17 Sep 2014
تفسير
قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ
وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ
فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ
تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ
عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي
الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)}
تفسير
قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ
وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ
فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ
تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ
عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتّباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربّكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}
معنى {كتب عليكم}: فرض عليكم،
وقوله {الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثثى} يقال : إنه كان لقوم من العرب طول على آخرين ، فكانوا يتزوجون فيهم بغير مهور، ويطلبون بالدم أكثر من مقداره، فيقتلون بالعبد من عبيدهم الحر من الذين لهم عليهم طول ، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتّباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان}أي: من ترك له القتل ، ورضي منه بالدّية ، وهو قاتل متعمد للقتل ، عفي له بأن ترك له دمه، ورضي منه بالدية ، قال اللّه عز وجلّ: {ذلك تخفيف من ربّكم ورحمة}، وذكر أن من كان قبلنا لم يفرض عليهم إلا النفس ، كما قال عزّ وجلّ: {وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس}، أي: في التوراة -، فتفضل اللّه على هذه الأمة بالتخفيف ، والدية إذا رضي بها ، وفي الدم.
ومعنى{فاتّباع بالمعروف}على ضربين:
جائز أن يكون: فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف، أي: المطالبة بالدية، وعلى القاتل أداء بإحسان ،
وجائز أن يكون: الإتباع بالمعروف ، والأداء بإحسان جميعاً على القاتل ، واللّه أعلم.
وقوله غز وجلّ: {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم}أي: بعد أخذ الدية، ومعنى اعتدى: ظلم، فوثب فقتل قاتل صاحبه بعد أخذ الدية ،{فله عذاب أليم}،أي: موجع.
ورفع {فاتّباع بالمعروف}على معنى فعليه اتباع ، ولو كان في غير القرآن لجاز ، فاتباعاً بالمعروف ، وأداء على معنى ، فليتبع أتباعاً، ويؤد أداء، ولكن الرفع أجود في العربية، وهو على ما في المصحف، وإجماع القراء ،فلا سبيل إلى غيره). [معاني القرآن: 1/248-249]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {يا
أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد
بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ
إليه بإحسانٍ ذلك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ
أليمٌ (178) ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب لعلّكم تتّقون (179) كتب
عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصيّة للوالدين والأقربين
بالمعروف حقًّا على المتّقين (180)} تفسير قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) ) قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلّكم تتّقون} {حياة}رفع على ضربين: 1-على الابتداء، 2- وعلى لكم؛ كأنّه قال: وثبت لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب، أي: يا ذوي العقول. ومعنى الحياة في القصاص:
أن الرجل - إذا علم أنّه يقتل إن قتل - أمسك عن القتل ، ففي إمساكه عن
القتل حياة الذي همّ هو بقتله، وحياة له؛ لأنه من أجل القصاص ، أمسك عن
القتل ، فسلم أن يقتل). [معاني القرآن: 1/249]
كتب معناه فرض
وأثبت، والكتب مستعمل في الأمور المخلدات الدائمة كثيرا، وقيل إن كتب في
مثل هذا إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء، وصورة فرض القصاص
هو أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر الله والانقياد
لقصاصه المشروع، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قتل قاتل وليه وترك التعدي
على غيره كما كانت العرب تتعدى وتقتل بقتيلها الرجل من قوم قاتله، وأن
الحكام وأولي الأمر فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود، وليس القصاص
بلزام إنما اللزام أن لا يتجاوز القصاص إلى اعتداء، فأما إذا وقع الرضى
بدون القصاص من دية أو عفو فذاك مباح، فالآية معلمة أن القصاص هو الغاية
عند التشاح، والقصاص مأخوذ من قص الأثر فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص
أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك، والقتلى جمع قتيل، لفظ مؤنث تأنيث
الجماعة وهو مما يدخل على الناس كرها فلذلك جاء على هذا البناء كجرحى وزمنى
وحمقى وصرعى وغرقى.
واختلف في سبب هذه الآية، فقال الشعبي: «إن
العرب كان أهل العزة منهم والمنعة إذا قتل منهم عبد قتلوا به حرا، وإذا
قتلت امرأة قتلوا بها ذكرا، فنزلت الآية في ذلك ليعلم الله تعالى بالسوية
ويذهب أمر الجاهلية»، وحكي أن قوما من العرب تقاتلوا قتال عمية ثم قال بعضهم: نقتل بعبيدنا أحرارا، فنزلت الآية،
وقيل: نزلت بسبب
قتال وقع بين قبيلتين من الأنصار، وقيل: من غيرهم فقتل هؤلاء من هؤلاء
رجالا وعبيدا ونساء، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلح بينهم
ويقاصهم بعضهم ببعض بالديات على استواء الأحرار بالأحرار والنساء بالنساء
والعبيد بالعبيد، وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت مقتضية أن لا يقتل الرجل
بالمرأة ولا المرأة بالرجل ولا يدخل صنف على صنف ثم نسخت بآية المائدة أن
النفس بالنفس.
قال القاضي أبو
محمد رحمه الله: هكذا روي، وآية المائدة إنما هي إخبار عما كتب على بني
إسرائيل، فلا يترتب النسخ إلا بما تلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من
أن حكمنا في شرعنا مثل حكمهم، وروي عن ابن عباس فيما ذكر أبو عبيد وعن
غيره أن هذه الآية محكمة وفيها إجمال فسرته آية المائدة، وأن قوله هنا
الحرّ بالحرّ يعم الرجال والنساء، وقاله مجاهد.
وقال مالك رحمه الله: «أحسن ما سمعت في هذه الآية أنه يراد بها الجنس الذكر والأنثى فيه سواء، وأعيد ذكر الأنثى تأكيدا وتهمما بإذهاب أمر الجاهلية»،
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن الحسن بن أبي الحسن أن الآية
نزلت مبينة حكم المذكورين ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبدا
أو عبد حرا أو ذكر أنثى أو أنثى ذكرا، وقالا: إنه إذا قتل رجل امرأة فإن
أراد أولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية منه وإن أرادوا
استحيوه وأخذوا منه دية المرأة، وإذا قتلت المرأة رجلا فإن أراد أولياؤه
قتلوا وأخذوا نصف الدية وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها، وإذا قتل الحر
العبد فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد وإن شاء
استحيا وأخذ قيمة العبد، هذا مذكور عن علي رضي الله عنه وعن الحسن، وقد
أنكر ذلك عنهما أيضا، وأجمعت الأمة على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل،
والجمهور لا يرون الرجوع بشيء، وفرقة ترى الاتباع بفضل الديات، قال مالك
والشافعي: «وكذلك القصاص بينهما فيما دون النفس»، وقال أبو حنيفة: «لا قصاص بينهما فيما دون النفس وإنما هو في النفس بالنفس»، وقال النخعي وقتادة وسعيد بن المسيب والشعبي والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وأبو يوسف: «يقتل الحر بالعبد»، وقال مالك رحمه الله وجمهور من العلماء: «لا يقتل الحر بالعبد»،
ودليلهم إجماع الأمة على أن العبد لا يقاوم الحر فيما دون النفس، فالنفس
مقيسة على ذلك، وأيضا فالإجماع فيمن قتل عبدا خطأ أنه ليس عليه إلا القيمة،
فكما لم يشبه الحر في الخطأ لم يشبهه في العمد، وأيضا فإن العبد سلعة من
السلع يباع ويشترى، وإذا قتل الرجل ابنه فإن قصد إلى قتله مثل أن يضجعه
ويذبحه أو يصبره مما لا عذر له فيه ولا شبهة في ادعاء الخطأ فإنه يقتل به
قولا واحدا في مذهب مالك، وإن قتله على حد ما يرمي أو يضرب فيقتله ففيه في
المذهب قولان: يقتل به، ولا يقتل وتغلظ الدية.
وقوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ}فيه أربع تأويلات:
أحدها
أن من يراد بها القاتل وعفي يتضمن عافيا هو ولي الدم والأخ هو المقتول،
ويصح أن يكون هو الولي على هذا التأويل، وهي أخوة الإسلام، وشيءٌ هو الدم
الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابن عباس وجماعة من العلماء،
والعفو في هذا القول على بابه والضميران راجعان على من في كل تأويل.
والتأويل الثاني
وهو قول مالك: ان من يراد بها الولي، وعفي بمعنى يسر لا على بابها في
العفو، والأخ يراد به القاتل، وشيءٌ هي الدية، والأخوة على هذا أخوة
الإسلام، ويحتمل أن يراد بالأخ على هذا التأويل المقتول أي يسر له من قبل
أخيه المقتول وبسببه، فتكون الأخوة أخوة قرابة وإسلام، وعلى هذا التأويل
قال مالك رحمه الله: «إن الولي إذا جنح إلى العفو على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه فمرة تيسر ومرة لا تيسر»، وغير مالك يقول: إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل تلزمه، وقد روي أيضا هذا القول عن مالك ورجحه كثير من أصحابه.
والتأويل الثالث
أن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها وتساقطوا الديات
فيما بينهم مقاصة حسبما ذكرناه آنفا، فمعنى الآية فمن فضل له من الطائفتين
على الأخرى شيء من تلك الديات، ويكون عفي بمعنى فضل من قولهم عفا الشيء إذا
كثر أي أفضلت الحال له أو الحساب أو القدر.
والتأويل الرابع
هو على قول علي رضي الله عنه والحسن بن أبي الحسن في الفضل بين دية المرأة
والرجل والحر والعبد، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف، وعفي في
هذا الموضع أيضا بمعنى أفضل، وكأن الآية من أولها بينت الحكم إذا لم تتداخل
الأنواع ثم الحكم إذا تداخلت، وشيءٌ في هذه الآية مفعول لم يسم فاعله،
وجاز ذلك وعفي لا يتعدى الماضي الذي بنيت منه من حيث يقدر شيءٌ تقدير
المصدر، كأن الكلام: عفي له من أخيه عفو، وشيءٌ اسم عام لهذا وغيره، أو من
حيث تقدر عفي بمعنى ترك فتعمل عملها، والأول أجود، وله نظائر في كتاب الله،
منها قوله تعالى: {ولا تضرّونه شيئاً}[هود: 57]، قال الأخفش: «التقدير لا تضرونه ضرا»، ومن ذلك قول أبي خراش:
فعاديت شيئا والدّريس كأنّما ....... يزعزعه ورد من الموم مردم
وقوله تعالى: {فاتّباعٌ} رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره فالواجب والحكم اتباع، وهذا سبيل الواجبات كقوله تعالى: {فإمساكٌ بمعروفٍ}[البقرة: 229]، وأما المندوب إليه فيأتي منصوبا كقوله تعالى: {فضرب الرّقاب}[محمد: 4]، وهذه الآية حض من الله تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب وحسن القضاء من المؤدي، وقرأ ابن أبي عبلة «فاتباعا» بالنصب.
وقوله تعالى: {ذلك تخفيفٌ من ربّكم}
إشارة إلى ما شرعه لهذه الأمة من أخذ الدية، وكانت بنو إسرائيل لا دية
عندهم إنما هو القصاص فقط، والاعتداء المتوعد عليه في هذه الآية هو أن يأخذ
الرجل دية وليه ثم يقتل القاتل بعد سقوط الدم واختلف في العذاب الأليم
الذي يلحقه: فقال فريق من العلماء منهم مالك: «هو كمن قتل ابتداء إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه، وعذابه في الآخرة»، وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم: «عذابه أن يقتل البتة ولا يمكن الحاكم الولي من العفو»، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نقسم أن لا يعفى عن رجل عفا عن الدم وأخذ الدية ثم عدا فقتل»، وقال الحسن: «عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة»، وقال عمر بن عبد العزيز:«أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى»). [المحرر الوجيز: 1/ 422-427]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يا
أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد
بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ
إليه بإحسانٍ ذلك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ
أليمٌ (178) ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب لعلّكم تتّقون (179)}
يقول تعالى: {كتب عليكم}
العدل في القصاص -أيّها المؤمنون -حرّكم بحرّكم، وعبدكم بعبدكم، وأنثاكم
بأنثاكم، ولا تتجاوزوا وتعتدوا، كما اعتدى من قبلكم وغيّروا حكم اللّه
فيهم، وسبب ذلك قريظة و بنو النّضير، كانت بنو النّضير قد غزت قريظة في
الجاهليّة وقهروهم، فكان إذا قتل النّضريّ القرظيّ لا يقتل به، بل يفادى
بمائة وسقٍ من التّمر، وإذا قتل القرظيّ النّضريّ قتل به، وإن فادوه فدوه
بمائتي وسقٍ من التّمر ضعف دية القرظيّ، فأمر اللّه بالعدل في القصاص، ولا
يتّبع سبيل المفسدين المحرّفين، المخالفين لأحكام اللّه فيهم، كفرًا
وبغيًا، فقال تعالى: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}.
وذكر في سبب
نزولها ما رواه الإمام أبو محمّد بن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا
يحيى بن عبد اللّه بن بكير حدّثني عبد اللّه بن لهيعة، حدّثني عطاء بن
دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، في قول الله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى}
يعني: إذا كان عمدا، الحرّ بالحرّ. وذلك أنّ حيّين من العرب اقتتلوا في
الجاهليّة قبل الإسلام بقليلٍ، فكان بينهم قتلٌ وجراحاتٌ، حتّى قتلوا
العبيد والنّساء، فلم يأخذ بعضهم من بعضٍ حتّى أسلموا، فكان أحد الحيّين
يتطاول على الآخر في العدّة والأموال، فحلفوا ألّا يرضوا حتّى يقتل بالعبد
منّا الحرّ منهم، وبالمرأة منّا الرّجل منهم، فنزلت فيهم.
{الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} منها منسوخةٌ، نسختها {النّفس بالنّفس}[المائدة: 45].
وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ في قوله: {والأنثى بالأنثى}
وذلك أنّهم لا يقتلون الرّجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرّجل بالرّجل،
والمرأة بالمرأة فأنزل اللّه: النّفس بالنّفس والعين بالعين، فجعل الأحرار
في القصاص سواءً فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النّفس، وفيما دون
النّفس، وجعل العبيد مستوين فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس
رجالهم ونساؤهم، وكذلك روي عن أبي مالكٍ أنّها منسوخةٌ بقوله: {النّفس بالنّفس}.
مسألةٌ: مذهب أبي
حنيفة أنّ الحرّ يقتل بالعبد لعموم آية المائدة، وإليه ذهب الثّوريّ وابن
أبي ليلى وداود، وهو مرويٌّ عن عليٍّ، وابن مسعودٍ، وسعيد بن المسيّب،
وإبراهيم النّخعيّ، وقتادة، والحكم، وقال البخاريّ، وعليّ بن المدينيّ
وإبراهيم النّخعيّ والثّوريّ في روايةٍ عنه: «ويقتل السّيّد بعبده»؛ لعموم حديث الحسن عن سمرة: «من قتل عبده قتلناه، ومن جذعه جذعناه، ومن خصاه خصيناه» وخالفهم الجمهور وقالوا: «لا
يقتل الحرّ بالعبد؛ لأنّ العبد سلعةٌ لو قتل خطأً لم تجب فيه ديةٌ، وإنّما
تجب فيه قيمته، وأنّه لا يقاد بطرفه ففي النّفس بطريق أولى»، وذهب الجمهور إلى أنّ المسلم لا يقتل بالكافر، كما ثبت في البخاريّ عن عليٍّ، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا يقتل مسلمٌ بكافرٍ» ولا يصحّ حديثٌ ولا تأويلٌ يخالف هذا، وأمّا أبو حنيفة فذهب إلى أنّه يقتل به لعموم آية المائدة.
مسألةٌ: قال الحسن وعطاءٌ: «لا يقتل الرّجل بالمرأة لهذه الآية»، وخالفهم الجمهور لآية المائدة؛ ولقوله عليه السّلام: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» وقال اللّيث: «إذا قتل الرّجل امرأته لا يقتل بها خاصّةً».
مسألةٌ: ومذهب
الأئمّة الأربعة والجمهور أنّ الجماعة يقتلون بالواحد؛ قال عمر بن الخطّاب
رضي اللّه عنه في غلامٍ قتله سبعةٌ فقتلهم، وقال: «لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم»، ولا يعرف له في زمانه مخالفٌ من الصّحابة، وذلك كالإجماع. وحكي عن الإمام أحمد روايةٌ: «أنّ الجماعة لا يقتلون بالواحد، ولا يقتل بالنّفس إلّا نفسٌ واحدةٌ». وحكاه ابن المنذر عن معاذٍ وابن الزّبير، وعبد الملك بن مروان والزّهريّ ومحمّد بن سيرين وحبيب بن أبي ثابتٍ؛ ثمّ قال ابن المنذر: «وهذا أصحّ، ولا حجّة لمن أباح قتل الجماعة». وقد ثبت عن ابن الزّبير ما ذكرناه، وإذا اختلف الصّحابة فسبيله النّظر.
وقوله: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ} قال مجاهدٌ عن ابن عبّاسٍ: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ}«فالعفو: أن يقبل الدّية في العمد»، وكذا روي عن أبي العالية، وأبي الشّعثاء، ومجاهدٍ، وسعيد بن جبيرٍ، وعطاءٍ، والحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيّان.
وقال الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ} يقول: «فمن ترك له من أخيه شيءٌ يعني: بعد أخذ الدّية بعد استحقاق الدّم، وذلك العفو»{فاتّباعٌ بالمعروف} يقول: «فعلى الطّالب اتّباعٌ بالمعروف إذا قبل الدّية»{وأداءٌ إليه بإحسانٍ} يعني: من القاتل من غير ضررٍ ولا معك، يعني: المدافعة.
وروى الحاكم من
حديث سفيان، عن عمرٍو، عن مجاهدٍ، عن ابن عباس: ويؤدي المطلوب بإحسانٍ.
وكذا قال سعيد بن جبير، وأبو الشّعثاء جابر بن زيد، والحسن، وقتادة، وعطاءٌ
الخراسانيّ، والرّبيع بن أنسٍ، والسّدّيّ، ومقاتل بن حيّان.
مسألةٌ: قال مالكٌ
-رحمه اللّه -في رواية ابن القاسم عنه وهو المشهور، وأبو حنيفة وأصحابه
والشّافعيّ في أحد قوليه: ليس لوليّ الدّم أن يعفو على الدّية إلّا برضا
القاتل، وقال الباقون: له أن يعفو عليها وإن لم يرض القاتل، وذهب طائفةٌ من
السّلف إلى أنّه ليس للنّساء عفوٌ، منهم الحسن، وقتادة، والزّهريّ، وابن
شبرمة، واللّيث، والأوزاعيّ، وخالفهم الباقون.
وقوله: {ذلك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ}
يقول تعالى: إنّما شرع لكم أخذ الدّية في العمد تخفيفًا من اللّه عليكم
ورحمةً بكم، ممّا كان محتومًا على الأمم قبلكم من القتل أو العفو، كما قال
سعيد بن منصورٍ:حدّثنا سفيان، عن عمرو بن دينارٍ، أخبرني مجاهدٌ، عن ابن
عبّاسٍ، قال: «كتب على بني إسرائيل القصّاص في القتلى، ولم يكن فيهم العفو»، فقال اللّه لهذه الأمّة {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيءٌ} فالعفو أن يقبل الدّية في العمد، {ذلك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ} ممّا كتب على من كان قبلكم، فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ.
وقد رواه غير
واحدٍ عن عمرو بن دينارٍ وأخرجه ابن حبّان في صحيحه، عن عمرو بن دينارٍ،
به. وقد رواه البخاريّ والنّسائيّ عن ابن عبّاسٍ ؛ ورواه جماعةٌ عن مجاهدٍ
عن ابن عبّاسٍ، بنحوه.
وقال قتادة: {ذلك تخفيفٌ من ربّكم}«رحم
اللّه هذه الأمّة وأطعمهم الدّية، ولم تحلّ لأحدٍ قبلهم، فكان أهل
التّوراة إنّما هو القصاص وعفوٌ ليس بينهم أرشٌ وكان أهل الإنجيل إنّما هو
عفوٌ أمروا به، وجعل لهذه الأمّة القصاص والعفو والأرش».
وهكذا روي عن سعيد بن جبيرٍ، ومقاتل بن حيّان، والرّبيع بن أنسٍ، نحو هذا.
وقوله: {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليمٌ} يقول تعالى: فمن قتل بعد أخذ الدّية أو قبولها، فله عذابٌ من اللّه أليمٌ موجعٌ شديدٌ.
وكذا روي عن ابن
عبّاسٍ، ومجاهدٍ، وعطاءٍ، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ،
والسّدّيّ، ومقاتل بن حيّان: أنّه هو الذي يقتل بعد أخذ الدّية، كما قال
محمّد بن إسحاق، عن الحارث بن فضيلٍ، عن سفيان بن أبي العوجاء، عن أبي
شريحٍ الخزاعيّ: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «من
أصيب بقتلٍ أو خبل فإنّه يختار إحدى ثلاثٍ: إمّا أن يقتصّ، وإمّا أن يعفو،
وإمّا أن يأخذ الدّية؛ فإن أراد الرّابعة فخذوا على يديه. ومن اعتدى بعد
ذلك فله نار جهنّم خالدًا فيها» رواه أحمد.
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «لا أعافي رجلًا قتل بعد أخذ الدّية» -يعني: لا أقبل منه الدّية -بل أقتله). [تفسير ابن كثير: 1/ 489-492]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ولكم في القصاص حياةٌ}
يقول تعالى: وفي شرع القصاص لكم -وهو قتل القاتل -حكمةٌ عظيمةٌ لكم، وهي
بقاء المهج وصونها؛ لأنّه إذا علم القاتل أنّه يقتل انكفّ عن صنيعه، فكان
في ذلك حياة النّفوس. وفي الكتب المتقدّمة: القتل أنفى للقتل. فجاءت هذه
العبارة في القرآن أفصح، وأبلغ، وأوجز.
{ولكم في القصاص حياةٌ} قال أبو العالية: «جعل اللّه القصاص حياةً، فكم من رجلٍ يريد أن يقتل، فتمنعه مخافة أن يقتل».
وكذا روي عن مجاهدٍ، وسعيد بن جبيرٍ، وأبي مالكٍ، والحسن، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ، ومقاتل بن حيّان، {يا أولي الألباب لعلّكم تتّقون} يقول: «يا أولي العقول والأفهام والنّهى، لعلّكم تنزجرون فتتركون محارم اللّه ومآثمه»، والتّقوى: اسمٌ جامعٌ لفعل الطّاعات وترك المنكرات). [تفسير ابن كثير: 1/ 492]
* للاستزادة ينظر: هنا