17 Sep 2014
تفسير قول الله تعالى: {سَيَقُولُ
السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي
كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا
إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى
عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى
اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ
بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ
أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
يَعْمَلُونَ (144) }
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {سيقول السّفهاء من النّاس ما ولّاهم عن قبلتهم الّتي كانوا عليها قل للّه المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (142)} مشين كما اهتزت رماح تسفهت ....... أعاليها مرّ الرياح النواسم فجاءت بملجوم كأن جبينه ....... صلاءة ورس وسطها قد تفلقا وشرّ الطالبين فلا تكنه ...... بقاتل عمّه الرّؤوف الرحيم
تفسير قوله تعالى: {سَيَقُولُ
السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي
كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)}
فيه قولان:
1- قيل يعني به: كفار أهل مكة،
2- وقيل يعني به: اليهود، والسفهاء واحدهم سفيه، مثل : شهيد وشهداء، وعليم وعلماء.
وقوله عزّ وجلّ: {ما ولّاهم عن قبلتهم الّتي كانوا عليها}, معنى{ما ولّاهم}: ما عدلهم عنها يعني قبلة بيت المقدس.
لأن النبي صلى الله
عليه وسلم كان أمر بالصلاة إلى بيت المقدس؛ لأن مكة وبيت الله الحرام كانت
العرب آلفة لحجّه، فأحبّ اللّه عزّ وجلّ أن يمتحن القوم بغير ما ألفوه ,
ليظهر من يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ممن لا يتبعه، كما قال اللّه عزّ
وجلّ: {وما جعلنا القبلة الّتي كنت عليها إلّا لنعلم من يتّبع الرّسول ممّن ينقلب على عقبيه}, فامتحن الله ببيت المقدس فيما روى لهذه العلة، والله أعلم
وقوله عزّ وجلّ: {قل للّه المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}
معناه: حيث أمر الله أن يصلّى ويتعبّد، فهو له، وعالم به، وهو فيه كماقال: {وهو اللّه في السّماوات وفي الأرض يعلم سرّكم وجهركم ويعلم ما تكسبون (3)}
وكما قال: {وهو معكم أين ما كنتم}
وكما قال:{ما يكون من نجوى ثلاثة إلّا هو رابعهم}
وقوله عزّ وجلّ: {إلى صراط مستقيم}: معناهّ: طريق مستقيم كما يحبّ الله). [معاني القرآن:1 / 218 - 219]
أعلم الله تعالى في
هذه الآية أنهم سيقولون في شأن تحول المؤمنين من الشام إلى الكعبة: ما
ولّاهم؟ والسّفهاء هم الخفاف الأحكام والعقول، والسفه الخفة والهلهلة، ثوب
سفيه أي غير متقن النسج، ومنه قول ذي الرمة:
واختلف في تعيينهم، فقال ابن عباس: «قالها الأحبار منهم»،
وذلك أنهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد ما ولاك عن
قبلتنا؟ ارجع إليها ونؤمن بك، يريدون فتنته، وقال السدي: قالها بعض اليهود
والمنافقون استهزاء، وذلك أنهم قالوا: اشتاق الرجل إلى وطنه، وقالت طائفة:
قالها كفار قريش، لأنهم قالوا: ما ولاه عن قبلته؟ ما رجع إلينا إلا لعلمه
أنّا على الحق وسيرجع إلى ديننا كله، وولّاهم معناه صرفهم، والقبلة فعلة
هيئة المقابل للشيء، فهي كالقعدة والإزرة، وجعل المستقبل موضع الماضي في
قوله سيقول دلالة على استدامة ذلك، وأنهم يستمرون على ذلك القول، ونص ابن
عباس وغيره أن الآية نزلت بعد قولهم.
وقوله تعالى: قل للّه
المشرق والمغرب إقامة حجة، أي له ملك المشارق والمغارب وما بينهما، ويهدي
من يشاء، إشارة إلى هداية الله تعالى هذه الأمة إلى قبلة إبراهيم، والصراط:
الطريق.
واختلف العلماء هل
كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس بأمر من الله تعالى
في القرآن أو بوحي غير متلو؟، فذكر ابن فورك عن ابن عباس قال: أول ما نسخ
من القرآن القبلة، وقال الجمهور: بل كان أمر قبلة بيت المقدس بوحي غير
متلو، وقال الربيع: خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في النواحي فاختار
بيت المقدس، ليستألف بها أهل الكتاب، ومن قال كان بوحي غير متلو قال: كان
ذلك ليختبر الله تعالى من آمن من العرب، لأنهم كانوا يألفون الكعبة
وينافرون بيت المقدس وغيره.
واختلف كم صلى إلى
بيت المقدس، ففي البخاري: ستة عشر أو سبعة عشر شهرا، وروي عن أنس بن مالك:
تسعة أو عشرة أشهر، وروي عن غيره: ثلاثة عشر شهرا، وحكى مكي عن إبراهيم بن
إسحاق أنه قال: أول أمر الصلاة أنها فرضت بمكة ركعتين في أول النهار
وركعتين في آخره، ثم كان الإسراء ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الآخر، قبل
الهجرة بسنة، ففرضت الخمس، وأمّ فيها جبريل عليه السلام، وكانت أول صلاة
الظهر، وتوجه بالنبي صلى الله عليهما وسلم إلى بيت المقدس، ثم هاجر النبي
صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في ربيع الأول، وتمادى إلى بيت المقدس إلى
رجب من سنة اثنتين، وقيل إلى جمادى، وقيل إلى نصف شعبان). [المحرر الوجيز:1/ 365-366]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({سيقول
السّفهاء من النّاس ما ولاهم عن قبلتهم الّتي كانوا عليها قل للّه المشرق
والمغرب يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ (142) وكذلك جعلناكم أمّةً وسطًا
لتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرّسول عليكم شهيدًا وما جعلنا القبلة
الّتي كنت عليها إلا لنعلم من يتّبع الرّسول ممّن ينقلب على عقبيه وإن كانت
لكبيرةً إلا على الّذين هدى اللّه وما كان اللّه ليضيع إيمانكم إنّ اللّه
بالنّاس لرءوفٌ رحيمٌ (143)}
قيل المراد بالسّفهاء
هاهنا: المشركون؛ مشركو العرب، قاله الزّجّاج. وقيل: أحبار يهود، قاله
مجاهدٌ. وقيل: المنافقون، قاله السّدّيّ. والآية عامّةٌ في هؤلاء كلّهم،
واللّه أعلم.
قال البخاريّ: حدّثنا أبو نعيم، سمع زهيراً، عن أبي إسحاق، عن البراء -رضي اللّه عنه-: «أنّ
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم صلّى إلى بيت المقدس ستّة عشر شهرًا أو
سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنّه صلّى أوّل
صلاةٍ صلاها، صلاة العصر، وصلّى معه قومٌ. فخرج رجلٌ ممّن كان صلّى معه،
فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد باللّه لقد صليت مع النّبيّ
صلّى اللّه عليه وسلّم قبل مكّة، فداروا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات
على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجالًا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم،
فأنزل اللّه عزّ وجلّ:{وما كان اللّه ليضيع إيمانكم إنّ اللّه بالنّاس لرءوفٌ رحيمٌ}», انفرد به البخاريّ من هذا الوجه. ورواه مسلمٌ من وجهٍ آخر.
وقال محمّد بن إسحاق: حدّثني إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّي نحو بيت المقدس، ويكثر النّظر إلى السّماء ينتظر أمر اللّه, فأنزل اللّه:{قد نرى تقلّب وجهك في السّماء فلنولّينّك قبلةً ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام}فقال رجالٌ من المسلمين: وددنا لو علمنا علم من مات منّا قبل أن نصرف إلى القبلة، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ فأنزل اللّه:{وما كان اللّه ليضيع إيمانكم}وقال السّفهاء من النّاس -وهم أهل الكتاب-: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل اللّه:{سيقول السّفهاء من النّاس}إلى آخر الآية».
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا الحسن بن عطيّة، حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال:«كان
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قد صلّى نحو بيت المقدس ستّة عشر أو
سبعة عشر شهرًا، وكان يحبّ أن يوجّه نحو الكعبة, فأنزل اللّه: {قد نرى تقلّب وجهك في السّماء فلنولّينّك قبلةً ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام}»، قال: «فوجّه نحو الكعبة. وقال السّفهاء من النّاس -وهم اليهود-: {ما ولاهم عن قبلتهم الّتي كانوا عليها}، فأنزل اللّه: {قل للّه المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ}».
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: «أنّ
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لمّا هاجر إلى المدينة، أمره اللّه أن
يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم بضعة عشر شهرًا، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحب قبلة
إبراهيم، فكان يدعو اللّه وينظر إلى السّماء، فأنزل اللّه عزّ وجلّ:{فولّوا وجوهكم شطره}أي: نحوه. فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل اللّه:{قل للّه المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ}».
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: «أنّ
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لمّا هاجر إلى المدينة، أمره اللّه أن
يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم بضعة عشر شهرًا، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحب قبلة
إبراهيم، فكان يدعو اللّه وينظر إلى السّماء، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {فولّوا وجوهكم شطره} أي: نحوه. فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل اللّه: {قل للّه المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ}»
وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرةٌ، وحاصل الأمر أنّه قد
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمر باستقبال الصّخرة من بيت
المقدس، فكان بمكّة يصلّي بين الرّكنين، فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبلٌ
صخرة بيت المقدس، فلمّا هاجر إلى المدينة تعذّر الجمع بينهما، فأمره اللّه
بالتّوجّه إلى بيت المقدس ، قاله ابن عبّاسٍ والجمهور، ثمّ اختلف هؤلاء هل
كان الأمر به بالقرآن أو بغيره؛ على قولين، وحكى القرطبيّ في تفسيره عن
عكرمة وأبي العالية والحسن البصريّ أنّ التّوجّه إلى بيت المقدس كان
باجتهاده عليه الصّلاة والسّلام. والمقصود أنّ التّوجّه إلى بيت المقدس بعد
مقدمه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة، فاستمرّ الأمر على ذلك بضعة عشر
شهرًا، وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يوجّه إلى الكعبة، التي هي قبلة
إبراهيم، عليه السّلام، فأجيب إلى ذلك، وأمر بالتوجّه إلى البيت العتيق،
فخطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم النّاس، وأعلمهم بذلك. وكان أوّل
صلاةٍ صلاها إليها صلاة العصر، كما تقدّم في الصّحيحين من رواية البراء.
ووقع عند النّسائيّ من رواية أبي سعيد بن المعلى: أنّها الظّهر. وأمّا أهل
قباء، فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثّاني، كما جاء في
الصّحيحين، عن ابن عمر أنّه قال: «بينما
النّاس بقباء في صلاة الصّبح، إذ جاءهم آتٍ فقال: إنّ رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن وقد أمر أن يستقبل الكعبة، فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشّام فاستداروا إلى الكعبة».
وفي هذا دليلٌ على
أنّ النّاسخ لا يلزم حكمه إلّا بعد العلم به، وإن تقدّم نزوله وإبلاغه؛
لأنّهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء، واللّه أعلم.
ولمّا وقع هذا حصل لبعض النّاس -من أهل النّفاق والرّيب والكفرة من اليهود -ارتيابٌ وزيغٌ عن الهدى وتخبيطٌ وشكٌّ، وقالوا: {ما ولاهم عن قبلتهم الّتي كانوا عليها} أي: ما لهؤلاء تارةً يستقبلون كذا، وتارةً يستقبلون كذا؟ فأنزل اللّه جوابهم في قوله: {قل للّه المشرق والمغرب} أي: الحكم والتّصرّف والأمر كلّه للّه، وحيثما تولّوا فثمّ وجه اللّه، و {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن باللّه}[البقرة: 177]
أي: الشّأن كلّه في امتثال أوامر اللّه، فحيثما وجّهنا توجّهنا، فالطّاعة
في امتثال أمره، ولو وجّهنا في كلّ يومٍ مرّاتٍ إلى جهاتٍ متعدّدةٍ، فنحن
عبيده وفي تصريفه وخدّامه، حيثما وجّهنا توجّهنا، وهو تعالى له بعبده
ورسوله محمّدٍ -صلوات اللّه وسلامه عليه -وأمته عنايةٌ عظيمةٌ؛ إذ هداهم
إلى قبلة إبراهيم، خليل الرّحمن، وجعل توجّههم إلى الكعبة المبنيّة على
اسمه تعالى وحده لا شريك له، أشرف بيوت اللّه في الأرض، إذ هي بناء إبراهيم
الخليل، عليه السّلام، ولهذا قال: {قل للّه المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ}.
وقد روى الإمام أحمد،
عن عليّ بن عاصمٍ، عن حصين بن عبد الرّحمن، عن عمر بن قيسٍ، عن محمّد بن
الأشعث، عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم -يعني في أهل
الكتاب -:
«إنّهم لا يحسدوننا على شيءٍ كما يحسدوننا على يوم الجمعة، التي هدانا
اللّه لها وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلّوا عنها، وعلى
قولنا خلف الإمام: آمين»).[تفسير ابن كثير: 1/ 452-454]
تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا
جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ
يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ
لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله: {وكذلك
جعلناكم أمّة وسطا لتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرّسول عليكم شهيدا
وما جعلنا القبلة الّتي كنت عليها إلّا لنعلم من يتّبع الرّسول ممّن ينقلب
على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلّا على الّذين هدى اللّه وما كان اللّه ليضيع
إيمانكم إنّ اللّه بالنّاس لرءوف رحيم}
معنى الأمة: الجماعة، أيّ جماعة كانت، إلا أن هذه الجماعة وصفت بأنها وسط.
وفي {أمّة وسطاً}, قولان:
1- قال بعضهم وسطاً: عدلاً.
2- وقال بعضهم: أخياراً, واللفظان مختلفان, والمعنى واحد؛ لأن العدل خير , والخير عدل.
وقيل في صفة النبي صلى الله عليه وسلم : إنه من أوسط قومه جنساً, أي: من خيارها، والعرب تصف الفاضل النسب بأنه: من أوسط قومه، وهذا يعرف حقيقته أهل اللغة؛ لأن العرب تستعمل التمثيل كثيرا "
فتمثل القبيلة
بالوادي والقاع وما أشبهه فخير الوادي وسطه فيقال: هذا من وسط قومه، ومن
وسط الوادي، وسرر الوادي وسرارة الوادي وسر الوادي، ومعناه كله: من خير
مكان فيه، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم من خير مكان في نسب العرب, {وكذلك جعلناكم أمّة وسطًا}: أي: خياراً.
وقوله عزّ وجلّ: {لتكونوا شهداء على النّاس}
{تكونوا} في موضع نصب.
المعنى: جعلناكم خياراً؛ لأن تكونوا شهداء، فنصب {تكونوا } بأن, و{شهداء} نصب خبر تكونوا، إلا أن {شهداء} لا ينون، لأنه لا ينصرف لأن فيه ألف التأنيث، وألف التأنيث يبنى معها الاسم, ولم يلحق بعد الفراغ من الاسم فلذلك لم تنصرف {شهداء}.
فإن قال قائل: فلم جعل الجمع بألف التأنيث قيل: كما جعل التأنيث في نحو قولك جريب وأجربة، وغراب وأغربة , وضارب وضربة، وكاتب وكتبة.
وتأويل {لتكونوا شهداء على الناس}, فيه قولان:
1-
جاء في التفسير أن أمم الأنبياء تكذب في الآخرة إذا سئلت عمن أرسل إليها
فتجحد أنبياءها، هذا فيمن جحد في الدنيا منهم فتشهد هذه الأمة بصدق
الأنبياء، وتشهد عليهم بتكذيبهم، ويشهد النبي صلى الله عليه وسلم لهذه
الأمة بصدقهم , وإنّما جازت هذه الشهادة، وإن لم يكونوا ليعاينوا تلك الأمم
لأخبار النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذا قول.
2- وقال قوم {لتكونوا شهداء على النّاس}, أي: محتجين على سائر من خالفكم، ويكون الرسول محتجاً عليكم , ومبيناًلكم.
والقول الأول: أشبه بالتفسير , وأشبه بقوله:{وسطاً} ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم يحتج على المسلمين , وغيرهم.
وقوله عزّ وجلّ: {وإن كانت لكبيرة إلّا على الّذين هدى اللّه}
يعني: قبلة بيت المقدس، أي: وإن كان اتباعها لكبيرة.
المعنى: إنه كبير على غير المخلصين، فأما من أخلص , فليست بكبيرة عليه، كما قال: {إلّا على الّذين هدى الله}, أي: فليست بكبيرة عليهم.
وهذه اللام دخلت على "
إن " لأن اللام إذا لم تدخل مع إن الخفيفة كان الكلام جحدا فلولا " اللام "
كان المعنى " ما كانت كبيرة " فإذا جاءت إن واللام, فمعناه التوكيد للقصة،
واللام تدخل في الخبر، ونحن نشرح دخولها على " الخفيفة " في موضعها إن شاء
اللّه.
وقوله عزّ وجلّ: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم}
هذه اللام أهي، التي يسميها النحويون لام الجحود، وهي تنصب الفعل المستأنف, وقد أحكمنا شرحها قبل هذا الموضوع.
ومعنى: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم} أي:
من كان صلّى إلى بيت المقدس قبل أن تحوّل القبلة إلى البيت الحرام بمكة ,
فصلاته غير ضائعة وثوابه قائم، وقيل: إنّه كان قوم قالوا: فما نصنع بصلاتنا
التي كنا صليناها إلى بيت المقدس، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم},أي: تصديقكم بأمر تلك القبلة.
وقيل أيضا: إنّ جماعة
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفّوا , وهم يصلون إلى بيت المقدس قبل
نقل القبلة إلى بيت اللّه الحرام، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن
صلاتهم , فأنزل الله عزّ وجلّ: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم إنّ اللّه بالنّاس لرءوف رحيم}: إن شئت قلت لرؤوف، وإن شئت لرووف رحيم, فهمزت , وخففت , ومعنى الرأفة كمعنى الرحمة). [معاني القرآن:1/ 220-221]
قال بعض العلماء: أمة
محمد صلى الله عليه وسلم لم تغل في الدين كما فعلت اليهود، ولا افترت
كالنصارى، فهي متوسطة، فهي أعلاها وخيرها من هذه الجهة، وقول النبي صلى
الله عليه وسلم: «خير الأمور أوساطها» أي
خيارها، وقد يكون العلو والخير في الشيء لما بأنه أنفس جنسه، وأما أن يكون
بين الإفراط والتقصير فهو خيار من هذه الجهة وشهداء جمع شاهد في هذا
الموضع.
واختلف المفسرون في
المراد ب النّاس في هذا الموضع، فقالت فرقة: هم جميع الجنس، وأمة محمد صلى
الله عليه وسلم تشهد يوم القيامة للأنبياء على أممهم بالتبليغ، وذلك أن
نوحا تناكره أمته في التبليغ، فتقول له أمة محمد نحن نشهد لك، فيشهدون،
فيقول الله لهم: كيف شهدتم على ما لم تحضروا؟، فيقولون: أي ربنا جاءنا
رسولك ونزل إلينا كتابك فنحن نشهد بما عهدت إلينا وأعلمتنا به، فيقول الله
تعالى: صدقتم، وروي في هذا المعنى حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم،
وروي عنه أن أمته تشهد لكل نبي ناكره قومه، وقال مجاهد: معنى الآية تشهدون
لمحمد صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغ الناس في مدته من اليهود والنصارى
والمجوس.
وقالت طائفة: معنى
الآية يشهد بعضكم على بعض بعد الموت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين مرت به جنازة فأثني عليها بالخير، فقال: «وجبت» ثم مر بأخرى، فأثني عليها بشرّ، فقال:«وجبت»، يعني الجنة والنار، فسئل عن ذلك، فقال: «أنتم شهداء الله في الأرض»، وروي في بعض الطرق أنه قرأ لتكونوا شهداء على النّاس.
ويكون الرّسول عليكم
شهيداً قيل: معناه بأعمالكم يوم القيامة، وقيل: عليكم بمعنى لكم أي يشهد
لكم بالإيمان، وقيل: أي يشهد عليكم بالتبليغ إليكم.
وقوله تعالى: {وما جعلنا القبلة الّتي كنت عليها}
الآية، قال قتادة والسدي وعطاء وغيرهم: القبلة هنا بيت المقدس. والمعنى لم
نجعلها حين أمرناك بها أولا إلا فتنة لنعلم من يتبعك من العرب الذين إنما
يألفون مسجد مكة، أو من اليهود على ما قال الضحاك من أن الأحبار قالوا
للنبي صلى الله عليه وسلم: إن بيت المقدس هو قبلة الأنبياء، فإن صليت إليه
اتبعناك، فأمره الله بالصلاة إليه امتحانا لهم فلم يؤمنوا، وقال بعض من
ذكر: القبلة بيت المقدس، والمعنى: وما جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها
وتحويلها، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقال ابن عباس: القبلة في
الآية الكعبة، وكنت بمعنى أنت كقوله تعالى: {كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس} [آل عمران: 110]
بمعنى أنتم، أي وما جعلناها وصرفناك إليها إلا فتنة، وروي في ذلك أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم لما حول إلى الكعبة أكثر في ذلك اليهود والمنافقون
وارتاب بعض المؤمنين حتى نزلت الآية، وقال ابن جريج: بلغني أن ناسا ممن
كان أسلم رجعوا عن الإسلام، ومعنى قوله تعالى: لنعلم أي ليعلم رسولي
والمؤمنون به، وجاء الإسناد بنون العظمة إذ هم حزبه وخالصته، وهذا شائع في
كلام العرب كما تقول: فتح عمر العراق وجبى خراجها، وإنما فعل ذلك جنده
وأتباعه، فهذا وجه التجوز إذا ورد علم الله تعالى بلفظ استقبال لأنه قديم
لم يزل، ووجه آخر: وهو أن الله تعالى قد علم في الأزل من يتبع الرسول
واستمر العلم حتى وقع حدوثهم واستمر في حين الاتباع والانقلاب ويستمر بعد
ذلك، والله تعالى متصف في كل ذلك بأنه يعلم، فأراد بقوله لنعلم ذكر علمه
وقت مواقعتهم الطاعة والمعصية، إذ بذلك الوقت يتعلق الثواب والعقاب، فليس
معنى لنعلم لنبتدىء العلم وإنما المعنى لنعلم ذلك موجودا، وحكى ابن فورك أن
معنى لنعلم لنثيب، فالمعنى لنعلمهم في حال استحقوا فيها الثواب، وعلق
العلم بأفعالهم لتقوى الحجة ويقع التثبت فيما علمه لا مدافعة لهم فيه، وحكى
ابن فورك أيضا أن معنى لنعلم لنميز، وذكره الطبري عن ابن عباس، وحكى
الطبري أيضا أن معنى لنعلم لنرى.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله متقارب، والقاعدة نفي استقبال العلم بعد أن لم يكن، وقرأ الزهري ليعلم على ما لم يسم فاعله.
وينقلب على عقبيه
عبارة عن المرتد الراجع عما كان فيه من إيمان أو شغل أو غير ذلك، والرجوع
على العقب أسوأ حالات الراجع في مشيه عن وجهته، فلذلك شبه المرتد في الدين
به، وظاهر التشبيه أنه بالمتقهقر، وهي مشية الحيوان الفازع من شيء قد قرب
منه، ويحتمل أن يكون هذا التشبيه بالذي رد ظهره ومشى أدراجه فإنه عند
انقلابه إنما ينقلب على عقبيه.
وقوله تعالى: {وإن كانت لكبيرةً}
الآية، الضمير في كانت راجع إلى القبلة إلى بيت المقدس، أو إلى التحويلة
إلى الكعبة حسب ما ذكرناه من الاختلاف في القبلة، وقال ابن زيد: «هو راجع إلى الصلاة التي صليت إلى بيت المقدس»، وشهد الله تعالى في هذه الآية للمتبعين بالهداية، و «كبيرة»
هنا معناه شاقة صعبة تكبر في الصدور، وإن هي المخففة من الثقيلة، ولذلك
لزمتها اللام لتزيل اللبس الذي بينها وبين النافية، وإذا ظهر التثقيل في إن
فلربما لزمت اللام وربما لم تلزم، وقال الفراء: إن بمعنى ما واللام بمنزلة
إلا.
ولما حولت القبلة كان
من قول اليهود: يا محمد إن كانت الأولى حقا فأنت الآن على باطل، وإن كانت
هذه حقا فكنت في الأولى على ضلال. فوجست نفوس بعض المؤمنين وأشفقوا على من
مات قبل التحويل على صلاتهم السالفة، فنزلت وما كان اللّه ليضيع إيمانكم،
وخاطب الحاضرين والمراد من حضر ومن مات، لأن الحاضر يغلب، كما تقول العرب:
ألم نقتلكم في موطن كذا؟، ومن خوطب لم يقتل ولكنه غلب لحضوره، وقرأ الضحاك
ليضيع بفتح الضاد وشد الياء، وقال ابن عباس والبراء بن عازب وقتادة والسدي
والربيع وغيرهم: الإيمان هنا الصلاة. وسمى الصلاة إيمانا لما كانت صادرة عن
الإيمان والتصديق في وقت بيت المقدس وفي وقت التحويل، ولما كان الإيمان
قطبا عليه تدور الأعمال وكان ثابتا في حال التوجه هنا وهنا ذكره، إذ هو
الأصل الذي به يرجع في الصلاة وغيرها إلى الأمر والنهي، ولئلا تندرج في اسم
الصلاة صلاة المنافقين إلى بيت المقدس فذكر المعنى الذي هو ملاك الأمر،
وأيضا فسميت إيمانا إذ هي من شعب الإيمان، والرأفة أعلى منازل الرحمة، وقرأ
قوم لرؤفٌ على وزن فعل، ومنه قول الوليد بن عقبة:
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمّةً وسطًا لتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرّسول عليكم شهيدًا}
يقول تعالى: إنّما حوّلناكم إلى قبلة إبراهيم، عليه السّلام، واخترناها
لكم لنجعلكم خيار الأمم، لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم؛ لأنّ الجميع
معترفون لكم بالفضل. والوسط هاهنا: الخيار والأجود، كما يقال: قريشٌ أوسط
العرب نسبًا ودارًا، أي: خيرها. وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
وسطًا في قومه، أي: أشرفهم نسبًا، ومنه الصّلاة الوسطى، التي هي أفضل
الصّلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصّحاح وغيرها، ولمّا جعل اللّه هذه
الأمّة وسطًا خصّها بأكمل الشّرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب، كما قال
تعالى: {هو اجتباكم وما جعل عليكم في
الدّين من حرجٍ ملّة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا
ليكون الرّسول شهيدًا عليكم وتكونوا شهداء على النّاس}[الحج: 78]
وقال الإمام أحمد: حدّثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي سعيدٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «يدعى
نوحٌ يوم القيامة فيقال له: هل بلّغت؟ فيقول: نعم. فيدعى قومه فيقال لهم:
هل بلّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذيرٍ وما أتانا من أحدٍ، فيقال لنوحٍ: من
يشهد لك؟ فيقول: محمّدٌ وأمّته» قال: «فذلك قوله: {وكذلك جعلناكم أمّةً وسطًا}».
قال: «الوسط: العدل، فتدعون، فتشهدون له بالبلاغ، ثمّ أشهد عليكم» رواه البخاريّ والتّرمذيّ والنّسائيّ وابن ماجه من طرقٍ عن الأعمش، به .
وقال الإمام أحمد
أيضًا: حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي سعيدٍ
الخدريّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «يجيء
النّبيّ يوم القيامة ومعه الرّجل والنّبيّ ومعه الرّجلان وأكثر من ذلك
فيدعى قومه، فيقال لهم : هل بلّغكم هذا؟ فيقولون: لا. فيقال له: هل بلّغت
قومك؟ فيقول: نعم. فيقال له من يشهد لك؟ فيقول: محمّدٌ وأمّته فيدعى
بمحمّدٍ وأمّته، فيقال لهم: هل بلّغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم. فيقال: وما
علمكم؟ فيقولون: جاءنا نبيّنا صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبرنا أنّ الرّسل قد
بلّغوا فذلك قوله عزّ وجلّ:{وكذلك جعلناكم أمّةً وسطًا}» قال: «عدلًا{لتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرّسول عليكم شهيدًا}».
وقال الإمام أحمد
أيضًا: حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي سعيدٍ
الخدريّ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمّةً وسطًا} قال: «عدلًا».
وروى الحافظ أبو بكر
بن مردويه ،وابن أبي حاتمٍ من حديث عبد الواحد بن زيادٍ، عن أبي مالكٍ
الأشجعيّ، عن المغيرة بن عتيبة بن نهّاسٍ: حدّثني مكتبٌ لنا عن جابر بن عبد
اللّه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، قال: «أنا
وأمّتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق. ما من النّاس أحدٌ إلّا
ودّ أنّه منّا. وما من نبيٍّ كذّبه قومه إلّا ونحن نشهد أنّه قد بلّغ رسالة
ربّه، عز وجل».
وروى الحاكم، في
مستدركه وابن مردويه أيضًا، واللّفظ له، من حديث مصعب بن ثابتٍ، عن محمّد
بن كعبٍ القرظي، عن جابر بن عبد اللّه، قال: شهد رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم جنازةً، في بني سلمة، وكنت إلى جانب رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم، فقال بعضهم: واللّه -يا رسول اللّه -لنعم المرء كان لقد كان عفيفًا
مسلمًا وكان وأثنوا عليه خيرًا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أنت بما تقول». فقال الرّجل: اللّه أعلم بالسّرائر، فأمّا الذي بدا لنا منه فذاك. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «وجبت».
ثمّ شهد جنازةً في بني حارثة، وكنت إلى جانب رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم، فقال بعضهم: يا رسول اللّه، بئس المرء كان، إن كان لفظّاً غليظًا،
فأثنوا عليه شرًّا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لبعضهم: «أنت بالذي تقول». فقال الرّجل: اللّه أعلم بالسّرائر، فأمّا الذي بدا لنا منه فذاك. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «وجبت».
قال مصعب بن ثابتٍ: فقال لنا عند ذلك محمّد بن كعب: صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ثمّ قرأ: {وكذلك جعلناكم أمّةً وسطًا لتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرّسول عليكم شهيدًا}
ثمّ قال الحاكم: هذا حديثٌ صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه.
وقال الإمام أحمد:
حدّثنا يونس بن محمّدٍ، حدّثنا داود بن أبي الفرات، عن عبد اللّه بن بريدة،
عن أبي الأسود أنّه قال: أتيت المدينة فوافقتها، وقد وقع بها مرضٌ، فهم
يموتون موتًا ذريعاً، فجلست إلى عمر بن الخطّاب، فمرّت به جنازةٌ، فأثني
على صاحبها خيرٌ فقال: (وجبت وجبت) ثمّ مرّ بأخرى فأثني عليها شرٌّ، فقال عمر: (وجبت وجبت) فقال أبو الأسود: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أيّما مسلمٍ شهد له أربعةٌ بخيرٍ أدخله اللّه الجنّة». قال: فقلنا. وثلاثةٌ؟ قال: «وثلاثةٌ». قال، فقلنا: واثنان؟ قال: «واثنان» ثمّ لم نسأله عن الواحد.
وكذا رواه البخاريّ، والتّرمذيّ، والنّسائيّ من حديث داود بن أبي الفرات، به.
قال ابن مردويه:
حدّثنا أحمد بن عثمان بن يحيى، حدّثنا أبو قلابة الرّقاشيّ، حدّثني أبو
الوليد، حدّثنا نافع بن عمر، حدّثني أمّيّة بن صفوان، عن أبي بكر بن أبي
زهيرٍ الثّقفيّ، عن أبيه، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
بالنّباوة يقول: «يوشك أن تعلموا خياركم من شراركم» قالوا: بم يا رسول اللّه؟ قال: «بالثّناء الحسن والثّناء السّيّئ، أنتم شهداء اللّه في الأرض».
ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون. ورواه الإمام
أحمد، عن يزيد بن هارون، وعبد الملك بن عمر وشريحٍ، عن نافع عن ابن عمر،
به.
وقوله تعالى: {وما جعلنا القبلة الّتي كنت عليها إلا لنعلم من يتّبع الرّسول ممّن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرةً إلا على الّذين هدى اللّه}
يقول تعالى: إنّما شرعنا لك -يا محمّد -التّوجّه أوّلًا إلى بيت المقدس،
ثمّ صرفناك عنها إلى الكعبة، ليظهر حال من يتّبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما
توجهت ممّن ينقلب على عقبيه، أي: مرتدّاً عن دينه {وإن كانت لكبيرةً}
أي: هذه الفعلة، وهو صرف التّوجّه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي: وإن كان
هذا الأمر عظيمًا في النّفوس، إلّا على الّذين هدى اللّه قلوبهم، وأيقنوا
بتصديق الرسول، وأنّ كلّ ما جاء به فهو الحقّ الذي لا مرية فيه، وأنّ اللّه
يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يكلّف عباده بما شاء، وينسخ ما يشاء،
وله الحكمة التّامّة والحجّة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الّذين في قلوبهم
مرضٌ، فإنّه كلّما حدث أمرٌ أحدث لهم شكًّا، كما يحصل للّذين آمنوا إيقانٌ
وتصديقٌ، كما قال اللّه تعالى: {وإذا ما
أنزلت سورةٌ فمنهم من يقول أيّكم زادته هذه إيمانًا فأمّا الّذين آمنوا
فزادتهم إيمانًا وهم يستبشرون * وأمّا الّذين في قلوبهم مرضٌ فزادتهم رجسًا
إلى رجسهم} [التّوبة: 124،125] وقال تعالى: {قل هو للّذين آمنوا هدًى وشفاءٌ والّذين لا يؤمنون في آذانهم وقرٌ وهو عليهم عمًى}[فصّلت: 44] وقال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ولا يزيد الظّالمين إلا خسارًا}[الإسراء: 82]،
ولهذا كان من ثبت على تصديق الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم واتّباعه في
ذلك، وتوجّه حيث أمره اللّه من غير شكٍّ ولا ريب، من سادات الصّحابة. وقد
ذهب بعضهم إلى أنّ السّابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار هم الّذين
صلّوا القبلتين.
وقال البخاريّ في تفسير هذه الآية:حدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى، عن سفيان، عن عبد اللّه بن دينارٍ، عن ابن عمر قال:«بينا
الناس يصلون الصّبح في مسجد قباء إذ جاء رجلٌ فقال: قد أنزل على النّبيّ
صلّى اللّه عليه وسلّم قرآنٌ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها.
فتوجّهوا إلى الكعبة».
وقد رواه مسلمٌ من وجهٍ آخر، عن ابن عمر. ورواه التّرمذيّ من حديث سفيان الثّوريّ وعنده: «أنّهم كانوا ركوعًا، فاستداروا كما هم إلى الكعبة، وهم ركوعٌ».
وكذا رواه مسلمٌ من حديث حمّاد بن سلمة، عن ثابتٍ، عن أنسٍ، مثله، وهذا
يدلّ على كمال طاعتهم للّه ورسوله، وانقيادهم لأوامر اللّه عزّ وجل، رضي
الله عنهم أجمعين.
وقوله: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم} أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك لا يضيع ثوابها عند اللّه، وفي الصّحيح من حديث أبي إسحاق السّبيعي، عن البراء، قال: «مات قومٌ كانوا يصلّون نحو بيت المقدس فقال النّاس: ما حالهم في ذلك؟ فأنزل اللّه تعالى:{وما كان اللّه ليضيع إيمانكم}».
ورواه التّرمذيّ عن ابن عبّاسٍ وصحّحه.
وقال ابن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم}«أي: بالقبلة الأولى، وتصديقكم نبيّكم، واتّباعه إلى القبلة الأخرى. أي: ليعطيكم أجرهما جميعًا{إنّ اللّه بالنّاس لرءوفٌ رحيمٌ}».
وقال الحسن البصريّ: {وما كان اللّه ليضيع إيمانكم}«أي: ما كان اللّه ليضيع محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم وانصرافكم معه حيث انصرف {إنّ اللّه بالنّاس لرءوفٌ رحيمٌ}».
وفي الصّحيح أنّ رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رأى امرأةً من السّبي قد فرّق بينها وبين
ولدها، فجعلت كلّما وجدت صبيًّا من السّبي أخذته فألصقته بصدرها، وهي تدور
على، ولدها، فلمّا وجدته ضمّته إليها وألقمته ثديها. فقال رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم:«أترون هذه طارحةً ولدها في النّار، وهي تقدر على ألّا تطرحه؟» قالوا: لا يا رسول اللّه. قال: «فواللّه، للّه أرحم بعباده من هذه بولدها»). [تفسير ابن كثير: 454/1-458]
تفسير قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ
(144)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {قد
نرى تقلّب وجهك في السّماء فلنولّينّك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد
الحرام وحيث ما كنتم فولّوا وجوهكم شطره وإنّ الّذين أوتوا الكتاب ليعلمون
أنّه الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافل عمّا يعملون}
المعنى: في
النظر إلى السماء، وقيل: تقلب عينك، والمعنى واحد؛ لأن التقلب إنما كان
لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بترك الصلاة إلى بيت المقدس, فكان ينتظر
أن ينزل عليه الوحي إلى أي قبلة يصلّي، وتقلب مصدر تقلّب تقلّباً, ويجوز في
الكلام تقلاباً, ولا يجوز في القرآن لأنه تغيير للمصحف.
وقوله عزّ وجلّ: {فلنولّينّك قبلة ترضاها}:
قد كان النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين أمر بأن ينتقل عن الصلاة
إلى بيت المقدس، فأمر بأن يصلي إلى بيت اللّه الحرام، وقيل في قوله: {ترضاها}, قولان :-
1- قال
قوم معناه: تحبها، لا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن راضياً بتلك
القبلة، لأن كل ما أمر الله الأنبياء " عليهم السلام " به , فهي راضية به ,
وإنما أحبها النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنها كانت -فيما يروى - قبلة
الأنبياء؛
2- وقيل: لأنها كانت عنده ادعى لقومه إلى الإيمان.
وقوله عزّ وجلّ:{فولّ وجهك شطر المسجد الحرام}
أي: المسجد الحرام، فأمر أن يستقبل - وهو بالمدينة - مكة، والبيت الحرام، وأمر أن يستقبل البيت حيث كان الناس،
ومعنى الشطر: النحو, وشطر منصوب على الظرف.
قال الشاعر:
وقوله عزّ وجلّ:{إلّا لنعلم من يتّبع الرّسول ممّن ينقلب على عقبيه}.
إن قال قائل ما معنى: {إلّا لنعلم من يتّبع الرّسول ممّن ينقلب على عقبيه}, واللّه عزّ وجلّ قد علم ما يكون قبل كونه؟
فالجواب في ذلك: أن
اللّه يعلم من يتبع الرسول ممن لا يتبعه من قبل وقوعه , وذلك العلم لا تجب
به مجازاة في ثواب ولا عقاب , ولكن المعنى: ليعلم ذلك منهم شهادة , فيقع
عليهم بذلك العلم : اسم مطيعين , واسم عاصين، فيجب ثوابهم على قدر عملهم.
ويكون معلوم ما في حال وقوع الفعل منهم علم شهادة كما قال عزّ وجلّ: {عالم الغيب والشهادة},
فعلمه به قبل وقوعه علم غيب، وعلمه به في حال وقوعه شهادة، وكل ما علمه
الله شهادة , فقد كان معلوماً عنده غيباً؛ لأنه يعلمه قبل كونه، وهذا يبين
كل ما في القرآن مثله نحو قوله تعالى: {ولنبلونّكم حتّى نعلم المجاهدين منكم والصّابرين ونبلو أخباركم}).[معاني القرآن:1/ 222-223]
تعدو بنا شطر نجد وهي عاقدة ....... قد كارب العقد من إيفادها الحقبا
أقول لأمّ زنباع أقيمي ....... صدور العيس شطر بني تميم
وقد أظلّكم من شطر ثغركم ...... هول له ظلم تغشاكم قطعا
ألا من مبلغ عمرا رسولا ...... وما تغني الرّسالة شطر عمرو