الدروس
course cover
تفسير سورة البقرة [من الآية (183) إلى الآية (185) ]
17 Sep 2014
17 Sep 2014

5633

0

0

course cover
تفسير سورة البقرة

القسم الثالث عشر

تفسير سورة البقرة [من الآية (183) إلى الآية (185) ]
17 Sep 2014
17 Sep 2014

17 Sep 2014

5633

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}




تفسير قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون}

المعنى: فرض عليكم الصيام فرضا كالذي فرض على الذين من قبلكم.

وقيل: إنه قد كان فرض على النصارى صوم رمضان فنقلوه عن وقته، وزادوا فيه، ولا أدري كيف وجه هذا الحديث، ولا ثقة ناقليه، ولكن الجملة أن اللّه عزّ وجلّ قد أعلمنا أنه فرض على من كان قبلنا الصيام، وأنه فرض علينا كما فرضه على الذين من قبلنا.

وقوله عزّ وجلّ: {لعلّكم تتّقون}

المعنى: أنّ الصّيام وصلة إلى التقي، لأنه من البر الذي يكف الإنسان عن كثير مما تتطلع إليه النفس من المعاصي، فلذلك قيل :{لعلّكم تتّقون}

و " لعل " ههنا على ترجي العباد، والله عزّ وجلّ من وراء العلم أتتقون أم لا، ولكن المعنى : أنه ينبغي لكم بالصوم أن يقوى رجاؤكم في التقوى). [معاني القرآن: 1/252]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وكتب: معناه فرض.
والصيام في اللغة الإمساك وترك التنقل من حال إلى حال، ومنه قول النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة ....... تحت العجاج وخيل تعلك اللّجما
أي خيل ثابتة ممسكة، ومنه قول الله تعالى: {إنّي نذرت للرّحمن صوماً}[مريم: 26] أي إمساكا عن الكلام، ومنه قول امرئ القيس: كأنّ الثّريّا علّقت في مصامها أي في موضع ثبوتها وامتساكها، ومنه قوله:
فدع ذا وسلّ الهمّ عنك بجسرة ....... ذمول إذا صام النّهار وهجّرا
أي وقفت الشمس عن الانتقال وثبتت، والصيام في الشرع إمساك عن الطعام والشراب مقترنة به قرائن من مراعاة أوقات وغير ذلك، فهو من مجمل القرآن في قول الحذاق، والكاف من قوله كما في موضع نصب على النعت، تقديره كتبا كما، أو صوما كما، أو على الحال كأن الكلام: كتب عليكم الصيام مشبها ما كتب على الذين من قبلكم.
وقال بعض النحاة: الكاف في موضع رفع على النعت للصيام إذ ليس تعريفه بمحض لمكان الإجمال الذي فيه مما فسرته الشريعة فلذلك جاز نعته ب كما إذ لا تنعت بها إلا النكرات فهو بمنزلة كتب عليكم صيام، وقد ضعف هذا القول.
واختلف المتأولون في موضع التشبيه، فقال الشعبي وغيره: «المعنى كتب عليكم رمضان كما كتب على النصارى»، قال: «فإنه كتب عليهم رمضان فبدلوه لأنهم احتاطوا له بزيادة يوم في أوله ويوم في آخره قرنا بعد قرن حتى بلغوه خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى الفصل الشمسي».
قال النقاش: «وفي ذلك حديث عن دغفل بن حنظلة والحسن البصري والسدي»، وقيل: بل مرض ملك من ملوكهم فنذر إن برىء أن يزيد فيه عشرة أيام، ثم آخر سبعة، ثم آخر ثلاثة، ورأوا أن الزيادة فيه حسنة بإزاء الخطأ في نقله.
وقال السدي والربيع: «التشبيه هو أن من الإفطار إلى مثله لا يأكل ولا يشرب ولا يطأ، فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام، وكذلك كان في النصارى أولا، وكان في أول الإسلام، ثم نسخه الله بسبب عمر وقيس بن صرمة بما يأتي من الآيات في ذلك».
وقال عطاء: «التشبيه كتب عليكم الصيام ثلاثة أيام من كل شهر».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وفي بعض الطرق: ويوم عاشوراء كما كتب على الذين من قبلكم ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء، ثم نسخ هذا في هذه الأمة بشهر رمضان».
وقالت فرقة: التشبيه كتب عليكم كصيام بالإطلاق، أي قد تقدم في شرع غيركم، ف {الّذين} عام في النصارى وغيرهم، {ولعلّكم} ترجّ في حقهم، و{تتّقون} قال السدي: {معناه تتقون الأكل والشرب والوطء بعد النوم على قول من تأول ذلك}، وقيل: تتقون على العموم، لأن الصيام كما قال عليه السلام: «جنة» ووجاء وسبب تقوى، لأنه يميت الشهوات). [المحرر الوجيز: 1/ 434-436]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون (183) أيّامًا معدوداتٍ فمن كان منكم مريضًا أو على سفرٍ فعدّةٌ من أيّامٍ أخر وعلى الّذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكينٍ فمن تطوّع خيرًا فهو خيرٌ له وأن تصوموا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون (184)}
يقول تعالى مخاطبًا للمؤمنين من هذه الأمّة وآمرًا لهم بالصّيام، وهو: الإمساك عن الطّعام والشّراب والوقاع بنيّةٍ خالصةٍ للّه عزّ وجلّ، لما فيه من زكاة النّفس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرّديئة والأخلاق الرّذيلة. وذكر أنّه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم، فلهم فيه أسوةٌ، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل ممّا فعله أولئك، كما قال تعالى: {لكلٍّ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجًا ولو شاء اللّه لجعلكم أمّةً واحدةً ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات}[المائدة: 48]؛ ولهذا قال هاهنا: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون} لأنّ الصّوم فيه تزكيةٌ للبدن وتضييقٌ لمسالك الشّيطان؛ ولهذا ثبت في الصّحيحين: «يا معشر الشّباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوّج، ومن لم يستطع فعليه بالصّوم فإنّه له وجاءٌ» ثمّ بيّن مقدار الصّوم، وأنّه ليس في كلّ يومٍ، لئلّا يشقّ على النّفوس فتضعف عن حمله وأدائه، بل في أيّامٍ معدوداتٍ. وقد كان هذا في ابتداء الإسلام يصومون من كلّ شهرٍ ثلاثة أيّامٍ، ثمّ نسخ ذلك بصوم شهر رمضان، كما سيأتي بيانه. وقد روي أنّ الصّيام كان أوّلًا كما كان عليه الأمم قبلنا، من كلّ شهرٍ ثلاثة أيّامٍ -عن معاذٍ، وابن مسعودٍ، وابن عبّاسٍ، وعطاءٍ، وقتادة، والضّحّاك بن مزاحمٍ. وزاد: «لم يزل هذا مشروعًا من زمان نوحٍ إلى أن نسخ اللّه ذلك بصيام شهر رمضان».
وقال عبّاد بن منصورٍ، عن الحسن البصريّ: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون * أيّامًا معدوداتٍ} فقال: «نعم، واللّه لقد كتب الصّيام على كلّ أمّةٍ قد خلت كما كتب علينا شهرًا كاملًا»
و{أيّامًا معدوداتٍ}: عددًا معلومًا». وروي عن السّدّيّ، نحوه.
وروى ابن أبي حاتمٍ من حديث أبي عبد الرّحمن المقريّ، حدّثنا سعيد بن أبي أيّوب، حدّثني عبد اللّه بن الوليد، عن أبي الرّبيع، رجلٍ من أهل المدينة، عن عبد اللّه بن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «صيام رمضان كتبه اللّه على الأمم قبلكم..» في حديثٍ طويلٍ اختصر منه ذلك.
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عمّن حدّثه عن ابن عمر، قال أنزلت: {كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم لعلّكم تتّقون} كتب عليهم إذا صلّى أحدهم العتمة ونام حرّم اللّه عليه الطّعام والشّراب والنّساء إلى مثلها.
قال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن ابن عبّاسٍ، وأبي العالية، وعبد الرّحمن بن أبي ليلى، ومجاهدٍ، وسعيد بن جبير، ومقاتل بن حيّان، والرّبيع بن أنسٍ، وعطاءٍ الخراسانيّ، نحو ذلك.
وقال عطاءٌ الخراسانيّ، عن ابن عبّاسٍ: {كما كتب على الّذين من قبلكم}«يعني بذلك: أهل الكتاب». وروي عن الشّعبيّ والسّدّيّ وعطاء الخراساني، مثله). [تفسير ابن كثير: 1/ 497]

تفسير قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أيّاماً معدودات فمن كان منكم مريضاًأو على سفر فعدّة من أيّام أخر وعلى الّذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوّع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون}

نصب (أيّاما) على ضربين:

أجودهما: أن تكون على الظرف كأنه كتب عليكم الصيام في هذه الأيام ، والعامل فيه الصيام ، كان المعنى : كتب عليكم أن تصوموا أياماً معدودات.

وقال بعض النحويين: إنه منصوب مفعول ما لم يسمّ فاعله ، نحو: أعطي زيد المال، وليس هذا بشيء ؛ لأن الأيام ههنا معلقة بالصوم، وزيد والمال مفعولان لأعطى، فلك أن تقيم أيهما شئت مقام الفاعل، وليس في هذا إلا نصب الأيام بالصيام.

وقوله عزّ وجلّ: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدّة من أيّام أخر}أي: فعليه عدة، أو فالذي ينوب عن صومه في وقت الصوم عدة من أيام أخر.

و( أخر) في موضع جر، إلا أنها لا تنصرف ففتح فيها المجرور.

ومعنى {وعلى الذين يطيقونه}أي: يطيقون الصوم فدية طعام مسكين، أي: إن أفطر ، وترك الصوم ، كان فدية تركه طعام مسكين.

وقد قرئ {طعام مساكين}فمعنى: طعام مساكين فدية أيام يفطر فيها ، وهذا بإجماع ، وبنص القرآن منسوخ، نسخته الآية التي تلي هذه.

وقوله عزّ وجلّ:{وأن تصوموا خير لكم}

رفع خير خبر الابتداء، المعنى : صومكم خير لكم، هذا كان خيراً لهم مع جواز الفدية، فأما ما بعد النسخ ، فليس بجائز أن يقال: الصوم خير من الفدية والإفطار في هذا الوقت؛ لأنه ما لا يجوز ألبتّة فلا يقع تفضيل عليه فيوهم فيه أنه جائز، وقد قيل: إن الصوم الذي كان فرض في أول الإسلام: صوم ثلاثة أيام في كل شهر ، ويوم عاشوراء، ولكن شهر رمضان نسخ الفرض في ذلك الصوم كله). [معاني القرآن: 1/253]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وأيّاماً مفعول ثان ب كتب، قاله الفراء، وقيل: هي نصب على الظرف، وقيل: نصبها ب الصّيام، وهذا لا يحسن إلا على أن يعمل الصيام في الكاف من كما على قول من قدر: صوما كما، وإذا لم يعمل في الكاف قبح الفصل بين المصدر وبين ما عمل فيه بما عمل فيه غيره، وذلك إذا كان العامل في الكاف كتب، وجوز بعضهم أن يكون أيّاماً ظرفا يعمل فيه الصّيام، ومعدوداتٍ، قيل: رمضان، وقيل: الثلاثة الأيام.
وقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ}، التقدير: فأفطر فعدّةٌ من أيّامٍ أخر، وهذا يسمونه فحوى الخطاب.
واختلف العلماء في حد المرض الذي يقع به الفطر: فقال قوم: متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المريض صح الفطر قياسا على المسافر أنه يفطر لعلة السفر وإن لم تدعه إلى الفطر ضرورة، وقاله ابن سيرين.
وقال جمهور من العلماء: إذا كان به مرض يؤذيه ويؤلمه أو يخاف تماديه أو يخاف من الصوم تزيده صح له الفطر، وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك رحمه الله، وبه يناظرون، وأما لفظ مالك فهو: «المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به».
وقال الحسن: «إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائما أفطر».
وقالت فرقة: لا يفطر بالمرض إلا من دعته ضرورة المرض نفسه إلى الفطر، ومتى احتمل الضرورة معه لم يفطر، وهذا قول الشافعي رحمه الله.
واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر، فقال قوم والشافعي ومالك في بعض ما روي عنه: «الصوم أفضل لمن قوي»، وجل مذهب مالك التخيير.
وقال ابن عباس وابن عمر وغيرهما: «الفطر أفضل».
وقال مجاهد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما: «أيسرهما أفضلهما»، وكره ابن حنبل وغيره الصوم في السفر.
وقال ابن عمر: «من صام في السفر قضى في الحضر»، وهو مذهب عمر رضي الله عنه، ومذهب مالك في استحبابه الصوم لمن قدر عليه. وتقصير الصلاة حسن، لأن الذمة تبرأ في رخصة الصلاة وهي مشغولة في أمر الصيام، والصواب المبادرة بالأعمال. وقال ابن عباس رضي الله عنه: «الفطر في السفر عزمة»، وذهب أنس بن مالك إلى الصوم، وقال: «إنما نزلت الرخصة ونحن جياع نروح إلى جوع، ونغدو إلى جوع»، والسفر سفر الطاعة كالحج والجهاد بإجماع، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري. وأما سفر التجارة والمباحات فمختلف فيه بالمنع والجواز والقول بالجواز أرجح وأما سفر المعاصي فمختلف فيه بالجواز والمنع والقول بالمنع أرجح، ومسافة سفر الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة، واختلف في قدر ذلك، فقال مالك: «يوم وليلة ثم رجع فقال: ثمانية وأربعون ميلا»، وروي عنه: يومان، وروي عنه في العتبية: خمسة وأربعون ميلا، وفي المبسوط: أربعون ميلا، وفي المذهب: ستة وثلاثون ميلا، وفيه: ثلاثون.
وقال ابن عمر وابن عباس والثوري: الفطر في سفر ثلاثة أيام، وفي غير المذهب: يقصر في ثلاثة أميال فصاعدا.
وقوله تعالى: {فعدّةٌ} مرفوع على خبر الابتداء تقديره فالحكم أو فالواجب عدة، ويصح أن يرتفع على ابتداء والخبر بعده والتقدير فعدة أمثل له، ويصح فعليه عدة، واختلف في وجوب تتابعها على قولين، وأخر لا ينصرف عند سيبويه لأنه معدول عن الألف واللام لأن هذا البناء إنما يأتي بالألف واللام كما تقول الفضل والكبر فاجتمع فيه العدل والصفة، وجاء في الآية أخر ولم يجئ أخرى لئلا تشكل بأنها صفة للعدة، والباب أن جمع ما لا يعقل يجري في مثل هذا مجرى الواحدة المؤنثة ومنه قوله تعالى:{ يا جبال أوّبي معه} [سبأ: 10]، إلى غير ذلك.
وقرأ جمهور الناس «يطيقونه» بكسر الطاء وسكون الياء والأصل «يطوقونه» نقلت حركة الواو إلى الطاء وقلبت ياء لانكسار ما قبلها، وقرأ حميد «يطوقونه» وذلك على الأصل، والقياس الإعلال.
وقرأ ابن عباس «يطوقونه» بمعنى يكلفونه.
وقرأت عائشة وطاوس وعمرو بن دينار «يطوقونه» بفتح الياء وشد الطاء مفتوحة.
وقرأت فرقة «يطيّقونه» بضم الياء وفتح الطاء وشد الياء المفتوحة.
وقرأ ابن عباس «يطيّقونه» بفتح الياء وشد الطاء وشد الياء المفتوحة بمعنى يتكلفونه، وحكاها النقاش عن عكرمة، وتشديد الياء في هذه اللفظة ضعيف.
وقرأ نافع وابن عامر من طريق ابن ذكوان «فدية طعام مساكين» بإضافة الفدية.
وقرأ هاشم عن ابن عامر «فدية طعام مساكين» بتنوين الفدية.
وقرأ الباقون «فدية» بالتنوين «طعام مسكين» بالإفراد، وهي قراءة حسنة لأنها بينت الحكم في اليوم، وجمع المساكين لا يدرى كم منهم في اليوم إلا من غير الآية.
قال أبو علي: «فإن قلت كيف أفردوا المساكين والمعنى على الكثرة لأن الذين يطيقونه جمع وكل واحد منهم يلزمه مسكين فكان الوجه أن يجمعوا كما جمع المطيقون؟، فالجواب أن الإفراد حسن لأنه يفهم بالمعنى أن لكل واحد مسكينا، ونظير هذا قوله تعالى: {والّذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً}[النور: 4]فليست الثمانون متفرقة في جميعهم بل لكل واحد ثمانون».
واختلف المتأولون في المراد بالآية فقال معاذ بن جبل وعلقمة والنخعي والحسن البصري وابن عمر والشعبي وسلمة بن الأكوع وابن شهاب: «كان فرض الصيام هكذا على الناس من أراد صام ومن أراد أطعم مسكينا وأفطر، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشّهر فليصمه} [البقرة: 185].
وقالت فرقة: وعلى الّذين يطيقونه أي على الشيوخ والعجّز، الذين يطيقون، لكن بتكلف شديد فأباح الله لهم الفدية والفطر، وهي محكمة عند قائلي هذا القول. وعلى هذا التأويل تجيء قراءة يطوقونه و «يطوقونه».
وقال ابن عباس: «نزلت هذه الرخصة للشيوخ والعجّز خاصة إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم ثم نسخت بقوله تعالى:{فمن شهد منكم الشّهر فليصمه} [البقرة: 185]، فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم».
وقال السدي: «وعلى الّذين يطيقونه أي على الذين كانوا يطيقونه وهم بحالة الشباب ثم استحالوا بالشّيخ فلا يستطيعون الصوم»، وهي عنده محكمة، ويلزم الشيوخ عنده الفدية إذا أفطروا، ونحوه عن ابن عباس.
وقال مالك: «لا أرى الفدية على الشيخ الضعيف واجبة، وتستحب لمن قدر عليها»، والآية عنده إنما هي فيمن يدركه رمضان وعليه صوم من المتقدم فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم فتركه فعليه الفدية.
وقال الشافعي وأبو حنيفة:«على الشيخ العاجز الإطعام».
وحكى الطبري عن عكرمة أنه كان يقرؤها «وعلى الذين يطّيّقونه» فأفطر، ومذهب مالك رحمه الله وجماعة من العلماء أن قدر الدية مد لكل مسكين.
وقال قوم: قوت يوم، وقال قوم: عشاء وسحور.
وقال سفيان الثوري: «نصف صاع من قمح أو صاع من تمر أو زبيب»، والضمير في يطيقونه عائد على الصّيام، وقيل على الطعام وهو قول ضعيف.
واختلف في الحامل فقال ابن عمر وابن عباس: «تفدي وتفطر ولا قضاء عليها».
وقال الحسن وعطاء والضحاك والزهري وربيعة ومالك: «تقضي الحامل إذا أفطرت ولا فدية عليها».
وقال الشافعي وأحمد بن حنبل ومجاهد: «تقضي وتفدي إذا أفطرت»، وكذلك قال مالك في المرضع: «إنها إذا أفطرت تقضي وتفدي»، هذا هو المشهور عنه، وقال في مختصر ابن عبد الحكم: «لا إطعام على المرضع».
وقوله تعالى: {فمن تطوّع خيراً فهو خيرٌ له} الآية، قال ابن عباس وطاوس وعطاء والسدي: «المراد من أطعم مسكينين فصاعدا».
وقال ابن شهاب: «من زاد الإطعام على الصوم» وقال مجاهد: «من زاد في الإطعام على المد»، وخيرٌ الثاني صفة تفضيل، وكذلك الثالث، وخيرٌ الأول قد نزل منزلة مالا أو نفعا، وقرأ أبيّ بن كعب «والصوم خير لكم» بدل وأن تصوموا.
وقوله تعالى:{إن كنتم تعلمون} يقتضي الحض على الصوم أي فاعلموا ذلك وصوموا). [المحرر الوجيز: 1/ 436-441]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ بيّن حكم الصّيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فقال: {فمن كان منكم مريضًا أو على سفرٍ فعدّةٌ من أيّامٍ أخر} أي: المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسّفر؛ لما في ذلك من المشقّة عليهما، بل يفطران ويقضيان بعدّة ذلك من أيّامٍ أخر. وأمّا الصّحيح المقيم الذي يطيق الصّيام، فقد كان مخيّرًا بين الصّيام وبين الإطعام، إن شاء صام، وإن شاء أفطر، وأطعم عن كلّ يومٍ مسكينًا، فإن أطعم أكثر من مسكينٍ عن كلّ يومٍ، فهو خيرٌ، وإن صام فهو أفضل من الإطعام، قاله ابن مسعودٍ، وابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، وطاوسٌ، ومقاتل بن حيّان، وغيرهم من السّلف؛ ولهذا قال تعالى: {وعلى الّذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكينٍ فمن تطوّع خيرًا فهو خيرٌ له وأن تصوموا خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون}

وقال الإمام أحمد: حدّثنا أبو النّضر، حدّثنا المسعوديّ، حدّثنا عمرو بن مرّة، عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبلٍ، رضي اللّه عنه، قال: أحيلت الصّلاة ثلاثة أحوالٍ، وأحيل الصّيام ثلاثة أحوالٍ؛ فأمّا أحوال الصّلاة فإنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قدم المدينة، وهو يصلّي سبعة عشر شهرًا إلى بيت المقدس، ثمّ إنّ اللّه عزّ وجلّ أنزل عليه: {قد نرى تقلّب وجهك في السّماء فلنولّينّك قبلةً ترضاها} [البقرة: 144] فوجهه الله إلى مكّة. هذا حولٌ.

قال: وكانوا يجتمعون للصّلاة ويؤذن بها بعضهم بعضًا حتّى نقسوا أو كادوا ينقسون. ثمّ إنّ رجلًا من الأنصار، يقال له: عبد اللّه بن زيدٍ، أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: يا رسول اللّه، إنّي رأيت فيما يرى النّائم -ولو قلت: إنّي لم أكن نائمًا لصدقت -أنّي بينا أنا بين النّائم واليقظان إذ رأيت شخصًا عليه ثوبان أخضران، فاستقبل القبلة، فقال: اللّه أكبر اللّه أكبر، أشهد أن لا إله إلّا اللّه -مثنى حتّى فرغ من الأذان، ثمّ أمهل ساعةً، ثمّ قال مثل الذي قال، غير أنّه يزيد في ذلك: قد قامت الصّلاة -مرّتين -قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "علّمها بلالًا فليؤذن بها". فكان بلالٌ أوّل من أذّن بها. قال: وجاء عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، فقال: يا رسول اللّه، [إنّه] قد طاف بي مثل الذي طاف به، غير أنّه سبقني، فهذان حالان.

قال: وكانوا يأتون الصّلاة -قد سبقهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ببعضها، فكان الرّجل يشير إلى الرّجل إذًا كم صلّى، فيقول: واحدةٌ أو اثنتين، فيصلّيهما، ثمّ يدخل مع القوم في صلاتهم. قال: فجاء معاذٌ فقال: لا أجده على حالٍ أبدًا إلّا كنت عليها، ثمّ قضيت ما سبقني. قال: فجاء وقد سبقه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ببعضها، قال: فثبت معه، فلمّا قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قام فقضى، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّه قد سنّ لكم معاذ، فهكذا فاصنعوا". فهذه ثلاثة أحوالٍ.

وأمّا أحوال الصّيام فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قدم المدينة، فجعل يصوم من كلّ شهرٍ ثلاثة أيّامٍ، وصام عاشوراء، ثمّ إنّ اللّه فرض عليه الصّيام، وأنزل اللّه تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم}.

إلى قوله: {وعلى الّذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكينٍ} فكان من شاء صام، ومن شاء أطعم مسكينًا، فأجزأ ذلك عنه. ثمّ إنّ اللّه عزّ وجلّ أنزل الآية الأخرى: {شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن} إلى قوله: {فمن شهد منكم الشّهر فليصمه} فأثبت الله صيامه على المقيم الصّحيح ورخّص فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصّيام، فهذان حالان.

قال: وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النّساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا، ثمّ إنّ رجلًا من الأنصار يقال له: صرمة، كان يعمل صائمًا حتّى أمسى، فجاء إلى أهله فصلّى العشاء، ثمّ نام فلم يأكل ولم يشرب، حتّى أصبح فأصبح صائمًا، فرآه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقد جهد جهدًا شديدًا، فقال: ما لي أراك قد جهدت جهدًا شديدًا؟ قال: يا رسول اللّه، إنّي عملت أمس فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت فأصبحت حين أصبحت صائمًا. قال: وكان عمر قد أصاب من النّساء بعد ما نام، فأتى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فذكر ذلك له، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {أحلّ لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم} إلى قوله: {ثمّ أتمّوا الصّيام إلى اللّيل}

وأخرجه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، من حديث المسعوديّ، به.

وقد أخرج البخاريّ ومسلمٌ من حديث الزّهريّ، عن عروة، عن عائشة أنّها قالت: كان عاشوراء يصام، فلمّا نزل فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر. وروى البخاريّ عن ابن عمر وابن مسعودٍ، مثله.

وقوله: {وعلى الّذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكينٍ} كما قال معاذٌ: كان في ابتداء الأمر: من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم عن كلّ يومٍ مسكينًا. وهكذا روى البخاريّ عن سلمة بن الأكوع أنّه قال: لمّا نزلت: {وعلى الّذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكينٍ} كان من أراد أن يفطر يفتدي، حتّى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.

وروي أيضًا من حديث عبيد اللّه عن نافعٍ، عن ابن عمر، قال: هي منسوخةٌ.

وقال السّدّيّ، عن مرّة، عن عبد اللّه، قال: لمّا نزلت هذه الآية: {وعلى الّذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكينٍ} قال: يقول: {وعلى الّذين يطيقونه} أي: يتجشّمونه، قال عبد اللّه: فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينًا {فمن تطوّع} قال: يقول: أطعم مسكينًا آخر {فهو خيرٌ له وأن تصوموا خيرٌ لكم} فكانوا كذلك حتّى نسختها: {فمن شهد منكم الشّهر فليصمه}

وقال البخاريّ أيضًا: حدّثنا إسحاق، أخبرنا روحٌ، حدّثنا زكريّا بن إسحاق، حدّثنا عمرو بن دينارٍ، عن عطاءٍ سمع ابن عبّاسٍ يقرأ: " وعلى الذين يطوّقونه فديةٌ طعام مسكينٍ ". قال ابن عبّاسٍ: ليست منسوخةً، هو للشّيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعمان مكان كلّ يومٍ مسكينًا.

وهكذا روى غير واحدٍ عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، نحوه.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدّثنا عبد الرّحيم، عن أشعث بن سوّارٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ [قال] نزلت هذه الآية: {وعلى الّذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكينٍ} في الشّيخ الكبير الذي لا يطيق الصّوم ثمّ ضعف، فرخّص له أن يطعم مكان كلّ يومٍ مسكينًا.

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدّثنا محمّد بن أحمد، حدّثنا الحسين بن محمّد بن بهرام المحرميّ، حدّثنا وهب بن بقيّة، حدّثنا خالد بن عبد اللّه، عن ابن أبي ليلى، قال: دخلت على عطاءٍ في رمضان، وهو يأكل، فقال: قال ابن عبّاسٍ: نزلت هذه الآية: {وعلى الّذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكينٍ} فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينًا، ثمّ نزلت هذه الآية فنسخت الأولى، إلّا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كلّ يومٍ مسكينًا وأفطر. فحاصل الأمر أنّ النّسخ ثابتٌ في حقّ الصّحيح المقيم بإيجاب الصّيام عليه، بقوله: {فمن شهد منكم الشّهر فليصمه} وأمّا الشّيخ الفاني [الهرم] الذي لا يستطيع الصّيام فله أن يفطر ولا قضاء عليه، لأنّه ليست له حالٌ يصير إليها يتمكّن فيها من القضاء، ولكن هل يجب عليه [إذا أفطر] أن يطعم عن كلّ يومٍ مسكينًا إذا كان ذا جدة؟ فيه قولان للعلماء، أحدهما: لا يجب عليه إطعامٌ؛ لأنّه ضعيفٌ عنه لسنّه، فلم يجب عليه فديةٌ كالصّبيّ؛ لأنّ اللّه لا يكلّف نفسًا إلّا وسعها، وهو أحد قولي الشّافعيّ. والثّاني -وهو الصّحيح، وعليه أكثر العلماء -: أنّه يجب عليه فديةٌ عن كلّ يومٍ، كما فسّره ابن عبّاسٍ وغيره من السّلف على قراءة من قرأ: {وعلى الّذين يطيقونه} أي: يتجشّمونه، كما قاله ابن مسعودٍ وغيره، وهو اختيار البخاريّ فإنّه قال: وأمّا الشّيخ الكبير إذا لم يطق الصّيام، فقد أطعم أنسٌ -بعد أن كبر عامًا أو عامين -كلّ يومٍ مسكينًا خبزًا ولحمًا، وأفطر.

وهذا الذي علّقه البخاريّ قد أسنده الحافظ أبو يعلى الموصليّ في مسنده، فقال: حدّثنا عبيد اللّه بن معاذ، حدّثنا أبي، حدّثنا عمران، عن أيّوب بن أبي تميمة قال: ضعف أنس [بن مالكٍ] عن الصّوم، فصنع جفنةً من ثريدٍ، فدعا ثلاثين مسكينًا فأطعمهم.

ورواه عبد بن حميدٍ، عن روح بن عبادة، عن عمران -وهو ابن حدير -عن أيوب، به.

ورواه عبدٌ أيضًا، من حديث ستّةٍ من أصحاب أنسٍ، عن أنسٍ -بمعناه.

وممّا يلتحق بهذا المعنى: الحامل والمرضع، إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما، ففيهما خلافٌ كثيرٌ بين العلماء، فمنهم من قال: يفطران ويفديان ويقضيان. وقيل: يفديان فقط، ولا قضاء. وقيل: يجب القضاء بلا فديةٍ. وقيل: يفطران، ولا فدية ولا قضاء. وقد بسطنا هذه المسألة مستقصاةً في كتاب الصّيام الذي أفردناه. وللّه الحمد والمنّة). [تفسير ابن كثير: 1/498-501]

تفسير قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}

قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن هدى للنّاس وبيّنات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشّهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدّة من أيّام أخر يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدّة ولتكبّروا اللّه على ما هداكم ولعلّكم تشكرون}
القراءة بالرفع ، ويجوز النصب، وهي قراءة ليست بالكثيرة ، ورفعه على ثلاثة أضرب:
أحدها: الاستئناف، المعنى: الصيام الذي كتب عليكم، أو الأيام التي كتبت عليكم شهر رمضان،
ويجوز أن يكون: رفعه على البدل من الصيام ، فيكون مرفوعاً على ما لم يسم فاعله، المعنى : كتب عليكم شهر رمضان.
ويجوز أن يكون: رفعه على الابتداء ، ويكون الخبر: {الّذي أنزل فيه القرآن}، والوجهان اللذان شرحناهما :" الذي " فيهما رفع على صفة الشهر، ويكون الأمر بالفرض فيه :{فمن شهد منكم الشّهر فليصمه}
ومعنى من شهد: من كان شاهدا غير مسافر ، فليصم، ومن كان مسافراً، أو مريضاً ، فقد جعل له أن يصوم عدة أيام المرض ، وأيام السفر من أيام أخر، ومن نصب شهر رمضان ، نصبه على وجهين:
أحدهما: أن يكون بدلا من أيام معدودات.
والوجه الثاني: على الأمر، كأنه قال : عليكم شهر رمضان، على الإغراء.
وقوله عزّ وجلّ: {يريد اللّه بكم اليسر}أي: أن ييسّر عليكم بوضعه عنكم الصوم في السفر ، والمرض.
وقوله عزّ وجلّ: {ولتكمّلوا العدّة}، قرئ بالتشديد، ولتكملوا بالتخفيف، من كمّل يكمّل، وأكمل يكمل.
ومعنى اللام والعطف ههنا معنى لطيف هذا الكلام معطوف محمول على المعنى
(المعنى: فعل اللّه ذلك ؛ ليسهل عليكم ، ولتكملوا العدة.
قال الشاعر:
بادت وغيّر آيَهن مع البِلَى ..... إلا رواكد جمرُهنّ هباءُ
ومشجَّجٍ أمّا سَواءُ قَذالِه ..... فبدا وغيَّر سارَه المَعْزَاءُ

فعطف مشجج على معنى بها رواكد ومشجج، لأنه إذ قال بادت إلاّ رواكد ، علم أن المعنى : بقيت رواكد ومشجج). [معاني القرآن: 1/253-254]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن هدًى للنّاس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشّهر فليصمه ومن كان مريضًا أو على سفرٍ فعدّةٌ من أيّامٍ أخر يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدّة ولتكبّروا اللّه على ما هداكم ولعلّكم تشكرون (185) وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون (186) }
الشهر مشتق من الاشتهار لأنه مشتهر لا يتعذر علمه على أحد يريده، ورمضان علقه الاسم من مدة كان فيها في الرمض وشدة الحر، وكان اسمه قبل ذلك ناثرا، كما سمي ربيع من مدة الربيع، وجمادى من مدة الجمود، وكره مجاهد أن يقال رمضان دون أن يقال شهر رمضان كما قال الله تعالى، وقال: «لعل رمضان اسم من أسماء الله عز وجل».
وقرأ جمهور الناس «شهر» بالرفع، ووجهه خبر ابتداء أي ذلكم شهر، وقيل: بدل من الصيام، وقيل: على الابتداء وخبره الّذي أنزل فيه القرآن، وقيل: ابتداء وخبره فمن شهد، والّذي أنزل نعت له، فمن قال إن الصّيام في قوله: {كتب عليكم الصّيام}[البقرة: 183] هي ثلاثة أيام وعاشوراء قال هاهنا بالابتداء، ومن قال: إن الصّيام هنالك هو رمضان وهو الأيام المعدودة قال هنا بخبر الابتداء أو بالبدل من الصيام، وقرأ مجاهد وشهر بن حوشب «شهر» بالنصب، ورواها أبو عمارة عن حفص عن عاصم ورواها هارون عن أبي عمرو، وهي على الإغراء، وقيل: نصب ب تصوموا وقيل:نصب على الظرف، وقرأت فرقة بإدغام الراء في الراء وذلك لا تقتضيه الأصول لاجتماع الساكنين فيه.
واختلف في إنزال القرآن فيه: فقال الضحاك: «أنزل في فرضه وتعظيمه والحض عليه»، وقيل: بدىء بنزوله فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس فيما يؤثر: «أنزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة ليلة أربع وعشرين من رمضان ثم كان جبريل ينزله رسلا رسلا في الأوامر والنواهي والأسباب»، وروى واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان والتوراة لست مضين منه والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين».
وترك ابن كثير همزة القرآن مع التعريف والتنكير حيث وقع، وقد قيل: إن اشتقاقه على هذه القراءة من قرن، وذلك ضعيف، وهدىً في موضع نصب على الحال من القرآن، فالمراد أن القرآن بجملته من محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ هدى، ثم شرف بالذكر والتخصيص البينات منه يعني الحلال والحرام والمواعظ والمحكم كله، فالألف واللام في الهدى للعهد والمراد الأول، والفرقان المفرق بين الحق والباطل، وشهد بمعنى حضر، والشّهر نصب على الظرف، والتقدير: من حضر المصر في الشهر، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي والزهري وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو حيوة «فليصمه» بتحريك اللام، وكذلك قرؤوا لام الأمر في جميع القرآن على أصلها الذي هو الكسر، وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وعبيدة السلماني: «من شهد» أي من حضر دخول الشهر وكان مقيما في أوله فليكمل صيامه سافر بعد ذلك أو أقام وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في سفر، وقال جمهور الأمة: «من شهد أول الشهر أو آخره فليصم ما دام مقيما»، وقال أبو حنيفة وأصحابه: «من شهد الشهر بشروط التكليف غير مجنون ولا مغمى عليه فليصمه، ومن دخل عليه رمضان وهو مجنون وتمادى به طول الشهر فلا قضاء عليه لأنه لم يشهد الشهر بصفة يجب بها الصيام، ومن جن أول الشهر أو آخره فإنه يقضي أيام جنونه»، ونصب الشّهر على هذا التأويل هو على المفعول الصريح ب شهد، وقوله تعالى: {أو على سفرٍ} بمنزلة أو مسافرا فلذلك عطف على اسم، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ويحيى بن وثاب وابن هرمز وعيسى بن عمر «اليسر» و «العسر» بضم السين، والجمهور: بسكونه، وقال مجاهد والضحاك بن مزاحم: «اليسر الفطر في السفر والعسر الصوم في السفر»، والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين، وقد فسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم «دين الله يسر».
وقوله تعالى: {ولتكملوا العدّة} معناه وليكمل من أفطر في سفره أو في مرضه عدة الأيام التي أفطر فيها، وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو عمرو في بعض ما روي عنه «ولتكمّلوا» بتشديد الميم، وقد روي عنهما التخفيف كالجماعة، وهذه اللام متعلقة إما ب يريد فهي اللام الداخلة على المفعول، كالذي في قولك ضربت لزيد، المعنى ويريد إكمال العدة وهي مع الفعل مقدرة بأن، كأن الكلام: ويريد لأن تكملوا، هذا قول البصريين، ونحوه قول قيس كثير بن صخر: أريد لأنسى ذكرها وإما بفعل مضمر بعد، تقديره ولأن تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة، وهذا قول بعض الكوفيين، ويحتمل أن تكون هذه اللام لام الأمر والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام.
وقوله: {ولتكبّروا اللّه} حض على التكبير في آخر رمضان، واختلف الناس في حده، فقال ابن عباس: «يكبر المرء من رؤية الهلال إلى انقضاء الخطبة، ويمسك وقت خروج الإمام ويكبر بتكبيره»، وقال قوم: يكبر من رؤية الهلال إلى خروج الإمام إلى الصلاة، وقال سفيان: «هو التكبير يوم الفطر»، وقال مالك: «هو من حين يخرج الرجل من منزله إلى أن يخرج الإمام»، ولفظه عند مالك وجماعة من العلماء: «الله أكبر، الله أكبر الله أكبر»، ثلاثا، ومن العلماء من يكبر ثم يهلل ويسبح أثناء التكبير، ومنهم من يقول: «الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا». وقد قيل غير هذا، والجميع حسن واسع مع البدأة بالتكبير.
و{هداكم}، وقيل المراد لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم، وتعميم الهدى جيد، {ولعلّكم تشكرون} ترجّ في حق البشر، أي على نعمة الله في الهدى). [المحرر الوجيز: 1/ 442-446]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن هدًى للنّاس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشّهر فليصمه ومن كان مريضًا أو على سفرٍ فعدّةٌ من أيّامٍ أخر يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدّة ولتكبّروا اللّه على ما هداكم ولعلّكم تشكرون (185)}

يمدح تعالى شهر الصّيام من بين سائر الشّهور، بأن اختاره من بينهنّ لإنزال القرآن العظيم فيه، وكما اختصّه بذلك، قد ورد الحديث بأنّه الشّهر الذي كانت الكتب الإلهيّة تنزل فيه على الأنبياء.

قال الإمام أحمد بن حنبلٍ، رحمه اللّه: حدّثنا أبو سعيدٍ مولى بني هاشمٍ، حدّثنا عمران أبو العوّام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة -يعني ابن الأسقع-أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلةٍ من رمضان. وأنزلت التّوراة لستٍّ مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان وأنزل اللّه القرآن لأربعٍ وعشرين خلت من رمضان".

وقد روي من حديث جابر بن عبد اللّه وفيه: أنّ الزّبور أنزل لثنتي عشرة [ليلةً] خلت من رمضان، والإنجيل لثماني عشرة، والباقي كما تقدّم. رواه ابن مردويه.

أمّا الصّحف والتّوراة والزّبور والإنجيل -فنزل كلٌّ منها على النّبيّ الذي أنزل عليه جملةً واحدةً، وأمّا القرآن فإنّما نزل جملةً واحدةً إلى بيت العزّة من السّماء الدّنيا، وكان ذلك في شهر رمضان، في ليلة القدر منه، كما قال تعالى: {إنّا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر: 1]. وقال: {إنّا أنزلناه في ليلةٍ مباركةٍ} [الدّخان: 3]، ثمّ نزل بعد مفرّقًا بحسب الوقائع على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. هكذا روي من غير وجهٍ، عن ابن عبّاسٍ، كما قال إسرائيل، عن السّدّيّ، عن محمّد بن أبي المجالد عن مقسم، عن ابن عبّاسٍ أنّه سأله عطيّة بن الأسود، فقال: وقع في قلبي الشّكّ من قول اللّه تعالى: {شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن} وقوله: {إنّا أنزلناه في ليلةٍ مباركةٍ} وقوله: {إنّا أنزلناه في ليلة القدر} وقد أنزل في شوّال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجّة، وفي المحرّم، وصفرٍ، وشهر ربيعٍ. فقال ابن عبّاسٍ: إنّه أنزل في رمضان، في ليلة القدر وفي ليلةٍ مباركةٍ جملةً واحدةً، ثمّ أنزل على مواقع النّجوم ترتيلًا في الشّهور والأيّام. رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه، وهذا لفظه.

وفي رواية سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ قال: أنزل القرآن في النّصف من شهر رمضان إلى سماء الدّنيا فجعل في بيت العزّة، ثمّ أنزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في عشرين سنةً لجواب كلام النّاس.

وفي رواية عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى هذه السّماء الدّنيا جملةً واحدةً، وكان اللّه يحدث لنبيّه ما يشاء، ولا يجيء المشركون بمثل يخاصمون به إلّا جاءهم اللّه بجوابه، وذلك قوله: {وقال الّذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملةً واحدةً كذلك لنثبّت به فؤادك ورتّلناه ترتيلا * ولا يأتونك بمثلٍ إلا جئناك بالحقّ وأحسن تفسيرًا} [الفرقان: 32، 33].

[قال فخر الدّين: ويحتمل أنّه كان ينزل في كلّ ليلة قدرٍ ما يحتاج النّاس إلى إنزاله إلى مثله من اللّوح إلى سماء الدّنيا، وتوقّف، هل هذا أولى أو الأوّل؟ وهذا الذي جعله احتمالًا نقله القرطبيّ عن مقاتل بن حيّان، وحكى الإجماع على أنّ القرآن نزل جملةً واحدةً من اللّوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا، وحكى الرّازيّ عن سفيان بن عيينة وغيره أنّ المراد بقوله: {الّذي أنزل فيه القرآن} أي: في فضله أو وجوب صومه، وهذا غريبٌ جدًّا].

وقوله: {هدًى للنّاس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان} هذا مدحٌ للقرآن الذي أنزله اللّه هدًى لقلوب العباد ممّن آمن به وصدّقه واتّبعه {وبيّناتٍ} أي: ودلائل وحجج بيّنةٌ واضحةٌ جليّةٌ لمن فهمها وتدبّرها دالّةٌ على صحّة ما جاء به من الهدى المنافي للضّلال، والرّشد المخالف للغيّ، ومفرّقًا بين الحقّ والباطل، والحلال، والحرام.

وقد روي عن بعض السّلف أنّه كره أن يقال: إلّا "شهر رمضان" ولا يقال: "رمضان"؛ قال ابن أبي حاتمٍ:

حدّثنا أبي، حدّثنا محمّد بن بكّار بن الريّان، حدّثنا أبو معشرٍ، عن محمّد بن كعبٍ القرظي، وسعيدٍ -هو المقبري-عن أبي هريرة، قال: لا تقولوا: رمضان، فإنّ رمضان اسمٌ من أسماء اللّه تعالى، ولكن قولوا: شهر رمضان.

قال ابن أبي حاتمٍ: وقد روي عن مجاهدٍ، ومحمّد بن كعبٍ نحو ذلك، ورخّص فيه ابن عبّاسٍ وزيد بن ثابتٍ.

قلت: أبو معشرٍ هو نجيح بن عبد الرّحمن المدنيّ إمامٌ [في] المغازي، والسّير، ولكن فيه ضعفٌ، وقد رواه ابنه محمّدٌ عنه فجعله مرفوعًا، عن أبي هريرة، وقد أنكره عليه الحافظ ابن عديٍّ -وهو جديرٌ بالإنكار-فإنّه متروكٌ، وقد وهم في رفع هذا الحديث، وقد انتصر البخاريّ، رحمه اللّه، في كتابه لهذا فقال: "بابٌ يقال رمضان" وساق أحاديث في ذلك منها: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه" ونحو ذلك.

وقوله: {فمن شهد منكم الشّهر فليصمه} هذا إيجاب حتمٍ على من شهد استهلال الشّهر -أي كان مقيمًا في البلد حين دخل شهر رمضان، وهو صحيحٌ في بدنه -أن يصوم لا محالة. ونسخت هذه الآية الإباحة المتقدّمة لمن كان صحيحًا مقيمًا أن يفطر ويفدي بإطعام مسكينٍ عن كلّ يومٍ، كما تقدّم بيانه. ولمّا حتّم الصّيام أعاد ذكر الرّخصة للمريض وللمسافر في الإفطار، بشرط القضاء فقال: {ومن كان مريضًا أو على سفرٍ فعدّةٌ من أيّامٍ أخر} معناه: ومن كان به مرضٌ في بدنه يشقّ عليه الصّيام معه، أو يؤذيه أو كان على سفرٍ أي في حال سفرٍ -فله أن يفطر، فإذا أفطر فعليه بعدّة ما أفطره في السّفر من الأيّام؛ ولهذا قال: {يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} أي: إنّما رخّص لكم في الفطر في حال المرض وفي السّفر، مع تحتّمه في حقّ المقيم الصّحيح، تيسيرًا عليكم ورحمةً بكم.

وهاهنا مسائل تتعلّق بهذه الآية:

إحداها: أنّه قد ذهب طائفةٌ من السّلف إلى أنّ من كان مقيمًا في أوّل الشّهر ثمّ سافر في أثنائه، فليس له الإفطار بعذر السّفر والحالة هذه، لقوله: {فمن شهد منكم الشّهر فليصمه} وإنّما يباح الإفطار لمسافرٍ استهلّ الشّهر وهو مسافرٌ، وهذا القول غريبٌ نقله أبو محمّد بن حزمٍ في كتابه المحلى، عن جماعةٍ من الصّحابة والتّابعين. وفيما حكاه عنهم نظرٌ، واللّه أعلم. فإنّه قد ثبتت السّنّة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه خرج في شهر رمضان لغزوة الفتح، فسار حتّى بلغ الكديد، ثمّ أفطر، وأمر النّاس بالفطر. أخرجه صاحبا الصّحيح.

الثّانية: ذهب آخرون من الصّحابة والتّابعين إلى وجوب الإفطار في السّفر، لقوله: {فعدّةٌ من أيّامٍ أخر} والصّحيح قول الجمهور، أنّ الأمر في ذلك على التّخيير، وليس بحتم؛ لأنّهم كانوا يخرجون مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في شهر رمضان. قال: "فمنا الصّائم ومنّا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصّائم ". فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم الصّيام، بل الّذي ثبت من فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه كان في مثل هذه الحالة صائمًا، لما ثبت في الصّحيحين عن أبي الدّرداء [قال] خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم [في شهر رمضان] في حرٍّ شديدٍ، حتّى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه [من شدّة الحرّ] وما فينا صائمٌ إلّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعبد اللّه بن رواحة.

الثّالثة: قالت طائفةٌ منهم الشّافعيّ: الصّيام في السّفر أفضل من الإفطار، لفعل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كما تقدّم، وقالت طائفةٌ: بل الإفطار أفضل، أخذًا بالرّخصة، ولما ثبت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أنه سئل عن الصّوم في السّفر، فقال: "من أفطر فحسن، ومن صام فلا جناح عليه". وقال في حديث آخر: "عليكم برخصة اللّه التي رخّص لكم" وقالت طائفة: هما سواء لحديث عائشة: أن حمرة بن عمرٍو الأسلميّ قال: يا رسول اللّه، إنّي كثير الصّيام، أفأصوم في السّفر؟ فقال: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر". وهو في الصّحيحين. وقيل: إن شقّ الصّيام فالإفطار أفضل لحديث جابرٍ: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رأى رجلًا قد ظلّل عليه، فقال: "ما هذا؟ " قالوا: صائمٌ، فقال: " ليس من البرّ الصّيام في السّفر". أخرجاه. فأمّا إن رغب عن السّنّة، ورأى أنّ الفطر مكروهٌ إليه، فهذا يتعيّن عليه الإفطار، ويحرم عليه الصّيام، والحالة هذه، لما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره، عن ابن عمر وجابرٍ، وغيرهما: من لم يقبل رخصة اللّه كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة.

الرّابعة: القضاء، هل يجب متتابعًا أو يجوز فيه التّفريق؟ فيه قولان: أحدهما: أنّه يجب التّتابع، لأنّ القضاء يحكي الأداء. والثّاني: لا يجب التّتابع، بل إنّ شاء فرّق، وإن شاء تابع. وهذا قول جمهور السّلف والخلف، وعليه ثبتت الدّلائل ؛ لأنّ التّتابع إنّما وجب في الشّهر لضرورة أدائه في الشّهر، فأمّا بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيّامٍ عدّة ما أفطر. ولهذا قال تعالى: {فعدّةٌ من أيّامٍ أخر} ثمّ قال: {يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} قال الإمام أحمد:

حدّثنا أبو سلمة الخزاعيّ، حدّثنا ابن هلالٍ، عن حميد بن هلالٍ العدويّ، عن أبي قتادة، عن الأعرابيّ الذي سمع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "إن خير دينكم أيسره، إنّ خير دينكم أيسره".

وقال أحمد أيضًا: حدّثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عاصم بن هلالٍ، حدّثنا غاضرة بن عروة الفقيمي، حدّثني أبي عروة، قال: كنّا ننتظر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فخرج رجلا يقطر رأسه من وضوءٍ أو غسلٍ، فصلّى، فلمّا قضى الصّلاة جعل النّاس يسألونه: علينا حرجٌ في كذا؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ دين اللّه في يسرٍ" ثلاثًا يقولها.

ورواه الإمام أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث مسلم بن إبراهيم، عن عاصم بن هلالٍ، به.

وقال الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة قال: حدّثنا أبو التّيّاح، سمعت أنس بن مالكٍ يقول: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: "يسّروا، ولا تعسّروا، وسكّنوا ولا تنفّروا". أخرجاه في الصّحيحين. وفي الصّحيحين أيضًا: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال لمعاذٍ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن: "بشّرا ولا تنفّرا، ويسّرا ولا تعسّرا، وتطاوعا ولا تختلفا". وفي السّنن والمسانيد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت بالحنيفيّة السّمحة".

وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره: حدّثنا عبد اللّه بن إسحاق بن إبراهيم، حدّثنا يحيى ابن أبي طالبٍ، حدّثنا عبد الوهّاب بن عطاءٍ، حدّثنا أبو مسعودٍ الجريري، عن عبد اللّه بن شقيقٍ، عن محجن بن الأدرع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يصلّي فتراءاه ببصره ساعةً، فقال: "أتراه يصلّي صادقًا؟ " قال: قلت: يا رسول اللّه، هذا أكثر أهل المدينة صلاةً، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا تسمعه فتهلكه". وقال: "إنّ اللّه إنّما أراد بهذه الأمّة اليسر، ولم يرد بهم العسر".

ومعنى قوله: {يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدّة} أي: إنّما أرخص لكم في الإفطار للمرض والسّفر ونحوهما من الأعذار لإرادته بكم اليسر، وإنّما أمركم بالقضاء لتكملوا عدّة شهركم.

وقوله: {ولتكبّروا اللّه على ما هداكم} أي: ولتذكروا اللّه عند انقضاء عبادتكم، كما قال: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكرًا} [البقرة: 200] وقال: [ {فإذا قضيتم الصّلاة فاذكروا اللّه قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم}] [النّساء: 103]، {فإذا قضيت الصّلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل اللّه واذكروا اللّه كثيرًا لعلّكم تفلحون} [الجمعة: 10] وقال: {وسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشّمس وقبل الغروب * ومن اللّيل فسبّحه وأدبار السّجود} [ق: 39، 40]؛ ولهذا جاءت السّنّة باستحباب التّسبيح، والتّحميد والتّكبير بعد الصّلوات المكتوبات.

وقال ابن عبّاسٍ: ما كنّا نعرف انقضاء صلاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلّا بالتّكبير؛ ولهذا أخذ كثيرٌ من العلماء مشروعيّة التّكبير في عيد الفطر من هذه الآية: {ولتكملوا العدّة ولتكبّروا اللّه على ما هداكم} حتّى ذهب داود بن عليٍّ الأصبهانيّ الظّاهريّ إلى وجوبه في عيد الفطر؛ لظاهر الأمر في قوله {ولتكبّروا اللّه على ما هداكم} وفي مقابلته مذهب أبي حنيفة -رحمه اللّه -أنّه لا يشرع التّكبير في عيد الفطر. والباقون على استحبابه، على اختلافٍ في تفاصيل بعض الفروع بينهم.

وقوله: {ولعلّكم تشكرون} أي: إذا قمتم بما أمركم اللّه من طاعته بأداء فرائضه، وترك محارمه، وحفظ حدوده، فلعلّكم أن تكونوا من الشّاكرين بذلك). [تفسير ابن كثير: 1/501-505]





* للاستزادة ينظر: هنا