الدروس
course cover
تفسير سورة البقرة [ الآية (177) ]
17 Sep 2014
17 Sep 2014

6267

0

0

course cover
تفسير سورة البقرة

القسم الثالث عشر

تفسير سورة البقرة [ الآية (177) ]
17 Sep 2014
17 Sep 2014

17 Sep 2014

6267

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قول الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}




تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن باللّه واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنّبيّين وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل والسّائلين وفي الرّقاب وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصّابرين في البأساء والضّرّاء وحين البأس أولئك الّذين صدقوا وأولئك هم المتّقون}

المعنى: ليس البر كله في الصلاة ، {ولكنّ البرّ من آمن باللّه واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنّبيّين وآتى المال على حبّه } إلى آخر الآية،

فقيل:إن هذا خصوص في الأنبياء وحدهم؛ لأن هذه الأشياء التي وصفت لا يؤديها بكليتها على حق الواجب إلا الأنبياء عليهم السلام، وجائز أن يكون لسائر الناس، لأن اللّه عزّ وجلّ قد أمر الخلق بجميع ما في هذه الآية.

ولك في البرّ وجهان:

1- لك أن تقرأ :{ليس البرّ أن تولّوا}، و {ليس البرّ أن تولّوا}، فمن نصب جعل أن مع صلتها الاسم، فيكون المعنى: ليس توليتكم وجوهكم البرّ كلّه، ومن رفع البر فالمعنى: ليس البّر كله توليتكم، فيكون البر اسم ليس، وتكون{أن تولّوا} الخبر.

وقوله عزّ وجلّ: {ولكنّ البرّ من آمن باللّه واليوم الآخر}

إذا شددت (لكنّ) نصبت البر، وإذا خففت رفعت البر، فقلت ولكن البر من آمن باللّه، وكسرت النون من التخفيف لالتقاء السّاكنين، والمعنى: ولكن ذا البر من آمن باللّه،

ويجوز أن تكون: ولكن البر بر من آمن باللّه، كما قال الشاعر:

وكيف تواصل من أصبحت= خلالته كأبي مرحب

المعنى كخلالة أبي مرحب، ومثله:{واسأل القرية الّتي كنّا فيها}

المعنى: وأسال أهل القرية.

وقوله عزّ وجلّ: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا}.

في رفعها قولان:

الأجود أن يكون: مرفوعاً على المدح؛ لأن النعت إذا طال ، وكثر رفع بعضه ، ونصب على المدح.

المعنى: هم الموفون بعهدهم ، وجائز أن يكون معطوفاً على من، المعنى: ولكن البر، وذو البر المؤمنون، والموفون بعهدهم.

وقوله عزّ وجلّ: {والصّابرين}

في نصبها وجهان: أجودهما: المدح كما وصفنا في النعت إذا طال.

المعنى: أعني الصابرين،

قال بعض النحويين: إنه معطوف على ذوي القربى.

كأنه قال: وآتي المال على حبه ذوي القربى ، والصابرين ، وهذا لا يصلح إلا أن يكون: والموفون رفع على المدح للمضمرين؛ لأن ما في الصلة لا يعطف عليه بعد المعطوف على الموصول.

ومعنى{وحين البأس}،أي: شدة الحرب، يقال: قد بأس الرجل يبأس بأساً وباساً، وبؤساً، يا هذا إذا افتقر، وقد بؤس الرجل ببؤس، فهو بئيس ؛ إذا اشتدت شجاعته). [معاني القرآن: 1/246-248]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {ليس البرّ} الآية: قرأ أكثر السبعة برفع الراء، و «البرّ» اسم ليس، قال أبو علي: «ليس بمنزلة الفعل فالوجه أن يليها الفاعل ثم المفعول».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «مذهب أبي علي أن ليس حرف»، والصواب الذي عليه الجمهور أنها فعل، وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص «ليس البرّ» بنصب الراء، جعل أن تولّوا بمنزلة المضمر، إذ لا يوصف كما لا يوصف المضمر، والمضمر أولى أن يكون اسما يخبر عنه، وفي مصحف أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود ليس البرّ بأن تولوا، وقال الأعمش: إن في مصحف عبد الله: لا تحسبن البر، وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: «الخطاب بهذه الآية للمؤمنين»، فالمعنى ليس البر الصلاة وحدها، وقال قتادة والربيع: «الخطاب لليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي، فاليهود إلى بيت المقدس والنصارى إلى مطلع الشمس، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليها، فقيل لهم ليس البر ما أنتم فيه ولكن البر من آمن بالله». قرأ قوم «ولكنّ البرّ» بشد النون ونصب البر، وقرأ الجمهور «ولكن البر» والتقدير ولكن البر بر من، وقيل: التقدير ولكن ذو البر من، وقيل: البرّ بمنزلة اسم الفاعل تقديره ولكن البار من، والمصدر إذا أنزل منزلة اسم الفاعل فهو ولا بد محمول على حذف مضاف، كقولك رجل عدل ورضى.
والإيمان التصديق، أي صدق بالله تعالى وبهذه الأمور كلها حسب مخبرات الشرائع.
وقوله تعالى: {وآتى المال على حبّه} الآية، هذه كلها حقوق في المال سوى الزكاة، وبها كمال البر، وقيل هي الزكاة، وآتى معناه أعطى، والضمير في حبّه عائد على المال فالمصدر مضاف إلى المفعول، ويجيء قوله: {على حبّه} اعتراضا بليغا أثناء القول، ويحتمل أن يعود الضمير على الإيتاء أي في وقت حاجة من الناس وفاقة، وفإيتاء المال حبيب إليهم، ويحتمل أن يعود الضمير على اسم الله تعالى من قوله: {من آمن باللّه} أي من تصدق محبة في الله تعالى وطاعاته، ويحتمل أن يعود على الضمير المستكن في آتى أي على حبه المال، فالمصدر مضاف إلى الفاعل، والمعنى المقصود: أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو شحيح صحيح يخشى الفقر ويأمل الغنى، كما قال صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «والشح في هذا الحديث هو الغريزي الذي في قوله تعالى:{وأحضرت الأنفس الشّحّ}»[النساء: 128]، وليس المعنى أن يكون المتصدق متصفا بالشح الذي هو البخل، و{ذوي القربى} يراد به قرابة النسب.
واليتم في الآدميين من قبل الأب قبل البلوغ، وقال مجاهد وغيره: «ابن السّبيل المسافر لملازمته السبيل».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا كما يقال ابن ماء للطائر الملازم للماء»، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة ابن زنى» أي الملازم له، وقيل: لما كانت السبيل تبرزه شبه ذلك بالولادة فنسب إليها، وقال قتادة: «ابن السّبيل الضيف»، والأول أعم، {وفي الرّقاب}: يراد به العتق وفك الأسرى وإعطاء أواخر الكتابات، {وأقام الصّلاة} أتمها بشروطها، وذكر الزكاة هنا دليل على أن ما تقدم ليس بالزكاة المفروضة، والموفون عطف على من في قوله: {من آمن}، ويحتمل أن يقدر وهم الموفون، والصّابرين نصب على المدح أو على إضمار فعل، وهذا مهيع في تكرار النعوت، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «والموفين» على المدح أو على قطع النعوت، وقرأ يعقوب والأعمش والحسن والموفون «والصابرون»، وقرأ الجحدري بعهودهم، والبأساء الفقر والفاقة، والضّرّاء المرض ومصائب البدن، وحين البأس وقت شدة القتال.
هذا قول المفسرين في الألفاظ الثلاثة، وتقول العرب: بئس الرجل إذا افتقر، وبؤس إذا شجع.
ثم وصف تعالى أهل هذه الأفعال البرة بالصدق في أمورهم أي هم عند الظن بهم والرجاء فيهم كما تقول: صدقني المال وصدقني الربح، ومنه عود صدق، وتحتمل اللفظة أيضا صدق الإخبار، ووصفهم الله تعالى بالتقى، والمعنى هم الذين جعلوا بينهم وبين عذاب الله وقاية من العمل الصالح). [المحرر الوجيز: 1/ 419-422]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن باللّه واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنّبيّين وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل والسّائلين وفي الرّقاب وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصّابرين في البأساء والضّرّاء وحين البأس أولئك الّذين صدقوا وأولئك هم المتّقون (177)}
اشتملت هذه الآية الكريمة، على جمل عظيمةٍ، وقواعد عميمةٍ، وعقيدةٍ مستقيمةٍ، كما قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عبيد بن هشامٍ الحلبيّ، حدّثنا عبيد اللّه بن عمرٍو، عن عامر بن شفي، عن عبد الكريم، عن مجاهدٍ، عن أبي ذرٍّ: «أنّه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ما الإيمان؟ فتلا عليه: {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم} إلى آخر الآية. قال: ثمّ سأله أيضًا، فتلاها عليه ثمّ سأله. فقال: «إذا عملت حسنةً أحبّها قلبك، وإذا عملت سيّئةً أبغضها قلبك». وهذا منقطعٌ؛ فإنّ مجاهدًا لم يدرك أبا ذرٍّ؛ فإنّه مات قديمًا.
وقال المسعوديّ: حدّثنا القاسم بن عبد الرّحمن، قال: «جاء رجلٌ إلى أبي ذرٍّ، فقال: ما الإيمان؟ فقرأ عليه هذه الآية: {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم} حتّى فرغ منها. فقال الرّجل: ليس عن البرّ سألتك. فقال أبو ذرٍّ: «جاء رجلٌ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فسأله عمّا سألتني عنه، فقرأ عليه هذه الآية، فأبى أن يرضى كما أبيت أنت أن ترضى فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم -وأشار بيده -: «المؤمن إذا عمل حسنةً سرته ورجا ثوابها، وإذا عمل سيّئةً أحزنته وخاف عقابها».
رواه ابن مردويه، وهذا أيضًا منقطعٌ، واللّه أعلم.
وأمّا الكلام على تفسير هذه الآية، فإنّ اللّه تعالى لمّا أمر المؤمنين أوّلًا بالتّوجّه إلى بيت المقدس، ثمّ حوّلهم إلى الكعبة، شقّ ذلك على نفوس طائفةٍ من أهل الكتاب وبعض المسلمين، فأنزل اللّه تعالى بيان حكمته في ذلك، وهو أنّ المراد إنّما هو طاعة اللّه عزّ وجلّ، وامتثال أوامره، والتّوجّه حيثما وجّه، واتّباع ما شرع، فهذا هو البرّ والتّقوى والإيمان الكامل، وليس في لزوم التّوجّه إلى جهةٍ من المشرق إلى المغرب برٌّ ولا طاعةٌ، إن لم يكن عن أمر اللّه وشرعه؛ ولهذا قال: {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن باللّه واليوم الآخر} الآية، كما قال في الأضاحيّ والهدايا: {لن ينال اللّه لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التّقوى منكم}[الحجّ: 37].
وقال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ في هذه الآية: «ليس البرّ أن تصلّوا ولا تعملوا». فهذا حين تحوّل من مكّة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود، فأمر اللّه بالفرائض والعمل بها. وروي عن الضّحّاك ومقاتلٍ نحو ذلك.
وقال أبو العالية: «كانت اليهود تقبل قبل المغرب، وكانت النّصارى تقبل قبل المشرق، فقال اللّه تعالى: {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} يقول: هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل». وروي عن الحسن والرّبيع بن أنسٍ مثله.
وقال مجاهدٌ: «ولكنّ البرّ ما ثبت في القلوب من طاعة اللّه، عزّ وجلّ».
وقال الضّحّاك: «ولكنّ البرّ والتّقوى أن تؤدّوا الفرائض على وجوهها».
وقال الثّوريّ: {ولكنّ البرّ من آمن باللّه} الآية، قال: «هذه أنواع البرّ كلّها». وصدق رحمه اللّه؛ فإنّ من اتّصف بهذه الآية، فقد دخل في عرى الإسلام كلّها، وأخذ بمجامع الخير كلّه، وهو الإيمان باللّه، وهو أنّه لا إله إلّا هو، وصدّق بوجود الملائكة الّذين هم سفرةٌ بين اللّه ورسله {والكتاب} وهو اسم جنسٍ يشمل الكتب المنزّلة من السّماء على الأنبياء، حتّى ختمت بأشرفها، وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب، الذي انتهى إليه كلّ خيرٍ، واشتمل على كلّ سعادةٍ في الدّنيا والآخرة، ونسخ اللّه به كلّ ما سواه من الكتب قبله، وآمن بأنبياء اللّه كلّهم من أوّلهم إلى خاتمهم محمّدٍ صلوات اللّه وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
وقوله: {وآتى المال على حبّه} أي: أخرجه، وهو محب له، راغبٌ فيه. نصّ على ذلك ابن مسعودٍ وسعيد بن جبيرٍ وغيرهما من السّلف والخلف، كما ثبت في الصّحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «أفضل الصّدقة أن تصدّق وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تأمل الغنى، وتخشى الفقر».
وقد روى الحاكم في مستدركه، من حديث شعبة والثّوريّ، عن منصورٍ، عن زبيد، عن مرّة، عن ابن مسعودٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:«{وآتى المال على حبّه}أن تعطيه وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تأمل الغنى وتخشى الفقر». ثمّ قال: صحيحٌ على شرط الشّيخين، ولم يخرّجاه.
قلت وقد رواه وكيع عن الأعمش، وسفيان عن زبيدٍ، عن مرّة، عن ابن مسعودٍ، موقوفًا، وهو أصحّ، واللّه أعلم.
وقال تعالى: {ويطعمون الطّعام على حبّه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا * إنّما نطعمكم لوجه اللّه لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا}[الإنسان: 8، 9].
وقال تعالى: {لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون}[آل عمران: 92] وقوله: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ}[الحشر: 9] نمط آخر أرفع من هذا ومن هذا وهو أنّهم آثروا بما هم مضطرّون إليه، وهؤلاء أعطوا وأطعموا ما هم محبّون له.
وقوله: {ذوي القربى} وهم: قرابات الرّجل، وهم أولى من أعطى من الصّدقة، كما ثبت في الحديث: «الصّدقة على المساكين صدقةٌ، وعلى ذوي الرّحم ثنتان: صدقةٌ وصلةٌ». فهم أولى النّاس بك وببرّك وإعطائك. وقد أمر اللّه تعالى بالإحسان إليهم في غير ما موضعٍ من كتابه العزيز.
{واليتامى} هم: الّذين لا كاسب لهم، وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغارٌ دون البلوغ والقدرة على التّكسّب، وقد قال عبد الرّزّاق: أنبأنا معمر، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك، عن النّزّال بن سبرة، عن عليٍّ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «لا يتم بعد حلم».
{والمساكين} وهم: الّذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم، فيعطون ما تسدّ به حاجتهم وخلّتهم. وفي الصّحيحين عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي ترده التمرة والتّمرتان واللّقمة واللّقمتان، ولكنّ المسكين الذي لا يجد غنًى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه».
{وابن السّبيل} وهو: المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطى ما يوصله إلى بلده، وكذا الذي يريد سفرًا في طاعةٍ، فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه، ويدخل في ذلك الضّيف، كما قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: «ابن السّبيل هو الضّيف الذي ينزل بالمسلمين»، وكذا قال مجاهدٌ، وسعيد بن جبيرٍ، وأبو جعفرٍ الباقر، والحسن، وقتادة، والضّحّاك والزّهريّ، والرّبيع بن أنسٍ، ومقاتل بن حيّان.
{والسّائلين} وهم: الّذين يتعرّضون للطّلب فيعطون من الزّكوات والصّدقات، كما قال الإمام أحمد:حدّثنا وكيع وعبد الرّحمن، قالا حدّثنا سفيان، عن مصعب بن محمّدٍ، عن يعلى بن أبي يحيى، عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها -قال عبد الرّحمن: حسين بن عليٍّ -قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «للسّائل حقٌّ وإن جاء على فرسٍ». رواه أبو داود.
{وفي الرّقاب} وهم: المكاتبون الّذين لا يجدون ما يؤدّونه في كتابتهم.
وسيأتي الكلام على كثيرٍ من هذه الأصناف في آية الصّدقات من براءةٍ، إن شاء اللّه تعالى. وقد قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا يحيى بن عبد الحميد، حدّثنا شريكٌ، عن أبي حمزة، عن الشّعبيّ، حدّثتني فاطمة بنت قيسٍ: «أنّها سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أفي المال حقٌّ سوى الزّكاة؟ قالت: فتلا عليّ {وآتى المال على حبّه}».
ورواه ابن مردويه من حديث آدم بن أبي إياسٍ، ويحيى بن عبد الحميد، كلاهما، عن شريك، عن أبي حمزة عن الشّعبيّ، عن فاطمة بنت قيسٍ، قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «في المال حقٌّ سوى الزّكاة» ثمّ تلا {ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} إلى قوله: {وفي الرّقاب}».
وقد أخرجه ابن ماجه والتّرمذيّ وضعّف أبا حمزة ميمونًا الأعور، قال: وقد رواه بيانٌ وإسماعيل بن سالمٍ عن الشّعبيّ.
وقوله: {وأقام الصّلاة وآتى الزّكاة} أي: وأتمّ أفعال الصّلاة في أوقاتها بركوعها، وسجودها، وطمأنينتها، وخشوعها على الوجه الشّرعيّ المرضيّ.
وقوله: {وآتى الزّكاة} يحتمل أن يكون المراد به زكاة النّفس، وتخليصها من الأخلاق الدّنيّة الرّذيلة، كقوله: {قد أفلح من زكّاها * وقد خاب من دسّاها}[الشّمس:9، 10] وقول موسى لفرعون: {هل لك إلى أن تزكّى * وأهديك إلى ربّك فتخشى}[النّازعات: 18، 19] وقوله تعالى: {وويلٌ للمشركين * الّذين لا يؤتون الزّكاة}[فصّلت: 6، 7].
ويحتمل أن يكون المراد زكاة المال كما قاله سعيد بن جبيرٍ ومقاتل بن حيّان، ويكون المذكور من إعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين إنّما هو التّطوّع والبرّ والصّلة؛ ولهذا تقدّم في الحديث عن فاطمة بنت قيسٍ: أنّ في المال حقًّا سوى الزّكاة، واللّه أعلم.
وقوله: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} كقوله: {الّذين يوفون بعهد اللّه ولا ينقضون الميثاق}[الرّعد: 20] وعكس هذه الصّفة النّفاق، كما صحّ في الحديث: «آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان». وفي الحديث الآخر:«إذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر».
وقوله: {والصّابرين في البأساء والضّرّاء وحين البأس} أي: في حال الفقر، وهو البأساء، وفي حال المرض والأسقام، وهو الضّرّاء. {وحين البأس} أي: في حال القتال والتقاء الأعداء، قاله ابن مسعودٍ، وابن عبّاسٍ، وأبو العالية، ومرّة الهمدانيّ، ومجاهدٌ، وسعيد بن جبيرٍ، والحسن، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ، والسّدّيّ، ومقاتل بن حيّان، وأبو مالكٍ، والضّحّاك، وغيرهم.
وإنّما نصب {والصّابرين} على المدح والحثّ على الصّبر في هذه الأحوال لشدّته وصعوبته، واللّه أعلم، وهو المستعان وعليه التّكلان.
وقوله: {أولئك الّذين صدقوا} أي: هؤلاء الّذين اتّصفوا بهذه الصّفات هم الّذين صدقوا في إيمانهم؛ لأنّهم حقّقوا الإيمان القلبيّ بالأقوال والأفعال، فهؤلاء هم الّذين صدقوا {وأولئك هم المتّقون} لأنّهم اتّقوا المحارم وفعلوا الطّاعات). [تفسير ابن كثير: 1/ 485-489]




* للاستزادة ينظر: هنا