الدروس
course cover
تفسير سورة البقرة [من الآية (83) إلى الآية (86) ]
1 Sep 2014
1 Sep 2014

5357

0

0

course cover
تفسير سورة البقرة

القسم السادس

تفسير سورة البقرة [من الآية (83) إلى الآية (86) ]
1 Sep 2014
1 Sep 2014

1 Sep 2014

5357

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}



تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلّا اللّه وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للنّاس حسنا وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة ثمّ تولّيتم إلّا قليلا منكم وأنتم معرضون} القراءة على ضربين، (تعبدون) و(يعبدون) بالياء والتاء، وقد روي وجه ثالث لا يؤخذ به لأنه مخالف للمصحف، قرأ ابن مسعود: (لا تعبدوا).

ورفع {لا تعبدون} -بالتاء- على ضربين، على أن يكون (لا) جواب القسم لأن أخذ الميثاق بمنزلة القسم، والدليل على ذلك قوله: {وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس} فجاء جواب القسم باللام فكذلك هو بالنفي بـ"لا"، ويجوز أن يكون رفعه على إسقاط "أن" على معنى "ألا تعبدوا" فلما سقطت "أن" رفعت، وهذا مذهب الأخفش وغيره من النحويين،

فأما القراءة بالتاء؛ فعلى معنى الخطاب والحكاية، كأنّه قيل: قلنا لهم لا تعبدون إلا الله، وأمّا (لا يعبدون) بالياء فإنهم غيب، وعلامة الغائب الياء.

ومعنى "أخذ الميثاق والعهد" قد بيّناه قبل هذا الموضع.

وقوله عزّ وجلّ: {وبالوالدين إحسانا} نصب على معنى: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، بدل من اللفظ (أحسنوا).

{وذي القربى واليتامى}: جمع على فعالى، كما جمع أسير على أسارى، يقال: يَتِم يَيْتَم يُتْمًا ويَتْمًا إذا فقد أباه، هذا للإنسان فأمّا غيره فيتمه من قبل أمه.

أخبرني بذلك محمد بن يزيد، عن الرياشي، عن الأصمعي: إن اليتيم في الناس من قبل الأب، وفي غير الناس من قبل الأم،

{والمساكين} مأخوذ من السكون، وأحدهم مسكين كأنّه قد أسكنه الفقر.

وقوله عزّ وجلّ: {وقولوا للنّاس حسنا}فيها ثلاثة أقوال:

(حسْنًا) بالتنوين وإسكان السين، و(حسَنًا) بالتنوين وفتح السين، وروى الأخفش (حسنى) غير منون.

فأما الوجهان الأولان؛ فقرأهما الناس، وهما جيدان بالغان في اللغة، وأما "حسنى" فكان لا ينبغي أن يقرأ به لأنه باب الأفعل والفعلى، نحو الأحسن والحسنى، والأفضل والفضلى، لا يستعمل إلا بالألف واللام، كما قال اللّه عزّ وجلّ: {إنّ الّذين سبقت لهم منّا الحسنى} وقال: {للّذين أحسنوا الحسنى وزيادة}.

وفي قوله{حسنا}بالتنوين قولان:

المعنى: قولوا للناس قولا ذا حسن، وزعم الأخفش أنّه يجوز أن يكون (حُسْنًا) في معنى (حَسَنًا)، فأمّا (حُسْنًا) فصفة، المعنى: قولا حسنا،

وتفسير: {قولوا للناس حسنا} مخاطبة لعلماء اليهود، قيل لهم: اصدقوا في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

{وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة} اعلموا أنه قد أخذ عليهم الميثاق وعهد عليهم فيه بالصدق في صفة النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وقوله عزّ وجلّ: {ثمّ تولّيتم إلّا قليلا منكم} يعني أوائلهم الذين أخذ عليهم الميثاق،

وقوله {وأنتم معرضون} أي: وأنتم -أيضا- كأوائلكم في الإعراض عمّا عهد إليكم فيه،

ونصب {إلّا قليلا} على الاستثناء، والمعنى: استثني قليلا منكم).[معاني القرآن: 1/ 162-164]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلاّ اللّه وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للنّاس حسناً وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة ثمّ تولّيتم إلاّ قليلاً منكم وأنتم معرضون (83) وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون (84)}
المعنى: «واذكروا إذ أخذنا»،
- وقال مكي رحمه الله: «هذا هو الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجوا من صلب آدم كالذر»، وهذا ضعيف، وإنما هو ميثاق أخذ عليهم وهم عقلاء في حياتهم على لسان موسى عليه السلام وغيره من أنبيائهم عليهم السلام،
وأخذ الميثاق قول، فالمعنى قلنا لهم لا تعبدون، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «لا يعبدون» بالياء من أسفل، وقرأ الباقون بالتاء من فوق، حكاية ما قيل لهم، وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود «لا تعبدوا» على النهي.
- قال سيبوية: (لا تعبدون) متعلق لقسم، والمعنى: وإذ استخلفناكم والله لا تعبدون،
- وقالت طائفة: تقدير الكلام بأن لا تعبدوا إلا الله، ثم حذفت الباء ثم حذفت أن فارتفع الفعل لزوالها، فـ(لا تعبدون) على هذا معمول لحرف النصب،
- وحكي عن قطرب أن لا تعبدون إلّا اللّه في موضع الحال أي: أخذنا ميثاقهم موحدين، وهذا إنما يتجه على قراءة ابن كثير، ونظام الآية يدفعه مع كل قراءة،
- وقال قوم: لا تعبدون إلّا اللّه نهي في صيغة خبر، ويدل على ذلك أن في قراءة أبي: لا تعبدوا.
والباء في قوله: {وبالوالدين}؛
- قيل: هي متعلقة بالميثاق عطفا على الباء المقدرة أولا على قول من قال: التقدير بأن لا تعبدوا،
- وقيل: تتعلق بقوله: {وإحساناً} والتقدير: قلنا لهم لا تعبدون إلا الله، وأحسنوا إحسانا بالوالدين ويعترض هذا القول بأن المصدر قد تقدم عليه ما هو معمول له،
- وقيل: تتعلق الباء بأحسنوا المقدر، والمعنى: وأحسنوا بالوالدين إحسانا، وهذا قول حسن،
وقدم اللفظ بالوالدين تهمما فهو نحو قوله تعالى: {إيّاك نعبد} [الفاتحة: 5] وفي الإحسان تدخل أنواع بر الوالدين كلها،
و(ذي القربى) عطف على الوالدين، والقربى بمعنى القرابة، وهو مصدر كالرجعى والعقبى، وهذا يتضمن الأمر بصلة الرحم،
واليتامى: جمع يتيم كنديم وندامى، واليتم في بني آدم فقد الأب، وفي البهائم فقد الأم، وقال عليه السلام: «لا يتم بعد بلوغ»، وحكى الماوردي أن اليتيم في بني آدم في فقد الأم، وهذا يتضمن الرأفة باليتامى وحيطة أموالهم،
والمساكين: جمع مسكين وهو الذي لا شيء له، لأنه مشتق من السكون، وقد قيل: إن المسكين هو الذي له بلغة من العيش، وهو على هذا مشتق من السكن، وهذا يتضمن الحض على الصدقة والمواساة وتفقد أحوال المساكين.
وقوله تعالى: {وقولوا للنّاس حسناً}، أمر عطف على ما تضمنه {لا تعبدون إلّا اللّه} وما بعده من معنى الأمر والنهي، أو على أحسنوا المقدر في قوله: {وبالوالدين}،
وقرأ حمزة والكسائي «حَسَنا» بفتح الحاء والسين، قال الأخفش: هما بمعنى واحد كالبخل والبخل، قال الزجاج وغيره: بل المعنى في القراءتين وقولوا قولا حَسَنا بفتح السين أو قولا ذا «حُسْن» بضم الحاء، وقرأ قوم «حسنى» مثل فعلى، ورده سيبويه لأن أفعل وفعلى لا تجيء إلا معرفة إلا أن يزال عنها معنى التفضيل وتبقى مصدرا كالعقبى، فذلك جائز، وهو وجه القراءة بها، وقرأ عيسى بن عمر وعطاء بن أبي رباح «حُسُنا» بضم الحاء والسين،
- وقال ابن عباس: «معنى الكلام قولوا لهم: لا إله إلا الله ومروهم بها»،
- وقال ابن جريج: «قولوا لهم حسنا في الإعلام بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم»،
- وقال سفيان الثوري: «معناه: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر»،
- وقال أبو العالية: «معناه: قولوا لهم الطيب من القول وحاوروهم بأحسن ما تحبون أن تحاوروا به، وهذا حض على مكارم الأخلاق»،
- وحكى المهدوي عن قتادة: «أن قوله تعالى:{وقولوا للنّاس حسناً}منسوخ بآية السيف».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا على أن هذه الأمة خوطبت بمثل هذا اللفظ في صدر الإسلام، وأما الخبر عن بني إسرائيل وما أمروا به فلا نسخ فيه،
وقد تقدم القول في إقامة الصلاة، وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها وتنزل النار على ما تقبل ولا تنزل على ما لم يتقبل، ولم تكن كزكاة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: «الزكاة التي أمروا بها طاعة الله والإخلاص».
وقوله تعالى: {ثمّ تولّيتم} الآية، خطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم أسند إليهم تولي أسلافهم، إذ هم كلهم بتلك السبيل، قال نحوه ابن عباس وغيره، و(ثمّ) مبنية على الفتح ولم تجر مجرى رد وشد لأنها لا تتصرف، وضمت التاء الأخيرة من (تولّيتم) لأن تاء المفرد أخذت الفتح وتاء المؤنث أخذت الكسر فلم يبق للتثنية والجمع إلا الضم، و(قليلًا) نصب على الاستثناء،
- قال سيبويه: المستثنى منصوب على التشبيه بالمفعول به،
- قال المبرد: هو مفعول حقيقة لأن تقديره: استثنيت كذا،
والمراد بالقليل: جميع مؤمنيهم قديما من أسلافهم وحديثا كابن سلام وغيره، والقلة على هذه هي في عدد الأشخاص،
- ويحتمل أن تكون القلة في الإيمان أي: لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا إيمان قليل، إذ لا ينفعهم، والأول أقوى،
وقرأ قوم «إلا قليل» برفع القليل، ورويت عن أبي عمرو، وهذا على بدل قليل من الضمير في (تولّيتم)، وجاز ذلك مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي لأن (تولّيتم) معناه النفي كأنه قال: ثم لم تفوا بالميثاق إلا قليل). [المحرر الوجيز: 1/ 268-271]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا اللّه وبالوالدين إحسانًا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للنّاس حسنًا وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة ثمّ تولّيتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون (83)}
يذكّر -تبارك وتعالى- بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر، وأخذ ميثاقهم على ذلك، وأنّهم تولّوا عن ذلك كلّه، وأعرضوا قصدًا وعمدًا، وهم يعرفونه ويذكرونه، فأمرهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. وبهذا أمر جميع خلقه، ولذلك خلقهم كما قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنّه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء: 25]، وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كلّ أمّةٍ رسولا أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطّاغوت} [النّحل: 36]، وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها، وهو حقّ اللّه تعالى، أن يعبد وحده لا شريك له، ثمّ بعده حقّ المخلوقين، وآكدهم وأولاهم بذلك حقّ الوالدين، ولهذا يقرن اللّه تعالى بين حقّه وحقّ الوالدين، كما قال تعالى: {أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير}[لقمان: 14]، وقال تعالى: {وقضى ربّك ألا تعبدوا إلا إيّاه وبالوالدين إحسانًا} الآية، إلى أن قال: {وآت ذا القربى حقّه والمسكين وابن السّبيل}[الإسراء: 23-26]، وفي الصّحيحين، عن ابن مسعودٍ، قلت: يا رسول اللّه، أيّ العمل أفضل؟ قال: «الصّلاة على وقتها». قلت: ثمّ أيٌّ؟ قال: «برّ الوالدين». قلت: ثمّ أيٌّ؟ قال: «الجهاد في سبيل اللّه». ولهذا جاء في الحديث الصّحيح: أنّ رجلًا قال: يا رسول اللّه، من أبرّ؟ قال: «أمّك». قال: ثمّ من ؟ قال: «أمّك». قال: ثمّ من؟ قال: «أباك، ثم أدناك أدناك».
[وقوله: {لا تعبدون إلا اللّه} قال الزّمخشريّ: خبرٌ بمعنى الطّلب، وهو آكد.
وقيل: كان أصله: ألّا تعبدوا كما قرأها بعض السّلف فحذفت (أن) فارتفع، وحكي عن أبيٍّ وابن مسعودٍ، رضي اللّه عنهما، أنّهما قرآها: "لا تعبدوا إلا اللّه".
وقيل: {لا تعبدون} مرفوعٌ على أنّه قسمٌ، أي: واللّه لا تعبدون إلّا اللّه، ونقل هذا التّوجيه القرطبيّ في تفسيره عن سيبويه. وقال: اختاره المبرّد والكسائيّ والفرّاء].
قال: {واليتامى} وهم: الصّغار الّذين لا كاسب لهم من الآباء. [وقال أهل اللّغة: اليتيم في بني آدم من الآباء، وفي البهائم من الأمّ، وحكى الماورديّ أنّ اليتيم أطلق في بني آدم من الأمّ أيضًا].
{والمساكين} الّذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم، وسيأتي الكلام على هذه الأصناف عند آية النّساء، التي أمرنا اللّه تعالى بها صريحًا في قوله: {واعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا} الآية [النّساء: 36].
وقوله تعالى: {وقولوا للنّاس حسنًا} أي: كلّموهم طيّبًا، ولينوا لهم جانبًا، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بالمعروف، كما قال الحسن البصريّ في قوله: {وقولوا للنّاس حسنًا}:«فالحسن من القول: يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحلم، ويعفو، ويصفح، ويقول للنّاس حسنًا كما قال اللّه، وهو كلّ خلق حسنٍ رضيه اللّه».
وقال الإمام أحمد: حدّثنا روحٌ، حدّثنا أبو عامرٍ الخزّاز، عن أبي عمران الجوني، عن عبد اللّه بن الصّامت، عن أبي ذرٍّ، رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: «لا تحقرنّ من المعروف شيئًا، وإن لم تجد فالق أخاك بوجهٍ منطلقٍ».
وأخرجه مسلمٌ في صحيحه، والتّرمذيّ [وصحّحه] من حديث أبي عامرٍ الخزّاز، واسمه صالح بن رستم، به.
وناسب أن يأمرهم بأن يقولوا للنّاس حسنًا، بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل، فجمع بين طرفي الإحسان الفعليّ والقوليّ.
ثمّ أكّد الأمر بعبادته والإحسان إلى النّاس بالمعيّن من ذلك، وهو الصّلاة والزّكاة، فقال: {وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة} وأخبر أنّهم تولّوا عن ذلك كلّه، أي: تركوه وراء ظهورهم، وأعرضوا عنه على عمدٍ بعد العلم به، إلّا القليل منهم، وقد أمر تعالى هذه الأمّة بنظير ذلك في سورة النّساء، بقوله: {واعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصّاحب بالجنب وابن السّبيل وما ملكت أيمانكم إنّ اللّه لا يحبّ من كان مختالا فخورًا}[النساء: 36] ، فقامت هذه الأمّة من ذلك بما لم تقم به أمّةٌ من الأمم قبلها، وللّه الحمد والمنّة.
- ومن النّقول الغريبة هاهنا ما ذكره ابن أبي حاتمٍ في تفسيره: حدّثنا أبي، حدّثنا محمّد بن خلفٍ العسقلاني، حدّثنا عبد اللّه بن يوسف -يعني التّنّيسي-، حدّثنا خالد بن صبيح، عن حميد بن عقبة، عن أسد بن وداعة: أنّه كان يخرج من منزله فلا يلقى يهوديًّا ولا نصرانيًّا إلّا سلّم عليه، فقيل له: ما شأنك؟ تسلّم على اليهوديّ والنّصرانيّ. فقال: «إنّ اللّه يقول:{وقولوا للنّاس حسنًا}وهو: السّلام». قال: وروي عن عطاءٍ الخراساني، نحوه.
قلت: وقد ثبت في السّنّة أنّهم لا يبدؤون بالسّلام، والله أعلم).[تفسير ابن كثير: 1/ 316-318]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون} يقال: سفكت الدم أسفكه سفكا إذا صببته، ورفع {لا تسفكون} على القسم، وعلى حذف "أن" كما وصفنا في قوله: {لا تعبدون}، ومثل حذف "أن" قول طرفة:
ألا أيّـهــذا الــزاجــري أحــضــر الــوغــى ....... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
وواحد الدماء دم -يا هذا- مخفف، وأصله "دمى" في قول أكثر النحويين، ودليل من قال إن أصله دمي قول الشاعر:
فلـو أنّـا عـلـى حـجـر ذبحـنـا ....... جرى الدّميان بالخبر اليقين
وقال قوم: أصله "دمي" إلا إنّه لما حذف ورد إليه ما حذف منه حركت الميم لتدل الحركة على أنه استعمل محذوفا.
وقوله عز وجل: {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} عطف على {لا تسفكون دماءكم}.
وقوله: {ثم أقررتم} أي: اعترفتم بأن هذا أخذ عليكم في العهد وأخذ على آبائكم، وأنتم أيها الباقون المخاطبون تشهدون أن هذا حق). [معاني القرآن: 1/ 164-165]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والسفك: صب الدم وسرد الكلام، وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة «لا تسفكون» بضم الفاء، وقرأ أبو نهيك «تسفّكون» بضم التاء وكسر الفاء وتضعيفها، وإعراب (لا تسفكون) كما تقدم في (لا تعبدون)،
ودماءكم جمع دم، وهو اسم منقوص أصله دمي، وتثنيته دميان، وقيل: أصله دمي بسكون الميم، وحركت في التثنية لتدل الحركة على التغيير الذي في الواحد.
وقوله تعالى: {ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} معناه: ولا ينفي بعضكم بعضا بالفتنة والبغي، ولما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحدا وكانوا في الأمم كالشخص الواحد، جعل قتل بعضهم لبعض ونفي بعضهم بعضا قتلا لأنفسهم ونفيا لها، وكذلك حكم كل جماعة تخاطب بهذا اللف في القول،
وقيل: لا تسفكون دماءكم أي: لا يقتل أحد فيقتل قصاصا، فكأنه سفك دم نفسه لما سبب ذلك ولا يفسد في الأرض فينفى فيكون قد أخرج نفسه من دياره، وهذا تأويل فيه تكلف، وإنما كان الأمر أن الله تعالى قد أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقا أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا ينفيه ولا يسترقه ولا يدعه يسترق، إلى غير ذلك من الطاعات.
وقوله تعالى: {ثمّ أقررتم} أي: خلفا بعد سلف أن هذا الميثاق أخذ عليكم والتزمتموه فيتجه في هذه اللفظة أن تكون من الإقرار الذي هو ضد الجحد وتتعدى بالباء، وأن تكون من الإقرار الذي هو إبقاء الأمر على حاله، أي: أقررتم هذا الميثاق ملتزما.
وقوله: {وأنتم تشهدون} قيل: الخطاب يراد به من سلف منهم، والمعنى: وأنتم شهود أي: حضور أخذ الميثاق والإقرار،
وقيل: إن المراد من كان في مدة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: وأنتم شهداء أي: بينة أن هذا الميثاق أخذ على أسلافكم فمن بعدهم). [المحرر الوجيز: 1 /271-272]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون (84) ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزيٌ في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون (85) أولئك الّذين اشتروا الحياة الدّنيا بالآخرة فلا يخفّف عنهم العذاب ولا هم ينصرون (86)}
يقول -تبارك وتعالى- منكرًا على اليهود الّذين كانوا في زمان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالمدينة، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج، وذلك أنّ الأوس والخزرج، وهم الأنصار، كانوا في الجاهليّة عبّاد أصنامٍ، وكانت بينهم حروبٌ كثيرةٌ، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل: بنو قينقاع. وبنو النّضير حلفاء الخزرج. وبنو قريظة حلفاء الأوس. فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كلّ فريقٍ مع حلفائه، فيقتل اليهوديّ أعداءه، وقد يقتل اليهوديّ الآخر من الفريق الآخر، وذلك حرامٌ عليهم في دينه ونصّ كتابه، ويخرجونهم من بيوتهم وينهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال، ثمّ إذا وضعت الحرب أوزارها استفكّوا الأسارى من الفريق المغلوب، عملًا بحكم التّوراة؛ ولهذا قال تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ}، ولهذا قال تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} أي: لا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يخرجه من منزله، ولا يظاهر عليه، كما قال تعالى: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خيرٌ لكم عند بارئكم}[البقرة: 54].
وذلك أنّ أهل الملّة الواحدة بمنزلة النّفس الواحدة، كما قال عليه الصّلاة والسّلام: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسّهر».
[وقوله:] {ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون} أي: ثمّ أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحّته وأنتم تشهدون به). [تفسير ابن كثير: 1/ 318-319]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ({ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلّا خزي في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافل عمّا تعملون}

{ثم أنتم هؤلاء} الخطاب وقع لليهود من بني قريظة وبني النضير لأنهم نكثوا، فقتل بعضهم بعضا، وأخرج بعضهم بعضا من ديارهم وهذا نقض عهدهم

وقوله عزّ وجلّ: {تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان} قرئت بالتخفيف والتشديد، {تظاهرون} و(تظّاهرون)، فمن قرأ بالتشديد؛ فالأصل فيه (تتظاهرون) فأدغم التاء في الظاء لقرب المخرجين، ومن قرأ بالتخفيف؛ فالأصل فيه -أيضا- (تتظاهرون) فحذفت التاء الثانية لاجتماع تاءين.

وتفسير {تظاهرون}: تتعاونون، يقال: قد ظاهر فلان فلانا إذا عاونه، منه قوله {وكان الكافر على ربه ظهيرا} أي: معينا.

وقوله عزّ وجلّ: {بالإثم والعدوان} العدوان: الإفراط في الظلم؛ ويقال: عدا فلان في ظلمه عدوا وعدوا وعدوانا وعداء، هذا كله معناه: المجاوزة في الظلم. وقوله عزّ وجلّ: {ولا تعدوا في السّبت} إنما هو من هذا، أي: لا تظلموا فيه.

وقوله عزّ وجلّ: {وإن يأتوكم أسارى تفادوهم} القراءة في هذا على وجوه:

(أسرى تَفْدوهم) و(أسرى تُفَادوهم)، و{أُسَارى تفادوهم}، ويجوز (أَسَارى) ولا أعلم أحد قرأ بها، وأصل الجمع "فُعالى".

أعلم الله مناقضتهم في كتابه وأنه قد حرّم عليهم قتلهم وإخراجهم من ديارهم، وأنهم يفادونهم إذا أسروا ويقتلونهم ويخرجونهم من ديارهم، فوبّخهم فقال: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلّا خزي في الحياة الدّنيا} يعني: ما نال بني قريظة وبني النضير، لأن بني النضير أجلوا إلى الشام،

و(بني) قريظة أبيدوا -حكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي الذراري- فقال الله عزّ وجلّ: {ذلك لهم خزي في الدّنيا}، ولغيرهم من سائر الكفار: الخزي في الدنيا: القتل وأخذ الجزية مع الذلة والصغار.

ثم أعلم اللّه عزّ وجلّ أن ذلك غير مكفر عن ذنوبهم، وأنهم صائرون بعد ذلك إلى عذاب عظيم، فقال: {ذلك لهم خزي في الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافل عمّا تعملون}.

ومعنى {ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم}

{هؤلاء} في معنى "الذين"، و{تقتلون} صلة لـ{هؤلاء}، كقولك: ثم أنتم الذين تقتلون أنفسكم، ومثله قوله: {وما تلك بيمينك يا موسى}.

وقوله عزّ وجلّ: {وهو محرم عليكم إخراجهم}

{هو}على ضربين:

جائز أن يكون بإضمار الإخراج الذي تقدم ذكره، قال: {وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ... وهو محرم عليكم إخراجهم}، ثم بين -لتراخي الكلام- أن ذلك الذي حرم الإخراج.

وجائز أن يكون للقصة والحديث والخبر، كأنه قال: والخبر محرم عليكم إخراجهم، كما قال عزّ وجلّ: {قل هو اللّه أحد} أي: الأمر الذي هو الحق توحيد اللّه عزّ وجلّ .

{خزي} يقال في الشر والسوء: خزي الرجل خزيا، ويقال في الحياء: خزي يخزي خزاية.

ومعنى {يردون إلى أشد العذاب}، و{عذاب عظيم}، و{عذاب أليم} أن العذاب على ضربين، على قدر المعاصي.

والدليل على ذلك قوله عزّ وجلّ: {فأنذرتكم نارا تلظّى * لا يصلاها إلّا الأشقى * الّذي كذّب وتولّى} فهذه النار الموصوفة ههنا لا يدخلها إلا الكفار). [معاني القرآن: 1/ 165-168]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزيٌ في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون (85)}
(هؤلاء) دالة على أن المخاطبة للحاضرين لا تحتمل ردا إلى الأسلاف،
- قيل: تقدير الكلام: يا هؤلاء، فحذف حرف النداء، ولا يحسن حذفه عند سيبويه مع المبهمات، لا تقول: هذا أقبل،
- وقيل: تقديره: أعني هؤلاء،
- وقيل: (هؤلاء) بمعنى الذين، فالتقدير: ثم أنتم الذين تقتلون، فـ(تقتلون) صلة لـ(هؤلاء)، ونحوه قال يزيد بن مفرغ الحميري:
عدس ما لعبّاد عليك إمارة ....... نجوت وهذا تحملين طليق
- وقال الأستاذ الأجل أبو الحسن بن أحمد شيخنا رضي الله عنه: (هؤلاء) رفع بالابتداء و(أنتم) خبر مقدم، و(تقتلون) حال بها تم المعنى، وهي كانت المقصود فهي غير مستغنى عنها، وإنما جاءت بعد أن تم الكلام في المسند والمسند إليه، كما تقول: هذا زيد منطلقا، وأنت قد قصدت الإخبار بانطلاقه لا الإخبار بأن هذا هو زيد.
وهذه الآية خطاب لقريظة والنضير وبني قينقاع، وذلك أن النضير وقريظة حالفت الأوس، وبني قينقاع حالفت الخزرج، فكانوا إذا وقعت الحرب بين بني قيلة ذهبت كل طائفة من بني إسرائيل مع أحلافها فقتل بعضهم بعضا وأخرج بعضهم بعضا من ديارهم، وكانوا مع ذلك يفدي بعضهم أسرى بعض اتباعا لحكم التوراة وهم قد خالفوها بالقتال والإخراج،
وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «تقتّلون» بضم التاء الأولى وكسر الثانية وشدّها على المبالغة،
والديار مباني الإقامة، وقال الخليل: محلة القوم دارهم،
وقرأ حمزة وعاصم والكسائي: «تظاهرون» بتخفيف الظاء وهذا على حذف التاء الثانية من تتظاهرون، وقرأ بقية السبعة «تظّاهرون» بشد الظاء على إدغام التاء في الظاء، وقرأ أبو حيوة «تظهرون» بضم التاء وكسر الهاء، وقرأ مجاهد وقتادة «تظّهرّون» بفتح التاء وشد الظاء والهاء مفتوحة دون ألف، ورويت هذه عن أبي عمرو،
ومعنى ذلك على كل قراءة: تتعاونون، وهو مأخوذ من الظهر، كأن المتظاهرين يسند كل واحد منهما ظهره إلى صاحبه،
والإثم: العهد الراتبة على العبد من المعاصي، والمعنى: بمكتسبات الإثم،
والعدوان: تجاوز الحدود والظلم، وحسن لفظ الإتيان من حيث هو في مقابلة الإخراج فيظهر التضاد المقبح لفعلهم في الإخراج،
وقرأ حمزة «أسرى تفدوهم»، وقرأ نافع وعاصم والكسائي «أسارى تفادوهم»، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير «أسارى تفدوهم»، وقرأ قوم «أسرى تفادوهم».
وأسارى جمع أسير، والأسير مأخوذ من الأسر وهو الشد، سمي بذلك لأنه يؤسر أي: يشد وثاقا، ثم كثر استعماله حتى لزم وإن لم يكن ثم ربط ولا شد، وأسير فعيل بمعنى مفعول، ولا يجمع بواو ونون وإنما يكسر على أسرى وأسارى، والأقيس فيه أسرى، لأن فعيلا بمعنى مفعول الأصل فيه أن يجمع على فعلى، كقتلى وجرحى، والأصل في فعلان أن يجمع على «فعالى» بفتح الفاء و «فعالى» بضمها كسكران وكسلان وسكارى وكسالى، قال سيبويه: فقالوا في جمع كسلان: كسلى، شبّهوه بأسرى كما قالوا: أسارى شبهوه بكسالى، ووجه الشبه أن الأسر يدخل على المرء مكرها كما يدخل الكسل، وفعالى إنما يجيء فيما كان آفة تدخل على المرء.
و(تفادوهم) معناه في اللغة: تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنهم شيئا، قاله أبو علي، قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفاديت نفسي إذا أطلقتها بعد أن دفعت شيئا، فعلى هذا قد تجيء بمعنى فديت أي: دفعت فيه من مال نفسي، ومنه قول العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: «أعطني فإني فاديت نفسي، وفاديت عقيلا»، وهما فعلان يتعديان إلى مفعولين الثاني منهما بحرف جر، تقول: فديت زيدا بمال وفاديته بمال،
وقال قوم: هي في قراءة (تفادوهم) مفاعلة في أسرى بأسرى، قال أبو علي: كل واحد من الفريقين فعل، الأسر دفع الأسير، والمأسور منه دفع أيضا إما أسيرا وإما غيره، والمفعول الثاني محذوف.
وقوله تعالى: {وهو محرّمٌ}؛
- قيل: في (هو) إنه ضمير الأمر، تقديره: والأمر محرم عليكم، وإخراجهم في هذا القول بدل من (هو)،
- وقيل: (هو) فاصلة، وهذا مذهب الكوفيين، وليست هنا بالتي هي عماد، و(محرّمٌ) على هذا ابتداء، و(إخراجهم) خبره،
- وقيل: (هو) الضمير المقدر في (محرّمٌ) قدم وأظهر،
- وقيل: (هو) ضمير الإخراج تقديره: وإخراجهم محرم عليكم.
وقوله تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب} يعني التوراة، والذي آمنوا به فداء الأسارى، والذي كفروا به قتل بعضهم بعضا وإخراجهم من ديارهم، وهذا توبيخ لهم، وبيان لقبح فعلهم.
وروي أن عبد الله بن سلام مرّ على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم تقع عليه العرب ولا يفادي من وقع عليه، فقال له ابن سلام: «أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن».
ثم توعدهم عز وجل. والخزي: الفضيحة والعقوبة، يقال: خزي الرجل يخزى خزيا إذا ذل من الفضيحة، وخزي يخزى خزاية إذا ذل واستحيا.
واختلف ما المراد بالخزي هاهنا؟
- فقيل: القصاص فيمن قتل،
- وقيل: ضرب الجزية عليهم غابر الدهر،
- وقيل: قتل قريظة، وإجلاء النضير،
- وقيل: الخزي الذي توعد به الأمة وهو غلبة العدو.
والدنيا مأخوذة من دنا يدنو، وأصل الياء فيها واو ولكن أبدلت فرقا بين الأسماء والصفات.
وأشد العذاب: الخلود في جهنم، وقرأ الحسن وابن هرمز «تردون» بتاء.
وقوله تعالى: {وما اللّه بغافلٍ} الآية،
قرأ نافع وابن كثير «يعملون» بياء على ذكر الغائب فالخطاب بالآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والآية واعظة لهم بالمعنى إذ الله تعالى بالمرصاد لكل كافر وعاص،
وقرأ الباقون بتاء على الخطاب المحتمل أن يكون في سرد الآية وهو الأظهر، ويحتمل أن يكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:«إن بني إسرائيل قد مضوا وأنتم الذين تعنون بهذا يا أمة محمد»، يريد: وبما يجري مجراه).[المحرر الوجيز: 1/ 272-277]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم} .
- قال محمّد بن إسحاق بن يسارٍ: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن سعيد بن جبيرٍ -أو عكرمة-، عن ابن عبّاسٍ: {ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} الآية، قال:«أنّبهم اللّه من فعلهم، وقد حرّم عليهم في التّوراة سفك دمائهم وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفةٌ منهم بنو قينقاع وإنّهم حلفاء الخزرج، والنّضير وقريظة وإنّهم حلفاء الأوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حربٌ خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النّضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كلّ واحدٍ من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتّى يتسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التّوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم. والأوس والخزرج أهل شركٍ يعبدون الأوثان، ولا يعرفون جنّةً ولا نارًا، ولا بعثًا ولا قيامةً، ولا كتابًا، ولا حلالًا ولا حرامًا، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم، تصديقًا لما في التّوراة، وأخذًا به؛ بعضهم من بعضٍ، يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس، ويفتدي النّضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرةً لأهل الشّرك عليهم. يقول اللّه تعالى ذكره حيث أنّبهم بذلك:{أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ}أي: يفاديه بحكم التّوراة ويقتله، وفي حكم التّوراة ألّا يفعل، ولا يخرج من داره، ولا يظاهر عليه من يشرك باللّه، ويعبد الأوثان من دونه، ابتغاء عرض الدّنيا. ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج -فيما بلغني- نزلت هذه القصّة».
- وقال أسباطٌ عن السّدّيّ: «كانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النّضير حلفاء الخزرج، فكانوا يقتتلون في حرب سمير، فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها النضير وحلفاءهم، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها، ويغلبونهم، فيخرّبون ديارهم، ويخرجونهم منها، فإذا أسر رجلٌ من الفريقين كليهما، جمعوا له حتّى يفدوه. فتعيّرهم العرب بذلك، ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنّا أمرنا أن نفديهم، وحرّم علينا قتالهم، قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنّا نستحيي أن تستذلّ حلفاؤنا. فذلك حين عيّرهم اللّه، فقال:{ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم}».
- وقال شعبة، عن السّدّيّ: «نزلت هذه الآية في قيس بن الخطيم:{ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان}».
- وقال أسباطٌ، عن السّدّيّ، عن عبد خيرٍ، قال: غزونا مع سلمان بن ربيعة الباهليّ بلنجر فحاصرنا أهلها ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا واشترى عبد اللّه بن سلامٍ يهوديّةً بسبعمائةٍ، فلمّا مرّ برأس الجالوت نزل به، فقال له عبد اللّه:«يا رأس الجالوت، هل لك في عجوزٍ هاهنا من أهل دينك، تشتريها منّي؟»، قال: نعم. قال: «أخذتها بسبعمائة درهمٍ». قال: فإنّي أربحك سبعمائةٍ أخرى. قال: «فإنّي قد حلفت ألّا أنقصها من أربعة آلافٍ». قال: لا حاجة لي فيها، قال:«واللّه لتشترينّها منّي، أو لتكفرنّ بدينك الذي أنت عليه». قال: ادن منّي، فدنا منه، فقرأ في أذنه التي في التّوراة: «إنّك لا تجد مملوكًا من بني إسرائيل إلّا اشتريته فأعتقته{وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم}»، قال: أنت عبد اللّه بن سلامٍ؟ قال: «نعم». قال: فجاء بأربعة آلافٍ، فأخذ عبد اللّه ألفين، وردّ عليه ألفين.
- وقال آدم بن أبي إياسٍ في تفسيره: حدّثنا أبو جعفرٍ يعني الرّازيّ، حدّثنا الرّبيع بن أنسٍ، أخبرنا أبو العالية: أنّ عبد اللّه بن سلامٍ مرّ على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النّساء من لم يقع عليها العرب، ولا يفادي من وقع عليها العرب، فقال عبد اللّه بن سلامٍ: «أما إنّه مكتوبٌ عندك في كتابك أن تفاديهنّ كلّهنّ».
والذي أرشدت إليه الآية الكريمة، وهذا السّياق، ذمّ اليهود في قيامهم بأمر التّوراة التي يعتقدون صحّتها، ومخالفة شرعها، مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصّحّة، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها، ولا يصدّقون فيما يكتمونه من صفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ونعته، ومبعثه ومخرجه، ومهاجره، وغير ذلك من شؤونه، التي قد أخبرت بها الأنبياء قبله. واليهود -عليهم لعائن اللّه- يتكاتمونه بينهم، ولهذا قال تعالى: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزيٌ في الحياة الدّنيا} أي: بسبب مخالفتهم شرع اللّه وأمره {ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب} جزاءً على ما كتموه من كتاب اللّه الذي بأيديهم {وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون}). [تفسير ابن كثير: 1/ 319-320]

تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {أولئك الّذين اشتروا الحياة الدّنيا بالآخرة فلا يخفّف عنهم العذاب ولا هم ينصرون (86) ولقد آتينا موسى الكتاب وقفّينا من بعده بالرّسل وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات وأيّدناه بروح القدس أفكلّما جاءكم رسولٌ بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذّبتم وفريقاً تقتلون (87) وقالوا قلوبنا غلفٌ بل لعنهم اللّه بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون (88)}
جعل الله ترك الآخرة وأخذ الدنيا مع قدرتهم على التمسك بالآخرة بمنزلة من أخذها ثم باعها بالدنيا.
وهذه النزعة صرفها مالك رحمه الله في فقه البيوع، إذ لا يجوز الشراء على أن يختار المشتري في كل ما تختلف صفة آحاده، ولا يجوز فيه التفاضل كالحجل المذبوحة وغيرها،
ولا يخفف عنهم العذاب في الآخرة، ولا ينصرون لا في الدنيا ولا في الآخرة). [المحرر الوجيز: 1/ 277]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({أولئك الّذين اشتروا الحياة الدّنيا بالآخرة} أي: استحبّوها على الآخرة واختاروها {فلا يخفّف عنهم العذاب} أي: لا يفتّر عنهم ساعةً واحدةً {ولا هم ينصرون} أي: وليس لهم ناصرٌ ينقذهم ممّا هم فيه من العذاب الدّائم السّرمديّ، ولا يجيرهم منه). [تفسير ابن كثير: 1/ 320-321]


* للاستزادة ينظر: هنا