الدروس
course cover
تفسير سورة البقرة [من الآية (180) إلى الآية (182) ]
17 Sep 2014
17 Sep 2014

4403

0

0

course cover
تفسير سورة البقرة

القسم الثالث عشر

تفسير سورة البقرة [من الآية (180) إلى الآية (182) ]
17 Sep 2014
17 Sep 2014

17 Sep 2014

4403

0

0


0

0

0

0

0


تفسير قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)}




تفسير قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) )

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصيّة للوالدين والأقربين بالمعروف حقّا على المتّقين}

المعنى: وكتب عليكم إلا أن الكلام إذا طال استغنى عن العطف بالواو،

وعلم أن معناه معني الواو؛ ولأن القصة الأولى قد استتمّت، وانقضى معنى الفرض فيها،

فعلم أن المعنى : فرض عليكم القصاص ، وفرض عليكم الوصية.

ومعنى{كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصيّة للوالدين والأقربين}: هذا الفرض بإجماع نسخته آيات المواريث في سورة النساء وهذا مجمع عليه، ولكن لا بد من تفسيره ليعلم كيف كان وجه الحكمة فيه؛ لأن اللّه عزّ وجلّ لا يتعبد في وقت من الأوقات إلا بما فيه الحكمة البالغة،

فمعنى {كتب عليكم}: فرض عليكم - إن ترك أحدكم مالاً - الوصية {للوالدين والأقربين بالمعروف}، فرفع الوصية على ضربين:

أحدهما: على ما لم يسم فاعله، كأنه قال: كتب عليكم الوصية للوالدين، أي: فرض عليكم،

ويجوز أن تكون: رفع الوصية على الابتداء، ويجوز أن تكون للوالدين الخبر، ويكون على مذهب الحكاية؛ لأن معنى كتب عليكم : قيل لكم: الوصية للوالدين والأقربين، وإنما أمروا بالوصية في ذلك الوقت ؛ لأنهم كانوا ربما جاوزوا بدفع المال إلى البعداء طلباً للرياء والسمعة.

ومعنى{حضر أحدكم الموت}: ليس هو إنّه كتب عليه أن يوصي إذا حضره الموت؛ لأنه إذا عاين الموت يكون في شغل عن الوصية وغيرها.

ولكن المعنى: كتب عليكم أن توصّوا ، وأنتم قادرون على الوصية، فيقول الرجل :إذا حضرني الموت، أي : إذا أنا مت ، فلفلان كذا، على قدر - ما أمر به - ، والذي أمر به أن يجتهد في العدل في وقت الإمهال، فيوصي بالمعروف كما قال اللّه عزّ وجلّ :لوالديه ولأقربيه، ومعنى بالمعروف : بالشيء الذي يعلم ذو التمييز : أنه لا جنف فيه ، ولا جور، وقد قال قوم: إن المنسوخ من هذا ما نسخته المواريث، وأمر الوصية في الثلث باق، وهذا القول ليس بشيء؛ لأن إجماع المسلمين أن ثلث الرجل له ، إن شاء أن يوصي بشي فله، وإن ترك فجائز ، فالآية في قوله: {كتب عليكم}، الوصية منسوخة بإجماع، وكما وصفنا.

وقوله عزّ وجلّ: {حقّاً على المتّقين}: نصب على حق ذلك عليكم حقاً، ولو كان في غير القرآن فرفع كان جائزاً، على معنى : ذلك حق على المتقين). [معاني القرآن: 1/249-251]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {كتب عليكم} الآية، كأن الآية متصلة بقوله: {يا أيّها الّذين آمنوا} فلذلك سقطت واو العطف، وكتب معناه فرض وأثبت، وقال بعض أهل العلم: الوصية فرض، وقال قوم: كانت فرضا ونسخت، وقال فريق: هي مندوب إليها، وكتب عامل في رفع الوصيّة على المفعول الذي لم يسم فاعله في بعض التقديرات، وسقطت علامة التأنيث من كتب لطول الكلام فحسن سقوطها، وقد حكى سيبوية: «قام امرأة»، ولكن حسن ذلك إنما هو مع طول الحائل، ولا يصح عند جمهور النحاة أن تعمل الوصيّة في إذا لأنها في حكم الصلة للمصدر الذي هو الوصيّة، وقد تقدمت فلا يجوز أن يعمل فيها متقدمة، ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون كتب هو العامل في إذا والمعنى توجه إيجاب الله عليكم ومقتضى كتابه إذا حضر، فعبر عن توجه الإيجاب ب كتب لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل، والوصيّة مفعول لم يسم فاعله ب كتب وجواب الشرطين إذا وإن مقدّر، يدل عليه ما تقدم من قوله كتب عليكم، كما تقول شكرت فعلك إن جئتني إذا كان كذا، ويتجه في إعرابها أن يكون التقدير: كتب عليكم الإيصاء، ويكون هذا الإيصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد هو العامل في إذا، وترتفع الوصيّة بالابتداء وفيه جواب الشرطين على نحو ما أنشد سيبويه:
من يفعل الصّالحات الله يحفظها ....... ... ... ... ...
أو يكون رفعها بالابتداء بتقدير: فعليه الوصية، أو بتقدير الفاء فقط، كأنه قيل: فالوصية للوالدين، ويتجه في إعرابها أن تكون الوصيّة مرتفعة ب كتب على المفعول الذي لم يسم فاعله، وتكون الوصيّة هي العامل في إذا، وهذا على مذهب أبي الحسن الأخفش فإنه يجيز أن يتقدم ما في الصلة الموصول بشرطين هما في هذه الآية، أحدهما أن يكون الموصول ليس بموصول محض بل يشبه الموصول، وذلك كالألف واللام حيث توصل، أو كالمصدر، وهذا في الآية مصدر وهو الوصيّة، والشرط الثاني أن يكون المتقدم ظرفا فإن في الظرف يسهل الاتساع، وإذا ظرف وهذا هو رأي أبي الحسن في قول الشاعر:
تقول وصكّت وجهها بيمينها ....... أبعلي هذا بالرّحا المتقاعس
فإنه يرى أن «بالرحا» متعلق بقوله المتقاعس، كأنه قال: أبعلي هذا المتقاعس بالرحا، وجواب الشرطين في هذا القول كما ذكرناه في القول الأول، وفي قوله تعالى إذا حضر مجاز لأن المعنى إذا تخوف وحضرت علاماته، والخير في هذه الآية المال.
واختلف موجبو الوصية في القدر الذي تجب منه، فقال الزهري وغيره: «تجب فيما قل وفيما كثر»، وقال النخعي:«تجب في خمسمائة درهم فصاعدا»، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتادة: «في ألف فصاعدا».
واختلف العلماء في هذه الآية، فقال فريق: محكمة ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين، وفي القرابة غير الوارثة، وقال ابن عباس والحسن وقتادة: «الآية عامة وتقرر الحكم بها برهة ونسخ منها كل من يرث بآية الفرائض»، وفي هذه العبارة يدخل قول ابن عباس والحسن وغيرهما إنه نسخ منها الوالدان وثبت الأقربون الذين لا يرثون، وبين أن آية الفرائض في سورة النساء ناسخة، لهذا الحديث المتواتر: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث».
وقال ابن عمر وابن عباس أيضا وابن زيد: «الآية كلها منسوخة وبقيت الوصية ندبا»، ونحو هذا قول مالك رحمه الله، وقال الربيع بن خثيم وغيره: «لا وصية لوارث»، وقال عروة بن ثابت للربيع بن خثيم: «أوص لي بمصحفك، فنظر الربيع إلى ولده وقرأ: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه}[الأحزاب: 6]»، ونحو هذا صنع ابن عمر رضي الله عنه.
وقال بعض أهل العلم: إن الناسخ لهذه الآية هي السنة المتواترة في الحديث المذكور قبل، وقد تقدم توجيه نسخ السنة للكتاب في تفسير قوله تعالى: {ما ننسخ من آيةٍ}[البقرة: 106].
وقال قوم من العلماء: الوصية للقرابة أولى فإن كانت لأجنبي فمعهم ولا تجوز لغيرهم مع تركهم.
وقال الناس حين مات أبو العالية: عجبا له أعتقته امرأة من رياح وأوصى بماله لبني هاشم.
وقال الشعبي: «لم يكن ذلك له ولا كرامة».
وقال طاوس: «إذا أوصى لغير قرابة ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله» وقاله جابر بن زيد.
وقال الحسن وجابر بن زيد أيضا وعبد الملك بن يعلى: «يبقى ثلث الوصية حيث جعلها ويرد ثلثاها إلى قرابته».
وقال مالك رحمه الله وجماعة من العلماء: «الوصية ماضية حيث جعلها الميت»، {والأقربون}: جمع أقرب، و{بالمعروف}: معناه بالقصد الذي تعرفه النفوس دون إضرار بالورثة ولا تبذير للوصية، و{حقًّا}:مصدر مؤكد، وخص المتقون بالذكر تشريفا للرتبة ليتبادر الناس إليها). [المحرر الوجيز: 1/ 428-432]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصيّة للوالدين والأقربين بالمعروف حقًّا على المتّقين (180) فمن بدّله بعدما سمعه فإنّما إثمه على الّذين يبدّلونه إنّ اللّه سميعٌ عليمٌ (181) فمن خاف من موصٍ جنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ (182)}

اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصيّة للوالدين والأقربين. وقد كان ذلك واجبًا -على أصحّ القولين -قبل نزول آية المواريث، فلمّا نزلت آية الفرائض نسخت هذه، وصارت المواريث المقدّرة فريضةً من اللّه، يأخذها أهلوها حتمًا من غير وصيّةٍ ولا تحمل منّة الموصي، ولهذا جاء الحديث في السّنن وغيرها عن عمرو بن خارجة قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يخطب وهو يقول: «إن اللّه قد أعطى كلّ ذي حقٍّ حقّه، فلا وصيّة لوارثٍ».

وقال الإمام أحمد: حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية، عن يونس بن عبيدٍ، عن محمّد بن سيرين، قال: «جلس ابن عبّاسٍ فقرأ سورة البقرة حتّى أتى على هذه الآية: {إن ترك خيرًا الوصيّة للوالدين والأقربين} فقال: نسخت هذه الآية».

وكذا رواه سعيد بن منصورٍ، عن هشيمٍ، عن يونس، به. ورواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيحٌ على شرطهما.

وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {الوصيّة للوالدين والأقربين} قال: «كان لا يرث مع الوالدين غيرهما إلّا وصيّةً للأقربين، فأنزل اللّه آية الميراث فبيّن ميراث الوالدين، وأقرّ وصيّة الأقربين في ثلث مال الميّت».

وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، حدّثنا حجّاج بن محمّدٍ، أخبرنا ابن جريجٍ، وعثمان بن عطاءٍ، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {الوصيّة للوالدين والأقربين} نسختها هذه الآية: {للرّجال نصيبٌ ممّا ترك الوالدان والأقربون وللنّساء نصيبٌ ممّا ترك الوالدان والأقربون ممّا قلّ منه أو كثر نصيبًا مفروضًا}[النّساء: 7].

ثمّ قال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن ابن عمر وأبي موسى، وسعيد بن المسيّب، والحسن، ومجاهدٍ، وعطاءٍ، وسعيد بن جبير، ومحمّد بن سيرين، وعكرمة، وزيد بن أسلم، والرّبيع بن أنسٍ، وقتادة، والسّدّيّ، ومقاتل بن حيّان، وطاوسٍ، وإبراهيم النّخعي، وشريح، والضّحّاك، والزّهريّ: «أنّ هذه الآية منسوخةٌ نسختها آية الميراث».

والعجب من أبي عبد اللّه محمّد بن عمر الرّازيّ -رحمه اللّه -كيف حكى في تفسيره الكبير عن أبي مسلمٍ الأصفهانيّ أنّ هذه الآية غير منسوخةٍ، وإنّما هي مفسرة بآية المواريث، ومعناه: كتب عليكم ما أوصى اللّه به من توريث الوالدين والأقربين. من قوله: {يوصيكم اللّه في أولادكم}[النّساء: 11] قال: وهو قول أكثر المفسّرين والمعتبرين من الفقهاء. قال: «ومنهم من قال: إنّها منسوخةٌ فيمن يرث، ثابتةٌ فيمن لا يرث»، وهو مذهب ابن عبّاسٍ، والحسن، ومسروقٍ، وطاوسٍ، والضّحّاك، ومسلم بن يسار، والعلاء بن زيادٍ.

قلت: وبه قال أيضًا سعيد بن جبير، والرّبيع بن أنسٍ، وقتادة، ومقاتل بن حيّان. ولكن على قول هؤلاء لا يسمّى هذا نسخًا في اصطلاحنا المتأخّر؛ لأنّ آية الميراث إنّما رفعت حكم بعض أفراد ما دلّ عليه عموم آية الوصاية، لأنّ {الأقربين} أعمّ ممّن يرث ومن لا يرث، فرفع حكم من يرث بما عيّن له، وبقي الآخر على ما دلّت عليه الآية الأولى. وهذا إنّما يتأتّى على قول بعضهم: أنّ الوصاية في ابتداء الإسلام إنّما كانت ندبًا حتّى نسخت. فأمّا من يقول: إنّها كانت واجبة وهو الظاهر من سياق الآية -فيتعيّن أن تكون منسوخةً بآية الميراث، كما قاله أكثر المفسّرين والمعتبرين من الفقهاء؛ فإنّ وجوب الوصيّة للوالدين والأقربين الوارثين منسوخٌ بالإجماع. بل منهيٌّ عنه للحديث المتقدّم: «إنّ اللّه قد أعطى كلّ ذي حقٍّ حقّه فلا وصيّة لوارثٍ». فآية الميراث حكمٌ مستقلٌّ، ووجوبٌ من عند اللّه لأهل الفروض وللعصبات، رفع بها حكم هذه بالكلّيّة. بقي الأقارب الّذين لا ميراث لهم، يستحبّ له أن يوصى لهم من الثّلث، استئناسًا بآية الوصيّة وشمولها، ولما ثبت في الصّحيحين، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ما حقّ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يوصي فيه، يبيت ليلتين إلّا ووصيّته مكتوبةٌ عنده». قال ابن عمر: «ما مرّت عليّ ليلةً منذ سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول ذلك إلّا وعندي وصيّتي».

والآيات والأحاديث بالأمر ببرّ الأقارب والإحسان إليهم، كثيرةٌ جدًّا.

وقال عبد بن حميدٍ في مسنده: أخبرنا عبيد اللّه، عن مبارك بن حسّان، عن نافعٍ قال: قال عبد اللّه: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: [يقول اللّه تعالى: يا ابن آدم، ثنتان لم يكن لك واحدةٌ منهما: جعلت لك نصيبًا في مالك حين أخذت بكظمك؛ لأطهّرك به وأزكّيك، وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك].

وقوله: {إن ترك خيرًا} أي: مالًا. قاله ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، وعطاءٌ، وسعيد بن جبير، وأبو العالية، وعطية العوفي، والضّحّاك، والسّدّيّ، والرّبيع بن أنسٍ، ومقاتل بن حيّان، وقتادة، وغيرهم.

ثمّ منهم من قال: الوصيّة مشروعةٌ سواءٌ قلّ المال أو كثر كالوراثة ومنهم من قال: إنّما يوصي إذا ترك مالًا جزيلًا ثمّ اختلفوا في مقداره، فقال ابن أبي حاتمٍ:حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن يزيد المقريّ، أخبرنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال:«قيل لعليٍّ، رضي اللّه عنه: إنّ رجلًا من قريشٍ قد مات، وترك ثلاثمائة دينارٍ أو أربعمائةٍ ولم يوص». قال: «ليس بشيءٍ، إنّما قال اللّه:{إن ترك خيرًا}».

قال: وحدّثنا هارون بن إسحاق الهمدانيّ، حدّثنا عبدة -يعني ابن سليمان -عن هشام بن عروة، عن أبيه: «أنّ عليًّا دخل على رجلٍ من قومه يعوده، فقال له: «أوصي؟» فقال له عليٌّ: «إنّما قال اللّه تعالى:{إن ترك خيرًا الوصيّة}إنّما تركت شيئًا يسيرًا، فاتركه لولدك».

وقال الحكم بن أبان: حدّثني عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: {إن ترك خيرًا} قال ابن عبّاسٍ: «من لم يترك ستّين دينارًا لم يترك خيرًا»، قال الحكم: قال طاوسٌ: لم يترك خيرًا من لم يترك ثمانين دينارًا. وقال قتادة: «كان يقال: ألفًا فما فوقها».

وقوله: {بالمعروف} أي: بالرّفق والإحسان، كما قال ابن أبي حاتم: حدّثنا الحسن بن أحمد، حدّثنا إبراهيم بن عبد اللّه بن يسارٍ،حدّثني سرور بن المغيرة عن عبّاد بن منصورٍ، عن الحسن، قوله: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت} فقال: «نعم، الوصيّة حقٌّ، على كلّ مسلمٍ أن يوصي إذا حضره الموت بالمعروف غير المنكر».

والمراد بالمعروف: أن يوصي لأقربيه وصيّةً لا تجحف بورثته، من غير إسرافٍ ولا تقتيرٍ، كما ثبت في الصّحيحين أنّ سعدًا قال: «يا رسول اللّه، إنّ لي مالًا ولا يرثني إلّا ابنةٌ لي، أفأوصي بثلثي مالي؟ قال: «لا» قال: فبالشّطر؟ قال: «لا» قال: فالثّلث ؟ قال: «الثّلث، والثّلث كثيرٌ؛ إنّك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكفّفون النّاس».

وفي صحيح البخاريّ: أنّ ابن عبّاسٍ قال: «لو أنّ النّاس غضوا من الثّلث إلى الرّبع فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «الثّلث، والثّلث كثيرٌ».

وروى الإمام أحمد، عن أبي سعيدٍ مولى بني هاشمٍ، عن ذيّال بن عبيد بن حنظلة، سمعت حنظلة بن حذيم بن حنيفة: أنّ جدّه حنيفة أوصى ليتيمٍ في حجره بمائةٍ من الإبل، فشقّ ذلك على بنيه، فارتفعوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فقال حنيفة: إنّي أوصيت ليتيمٍ لي بمائةٍ من الإبل، كنّا نسمّيها المطيّبة. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا لا لا. الصّدقة: خمسٌ، وإلّا فعشر، وإلّا فخمس عشرة، وإلّا فعشرون، وإلّا فخمسٌ وعشرون، وإلّا فثلاثون، وإلّا فخمسٌ وثلاثون، فإن أكثرت فأربعون».

وذكر الحديث بطوله). [تفسير ابن كثير: 1/ 492-495]


تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فمن بدّله بعدما سمعه فإنّما إثمه على الّذين يبدّلونه إنّ اللّه سميع عليم }

يعني: فمن بدل أمر الوصية بعد سماعه إيّاها، فإنما إثمه على مبدله، ليس على الموصى إذا احتاط ، أو اجتهد فيمن يوصى إليه إثم، ولا على الموصى له إثم ، وإنما الإثم على الموصي إن بدل.

وقوله عزّ وجلّ: {إنّ اللّه سميع علم}

أي: قد سمع ما قاله الموصي، وعلم ما يفعله الموصى إليه؛ لأنه عزّ وجلّ عالم الغيب والشهادة). [معاني القرآن: 1/251]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {فمن بدّله بعد ما سمعه فإنّما إثمه على الّذين يبدّلونه إنّ اللّه سميعٌ عليمٌ (181) فمن خاف من موصٍ جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ (182) يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون (183) أيّاماً معدوداتٍ فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعدّةٌ من أيّامٍ أخر وعلى الّذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكينٍ فمن تطوّع خيراً فهو خيرٌ له وأن تصوموا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون (184)}
الضمير في بدّله عائد على الإيصاء وأمر الميت وكذلك في سمعه، ويحتمل أن يعود الذي في سمعه على أمر الله تعالى في هذه الآية، والقول الأول أسبق للناظر، لكن في ضمنه أن يكون المبدل عالما بالنهي عامدا لخلافه، والضمير في إثمه عائد على التبديل، وسميعٌ عليمٌ صفتان لا يخفى معهما شيء من جنف الموصين وتبديل المتعدين). [المحرر الوجيز: 1/ 432-433]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {فمن بدّله بعدما سمعه فإنّما إثمه على الّذين يبدّلونه} يقول تعالى: فمن بدّل الوصيّة وحرّفها، فغيّر حكمها وزاد فيها أو نقص -ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الأولى - {فإنّما إثمه على الّذين يبدّلونه} قال ابن عبّاسٍ وغير واحدٍ: «وقد وقع أجر الميّت على اللّه، وتعلّق الإثم بالّذين بدّلوا ذلك»، {إنّ اللّه سميعٌ عليمٌ} أي: قد اطّلع على ما أوصى به الميّت، وهو عليمٌ بذلك، وبما بدّله الموصى إليهم). [تفسير ابن كثير: 1/ 495]

تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه إنّ اللّه غفور رحيم}

أي: ميلاً، أو إثماً، أو قصداًلإثم،{فأصلح بينهم}، أي: عمل بالإصلاح بين الموصى لهم ، فلا إثم عليه، أي: لأنه إنما يقصد إلى إصلاح بعد أن يكون الموصي قد جعل الوصية بغير المعروف مخالفاً لأمر اللّه ، فإذا ردها الموصى إليه إلى المعروف، فقد ردها إلى ما أمر اللّه به). [معاني القرآن: 1/251]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وسميعٌ عليمٌ صفتان لا يخفى معهما شيء من جنف الموصين وتبديل المتعدين، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «من موصّ» بفتح الواو وتشديد الصاد، وقرأ الباقون بسكون الواو، والجنف الميل، وقال الأعشى:
تجانف عن حجر اليمامة ناقتي ....... وما قصدت من أهلها لسوائكا
وقال عامر الرامي الحضرمي المحاربي:
هم المولى وقد جنفوا علينا ....... وإنّا من عدواتهم لزور
ومعنى الآية على ما قال مجاهد: «من خشي أن يحيف الموصي ويقطع ميراث طائفة ويتعمد الإذاية أو يأتيها دون تعمد وذلك هو الجنف دون إثم وإذا تعمد فهو الجنف في إثم»، فالمعنى: من وعظه في ذلك ورده عنه فصلح بذلك ما بينه وبين ورثته وما بين الورثة في ذاتهم فلا إثم عليه، إنّ اللّه غفورٌ عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الإذاية رحيمٌ به.
وقال ابن عباس رضي الله عنه وقتادة والربيع: «معنى الآية: من خاف أي علم ورأى وأتى علمه عليه بعد موت الموصي أن الموصي خلف وجنف وتعمد إذاية بعض ورثته فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق فلا إثم عليه، أي لا يلحقه إثم المبدل المذكور قبل وإن كان في فعله تبديل ما ولا بد، لكنه تبديل لمصلحة، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى». وقرأ عبد الله بن عمر رضي الله عنه: «فلا ثم عليه» بحذف الألف). [المحرر الوجيز: 1/ 433-434]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {فمن خاف من موصٍ جنفًا أو إثمًا} قال ابن عبّاسٍ، وأبو العالية، ومجاهدٌ، والضّحّاك، والرّبيع بن أنسٍ، والسّدّيّ: «الجنف: الخطأ». وهذا يشمل أنواع الخطأ كلّها، بأن زاد وارثًا بواسطةٍ أو وسيلةٍ، كما إذا أوصى ببيعه الشيء الفلانيّ محاباةً، أو أوصى لابن ابنته ليزيدها، أو نحو ذلك من الوسائل، إمّا مخطئًا غير عامدٍ، بل بطبعه وقوّة شفقته من غير تبصّرٍ، أو متعمّدًا آثمًا في ذلك، فللوصيّ -والحالة هذه -أن يصلح القضيّة ويعدل في الوصيّة على الوجه الشّرعيّ. ويعدل عن الذي أوصى به الميّت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به جمعًا بين مقصود الموصي والطّريق الشّرعيّ. وهذا الإصلاح والتّوفيق ليس من التّبديل في شيءٍ. ولهذا عطف هذا -فبيّنه -على النّهي لذلك، ليعلم أنّ هذا ليس من ذلك بسبيلٍ، واللّه أعلم.

وقد قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا العبّاس بن الوليد بن مزيد، قراءةً، أخبرني أبي، عن الأوزاعيّ، قال الزّهريّ: حدّثني عروة، عن عائشة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: أنّه قال: «يردّ من صدقة الحائف في حياته ما يردّ من وصيّة المجنف عند موته».

وهكذا رواه أبو بكر بن مردويه، من حديث العبّاس بن الوليد، به.

قال ابن أبي حاتمٍ: «وقد أخطأ فيه الوليد بن مزيدٍ». وهذا الكلام إنّما هو عن عروة فقط. وقد رواه الوليد بن مسلمٍ، عن الأوزاعيّ، فلم يجاوز به عروة.

وقال ابن مردويه أيضًا: حدّثنا محمّد بن أحمد بن إبراهيم، حدّثنا إبراهيم بن يوسف، حدّثنا هشام بن عمّارٍ، حدّثنا عمر بن المغيرة، عن داود بن أبي هندٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «الحيف في الوصيّة من الكبائر».

وهذا في رفعه أيضًا نظرٌ. وأحسن ما ورد في هذا الباب ما قال عبد الرّزّاق:حدّثنا معمر، عن أشعث بن عبد اللّه، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ الرّجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة، فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشرّ عمله، فيدخل النّار، وإنّ الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة، فيعدل في وصيّته، فيختم له بخير عمله، فيدخل الجنة». قال أبو هريرة: «اقرؤوا إن شئتم: {تلك حدود اللّه فلا تعتدوها}[البقرة: 229] ). [تفسير ابن كثير: 1/ 495-496]





* للاستزادة ينظر: هنا