1 Sep 2014
تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}
تفسير
قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ
اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {قل إن كانت لكم الدّار الآخرة عند اللّه خالصة من دون النّاس فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين} قيل لهم هذا لأنهم قالوا: {لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى}, وقالوا: {نحن أبناء اللّه وأحبّاؤه},
فقيل لهم: إن كنتم عند أنفسكم صادقين فيما تدّعون, فتمنوا الموت، فإن من
كان لا يشك في أنه صائر إلى الجنة، فالجنة عنده آثر من الدنيا، فإن كنتم
صادقين, فتمنوا الأثرة والفضل. وللنبي
صلى الله عليه وسلم وللمسلمين في هذه الآية أعظم حجة, وأظهر آية, وأدلة
على الإسلام، وعلى صحة تثبيت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال
لهم: تمنّوا الموت وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبداً, فلم يتمنّه منهم واحد؛
لأنهم لو تمنوه لماتوا من ساعتهم، فالدليل على علمهم بأن أمر النبي صلى
الله عليه وسلم حق؛ أنهم كفوا عن التمني, ولم يقدم واحد منهم عليه, فيكون
إقدامه دفعاً لقوله: {ولن يتمنوه أبداً}, أو يعيش بعد التمني, فيكون قد ردّ ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم, فالحمد للّه الذي أوضح الحق وبيّنه، وقمع الباطل وأزهقه). [معاني القرآن: 1/ 176-177] تفسير قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله عزّ وجلّ: {ولن يتمنّوه أبدا بما قدّمت أيديهم واللّه عليم بالظّالمين} يعني:
ما قدمت من كفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كفروا, وهم يعلمون أنه
حق, وأنهم إن تمنوه ماتوا، ودليل ذلك إمساكهم عن تمنيه, وقوله عزّ وجلّ {واللّه عليم بالظّالمين}:
اللّه عزّ وجلّ عليم بالظالمين وغير الظالمين، وإنما الفائدة ههنا إنّه
عليم بمجازاتهم, وهذا جرى في كلام الناس المستعمل بينهم إذا أقبل الرجل على
رجل قد أتى إليه منكرا، قال: أنا أعرفك، وأنا بصير بك، تأويله: أنا أعلم
ما أعاملك به، وأستعمله معك. فالمعنى: إنه عليم بهم, وبصير بما يعملون، أي: يجازيهم عليه بالقتل في الدنيا, أو بالذلّة والمسكنة وأداء الجزية، ونصب {لن} كما تنصب (أن), وقد شرحنا نصبها فيما مضى, وذكرنا ما قاله النحويون فيه. ونصب {أبداً} لأنه ظرف من الزمان، المعنى: لن يتمنوه في طول عمرهم إلى موتهم، وكذلك قولك: لا أكلمك أبدا، المعنى: لا أكلمك ما عشت. ومعنى {بما قدمت أيديهم} أي: بما تقدمه أيديهم, ويصلح أن يكون: بالذي قدمته أيديهم). [معاني القرآن: 1/ 177] تفسير
قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ
وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يعَمَّرَ وَاللَّهُ
بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولتجدنّهم
أحرص النّاس على حياة ومن الّذين أشركوا يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة وما
هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر واللّه بصير بما يعملون} يعني به علماء اليهود هؤلاء، المعنى: أنك تجدهم في حال دعائهم إلى تمنى الموت, أحرص الناس على حياة. ومعنى {لتجدنّهم}: لتعلمنّهم. ومعنى {ومن الّذين أشركوا} أي: ولتجدنهم أحرص من الذين أشركوا، وهذا نهاية في التمثيل, و"الذين أشركوا" هم المجوس، ومن لا يؤمن بالبعث. وقوله عزّ وجلّ: {يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة} ذكرت الألف؛ لأنها نهاية ما كانت المجوس تدعو به لملوكها، كان الملك يحيّا بأن يقال: عش ألف نيروز وألف مهرجان. يقول:
فهؤلاء الذين يزعمون أن لهم الجنة، وأنّ نعيم الجنة له الفضل لا يتمنون
الموت, وهم أحرص ممّن لا يؤمن بالبعث، وكذلك يجب أن يكون هؤلاء؛ لأنهم
كفّار بالنبي صلى الله عليه وسلم, وهو عندهم حق، فيعلمون أنهم صائرون إلى
النار لا محالة، فهم أحرص لهذه العلة، ولأنهم يعلمون أنهم لو تمنوا الموت
لماتوا، لأنهم علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم حق, لولا ذلك لما أمسكوا
عن التمني، لأن التمني من واحد منهم كان يثبت قولهم. وإنما بالغنا في شرح هذه الآيات؛ لأنها نهاية في الاحتجاج في تثبيت أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله عزّ وجلّ: {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر} هذا كناية عن {أحدهم} الذي جرى ذكره، كأنه قال: وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره، ويصلح
أن تكون "هو" كناية عما جرى ذكره من طول العمر، فيكون: وما تعميره بمزحزحه
من العذاب، ثم جعل أن يعمر مبنياً عن "هو" كأنّه قال: ذلك الذي ليس
بمزحزحه أن يعمر. وقد قال قوم: إن (هو) لمجهول, وهذا
عند قوم لا يصلح في "ما" إذا جاء في خبرها الباء مع الجملة، لا يجيز
البصريون: "ما هو قائماً زيد" يريدون: ما الأمر قائما زيد، و"لا كان هو
قائما زيد"، يريدون: ما الأمر قائما زيد؛ و"لا كان هو قائما زيد"، يريدون:
كان الأمر قائما زيد، وكذلك لا يجيزون "ما هو بقائم زيد"، يريدون: ما
الأمر. وقوله عزّ وجلّ: {واللّه بصير بما يعملون} شرحه تقدم في الآية التي قبل هذه. وتقول في "يود": وددت الرجل أَودة وُدًّا أو وِدادًا ومودة وودادة، وحكى الكسائي: ودَدْتُ الرجل, والذي
يعرفه جميع الناس وددته، ولم يحك إلا ما سمع إلا أنه سمع ممن لا يجب أن
يؤخذ بلغته، لأن الإجماع على تصحيح أودّ، وأودّ لا يكون ماضيه وددت,
فالإجماع يبطل وددت, أعني الإجماع في قولهم أود). [معاني القرآن: 1/ 178-179]
تفسير قوله
تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ولقد
جاءكم موسى بالبيّنات ثمّ اتّخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (92) وإذ
أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ واسمعوا قالوا
سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم
إن كنتم مؤمنين (93) قل إن كانت لكم الدّار الآخرة عند اللّه خالصةً من دون
النّاس فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين (94) ولن يتمنّوه أبداً بما قدّمت
أيديهم واللّه عليمٌ بالظّالمين (95)}
البينات: التوراة والعصا وفرق البحر، وغير ذلك من آيات موسى عليه السلام.
وقوله تعالى: {ثمّ اتّخذتم}؛ تدل (ثم) على أنهم فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات، وذلك أعظم في دينهم، وقد تقدمت قصة اتخاذهم العجل،
والضمير في قوله: {من بعده} عائد على موسى عليه السلام، أي: من بعده حين غاب عنكم في المناجاة،
ويحتمل أن يعود الضمير في {بعده} على المجيء. وهذه الآية رد عليهم في أن من آمن بما نزل عليه لا يتخذ العجل، وقد تقدم ذكر أخذ الميثاق ورفع الطور).[المحرر الوجيز: 1/ 285]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولقد جاءكم موسى بالبيّنات} أي: بالآيات الواضحات والدّلائل القاطعة على أنّه رسول اللّه، وأنّه لا إله إلّا اللّه.
والبيّنات هي:
الطّوفان، والجراد، والقمّل، والضّفادع، والدّم، والعصا، واليد، وفلق
البحر، وتظليلهم بالغمام، والمنّ والسّلوى، والحجر، وغير ذلك من الآيات
التي شاهدوها.
{ثمّ اتّخذتم العجل} أي: معبودًا من دون اللّه في زمان موسى وآياته.
وقوله: {من بعده} أي: من بعد ما ذهب عنكم إلى الطّور لمناجاة اللّه كما قال تعالى: {واتّخذ قوم موسى من بعده من حليّهم عجلا جسدًا له خوارٌ} [الأعراف: 148]،
{وأنتم ظالمون} [أي: وأنتم ظالمون] في هذا الصّنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل، وأنتم تعلمون أنّه لا إله إلّا اللّه، كما قال تعالى: {ولمّا سقط في أيديهم ورأوا أنّهم قد ضلّوا قالوا لئن لم يرحمنا ربّنا ويغفر لنا لنكوننّ من الخاسرين}[الأعراف: 149]). [تفسير ابن كثير: 1/ 329]
تفسير قوله
تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ
خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا
وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ
بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:{وإذ
أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا ما آتيناكم بقوّة واسمعوا قالوا
سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم
إن كنتم مؤمنين} قد بيّنّاه فيما مضى.
وقوله عزّ وجلّ: {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} معناه: سقوا حبّ العجل، فحذف "حب" وأقيم "العجل" مقامه.
كما قال الشاعر:
وكيف تواصل من أصبحت ....... خلالته كأبي مرحب
أي: كخلالته أبي مرحب، وكما قال:
وشر المنايا ميّت بين أهله ....... كهلك الفتى قد أسلم الحيّ حاضره
المعنى: وشر المنايا منيّة ميت....
وقوله عزّ وجلّ {بكفرهم} أي: فعل الله ذلك بهم مجازاة لهم على الكفر، كما قال: {بل طبع اللّه عليها بكفرهم}.
وقوله: {بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} قد فسرناه، أي: ما كنتم مؤمنين، فبئس الإيمان يأمركم بالكفر). [معاني القرآن: 1 /175-176]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ} يعني التوراة والشرع، و{بقوّةٍ} أي: بعزم ونشاط وجد.
{واسمعوا} معناه هنا: وأطيعوا، وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط.
وقالت طائفة من المفسرين: إنهم قالوا سمعنا وعصينا. ونطقوا بهذه الألفاظ مبالغة في التعنت والمعصية.
وقالت طائفة: ذلك مجاز ولم ينطقوا بـ(سمعنا وعصينا)، ولكن فعلهم اقتضاه، كما قال الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطني ....... ... ... ... ...
وهذا أيضا احتجاج عليهم في كذب قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا}[البقرة: 91]،
وقوله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} التقدير: حب العجل، والمعنى: جعلت قلوبهم تشربه، وهذا تشبيه ومجاز، عبارة عن تمكن أمر العجل في قلوبهم،
وقال قوم: إن معنى قوله: {وأشربوا في قلوبهم العجل}:
شربهم الماء الذي ألقى فيه موسى برادة العجل، وذلك أنه برده بالمبرد ورماه
في الماء، وقيل لبني إسرائيل: اشربوا من ذلك الماء فشرب جميعهم، فمن كان
يحب العجل خرجت برادة الذهب على شفتيه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول يرده قوله تعالى: {في قلوبهم}،
وروي أن الذين تبين فيهم حب العجل أصابهم من ذلك الماء الجبن،
وقوله تعالى: {بكفرهم} يحتمل أن تكون باء السبب، ويحتمل أن تكون بمعنى مع،
وقوله تعالى: {قل بئسما} الآية، أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم بأنه بئس هذه الأشياء التي فعلتم وأمركم بها إيمانكم الذي زعمتم في قولكم: {نؤمن بما أنزل علينا}[البقرة: 91]،
- و«ما» في موضع رفع، والتقدير: بئس الشيء قتل واتخاذ عجل وقول سمعنا وعصينا،
- ويجوز أن تكون
«ما» في موضع نصب، و(إن كنتم مؤمنين) شرط. وقد يأتي الشرط والشارط يعلم أن
الأمر على أحد الجهتين، كما قال الله تعالى عن عيسى عليه السلام: {إن كنت قلته فقد علمته}[المائدة: 116]، وقد علم عيسى عليه السلام أنه لم يقله، وكذلك: {إن كنتم مؤمنين}، والقائل يعلم أنهم غير مؤمنين، لكنه إقامة حجة بقياس بيّن،
- وقال قوم: (إن) هنا نافية بمنزلة «ما» كالتي تقدمت،
وقرأ الحسن ومسلم بن جندب: «يأمركم بهو إيمانكم» برفع الهاء). [المحرر الوجيز: 1/ 285-287]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذ
أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ واسمعوا قالوا
سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم
إن كنتم مؤمنين (93)}
يعدّد -تبارك
وتعالى- عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق وعتوّهم وإعراضهم عنه، حتّى رفع
الطّور عليهم حتّى قبلوه ثمّ خالفوه؛ ولهذا قال: {قالوا سمعنا وعصينا} وقد تقدّم تفسير ذلك.
{وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} قال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة: {وأشربوا في قلوبهم العجل [بكفرهم]} قال: «أشربوا [في قلوبهم] حبّه، حتّى خلص ذلك إلى قلوبهم». وكذا قال أبو العالية، والرّبيع بن أنسٍ.
- وقال الإمام
أحمد: حدّثنا عصام بن خالدٍ، حدّثني أبو بكر بن عبد اللّه بن أبي مريم
الغسّانيّ، عن خالد بن محمّدٍ الثّقفيّ، عن بلال بن أبي الدّرداء، عن أبي
الدّرداء، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «حبّك الشّيء يعمي ويصم».
ورواه أبو داود عن حيوة بن شريحٍ عن بقيّة، عن أبي بكر بن عبد اللّه بن أبي مريم، به.
- وقال السّدّيّ: «أخذ
موسى -عليه السّلام- العجل فذبحه ثمّ حرقه بالمبرد، ثمّ ذرّاه في البحر،
فلم يبق بحرٌ يجري يومئذٍ إلّا وقع فيه شيءٌ منه، ثمّ قال لهم موسى: اشربوا
منه. فشربوا، فمن كان يحبّه خرج على شاربيه الذّهب. فذلك حين يقول اللّه
تعالى:{وأشربوا في قلوبهم العجل}».
- وقال ابن أبي
حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عبد اللّه بن رجاءٍ، حدّثنا إسرائيل عن أبي
إسحاق، عن عمارة بن عبدٍ وأبي عبد الرّحمن السّلميّ، عن عليّ بن أبي طالبٍ،
قال: «عمد موسى إلى العجل، فوضع عليه
المبارد، فبرده بها، وهو على شاطئ نهرٍ، فما شرب أحدٌ من ذلك الماء ممّن
كان يعبد العجل إلّا اصفرّ وجهه مثل الذّهب».
- وقال سعيد بن جبيرٍ: {وأشربوا في قلوبهم العجل} قال: «لمّا أحرق العجل برد ثمّ نسف، فحسوا الماء حتّى عادت وجوههم كالزّعفران».
- وحكى القرطبيّ
عن كتاب القشيريّ: أنّه ما شرب منه أحدٌ ممّن عبد العجل إلّا جنّ، [ثمّ قال
القرطبيّ] وهذا شيءٌ غير ما هاهنا؛ لأنّ المقصود من هذا السّياق، أنّه ظهر
النّقير على شفاههم ووجوههم، والمذكور هاهنا: أنّهم أشربوا في قلوبهم حبّ
العجل، يعني: في حال عبادتهم له، ثمّ أنشد قول النّابغة في زوجته عثمة:
تغلغل حبّ عثمة في فؤادي ....... فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شرابٌ ....... ولا حزنٌ ولم يبلغ سرور
أكاد إذا ذكرت العهد منها ....... أطير لو انّ إنسانًا يطير
وقوله: {قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين}
أي: بئسما تعتمدونه في قديم الدّهر وحديثه، من كفركم بآيات اللّه
ومخالفتكم الأنبياء، ثمّ اعتمادكم في كفركم بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم
-وهذا أكبر ذنوبكم، وأشدّ الأمور عليكم- إذ كفرتم بخاتم الرّسل وسيّد
الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى النّاس أجمعين، فكيف تدّعون لأنفسكم
الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة، من نقضكم المواثيق، وكفركم بآيات
الله، وعبادتكم العجل؟). [تفسير ابن كثير: 1 /329-330]
و(الدّار) اسم (كانت)، و(خالصةً) خبرها، ويجوز أن يكون نصب (خالصةً) على الحال، و(عند اللّه) خبر كان،
و(من دون النّاس): يحتمل أن يراد بـ(النّاس): محمد صلى الله عليه وسلم ومن تبعه،
ويحتمل أن يراد العموم التام وهو قول اليهود فيما حفظ عنهم،
وقرأ ابن أبي
إسحاق بكسر الواو من «تمنوا» للالتقاء، وحكى الأهوازي عن أبي عمرو أنه قرأ
«تمنوا الموت» بفتح الواو، وحكي عن غيره اختلاس الحركة في الرفع، وقراءة
الجماعة بضم الواو.
وهذه آية بينة
أعطاها الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم لأن اليهود قالت: نحن أبناء
الله وأحباؤه، وشبه ذلك من القول، فأمر الله نبيه أن يدعوهم إلى تمني
الموت، وأن يعلمهم أنه من تمناه منهم مات، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم
ذلك، فعلم اليهود صدقه، فأحجموا عن تمنيه، فرقا من الله لقبح أعمالهم
ومعرفتهم بكذبهم في قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وحرصا منهم على الحياة.
- وقيل: إن الله تعالى منعهم من التمني وقصرهم على الإمساك عنه، لتظهر الآية لنبيه صلى الله عليه وسلم.
والمراد بقوله: «تمنوا» أريدوه بقلوبكم واسألوه، هذا قول جماعة من المفسرين،
- وقال ابن عباس: «المراد فيه السؤال فقط وإن لم يكن بالقلب»،
- وقال أيضا هو وغيره: «إنما أمروا بالدعاء بالموت على أردأ الحزبين من المؤمنين أو منهم»،
وذكر المهدوي وغيره أن هذه الآية كانت مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم وارتفعت بموته.
- والصحيح أن هذه النازلة من موت من تمنى الموت إنما كانت أياما كثيرة عند نزول الآية، وهي بمنزلة دعائه النصارى من أهل نجران إلى المباهلة،
- وقالت فرقة: إن
سبب هذا الدعاء إلى تمني الموت أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد به هلاك
الفريق المكذب أو قطع حجتهم، لا أن علته قولهم نحن أبناء الله). [المحرر الوجيز: 1/ 287-288]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({قل
إن كانت لكم الدّار الآخرة عند اللّه خالصةً من دون النّاس فتمنّوا الموت
إن كنتم صادقين (94) ولن يتمنّوه أبدًا بما قدّمت أيديهم واللّه عليمٌ
بالظّالمين (95) ولتجدنّهم أحرص النّاس على حياةٍ ومن الّذين أشركوا يودّ
أحدهم لو يعمّر ألف سنةٍ وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر واللّه بصيرٌ
بما يعملون (96)}
- قال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «يقول اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم:{قل إن كانت لكم الدّار الآخرة عند اللّه خالصةً من دون النّاس فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين}أي: ادعوا بالموت على أيّ الفريقين أكذب. فأبوا ذلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم{ولن يتمنّوه أبدًا بما قدّمت أيديهم واللّه عليمٌ بالظّالمين} أي: بعلمهم بما عندهم من العلم بك، والكفر بذلك، ولو تمنّوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهوديٌّ إلّا مات».
- وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: «{فتمنّوا الموت} فسلوا الموت».
- وقال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن عبد الكريم الجزريّ، عن عكرمة، قوله: {فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين} قال: قال ابن عبّاسٍ: «لو تمنّى اليهود الموت لماتوا».
- وقال ابن أبي
حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عليّ بن محمّدٍ الطّنافسي، حدّثنا عثّامٌ، سمعت
الأعمش -قال: لا أظنّه إلّا عن المنهال، عن سعيد بن جبيرٍ- عن ابن عباس،
قال: «لو تمنّوا الموت لشرق أحدهم بريقه».
وهذه أسانيد صحيحةٌ إلى ابن عبّاسٍ.
- وقال ابن جريرٍ في تفسيره: وبلغنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «لو
أنّ اليهود تمنّوا الموت لماتوا. ولرأوا مقاعدهم من النّار. ولو خرج
الّذين يباهلون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لرجعوا لا يجدون أهلًا
ولا مالًا». حدّثنا بذلك أبو كريب،
حدّثنا زكريّا بن عديٍّ، حدّثنا عبيد اللّه بن عمرٍو، عن عبد الكريم، عن
عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
ورواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد الرّقّيّ [أبي يزيد] حدّثنا فراتٌ، عن عبد الكريم، به). [تفسير ابن كثير: 1/ 331-332]
وإذا كانت «ما» بمعنى (الذي) فتحتاج إلى عائد تقديره: قدمته، وإذا كانت مع (قدمت) بمثابة المصدر غنيت عن الضمير، هذا قول سيبويه،
والأخفش يرى الضمير في المصدرية،
وأضاف ذنوبهم
واجترامهم إلى الأيدي وأسند تقديمها إليها إذ الأكثر من كسب العبد الخير
والشر إنما هو بيديه، فحمل جميع الأشياء على ذلك.
وقوله تعالى: {واللّه عليمٌ بالظّالمين} ظاهرها الخبر ومضمنها الوعيد، لأن الله عليم بالظالمين وغيرهم، ففائدة تخصيصهم حصول الوعيد). [المحرر الوجيز: 1/ 289]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقال
ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا الحسن بن أحمد [قال]: حدّثنا إبراهيم بن عبد اللّه
بن بشار، حدّثنا سرور بن المغيرة، عن عبّاد بن منصورٍ، عن الحسن، قال: «قول اللّه ما كانوا ليتمنّوه بما قدّمت أيديهم». قلت: أرأيتك لو أنّهم أحبّوا الموت حين قيل لهم: تمنّوا، أتراهم كانوا ميّتين؟ قال: «لا واللّه ما كانوا ليموتوا ولو تمنّوا الموت، وما كانوا ليتمنّوه، وقد قال اللّه ما سمعت: {ولن يتمنّوه أبدًا بما قدّمت أيديهم واللّه عليمٌ بالظّالمين}»،وهذا غريبٌ عن الحسن.
ثمّ هذا الذي فسّر
به ابن عبّاسٍ الآية هو المتعيّن، وهو الدّعاء على أيّ الفريقين أكذب منهم
أو من المسلمين على وجه المباهلة، ونقله ابن جريرٍ عن قتادة، وأبي
العالية، والرّبيع بن أنسٍ، رحمهم اللّه.
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة: {قل
يا أيّها الّذين هادوا إن زعمتم أنّكم أولياء للّه من دون النّاس فتمنّوا
الموت إن كنتم صادقين* ولا يتمنّونه أبدًا بما قدّمت أيديهم واللّه عليمٌ
بالظّالمين* قل إنّ الموت الّذي تفرّون منه فإنّه ملاقيكم ثمّ تردّون إلى
عالم الغيب والشّهادة فينبّئكم بما كنتم تعملون}[الجمعة: 6-8]
فهم -عليهم لعائن اللّه- لمّا زعموا أنّهم أبناء اللّه وأحبّاؤه، وقالوا:
لن يدخل الجنّة إلّا من كان هودًا أو نصارى، دعوا إلى المباهلة والدّعاء
على أكذب الطّائفتين منهم، أو من المسلمين. فلمّا نكلوا عن ذلك علم كلّ
أحدٍ أنّهم ظالمون؛ لأنّهم لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على
ذلك، فلمّا تأخّروا علم كذبهم.
وهذا كما دعا رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وفد نجران من النّصارى بعد قيام الحجّة عليهم
في المناظرة، وعتوّهم وعنادهم إلى المباهلة، فقال تعالى: {فمن
حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم
ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين}[آل عمران: 61]
فلمّا رأوا ذلك قال بعض القوم لبعضٍ: واللّه لئن باهلتم هذا النّبيّ لا
يبقى منكم عينٌ تطرف. فعند ذلك جنحوا للسّلم وبذلوا الجزية عن يدٍ وهم
صاغرون، فضربها عليهم. وبعث معهم أبا عبيدة بن الجرّاح، رضي اللّه عنه،
أمينًا.
ومثل هذا المعنى أو قريبٌ منه قوله تعالى لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقول للمشركين: {قل من كان في الضّلالة فليمدد له الرّحمن مدًّا}[مريم: 75]، أي: من كان في الضّلالة منّا أو منكم، فزاده اللّه ممّا هو فيه ومدّ له، واستدرجه، كما سيأتي تقريره في موضعه، إن شاء اللّه.
فأمّا من فسّر الآية على معنى: {قل إن كانت لكم الدّار الآخرة عند اللّه خالصةً من دون النّاس فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين}
أي: إن كنتم صادقين في دعواكم، فتمنّوا الآن الموت. ولم يتعرّض هؤلاء
للمباهلة كما قرّره طائفةٌ من المتكلّمين وغيرهم، ومال إليه ابن جريرٍ بعد
ما قارب القول الأوّل؛ فإنّه قال: القول في تفسير قوله تعالى: {قل إن كانت لكم الدّار الآخرة عند اللّه خالصةً من دون النّاس فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين} وهذه
الآية ممّا احتجّ اللّه به لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم على اليهود الذين
كانوا بين ظهراني مهاجره، وفضح بها أحبارهم وعلماءهم؛ وذلك أنّ اللّه
تعالى أمر نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى قضيّةٍ عادلةٍ بينه وبينهم،
فيما كان بينه وبينهم من الخلاف، كما أمره أن يدعو الفريق الآخر من
النّصارى إذا خالفوه في عيسى ابن مريم -عليه السّلام- وجادلوه فيه، إلى
فاصلةٍ بينه وبينهم من المباهلة. فقال لفريقٍ [من] اليهود: إن كنتم محقّين
فتمنّوا الموت، فإنّ ذلك غير ضارٍّ بكم إن كنتم محقّين فيما تدّعون من
الإيمان وقرب المنزلة من اللّه، بل أعطيكم أمنيتكم من الموت إذا تمنّيتم،
فإنّما تصيرون إلى الرّاحة من تعب الدّنيا ونصبها وكدر عيشها، والفوز بجوار
اللّه في جنّاته إن كان الأمر كما تزعمون: من أنّ الدّار الآخرة لكم
خالصةً دوننا. وإن لم تعطوها علم النّاس أنّكم المبطلون ونحن المحقّون في
دعوانا، وانكشف أمرنا وأمركم لهم فامتنعت اليهود من الإجابة إلى ذلك لعلمها
أنّها إن تمنّت الموت هلكت، فذهبت دنياها وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها،
كما امتنع فريقٌ [من] النّصارى.
فهذا الكلام منه
أوّله حسنٌ، وأمّا آخره فيه نظرٌ؛ وذلك أنّه لا تظهر الحجّة عليهم على هذا
التّأويل، إذ يقال: إنّه لا يلزم من كونهم يعتقدون أنّهم صادقون في دعواهم
أنّهم يتمنوا الموت فإنّه لا ملازمة بين وجود الصّلاح وتمنّي الموت، وكم من
صالحٍ لا يتمنّى الموت، بل يودّ أن يعمّر ليزداد خيرًا وترتفع درجته في
الجنّة، كما جاء في الحديث: «خيركم من طال عمره وحسن عمله». [وجاء في الصّحيح النّهي عن تمنّي الموت، وفي بعض ألفاظه: «لا يتمنّين أحدكم الموت لضرٍّ نزل به إمّا محسنًا فلعلّه أن يزداد، وإمّا مسيئًا فلعلّه أن يستعتب»].
ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا: فها أنتم تعتقدون -أيّها المسلمون- أنّكم
أصحاب الجنّة، وأنتم لا تتمنّون في حال الصّحّة الموت؛ فكيف تلزمونا بما لا
نلزمكم؟
وهذا كلّه إنّما
نشأ من تفسير الآية على هذا المعنى، فأمّا على تفسير ابن عبّاسٍ فلا يلزم
عليه شيءٌ من ذلك، بل قيل لهم كلامٌ نصف: إن كنتم تعتقدون أنّكم أولياء
اللّه من دون النّاس، وأنّكم أبناء اللّه وأحبّاؤه، وأنّكم من أهل الجنّة
ومن عداكم [من] أهل النّار، فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو
من غيركم، واعلموا أنّ المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة. فلمّا تيقّنوا ذلك
وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم
الحقّ من صفة الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم ونعته، وهم يعرفونه كما يعرفون
أبناءهم ويتحقّقونه. فعلم كلّ أحدٍ باطلهم، وخزيهم، وضلالهم وعنادهم
-عليهم لعائن اللّه المتتابعة إلى يوم القيامة.
[وسمّيت هذه
المباهلة تمنّيًا؛ لأنّ كلّ محقٍّ يودّ لو أهلك اللّه المبطل المناظر له
ولا سيّما إذا كان في ذلك حجّةً له فيها بيان حقّه وظهوره، وكانت المباهلة
بالموت؛ لأنّ الحياة عندهم عزيزةٌ عظيمةٌ لما يعلمون من سوء مآلهم بعد
الموت].
ولهذا قال تعالى: {ولن يتمنّوه أبدًا بما قدّمت أيديهم واللّه عليمٌ بالظّالمين* ولتجدنّهم أحرص النّاس على حياةٍ}). [تفسير ابن كثير: 1/ 332-334]
«وجد» في هذا المعنى تتعدى إلى مفعولين لأنها من أفعال النفس، ولذلك صح تعديها إلى ضمير المتكلم في قول الشاعر:
تلفّت نحو الحيّ حتّى وجدتني ....... وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الضب: «إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه»، وحرصهم على الحياة لمعرفتهم بذنوبهم وأن لا خير لهم عند الله تعالى.
وقوله تعالى: {ومن الّذين أشركوا}؛
- قيل: المعنى وأحرص من الذين أشركوا، لأن مشركي العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة الدنيا، ألا ترى إلى قول امرئ القيس:
تمتّع من الدنيا فإنك فان
والضمير في (أحدهم) يعود في هذا القول على اليهود،
- وقيل: إن الكلام تم في قوله: {حياةٍ}،
ثم استؤنف الإخبار عن طائفة من المشركين أنهم يودّ أحدهم وهي المجوس، لأن
تشميتهم للعاطس لفظ بلغتهم معناه «عش ألف سنة» فكأن الكلام: ومن المشركين
قوم يودّ أحدهم، وفي هذا القول تشبيه بني إسرائيل بهذه الفرقة من المشركين،
وقصد «الألف» بالذكر لأنها نهاية العقد في الحساب.
وقوله تعالى: {وما هو بمزحزحه}اختلف النحاة في (هو)،
- فقيل: هو ضمير الأحد المتقدم الذكر، فالتقدير: وما أحدهم بمزحزحه، وخبر الابتداء في المجرور، و(أن يعمّر) فاعل بمزحزح،
- وقالت فرقة: هو ضمير التعمير، والتقدير: وما التعمير بمزحزحه والخبر في المجرور، و(أن يعمّر) بدل من التعمير في هذا القول،
- وقالت فرقة:
هو ضمير الأمر والشأن، وقد رد هذا القول بما حفظ عن النحاة من أن الأمر
والشأن إنما يفسر بجملة سالمة من حرف جر، وقد جوز أبو علي ذلك في بعض
مسائله الحلبيات،
- وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: هو عماد،
- وقيل: (ما) عاملة حجازية، و(هو) اسمها، والخبر في (بمزحزحه)،
والزحزحة: الإبعاد والتنحية.
وفي قوله: {واللّه بصيرٌ بما يعملون}
وعيد، والجمهور على قراءة «يعملون» بالياء من أسفل، وقرأ قتادة والأعرج
ويعقوب «تعملون» بالتاء من فوق، وهذا على الرجوع إلى خطاب المتوعدين من بني
إسرائيل). [المحرر الوجيز: 1/ 289-291]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولتجدنّهم أحرص النّاس على حياةٍ}
أي: [أحرص الخلق على حياةٍ، أي]: على طول عمر، لما يعلمون من مآلهم
السّيّئ وعاقبتهم عند اللّه الخاسرة؛ لأنّ الدّنيا سجن المؤمن وجنّة
الكافر، فهم يودّون لو تأخّروا عن مقام الآخرة بكلّ ما أمكنهم. وما يحذرون
واقعٌ بهم لا محالة، حتّى وهم أحرص [النّاس] من المشركين الّذين لا كتاب
لهم. وهذا من باب عطف الخاصّ على العامّ.
- قال ابن أبي
حاتمٍ: حدّثنا أحمد بن سنانٍ، حدّثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ، عن سفيان، عن
الأعمش، عن مسلمٍ البطين، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {ومن الّذين أشركوا} قال: «الأعاجم».
ورواه الحاكم في
مستدركه من حديث الثّوريّ، وقال: صحيحٌ على شرطهما، ولم يخرّجاه. قال: وقد
اتّفقا على سند تفسير الصّحابيّ. - وقال الحسن البصريّ: {ولتجدنّهم أحرص النّاس على حياةٍ} قال: «المنافق أحرص النّاس على حياةٍ، وهو أحرص على الحياة من المشرك{يودّ أحدهم}أي: أحد اليهود، كما يدلّ عليه نظم السّياق».
- وقال أبو العالية: «{يودّ أحدهم} يعني: المجوس، وهو يرجع إلى الأوّل».
- {لو يعمّر ألف سنةٍ} قال الأعمش، عن مسلمٍ البطين، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس: {يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنةٍ} قال: «هو كقول الفارسيّ: "زه هزارسال" يقول: عشرة آلاف سنةٍ». وكذا روي عن سعيد بن جبيرٍ نفسه أيضًا.
- وقال ابن جريرٍ:
حدّثنا محمّد بن عليّ بن الحسن بن شقيقٍ قال: سمعت أبي يقول: حدّثنا أبو
حمزة، عن الأعمش، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله تعالى: {يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنةٍ} قال:«هو ؟ الأعاجم: "هزارسال نوروزر مهرجان"».
- وقال مجاهدٌ: {يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنةٍ} قال: «حبّبت إليهم الخطيئة طول العمر».
- وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّدٍ، عن سعيدٍ أو عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: «{وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر}
أي: ما هو بمنجيه من العذاب. وذلك أنّ المشرك لا يرجو بعثًا بعد الموت،
فهو يحبّ طول الحياة وأنّ اليهوديّ قد عرف ما له في الآخرة من الخزي بما
صنع بما عنده من العلم».
- وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر} قال: «هم الّذين عادوا جبريل».
- وقال أبو العالية وابن عمر: «فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منجيه منه».
- وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم [في هذه الآية]: «يهود
أحرص على [هذه] الحياة من هؤلاء، وقد ودّ هؤلاء أن يعمّر أحدهم ألف سنةٍ،
وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو عمّر، كما عمّر إبليس لم ينفعه إذ كان
كافرًا».
{واللّه بصيرٌ بما يعملون} أي: خبيرٌ بما يعمل عباده من خيرٍ وشرٍّ، وسيجازي كلّ عاملٍ بعمله). [تفسير ابن كثير: 1/ 334-335]
* للاستزادة ينظر: هنا