1 Sep 2014
تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}
تفسير قوله
تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ولقد
جاءكم موسى بالبيّنات ثمّ اتّخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (92) وإذ
أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ واسمعوا قالوا
سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم
إن كنتم مؤمنين (93) قل إن كانت لكم الدّار الآخرة عند اللّه خالصةً من دون
النّاس فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين (94) ولن يتمنّوه أبداً بما قدّمت
أيديهم واللّه عليمٌ بالظّالمين (95)}
البينات: التوراة والعصا وفرق البحر، وغير ذلك من آيات موسى عليه السلام.
وقوله تعالى: {ثمّ اتّخذتم}؛ تدل (ثم) على أنهم فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات، وذلك أعظم في دينهم، وقد تقدمت قصة اتخاذهم العجل،
والضمير في قوله: {من بعده} عائد على موسى عليه السلام، أي: من بعده حين غاب عنكم في المناجاة،
ويحتمل أن يعود الضمير في {بعده} على المجيء. وهذه الآية رد عليهم في أن من آمن بما نزل عليه لا يتخذ العجل، وقد تقدم ذكر أخذ الميثاق ورفع الطور).[المحرر الوجيز: 1/ 285]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولقد جاءكم موسى بالبيّنات} أي: بالآيات الواضحات والدّلائل القاطعة على أنّه رسول اللّه، وأنّه لا إله إلّا اللّه.
والبيّنات هي:
الطّوفان، والجراد، والقمّل، والضّفادع، والدّم، والعصا، واليد، وفلق
البحر، وتظليلهم بالغمام، والمنّ والسّلوى، والحجر، وغير ذلك من الآيات
التي شاهدوها.
{ثمّ اتّخذتم العجل} أي: معبودًا من دون اللّه في زمان موسى وآياته.
وقوله: {من بعده} أي: من بعد ما ذهب عنكم إلى الطّور لمناجاة اللّه كما قال تعالى: {واتّخذ قوم موسى من بعده من حليّهم عجلا جسدًا له خوارٌ} [الأعراف: 148]،
{وأنتم ظالمون} [أي: وأنتم ظالمون] في هذا الصّنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل، وأنتم تعلمون أنّه لا إله إلّا اللّه، كما قال تعالى: {ولمّا سقط في أيديهم ورأوا أنّهم قد ضلّوا قالوا لئن لم يرحمنا ربّنا ويغفر لنا لنكوننّ من الخاسرين}[الأعراف: 149]). [تفسير ابن كثير: 1/ 329]
تفسير قوله
تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ
خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا
وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ
بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:{وإذ
أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا ما آتيناكم بقوّة واسمعوا قالوا
سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم
إن كنتم مؤمنين} قد بيّنّاه فيما مضى.
وقوله عزّ وجلّ: {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} معناه: سقوا حبّ العجل، فحذف "حب" وأقيم "العجل" مقامه.
كما قال الشاعر:
وكيف تواصل من أصبحت ....... خلالته كأبي مرحب
أي: كخلالته أبي مرحب، وكما قال:
وشر المنايا ميّت بين أهله ....... كهلك الفتى قد أسلم الحيّ حاضره
المعنى: وشر المنايا منيّة ميت....
وقوله عزّ وجلّ {بكفرهم} أي: فعل الله ذلك بهم مجازاة لهم على الكفر، كما قال: {بل طبع اللّه عليها بكفرهم}.
وقوله: {بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} قد فسرناه، أي: ما كنتم مؤمنين، فبئس الإيمان يأمركم بالكفر). [معاني القرآن: 1 /175-176]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ} يعني التوراة والشرع، و{بقوّةٍ} أي: بعزم ونشاط وجد.
{واسمعوا} معناه هنا: وأطيعوا، وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط.
وقالت طائفة من المفسرين: إنهم قالوا سمعنا وعصينا. ونطقوا بهذه الألفاظ مبالغة في التعنت والمعصية.
وقالت طائفة: ذلك مجاز ولم ينطقوا بـ(سمعنا وعصينا)، ولكن فعلهم اقتضاه، كما قال الشاعر:
امتلأ الحوض وقال قطني ....... ... ... ... ...
وهذا أيضا احتجاج عليهم في كذب قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا}[البقرة: 91]،
وقوله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} التقدير: حب العجل، والمعنى: جعلت قلوبهم تشربه، وهذا تشبيه ومجاز، عبارة عن تمكن أمر العجل في قلوبهم،
وقال قوم: إن معنى قوله: {وأشربوا في قلوبهم العجل}:
شربهم الماء الذي ألقى فيه موسى برادة العجل، وذلك أنه برده بالمبرد ورماه
في الماء، وقيل لبني إسرائيل: اشربوا من ذلك الماء فشرب جميعهم، فمن كان
يحب العجل خرجت برادة الذهب على شفتيه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول يرده قوله تعالى: {في قلوبهم}،
وروي أن الذين تبين فيهم حب العجل أصابهم من ذلك الماء الجبن،
وقوله تعالى: {بكفرهم} يحتمل أن تكون باء السبب، ويحتمل أن تكون بمعنى مع،
وقوله تعالى: {قل بئسما} الآية، أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم بأنه بئس هذه الأشياء التي فعلتم وأمركم بها إيمانكم الذي زعمتم في قولكم: {نؤمن بما أنزل علينا}[البقرة: 91]،
- و«ما» في موضع رفع، والتقدير: بئس الشيء قتل واتخاذ عجل وقول سمعنا وعصينا،
- ويجوز أن تكون
«ما» في موضع نصب، و(إن كنتم مؤمنين) شرط. وقد يأتي الشرط والشارط يعلم أن
الأمر على أحد الجهتين، كما قال الله تعالى عن عيسى عليه السلام: {إن كنت قلته فقد علمته}[المائدة: 116]، وقد علم عيسى عليه السلام أنه لم يقله، وكذلك: {إن كنتم مؤمنين}، والقائل يعلم أنهم غير مؤمنين، لكنه إقامة حجة بقياس بيّن،
- وقال قوم: (إن) هنا نافية بمنزلة «ما» كالتي تقدمت،
وقرأ الحسن ومسلم بن جندب: «يأمركم بهو إيمانكم» برفع الهاء). [المحرر الوجيز: 1/ 285-287]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذ
أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ واسمعوا قالوا
سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم
إن كنتم مؤمنين (93)}
يعدّد -تبارك
وتعالى- عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق وعتوّهم وإعراضهم عنه، حتّى رفع
الطّور عليهم حتّى قبلوه ثمّ خالفوه؛ ولهذا قال: {قالوا سمعنا وعصينا} وقد تقدّم تفسير ذلك.
{وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} قال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة: {وأشربوا في قلوبهم العجل [بكفرهم]} قال: «أشربوا [في قلوبهم] حبّه، حتّى خلص ذلك إلى قلوبهم». وكذا قال أبو العالية، والرّبيع بن أنسٍ.
- وقال الإمام
أحمد: حدّثنا عصام بن خالدٍ، حدّثني أبو بكر بن عبد اللّه بن أبي مريم
الغسّانيّ، عن خالد بن محمّدٍ الثّقفيّ، عن بلال بن أبي الدّرداء، عن أبي
الدّرداء، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «حبّك الشّيء يعمي ويصم».
ورواه أبو داود عن حيوة بن شريحٍ عن بقيّة، عن أبي بكر بن عبد اللّه بن أبي مريم، به.
- وقال السّدّيّ: «أخذ
موسى -عليه السّلام- العجل فذبحه ثمّ حرقه بالمبرد، ثمّ ذرّاه في البحر،
فلم يبق بحرٌ يجري يومئذٍ إلّا وقع فيه شيءٌ منه، ثمّ قال لهم موسى: اشربوا
منه. فشربوا، فمن كان يحبّه خرج على شاربيه الذّهب. فذلك حين يقول اللّه
تعالى:{وأشربوا في قلوبهم العجل}».
- وقال ابن أبي
حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عبد اللّه بن رجاءٍ، حدّثنا إسرائيل عن أبي
إسحاق، عن عمارة بن عبدٍ وأبي عبد الرّحمن السّلميّ، عن عليّ بن أبي طالبٍ،
قال: «عمد موسى إلى العجل، فوضع عليه
المبارد، فبرده بها، وهو على شاطئ نهرٍ، فما شرب أحدٌ من ذلك الماء ممّن
كان يعبد العجل إلّا اصفرّ وجهه مثل الذّهب».
- وقال سعيد بن جبيرٍ: {وأشربوا في قلوبهم العجل} قال: «لمّا أحرق العجل برد ثمّ نسف، فحسوا الماء حتّى عادت وجوههم كالزّعفران».
- وحكى القرطبيّ
عن كتاب القشيريّ: أنّه ما شرب منه أحدٌ ممّن عبد العجل إلّا جنّ، [ثمّ قال
القرطبيّ] وهذا شيءٌ غير ما هاهنا؛ لأنّ المقصود من هذا السّياق، أنّه ظهر
النّقير على شفاههم ووجوههم، والمذكور هاهنا: أنّهم أشربوا في قلوبهم حبّ
العجل، يعني: في حال عبادتهم له، ثمّ أنشد قول النّابغة في زوجته عثمة:
تغلغل حبّ عثمة في فؤادي ....... فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شرابٌ ....... ولا حزنٌ ولم يبلغ سرور
أكاد إذا ذكرت العهد منها ....... أطير لو انّ إنسانًا يطير
وقوله: {قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين}
أي: بئسما تعتمدونه في قديم الدّهر وحديثه، من كفركم بآيات اللّه
ومخالفتكم الأنبياء، ثمّ اعتمادكم في كفركم بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم
-وهذا أكبر ذنوبكم، وأشدّ الأمور عليكم- إذ كفرتم بخاتم الرّسل وسيّد
الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى النّاس أجمعين، فكيف تدّعون لأنفسكم
الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة، من نقضكم المواثيق، وكفركم بآيات
الله، وعبادتكم العجل؟). [تفسير ابن كثير: 1 /329-330]
تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {قل إن كانت لكم الدّار الآخرة عند اللّه خالصة من دون النّاس فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين} قيل لهم هذا لأنهم قالوا: {لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى}, وقالوا: {نحن أبناء اللّه وأحبّاؤه}, فقيل لهم: إن كنتم عند أنفسكم صادقين فيما تدّعون, فتمنوا الموت، فإن من كان لا يشك في أنه صائر إلى الجنة، فالجنة عنده آثر من الدنيا، فإن كنتم صادقين, فتمنوا الأثرة والفضل.
وللنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين في هذه الآية أعظم حجة, وأظهر آية, وأدلة على الإسلام، وعلى صحة تثبيت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال لهم: تمنّوا الموت وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبداً, فلم يتمنّه منهم واحد؛ لأنهم لو تمنوه لماتوا من ساعتهم، فالدليل على علمهم بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم حق؛ أنهم كفوا عن التمني, ولم يقدم واحد منهم عليه, فيكون إقدامه دفعاً لقوله: {ولن يتمنوه أبداً}, أو يعيش بعد التمني, فيكون قد ردّ ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم, فالحمد للّه الذي أوضح الحق وبيّنه، وقمع الباطل وأزهقه). [معاني القرآن: 1/ 176-177]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {قل إن كانت لكم الدّار الآخرة} الآية، أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم، والمعنى: إن كان لكم نعيمها وحظوتها وخيرها فذلك يقتضي حرصكم على الوصول إليها فتمنّوا الموت،تفسير قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله عزّ وجلّ: {ولن يتمنّوه أبدا بما قدّمت أيديهم واللّه عليم بالظّالمين} يعني: ما قدمت من كفرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كفروا, وهم يعلمون أنه حق, وأنهم إن تمنوه ماتوا، ودليل ذلك إمساكهم عن تمنيه,
وقوله عزّ وجلّ {واللّه عليم بالظّالمين}: اللّه عزّ وجلّ عليم بالظالمين وغير الظالمين، وإنما الفائدة ههنا إنّه عليم بمجازاتهم, وهذا جرى في كلام الناس المستعمل بينهم إذا أقبل الرجل على رجل قد أتى إليه منكرا، قال: أنا أعرفك، وأنا بصير بك، تأويله: أنا أعلم ما أعاملك به، وأستعمله معك.
فالمعنى: إنه عليم بهم, وبصير بما يعملون، أي: يجازيهم عليه بالقتل في الدنيا, أو بالذلّة والمسكنة وأداء الجزية، ونصب {لن} كما تنصب (أن), وقد شرحنا نصبها فيما مضى, وذكرنا ما قاله النحويون فيه.
ونصب {أبداً} لأنه ظرف من الزمان، المعنى: لن يتمنوه في طول عمرهم إلى موتهم، وكذلك قولك: لا أكلمك أبدا، المعنى: لا أكلمك ما عشت.
ومعنى {بما قدمت أيديهم} أي: بما تقدمه أيديهم, ويصلح أن يكون: بالذي قدمته أيديهم). [معاني القرآن: 1/ 177]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم أخبر تعالى عنهم بعجزهم وأنهم لا يتمنونه، و(أبداً) ظرف زمان،تفسير قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولتجدنّهم أحرص النّاس على حياة ومن الّذين أشركوا يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر واللّه بصير بما يعملون} يعني به علماء اليهود هؤلاء،
المعنى: أنك تجدهم في حال دعائهم إلى تمنى الموت, أحرص الناس على حياة.
ومعنى {لتجدنّهم}: لتعلمنّهم.
ومعنى {ومن الّذين أشركوا} أي: ولتجدنهم أحرص من الذين أشركوا، وهذا نهاية في التمثيل, و"الذين أشركوا" هم المجوس، ومن لا يؤمن بالبعث.
وقوله عزّ وجلّ: {يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة} ذكرت الألف؛ لأنها نهاية ما كانت المجوس تدعو به لملوكها، كان الملك يحيّا بأن يقال: عش ألف نيروز وألف مهرجان.
يقول: فهؤلاء الذين يزعمون أن لهم الجنة، وأنّ نعيم الجنة له الفضل لا يتمنون الموت, وهم أحرص ممّن لا يؤمن بالبعث، وكذلك يجب أن يكون هؤلاء؛ لأنهم كفّار بالنبي صلى الله عليه وسلم, وهو عندهم حق، فيعلمون أنهم صائرون إلى النار لا محالة، فهم أحرص لهذه العلة، ولأنهم يعلمون أنهم لو تمنوا الموت لماتوا، لأنهم علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم حق, لولا ذلك لما أمسكوا عن التمني، لأن التمني من واحد منهم كان يثبت قولهم.
وإنما بالغنا في شرح هذه الآيات؛ لأنها نهاية في الاحتجاج في تثبيت أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله عزّ وجلّ: {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر} هذا كناية عن {أحدهم} الذي جرى ذكره، كأنه قال: وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره،
ويصلح أن تكون "هو" كناية عما جرى ذكره من طول العمر، فيكون: وما تعميره بمزحزحه من العذاب، ثم جعل أن يعمر مبنياً عن "هو" كأنّه قال: ذلك الذي ليس بمزحزحه أن يعمر.
وقد قال قوم: إن (هو) لمجهول,
وهذا عند قوم لا يصلح في "ما" إذا جاء في خبرها الباء مع الجملة، لا يجيز البصريون: "ما هو قائماً زيد" يريدون: ما الأمر قائما زيد، و"لا كان هو قائما زيد"، يريدون: ما الأمر قائما زيد؛ و"لا كان هو قائما زيد"، يريدون: كان الأمر قائما زيد، وكذلك لا يجيزون "ما هو بقائم زيد"، يريدون: ما الأمر.
وقوله عزّ وجلّ: {واللّه بصير بما يعملون} شرحه تقدم في الآية التي قبل هذه.
وتقول في "يود": وددت الرجل أَودة وُدًّا أو وِدادًا ومودة وودادة،
وحكى الكسائي: ودَدْتُ الرجل,
والذي يعرفه جميع الناس وددته، ولم يحك إلا ما سمع إلا أنه سمع ممن لا يجب أن يؤخذ بلغته، لأن الإجماع على تصحيح أودّ، وأودّ لا يكون ماضيه وددت, فالإجماع يبطل وددت, أعني الإجماع في قولهم أود). [معاني القرآن: 1/ 178-179]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ولتجدنّهم أحرص النّاس على حياةٍ ومن الّذين أشركوا يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنةٍ وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر واللّه بصيرٌ بما يعملون (96) قل من كان عدوًّا لجبريل فإنّه نزّله على قلبك بإذن اللّه مصدّقاً لما بين يديه وهدىً وبشرى للمؤمنين (97) من كان عدوًّا للّه وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإنّ اللّه عدوٌّ للكافرين (98) ولقد أنزلنا إليك آياتٍ بيّناتٍ وما يكفر بها إلاّ الفاسقون (99)}
* للاستزادة ينظر: هنا