبو عياض: «إنه صهريج في جهنم»،
- وروى عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه جبل من جبال النار».
- وحكى الزهراوي عن آخرين أنه باب من أبواب جهنم.
والذين يكتبون: هم الأحبار الذين بدلوا التوراة.
وقوله تعالى: {بأيديهم}
بيان لجرمهم وإثبات لمجاهرتهم الله، وفرق بين من كتب وبين من أمر، إذ
المتولي للفعل أشد مواقعة ممن لم يتوله، وإن كان رأيا له، وقال ابن السراج:
هو كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم، وإن لم تكن حقيقة في كتب
أيديهم، والذي بدلوا هو صفة النبي صلى الله عليه وسلم ليستديموا رياستهم
ومكاسبهم،
- وقال ابن إسحاق: «كانت صفته في التوراة أسمر ربعة، فردوه آدم طويلا»،
- وذكر السدي: «أنهم كانوا يكتبون كتبا يبدلون فيها صفة النبي صلى الله عليه وسلم ويبيعونها من الأعراب ويبثونها في أتباعهم ويقولون هي من عند الله»،
وتناسق هذه الآية على التي قبلها يعطي أن هذا الكتب والتبديل إنما هو للأتباع الأميين الذين لا يعلمون إلا ما قرئ لهم.
والثمن قيل: عرض الدنيا، وقيل: الرشا والمآكل التي كانت لهم، ووصفه بالقلة إما لفنائه وإما لكونه حراما،
وكرر الويل لتكرار الحالات التي استحقوه بها، ويكسبون معناه من المعاصي والخطايا، وقيل: من المال الذي تضمنه ذكر الثمن). [المحرر الوجيز: 1/ 264-265]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {فويلٌ للّذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثمّ يقولون هذا من عند اللّه ليشتروا به ثمنًا قليلا} الآية: هؤلاء صنفٌ آخر من اليهود، وهم الدّعاة إلى الضّلال بالزّور والكذب على اللّه، وأكل أموال النّاس بالباطل.
والويل: الهلاك والدّمار، وهي كلمةٌ مشهورةٌ في اللّغة. وقال سفيان الثّوريّ، عن زياد بن فيّاضٍ: سمعت أبا عياضٍ يقول: «ويلٌ: صديدٌ في أصل جهنّم».
وقال عطاء بن يسارٍ: «الويل: وادٍ في جهنّم لو سيّرت فيه الجبال لماعت».
وقال ابن أبي
حاتمٍ: حدّثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرني عمرو بن
الحارث، عن درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ الخدريّ، عن رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: «ويلٌ وادٍ في جهنّم، يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره».
ورواه التّرمذيّ
عن عبد بن حميدٍ، عن الحسن بن موسى، عن ابن لهيعة، عن درّاجٍ، به. وقال:
هذا حديثٌ غريبٌ لا نعرفه إلّا من حديث ابن لهيعة.
قلت: لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى، ولكنّ الآفة ممّن بعده، وهذا الحديث بهذا الإسناد -مرفوعًا- منكرٌ، واللّه أعلم.
وقال ابن جريرٍ:
حدّثنا المثنّى، حدّثنا إبراهيم بن عبد السّلام بن صالحٍ العشيريّ حدّثنا
عليّ بن جريرٍ، عن حمّاد بن سلمة، عن عبد الحميد بن جعفرٍ، عن كنانة
العدوّيّ، عن عثمان بن عفّان، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {فويلٌ لهم ممّا كتبت أيديهم وويلٌ لهم ممّا يكسبون} قال: «الويل
جبلٌ في النّار. وهو الذي أنزل في اليهود؛ لأنّهم حرّفوا التّوراة، زادوا
فيها ما أحبّوا، ومحوا منها ما يكرهون، ومحوا اسم محمّدٍ صلّى اللّه عليه
وسلّم من التّوراة. ولذلك غضب اللّه عليهم، فرفع بعض التّوراة، فقال:{فويلٌ لهم ممّا كتبت أيديهم وويلٌ لهم ممّا يكسبون}».
وهذا غريبٌ أيضًا جدًا.
[وعن ابن عبّاسٍ: «الويل: السّعير من العذاب»،
وقال الخليل بن أحمد: الويل: شدّة الشّرّ،
وقال سيبويه: ويلٌ: لمن وقع في الهلكة، وويحٌ لمن أشرف عليها،
وقال الأصمعيّ: الويل: تفجّعٌ والويل ترحّمٌ،
وقال غيره: الويل: الحزن.
وقال الخليل: وفي معنى ويلٍ: ويحٌ وويشٌ وويهٌ وويكٌ وويبٌ، ومنهم من فرّق بينها،
وقال بعض النّحاة: إنّما جاز الابتداء بها وهي نكرةٌ؛ لأنّ فيها معنى الدّعاء، ومنهم من جوّز نصبها، بمعنى: ألزمهم ويلًا.
قلت: لكن لم يقرأ بذلك أحدٌ].
وعن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: {فويلٌ للّذين يكتبون الكتاب بأيديهم} قال: «هم أحبار اليهود».
وكذا قال سعيدٌ، عن قتادة: «هم اليهود».
وقال سفيان الثّوريّ، عن عبد الرّحمن بن علقمة: سألت ابن عبّاسٍ عن قوله تعالى: {فويلٌ للّذين يكتبون الكتاب بأيديهم} قال: «نزلت في المشركين وأهل الكتاب».
وقال السّدّيّ:«كان ناسٌ من اليهود كتبوا كتابًا من عندهم، يبيعونه من العرب، ويحدّثونهم أنّه من عند اللّه، ليأخذوا به ثمنًا قليلًا».
وقال الزّهريّ: أخبرني عبيد اللّه بن عبد اللّه، عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: «يا
معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيءٍ، وكتابكم الذي أنزل اللّه
على نبيّه، أحدث أخبار اللّه تقرؤونه محضًا لم يشب؟ وقد حدّثكم اللّه تعالى
أنّ أهل الكتاب قد بدّلوا كتاب اللّه وغيّروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب،
وقالوا: هو من عند اللّه ليشتروا به ثمنًا قليلًا؛ أفلا ينهاكم ما جاءكم من
العلم عن مساءلتهم؟ ولا واللّه ما رأينا منهم أحدًا قطّ سألكم عن الذي
أنزل إليكم». رواه البخاريّ من طرقٍ عن الزّهريّ.
وقال الحسن بن أبي الحسن البصريّ: «الثّمن القليل: الدّنيا بحذافيرها».
وقوله تعالى: {فويلٌ لهم ممّا كتبت أيديهم وويلٌ لهم ممّا يكسبون}
أي: فويلٌ لهم ممّا كتبوا بأيديهم من الكذب والبهتان، والافتراء، وويلٌ
لهم ممّا أكلوا به من السّحت، كما قال الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ: {فويلٌ لهم} يقول: «فالعذاب عليهم، من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب»، {وويلٌ لهم ممّا يكسبون} يقول:«ممّا يأكلون به النّاس السّفلة وغيرهم»). [تفسير ابن كثير: 1/ 311-313]
- روى ابن زيد وغيره أن سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود: «من أهل النار؟»، فقالوا: نحن ثم تخلفوننا أنتم، فقال لهم: «كذبتم، لقد علمتم أنا لا نخلفكم»، فنزلت هذه الآية،
- ويقال: «إن السبب أن اليهود قالت: إن الله تعالى أقسم أن يدخلهم النار أربعين يوما عدد عبادتهم العجل»، قاله ابن عباس وقتادة وعطاء،
- وقالت طائفة: قالت اليهود إن في التوراة أن طول جهنم مسيرة أربعين سنة وأنهم يقطعون في كل يوم سنة حتى يكملوها وتذهب جهنم،
- وقال ابن عباس أيضا ومجاهد وابن جريج: «إنهم قالوا إن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإن الله تعالى يعذبهم بكل ألف سنة يوما».
و(أتّخذتم) أصله
«ايتخذتم»، وزنه افتعلتم من الأخذ، سهلت الهمزة الثانية لامتناع جمع همزتين
فجاء «ايتخذتم» فاضطربت الياء في التصريف فجاءت ألفا في ياتخذوا وواوا في
«موتخذ» فبدلت بحرف جلد ثابت وهو التاء وأدغمت، فلما دخلت في هذه الآية ألف
التقرير استغني عن ألف الوصل، ومذهب أبي علي أن أتّخذتم من «تخذ» لا من
«أخذ» وقد تقدم ذكر ذلك.
- وقال أهل التفسير: العهد من الله تعالى في هذه الآية الميثاق والوعد،
- وقال ابن عباس وغيره: «معناه: هل قلتم لا إله إلا الله وآمنتم وأطعتم فتدلون بذلك وتعلمون أنكم خارجون من النار؟»،
فعلى هذا التأويل الأول يجيء المعنى: هل عاهدكم الله على هذا الذي تدعون؟
وعلى التأويل الثاني يجيء: هل أسلفتم عند الله أعمالا توجب ما تدعون؟، وقوله: {فلن يخلف اللّه عهده} اعتراض أثناء الكلام). [المحرر الوجيز: 1/ 265-266]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وقالوا
لن تمسّنا النّار إلا أيّامًا معدودةً قل أتّخذتم عند اللّه عهدًا فلن
يخلف اللّه عهده أم تقولون على اللّه ما لا تعلمون (80)}
يقول تعالى
إخبارًا عن اليهود فيما نقلوه وادّعوه لأنفسهم، من أنّهم لن تمسّهم النّار
إلّا أيّامًا معدودةً، ثمّ ينجون منها، فردّ اللّه عليهم ذلك بقوله: {قل أتّخذتم عند اللّه عهدًا} أي: بذلك؟ فإن كان قد وقع عهدٌ فهو لا يخلف عهده.
ولكنّ هذا ما جرى ولا كان. ولهذا أتى بـ"أم" التي بمعنى: بل، أي: بل تقولون على اللّه ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه.
قال محمّد بن إسحاق، عن سيف بن سليمان عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ: «أنّ
اليهود كانوا يقولون: هذه الدّنيا سبعة آلاف سنةٍ، وإنّما نعذّب بكلّ ألف
سنةٍ يومًا في النّار، وإنّما هي سبعة أيّامٍ معدودةٍ. فأنزل اللّه تعالى:{وقالوا لن تمسّنا النّار إلا أيّامًا معدودةً}إلى قوله: {خالدون}».
ثمّ رواه عن محمّدٍ، عن سعيدٍ -أو عكرمة- عن ابن عبّاسٍ، بنحوه.
وقال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: «{وقالوا لن تمسّنا النّار إلا أيّامًا معدودةً}اليهود قالوا: لن تمسّنا النّار إلّا أربعين ليلةً»، [زاد غيره: «هي مدّة عبادتهم العجل»، وحكاه القرطبيّ عن ابن عبّاسٍ وقتادة].
وقال الضّحّاك: قال ابن عبّاسٍ: «زعمت
اليهود أنّهم وجدوا في التّوراة مكتوبًا: أنّ ما بين طرفي جهنّم مسيرة
أربعين سنةً، إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزّقّوم، التي هي نابتةٌ في أصل
الجحيم. وقال أعداء اللّه: إنّما نعذّب حتّى ننتهي إلى شجرة الزّقّوم فتذهب
جهنّم وتهلك.فذلك قوله تعالى:{وقالوا لن تمسّنا النّار إلا أيّامًا معدودةً}».
وقال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة: «{وقالوا لن تمسّنا النّار إلا أيّامًا معدودةً}يعني: الأيّام التي عبدنا فيها العجل».
وقال عكرمة: خاصمت
اليهود رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالوا: لن ندخل النّار إلّا
أربعين ليلةً، وسيخلفنا إليها قومٌ آخرون، يعنون محمّدًا صلّى اللّه عليه
وسلّم وأصحابه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بيده على رءوسهم: «بل أنتم خالدون مخلّدون لا يخلفكم إليها أحدٌ». فأنزل اللّه: {وقالوا لن تمسّنا النّار إلا أيّامًا معدودةً} الآية.
وقال الحافظ أبو
بكر بن مردويه رحمه اللّه: حدّثنا عبد الرّحمن بن جعفرٍ، حدّثنا محمّد بن
محمّد بن صخرٍ، حدّثنا أبو عبد الرّحمن المقرئ، حدّثنا ليث بن سعدٍ، حدّثني
سعيد بن أبي سعيدٍ، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، قال: لمّا فتحت خيبر
أهديت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم شاةٌ فيها سمٌّ، فقال رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم: «اجمعوا لي من كان من اليهود هاهنا»، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من أبوكم؟»، قالوا: فلانٌ. قال: «كذبتم، بل أبوكم فلانٌ». فقالوا: صدقت وبررت، ثمّ قال لهم: «هل أنتم صادقيّ عن شيءٍ إن سألتكم عنه؟». قالوا: نعم، يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا. فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من أهل النّار؟»، فقالوا: نكون فيها يسيرًا ثمّ تخلفونا فيها. فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «اخسأوا، واللّه لا نخلفكم فيها أبدًا». ثمّ قال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «هل أنتم صادقيّ عن شيءٍ إن سألتكم عنه؟». قالوا: نعم يا أبا القاسم. فقال: «هل جعلتم في هذه الشّاة سمًّا؟». فقالوا: نعم. قال: «فما حملكم على ذلك؟». فقالوا: أردنا إن كنت كاذبًا أن نستريح منك، وإن كنت نبيًّا لم يضرّك.
ورواه أحمد، والبخاريّ، والنّسائيّ، من حديث اللّيث بن سعدٍ، بنحوه). [تفسير ابن كثير: 1/ 313-314]
- وقال الكوفيون:
أصلها بل التي هل للإضراب عن الأول وزيدت عليها الياء ليحسن الوقف عليها
وضمنت الياء معنى الإيجاب والإنعام بما يأتي بعدها،
- وقال سيبويه: هي حرف مثل بل وغيره،
وهي في هذه الآية رد لقول بني إسرائيل لن تمسّنا النّار، فرد الله عليهم وبين الخلود في النار والجنة بحسب الكفر والإيمان،
و(من) شرط في موضع رفع بالابتداء، و«أولئك» ابتداء ثان، و(أصحاب) خبره، والجملة خبر الأول، والفاء موطئة أن تكون الجملة جواب الشرط.
وقالت طائفة: السيئة: الشرك، كقوله تعالى: {ومن جاء بالسّيّئة فكبّت وجوههم في النّار}[النمل: 90]، والخطيئات: كبائر الذنوب، وقال قوم: «خطيئته» بالإفراد،
وقال قوم: السيئة هنا: الكبائر، وأفردها وهي بمعنى الجمع لما كانت تدل على الجنس، كقوله تعالى: {وإن تعدّوا نعمة اللّه لا تحصوها}[إبراهيم: 34]، والخطيئة: الكفر،
ولفظة الإحاطة تقوي هذا القول وهي مأخوذة من الحائط المحدق بالشيء،
وقال الربيع بن خيثم والأعمش والسدي وغيرهم: «معنى الآية: مات بذنوب لم يتب منها»،
وقال الربيع أيضا: «المعنى: مات على كفره»،
وقال الحسن بن أبي الحسن والسدي: «المعنى: كل ما توعد الله عليه بالنار فهي الخطيئة المحيطة»،
والخلود في هذه
الآية على الإطلاق والتأبيد في المشركين، ومستعار بمعنى الطول والدوام في
العصاة وإن علم انقطاعه، كما يقال: ملك خالد ويدعى للملك بالخلد.
وقوله تعالى: {والّذين آمنوا} الآية. يدل هذا التقسيم على أن قوله: {من كسب سيّئةً} الآية في الكفار لا في العصاة،
- ويدل على ذلك أيضا قوله: {أحاطت} لأن العاصي مؤمن فلم تحط به خطيئته،
- ويدل على ذلك أيضا أن الرد كان على كفار ادعوا أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة فهم المراد بالخلود، والله أعلم). [المحرر الوجيز: 1/ 266-267]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({بلى
من كسب سيّئةً وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون (81)
والّذين آمنوا وعملوا الصّالحات أولئك أصحاب الجنّة هم فيها خالدون (82)}
يقول تعالى: ليس
الأمر كما تمنّيتم، ولا كما تشتهون، بل الأمر: أنّه من عمل سيّئةً وأحاطت
به خطيئته، وهو من وافى يوم القيامة وليس له حسنةٌ، بل جميع عمله سيّئاتٌ،
فهذا من أهل النّار، والّذين آمنوا باللّه ورسوله وعملوا الصالحات -من
العمل الموافق للشّريعة- فهم من أهل الجنّة. وهذا المقام شبيهٌ بقوله
تعالى: {ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ
أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به ولا يجد له من دون اللّه وليًّا ولا
نصيرًا* ومن يعمل من الصّالحات من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فأولئك يدخلون
الجنّة ولا يظلمون نقيرًا}[النّساء: 123، 124].
قال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن سعيدٍ -أو عكرمة- عن ابن عبّاسٍ: «{بلى من كسب سيّئةً} أي: عمل مثل أعمالكم، وكفر بمثل ما كفرتم به، حتّى يحيط به كفره فما له من حسنةٍ».
وفي روايةٍ عن ابن عبّاسٍ، قال: «الشّرك».
قال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن أبي وائلٍ، وأبي العالية، ومجاهدٍ، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ، نحوه.
وقال الحسن -أيضًا- والسّدّيّ: «السّيّئة: الكبيرة من الكبائر».
وقال ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ: {وأحاطت به خطيئته} قال: «بقلبه».
وقال أبو هريرة، وأبو وائلٍ، وعطاءٌ، والحسن: {وأحاطت به خطيئته} قالوا:«أحاط به شركه».
وقال الأعمش، عن أبي رزينٍ، عن الرّبيع بن خثيم: {وأحاطت به خطيئته} قال: «الذي يموت على خطايا من قبل أن يتوب». وعن السّدّيّ، وأبي رزينٍ، نحوه.
وقال أبو العالية، ومجاهدٌ، والحسن، في روايةٍ عنهما، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ: «{وأحاطت به خطيئته}الكبيرة الموجبة».
وكلّ هذه الأقوال متقاربةٌ في المعنى، واللّه أعلم.
ويذكر هاهنا
الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: حدّثنا سليمان بن داود، حدّثنا عمرو
بن قتادة عن عبد ربّه، عن أبي عياضٍ، عن عبد الله بن مسعودٍ: أنّ رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إيّاكم ومحقّرات الذّنوب، فإنّهنّ يجتمعن على الرّجل حتّى يهلكنه».
وإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ضرب لهنّ مثلًا كمثل قومٍ نزلوا
بأرضٍ فلاةٍ، فحضر صنيع القوم، فجعل الرّجل ينطلق فيجيء بالعود، والرّجل
يجيء بالعود، حتّى جمعوا سوادًا، وأجّجوا نارًا، فأنضجوا ما قذفوا فيها). [تفسير ابن كثير: 1/ 315-316]
* للاستزادة ينظر: هنا