1 Sep 2014
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {ولقد
آتينا موسى الكتاب وقفّينا من بعده بالرّسل وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات
وأيّدناه بروح القدس أفكلّما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم
ففريقا كذّبتم وفريقا تقتلون} تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)} قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقرأ جمهور القراء «غلف» بإسكان اللام على أنه جمع أغلف مثل «حمر» و «صفر»، - والمعنى: «قلوبنا عليها غلف وغشاوات فهي لا تفقه»، قاله ابن عباس، - وقال قتادة: «المعنى عليها طابع»، - وقالت طائفة: غلف بسكون اللام جمع غلاف، أصله غلّف بتثقيل اللام فخفف. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قلما يستعمل إلا في الشعر. وقرأ الأعمش والأعرج وابن محيصن «غلّف» بتثقيل اللام جمع غلاف، ورويت عن أبي عمرو، - فالمعنى: هي أوعية للعلم والمعارف بزعمهم، فهي لا تحتاج إلى علم محمد صلى الله عليه وسلم، - وقيل: المعنى فكيف يعزب عنها علم محمد صلى الله عليه وسلم؟، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {بل لعنهم اللّه بكفرهم}، و(بل)
في هذه الآية نقض للأول، وإضراب عنه، ثم بين تعالى أن السبب في نفورهم عن
الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترامهم، وهذا هو الجزاء
على الذنب فالذنب أعظم منه، واللعن: الإبعاد والطرد، و(قليلا) نعت لمصدر محذوف تقديره: فإيمانا قليلا ما يؤمنون، والضمير في (يؤمنون) لحاضري محمد صلى الله عليه وسلم، ويتجه قلة هذا الإيمان: - إما لأن من آمن بمحمد منهم قليل فيقل لقلة الرجال، قال هذا المعنى قتادة، - وإما لأن وقت إيمانهم عند ما كانوا يستفتحون به قبل مبعثه قليل، إذ قد كفروا بعد ذلك، - وإما لأنهم
لم يبق لهم بعد كفرهم غير التوحيد على غير وجهه، إذ هم مجسمون فقد قللوه
بجحدهم الرسل وتكذيبهم التوراة، فإنما يقل من حيث لا ينفعهم كذلك، - وعلى هذا التأويل يجيء التقدير: فإيمانا قليلا، - وعلى الذي قبله: فوقتا قليلا، - وعلى الذي قبله: فعددا من الرجال قليلا، و(ما) في قوله: {فقليلًا ما يؤمنون} زائدة مؤكدة، و«قليلا» نصب بـ«يؤمنون»). [المحرر الوجيز: 1 /279-280]
{ولقد آتينا موسى الكتاب} يعني: التوراة.
وقوله {وقفّينا من بعده بالرّسل} أي: أرسلنا رسولا يقفو رسولا في دعائه إلى توحيد اللّه والقيام بشرائع دينه، يقال من ذلك: "فلان يقفو فلانا" إذا أتبعه.
وقوله عزّ وجلّ: {وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات}
معنى {آتينا}: أعطينا، ومعنى {البيّنات}: الآيات التي يعجز عنها المخلوقون مما أعطيه عيسى -صلى الله عليه وسلم- من إحيائه الموتى وإبرائه الأكمه والأبرص.
وقوله عزّ وجلّ: {وأيّدناه بروح القدس}
معني "أيّدنا" في اللغة: قوينا وشددنا، قال الشاعر:
من أن تبدّلت بآد آدا
يريد :من أن تبدلت بأيد آدا، يريد بقوة قوة الأد والأيد القوة.
وقوله عزّ وجلّ {بروح القدس} "روح القدس": جبريل عليه السلام، و"القدس": الطهارة، وقد بيّناه.
وقوله عزّ وجلّ: {أفكلّما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم} نصب "كلما" كنصب سائر الظروف، ومعنى {استكبرتم}: أنفتم وتعظمتم من أن تكونوا أتباعا، لأنهم كانت لهم رياسة، وكانوا متبوعين فآثروا الدنيا على الآخرة). [معاني القرآن: 1/ 168-169]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والكتاب:
التوراة، ونصبه على المفعول الثاني لـ(آتينا)، و(قفّينا) مأخوذ من القفا،
تقول: قفيت فلانا بفلان، إذا جئت به من قبل قفاه، ومنه: قفا يقفو إذا اتبع.
وهذه الآية مثل قوله تعالى: {ثمّ أرسلنا رسلنا تترا}[المؤمنون: 144]، وكل رسول جاء بعد موسى عليه السلام فإنما جاء بإثبات التوراة والأمر بلزومها إلى عيسى عليه السلام،
وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر «بالرسل» ساكنة السين، ووافقهما أبو عمرو إذا انضاف ذلك إلى ضمير نحو رسلنا ورسلهم،
والبيّنات: الحجج التي أعطاها الله عيسى،
- وقيل: هي آياته من إحياء وإبراء وخلق طير،
- وقيل: هي الإنجيل،
والآية تعم جميع ذلك،
و(أيّدناه) معناه: قويناه، والأيد: القوة، وقرأ ابن محيصن والأعرج وحميد «آيدناه».
وقرأ ابن كثير ومجاهد «روح القدس» بسكون الدال. وقرأ الجمهور بضم القاف والدال، وفيه لغة فتحهما، وقرأ أبو حيوة «بروح القدس» بواو،
- وقال ابن عباس رضي الله عنه: «روح القدس هو الاسم الذي به كان يحيي الموتى»،
- وقال ابن زيد: «هو الإنجيل كما سمى الله تعالى القرآن روحا»،
- وقال السدي والضحاك والربيع وقتادة: «روح القدس جبريل صلى الله عليه وسلم»، وهذا أصح الأقوال. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: «اهج قريشا وروح القدس معك»، ومرة قال له: «وجبريل معك»،
- وقال الربيع ومجاهد: «القدس: اسم من أسماء الله تعالى كالقدوس»، والإضافة على هذا إضافة الملك إلى المالك، وتوجهت لما كان جبريل عليه السلام من عباد الله تعالى،
- وقيل: القدس: الطهارة،
- وقيل: القدس: البركة.
و(كلما) ظرف،
والعامل فيه: (استكبرتم)، وظاهر الكلام الاستفهام، ومعناه: التوبيخ
والتقرير، ويتضمن أيضا الخبر عنهم، والمراد بهذه الآية: بنو إسرائيل.
ويروى أن بني إسرائيل كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي ثم تقوم سوقهم آخر النهار، وروي سبعين نبيا ثم تقوم سوق بقلهم آخر النهار،
وفي (تهوى) ضمير من صلة (ما) لطول اللفظ، والهوى أكثر ما يستعمل فيما ليس بحق، وهذه الآية من ذلك، لأنهم إنما كانوا يهوون الشهوات،
وقد يستعمل في الحق، ومنه قول عمر رضي الله عنه في قصة أسرى بدر: «فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت»،
و(استكبرتم) من الكبر، و(فريقاً) مفعول مقدم). [المحرر الوجيز: 1/ 277-279]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولقد
آتينا موسى الكتاب وقفّينا من بعده بالرّسل وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات
وأيّدناه بروح القدس أفكلّما جاءكم رسولٌ بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم
ففريقًا كذّبتم وفريقًا تقتلون (87)}
ينعت -تبارك
وتعالى- بني إسرائيل بالعتوّ والعناد والمخالفة، والاستكبار على الأنبياء،
وأنّهم إنّما يتّبعون أهواءهم، فذكر تعالى أنّه آتى موسى الكتاب -وهو
التّوراة- فحرّفوها وبدّلوها، وخالفوا أوامرها وأوّلوها. وأرسل الرّسل
والنّبيّين من بعده الّذين يحكمون بشريعته، كما قال تعالى: {إنّا
أنزلنا التّوراة فيها هدًى ونورٌ يحكم بها النّبيّون الّذين أسلموا للّذين
هادوا والرّبّانيّون والأحبار بما استحفظوا من كتاب اللّه وكانوا عليه
شهداء} الآية [المائدة: 44]، ولهذا قال: {وقفّينا من بعده بالرّسل}.
- قال السّدّيّ، عن أبي مالكٍ: «أتبعنا».
- وقال غيره: «أردفنا».
والكلّ قريبٌ، كما قال تعالى: {ثمّ أرسلنا رسلنا تترا}[المؤمنون: 44]،
حتّى ختم أنبياء
بني إسرائيل بعيسى ابن مريم، فجاء بمخالفة التّوراة في بعض الأحكام، ولهذا
أعطاه اللّه من البيّنات، وهي: المعجزات. قال ابن عبّاسٍ:«من
إحياء الموتى، وخلقه من الطّين كهيئة الطّير فينفخ فيها فتكون طيرًا بإذن
اللّه، وإبرائه الأسقام، وإخباره بالغيوب، وتأييده بروح القدس -وهو جبريل
عليه السّلام - ما يدلّهم على صدقه فيما جاءهم به. فاشتدّ تكذيب بني
إسرائيل له وحسدهم وعنادهم لمخالفة التّوراة في البعض، كما قال تعالى
إخبارًا عن عيسى:{ولأحلّ لكم بعض الّذي حرّم عليكم وجئتكم بآيةٍ من ربّكم} الآية[آل عمران: 50]. فكانت
بنو إسرائيل تعامل الأنبياء عليهم السّلام أسوأ المعاملة، ففريقًا
يكذّبونه. وفريقًا يقتلونه، وما ذاك إلّا لأنّهم كانوا يأتونهم بالأمور
المخالفة لأهوائهم وآرائهم وبإلزامهم بأحكام التّوراة التي قد تصرّفوا في
مخالفتها، فلهذا كان يشقّ ذلك عليهم، فيكذّبونهم، وربّما قتلوا بعضهم؛
ولهذا قال تعالى:{أفكلّما جاءكم رسولٌ بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقًا كذّبتم وفريقًا تقتلون}».
والدّليل على أنّ
روح القدس هو جبريل، كما نصّ عليه ابن مسعودٍ في تفسير هذه الآية، وتابعه
على ذلك [ابن عبّاسٍ و] محمّد بن كعبٍ القرظيّ، وإسماعيل بن أبي خالدٍ،
والسّدّيّ، والرّبيع بن أنسٍ، وعطيّة العوفيّ، وقتادة مع قوله تعالى: {نزل به الرّوح الأمين* على قلبك لتكون من المنذرين* [بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ]} [الشّعراء: 193-195]
ما قال البخاريّ: وقال ابن أبي الزّناد، عن أبيه، عن عروة، عن عائشة: أنّ
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وضع لحسّان بن ثابتٍ منبرًا في المسجد،
فكان ينافح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم: «اللّهمّ أيّد حسّان بروح القدس كما نافح عن نبيّك». وهذا من البخاريّ تعليقٌ.
- وقد رواه أبو
داود في سننه، عن لوين، والتّرمذيّ، عن عليّ بن حجرٍ، وإسماعيل بن موسى
الفزاريّ، ثلاثتهم عن عبد الرّحمن بن أبي الزّناد، عن أبيه وهشام بن عروة،
كلاهما عن عروة، عن عائشة به. وقال التّرمذيّ: حسنٌ صحيحٌ، وهو حديث أبي
الزّناد.
- وفي الصّحيحين
من حديث سفيان بن عيينة، عن الزّهريّ، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة:
أنّ عمر مرّ بحسّان، وهو ينشد الشّعر في المسجد فلحظ إليه، فقال: قد كنت
أنشد فيه، وفيه من هو خيرٌ منك. ثمّ التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك
اللّه أسمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول:«أجب عنّي، اللّهمّ أيّده بروح القدس»؟ فقال: اللّهمّ نعم.
- وفي بعض الرّوايات: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لحسّان:«اهجهم -أو: هاجهم- وجبريل معك».
- [وفي شعر حسّان قوله:
وجبريلٌ رسول اللّه ينادي ....... وروح القدس ليس به خفاء]
- وقال محمّد بن
إسحاق: حدّثني عبد اللّه بن عبد الرّحمن بن أبي حسينٍ المكّيّ، عن شهر بن
حوشبٍ الأشعريّ: أنّ نفرًا من اليهود سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم فقالوا: أخبرنا عن الرّوح. فقال:«أنشدكم باللّه وبأيّامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنّه جبريل؟ وهو الذي يأتيني؟»، قالوا: نعم.
- [وفي صحيح ابن حبّان أظنّه عن ابن مسعودٍ أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم قال: «إنّ روح القدس نفخ في روعي: إنّ نفسًا لن تموت حتّى تستكمل رزقها وأجلها فاتّقوا اللّه وأجملوا في الطّلب»].
أقوالٌ أخر:
- قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا منجاب بن الحارث، حدّثنا بشرٌ، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: {بروح القدس} قال: «هو الاسم الأعظم الذي كان عيسى يحيي به الموتى».
وقال ابن جريرٍ: حدثت عن المنجاب، فذكره. قال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن سعيد
بن جبيرٍ نحو ذلك. [ونقله القرطبيّ عن عبيد بن عميرٍ -أيضًا- قال: «وهو الاسم الأعظم»].
- وقال ابن أبي نجيح:«الرّوح هو حفظةٌ على الملائكة».
- وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ: «القدس هو الرّبّ تبارك وتعالى». وهو قول كعبٍ.
- وقال السّدّيّ:«القدس: البركة».
- وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: «القدس: الطّهر».
- [وحكى القرطبيّ عن مجاهدٍ والحسن البصريّ أنّهما قالا: «القدس: هو اللّه تعالى، وروحه: جبريل»، فعلى هذا يكون القول الأوّل].
- وقال ابن جريرٍ: حدّثنا يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهبٍ قال: قال ابن زيدٍ في قوله تعالى: {وأيّدناه بروح القدس} قال:«أيّد اللّه عيسى بالإنجيل روحًا كما جعل القرآن روحًا، كلاهما روحٌ من اللّه، كما قال تعالى:{وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا} [الشّورى: 52]».
ثمّ قال ابن
جريرٍ: وأولى التّأويلات في ذلك بالصّواب قول من قال: الرّوح في هذا الموضع
جبريل، لأنّ اللّه -عزّ وجلّ- أخبر أنّه أيّد عيسى به، كما أخبر في قوله: {إذ
قال اللّه يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيّدتك بروح
القدس تكلّم النّاس في المهد وكهلا وإذ علّمتك الكتاب والحكمة والتّوراة
والإنجيل} الآية [المائدة: 110]. فذكر أنّه أيّده به، فلو كان الرّوح الذي أيّده به هو الإنجيل، لكان قوله: {إذ أيّدتك بروح القدس}، {وإذ علّمتك الكتاب والحكمة والتّوراة والإنجيل} تكرير قولٍ لا معنى له، واللّه أعزّ أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به.
قلت: ومن الدّليل على أنّه جبريل ما تقدّم في أوّل السّياق؛ وللّه الحمد.
- وقال الزّمخشريّ: {بروح القدس} بالرّوح المقدّسة، كما يقول: حاتم الجود ورجل صدقٍ، ووصفها بالقدس كما قال: {وروحٌ منه} فوصفه بالاختصاص والتّقريب تكرمةٌ،
- وقيل: لأنّه لم تضمّه الأصلاب والأرحام الطّوامث،
- وقيل: بجبريل،
- وقيل: بالإنجيل، كما قال في القرآن: {روحًا من أمرنا}[الشّورى: 52] .
- وقيل: باسم اللّه الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره،
وتضمّن كلامه قولًا آخر وهو: أنّ المراد روح عيسى نفسه المقدّسة المطهّرة.
- وقال الزّمخشريّ في قوله: {ففريقًا كذّبتم وفريقًا تقتلون}
إنّما لم يقل: وفريقًا قتلتم؛ لأنّه أراد بذلك وصفهم في المستقبل
-أيضًا-لأنّهم حاولوا قتل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بالسّمّ والسّحر،
وقد قال -عليه السّلام- في مرض موته: «ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري»، وهذا الحديث في صحيح البخاري وغيره). [تفسير ابن كثير: 1/ 321-323]
تقرأ على وجهين
(غُلْف) و(غُلُف)، وأجود القراءتين (غُلْف) بإسكان اللام، لأن له شاهدا من
القرآن، ومعنى (غُلْف): ذوات غلف، الواحد منها أَغْلَف وغُلْف مثل أحمر
وحُمْر، فكأنهم قالوا: قلوبنا في أوعية، والدليل على ذلك قوله: {وقالوا قلوبنا في أكنّة ممّا تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب}.
ومن قرأ (غُلُف) فهو جمع غلاف وغُلُف، مثل: مثال ومُثُل، وحِمار وحُمُر، فيكون معنى هذا: إن قلوبنا أوعية للعلم،
والأول أشبه؛ ويجوز أن تسكن (غُلُف) فيقال: غُلْف، كما يقال في جمع مثال: مُثْل.
فأعلم اللّه عزّ وجلّ أن الأمر على خلاف ما قالوا فقال: {بل لعنهم اللّه بكفرهم} معنى {لعنهم} في اللغة: أبعدهم،
فالتأويل -واللّه أعلم-: بل طبع اللّه على قلوبهم، كما قال: {ختم اللّه على قلوبهم}، ثم أخبر عزّ وجلّ أن ذلك مجازاة منه لهم على كفرهم، فقال: {بل لعنهم اللّه بكفرهم}، واللعن -كما وصفنا-: الإبعاد، قال الشّمّاخ:
وماء قد وردت لوصل أروى ...... عليه الطير كالورق اللّجين
ذعرت به القطا ونفيت عنه ...... مقام الذئب كالرجل اللّعين
). [معاني القرآن: 1/ 169-170]
- قال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس: «{وقالوا قلوبنا غلفٌ}أي: في أكنّةٍ».
- وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: «{وقالوا قلوبنا غلفٌ}أي: لا تفقه».
- وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: {وقالوا قلوبنا غلفٌ} [قال:]«هي القلوب المطبوع عليها».
- وقال مجاهدٌ: «{وقالوا قلوبنا غلفٌ}عليها غشاوةٌ».
- وقال عكرمة: «عليها طابعٌ».
- وقال أبو العالية: «أي: لا تفقه».
- وقال السّدّيّ: «يقولون: عليها غلافٌ، وهو الغطاء».
- وقال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة: «{وقالوا قلوبنا غلفٌ}هو كقوله:{وقالوا قلوبنا في أكنّةٍ ممّا تدعونا إليه} [فصّلت: 5]».
- وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، في قوله: {غلفٌ} قال: «يقول: قلبي في غلافٍ فلا يخلص إليه ما تقول»، قرأ: {وقالوا قلوبنا في أكنّةٍ ممّا تدعونا إليه}.
وهذا هو الذي رجّحه ابن جريرٍ، واستشهد ممّا روي من حديث عمرو بن مرّة الجمليّ، عن أبي البختريّ، عن حذيفة، قال:«القلوب أربعةٌ». فذكر منها: «وقلبٌ أغلف مغضوب عليه، وذاك قلب الكافر».
- وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن عبد الرّحمن العرزمي، أنبأنا أبي، عن جدّي، عن قتادة، عن الحسن في قوله: {قلوبنا غلفٌ} قال:«لم تختن».
هذا القول يرجع معناه إلى ما تقدّم من عدم طهارة قلوبهم، وأنّها بعيدةٌ من الخير.
قولٌ آخر:
- قال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {وقالوا قلوبنا غلفٌ} قال: «قالوا: قلوبنا مملوءةٌ علمًا لا تحتاج إلى علم محمّدٍ، ولا غيره».
- وقال عطيّة العوفيّ: «{وقالوا قلوبنا غلفٌ}أي: أوعيةٌ للعلم».
وعلى هذا المعنى
جاءت قراءة بعض الأنصار فيما حكاه ابن جريرٍ: "وقالوا قلوبنا غلف" بضمّ
اللّام، أي: جمع غلافٍ، أي: أوعيةٌ، بمعنى أنّهم ادّعوا أنّ قلوبهم مملوءةٌ
بعلمٍ لا يحتاجون معه إلى علمٍ آخر. كما كانوا يمنّون بعلم التّوراة.
ولهذا قال تعالى: {بل لّعنهم اللّه بكفرهم فقليلا مّا يؤمنون} أي: ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونةٌ مطبوعٌ عليها، كما قال في سورة النّساء: {وقولهم قلوبنا غلفٌ بل طبع اللّه عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا}[النّساء: 155].
وقد اختلفوا في معنى قوله:{فقليلا مّا يؤمنون}وقوله:{فلا يؤمنون إلا قليلا}،
- فقال بعضهم: فقليلٌ من يؤمن منهم [واختاره فخر الدّين الرّازيّ وحكاه عن قتادة والأصمّ وأبي مسلمٍ الأصبهاني].
- وقيل:
فقليلٌ إيمانهم. بمعنى أنّهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد
والثّواب والعقاب، ولكنّه إيمانٌ لا ينفعهم، لأنّه مغمورٌ بما كفروا به من
الذي جاءهم به محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم.
- وقال بعضهم: إنّهم كانوا غير مؤمنين بشيءٍ، وإنّما قال: {فقليلا ما يؤمنون}
وهم بالجميع كافرون، كما تقول العرب: قلّما رأيت مثل هذا قطّ. تريد: ما
رأيت مثل هذا قطّ. [وقال الكسائيّ: تقول العرب: من زنى بأرضٍ قلّما تنبت،
أي: لا تنبت شيئًا]. حكاه ابن جريرٍ، واللّه أعلم).[تفسير ابن كثير: 1/ 324-325]
* للاستزادة ينظر: هنا