17 Sep 2014
تفسير
قول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ
أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي
وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ
الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ
لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ
أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ
وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا
تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا
فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(188)}
تفسير
قوله تعالى: {و إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ
دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي
لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:{وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون}
المعنى: إذا قال قائل: اين اللّه؟، فالله عزّ وجلّ قريب، لا يخلو منه مكان
كما قال: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلّا هو رابعهم}، وكما قال: {وهو معكم أين ما كنتم}
{وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون}
وقوله عزّ وجلّ: {أجيب دعوة الدّاع إذا دعان}
إن شئت قلت: إذا دعاني بياء ، وإن شئت بغير ياء إلا أن المصحف يتبع، فيوقف على الحرف كما هو فيه.
ومعنى الدعاء للّه عزّ وجلّ على ثلاثة أضرب:-
فضرب منها: توحيده ، والثناء عليه كقولك : يا الله لا إله إلا أنت ،وقولك: ربّنا لك الحمد، فقد دعوته: بقولك ربنا، ثم أتيت بالثناء والتوحيد، ومثله: {وقال ربّكم ادعوني أستجب لكم إنّ الّذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين}
أي : يستكبرون عن توحيدي ، والثناء عليّ، فهذا ضرب من الدعاء.
وضرب ثان: هو مسألة الله العفو والرحمة، وما يقرب منه ، كقولك : اللهم اغفر لنا.
وضرب ثالث : هو مسألته من الدنياو كقولك:اللهم ارزقني مالا وولدا وما أشبه ذلك.
وإنما سمي هذا أجمع دعاء ؛ لأن الإنسان يصدر في هذه الأشياء بقوله: يا اللّه، ويا رب، ويا حي، فكذلك سمي :دعاء.
وقوله عزّ وجلّ:{فليستجيبوا لي }، أي: فليجيبوني.
قال الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا= فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي : فلم يجبه أحد). [معاني القرآن: 1/254-255]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله
تعالى: وإذا سألك عبادي عنّي الآية، قال الحسن بن أبي الحسن: سببها أن
قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟
فنزلت، وقال عطاء: لما نزلت وقال ربّكم ادعوني أستجب لكم [غافر: 60] قال
قوم في أي ساعة ندعو؟ فنزلت وإذا سألك عبادي عنّي، وقال مجاهد: بل قالوا
إلى أين ندعو فنزلت هذه الآية، وقال قتادة بل قالوا: كيف ندعو؟ فنزلت وإذا
سألك عبادي، روي أن المشركين قالوا لما نزل فإنّي قريبٌ: كيف يكون قريبا
وبيننا وبينه على قولك سبع سماوات في غلظ سمك كل واحدة خمسمائة عام وفيما
بين كل سماء مثل ذلك؟ فنزلت: أجيب دعوة الدّاع إذا دعان أي فإني قريب
بالإجابة والقدرة، وقال قوم: المعنى أجيب إن شئت، وقال قوم: إن الله تعالى
يجيب كل الدعاء: فإما أن تظهر الإجابة في الدنيا، وإما أن يكفر عنه، وإما
أن يدخر له أجر في الآخرة، وهذا بحسب حديث الموطأ: «ما من داع يدعو إلا كان
بين إحدى ثلاث»، الحديث، وهذا إذا كان الدعاء على ما يجب دون اعتداء، فإن
الاعتداء في الدعاء ممنوع، قال الله تعالى: ادعوا ربّكم تضرّعاً وخفيةً
إنّه لا يحبّ المعتدين [الأعراف: 55] قال المفسرون: أي في الدعاء. تفسير
قوله تعالى: {حِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى
نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ
اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ
وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ
لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ
فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {أحلّ
لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ علم
اللّه أنّكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهنّ
وابتغوا ما كتب اللّه لكم وكلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من
الخيط الأسود من الفجر ثمّ أتمّوا الصّيام إلى اللّيل ولا تباشروهنّ وأنتم
عاكفون في المساجد تلك حدود اللّه فلا تقربوها كذلك يبيّن اللّه آياته
للنّاس لعلّهم يتّقون} {الرفث}: كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من المرأة، والمعنى ههنا : كناية عن الجماع، أي :
أحل لكم ليلة الصيام الجماع، لأنه كان في أول فرض الصيام الجماع محرما ًفي
ليلة الصيام، والأكل والشرب بعد العشاء الآخرة والنوم، فأحل الله الجماع
والأكل والشراب إلى وقت طلوع الفجر. وقوله عزّ وجلّ: {هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ} قد قيل فيه غير قول: قيل المعنى: فتعانقوهن ، ويعانقنكم، وقيل : كل فريق منكم يسكن إلى صاحبه ، ويلابسه ، كما قال عزّ وجلّ: {وجعل منها زوجها ليسكن إليها} والعرب تسمى المرأة لباسا ً، وإزارا ً، قال الشاعر: إذا ما الضجيع ثنى عطفه= تثنّت فكانت عليه لباساً وقال أيضا: ألا أبلغ أبا حفص رسولاً= فدى لك من أخي ثقة إزاري قال أهل اللغة: فدى لك امرأتي. قوله عزّ وجلّ: {وابتغوا ما كتب اللّه لكم} قالوا معناه : الولد، ويجوز أن يكون -، وهو الصحيح عندي ، واللّه أعلم . { وابتغوا ما كتب اللّه لكم}: اتبعوا القرآن فيما أبيح لكم فيه ، وأمرتم به، فهو المبتغى. وقوله عزّ وجلّ:{حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}هما فجران: أحدهمايبد،
و أسود معترضا ، وهو الخيط الأسود، والأبيض يطلع ساطعاً يملأ الأفق،
وحقيقته حتّى يتبين لكم الليل من النهار، وجعل اللّه عزّ وجلّ حدود الصيام
طلوع الفجر الواضح، إلا أن اللّه عزّ وجلّ بين في فرضه ما يستوي في علمه
أكثر الناس. وقوله عزّ وجلّ: {ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد} معنى الباشرة هنا: الجماع،
وكان الرجل يخرج من المسجد، وهو معتكف ، فيجامع ، ثم يعود إلى المسجد،
والاعتكاف أن يحبس الرجل نفسه في مسجد جماعة يتعبّد فيه، فعليه إذا فعل ذلك
ألا يجامع ، وألا يتصرّف إلا فيما لا بد له منه من حاجته. وقوله عزّ وجلّ: {تلك حدود اللّه فلا تقربوها} معنى الحدود: ما منع الله عزّ وجلّ من مخالفتها، ومعنى الحدّاد في اللغة:
الحاجب، وكل من منع شيئا فهو حدّاد، وقولهم: أحدّت المرأة على زوجها ،
معناه: قطعت الزينة ، وامتنعت منها، والحديد إنما سمي حديداً؛ لأنه يمتنع
به من الأعداء، وحدّ الدّار هو ما يمنع غيرها أن تدخل فيها. وقوله عزّ وجلّ: {كذلك يبيّن اللّه آياته للنّاس}أي: مثل البيان الذي ذكر، المعنى: ما أمرهم به يبين لهم). [معاني القرآن: 1/255-257] تفسير
قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ
النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكّام لتأكلوا فريقا من أموال النّاس بالإثم وأنتم تعلمون} {تأكلوا}
جزم بلا؛ لأن " لا " التي ينهي بها تلزم الأفعال دون الأسماء تأثيرها فيها
بالجزم؛ لأن الرفع يدخلها، بوقوعها موضع الأسماء والنصب يدخلها لمضارعة
الناصب فيها الناصب للأسماء، وليس فيها بعد هذين الحيزين إلا الجزم، ومعنى {بالباطل }،أي: بالظلم. {وتدلوا بها إلى الحكّام} أي: تعملون على ما يوجبه ظاهر الحكم ، ويتركون ما قد علمتم أنه الحق، ومعنى تدلوا في اللغة: إنّما أصله من أدليت الدلو إذا أرسلتها للمليء، ودلوتها إذا أخرجتها، ومعنى أدلى لي فلان بحجته : أرسلها، وأتى بها على صحة، فمعنى {وتدلوا بها إلى الحكّام}أي: تعملون على ما يوجبه الإدلاء بالحجة، وتخونون في الأمانة. {لتأكلوا فريقاً من أموال النّاس بالإثم وأنتم تعلمون}أي: وأنتم تعلمون أن الحجة عليكم في الباطن، وإن ظهر خلافها. ويجوز أن يكون: موضع:{وتدلوا }جزماً، ونصباً، فأما الجزم ، فعلى النهي. معطوف على : {ولا تأكلوا}، ويجوز
أن تكون: نصباً على ما تنصب الواو، وهو الذي يسميه بعض النحويين: الصرف،
ونصبه بإضمار أن، المعنى : لا تجمعوا بين الأكل بالباطل ، والإدلاء إلى
الحكام، وقد شرحنا هذا قبل هذا المكان). [معاني القرآن: 1/257-258]
والوصف بمجاب الدعوة:
وصف بحسن النظر والبعد عن الاعتداء، والتوفيق من الله تعالى إلى الدعاء في
مقدور. وانظر أن أفضل البشر المصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم قد دعا أن
لا يجعل بأس أمته بينهم، الحديث، فمنعها، إذ كان القدر قد سبق بغير ذلك.
وقوله تعالى: فليستجيبوا لي قال أبو رجاء الخراساني: «معناه فليدعوا لي».
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: المعنى فليطلبوا أن أجيبهم، وهذا هو باب استفعل، أي طلب الشيء،
إلا ما شذ، مثل. استغنى الله، وقال مجاهد وغيره: المعنى فليجيبوا لي فيما
دعوتهم إليه من الإيمان، أي بالطاعة والعمل، ويقال: أجاب واستجاب بمعنى،
ومنه قول الشاعر: [الطويل]
وداع دعا يا من يجيب إلى النّدا = فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي لم يجبه، وقوله
تعالى: وليؤمنوا بي، قال أبو رجاء: في أني أجيب دعاءهم، وقال غيره: بل ذلك
دعاء إلى الإيمان بجملته. وقرأ الجمهور يرشدون بفتح الياء وضم الشين. وقرأ
قوم بضم الياء وفتح الشين. وروي عن ابن أبي عبلة وأبي حيوة فتح الياء وكسر
الشين باختلاف عنهما قرآ هذه القراءة والتي قبلها). [المحرر الوجيز: 1/446-448]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون (186)}
قال ابن أبي حاتمٍ:
حدّثنا أبي، حدّثنا يحيى بن المغيرة، أخبرنا جريرٌ، عن عبدة بن أبي برزة
السّجستاني عن الصّلب بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيريّ، عن أبيه، عن
جده، أن أعرابيًّا قال: يا رسول اللّه، أقريبٌ ربّنا فنناجيه أم بعيدٌ
فنناديه؟ فسكت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فأنزل اللّه: {وإذا سألك
عبادي عنّي فإنّي قريبٌ أجيب دعوة الدّاع إذا دعان}.
ورواه ابن مردويه،
وأبو الشّيخ الأصبهانيّ، من حديث محمّد بن أبي حميدٍ، عن جريرٍ، به. وقال
عبد الرّزّاق: أخبرنا جعفر بن سليمان، عن عوفٍ، عن الحسن، قال: سأل أصحاب
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم [النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم]: أين
ربّنا؟ فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ أجيب دعوة
الدّاع إذا دعان} الآية.
وقال ابن جريج عن
عطاءٍ: أنّه بلغه لمّا نزلت: {وقال ربّكم ادعوني أستجب لكم} [غافرٍ: 60]
قال النّاس: لو نعلم أيّ ساعةٍ ندعو؟ فنزلت: {وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي
قريبٌ أجيب دعوة الدّاع إذا دعان}
وقال الإمام أحمد:
حدّثنا عبد الوهّاب بن عبد المجيد الثّقفيّ، حدّثنا خالدٌ الحذّاء، عن أبي
عثمان النّهديّ، عن أبي موسى الأشعريّ، قال: كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم في غزاة فجعلنا لا نصعد شرفًا، ولا نعلو شرفًا، ولا نهبط
واديًا إلّا رفعنا أصواتنا بالتّكبير. قال: فدنا منّا فقال: "يا أيّها
النّاس، أربعوا على أنفسكم؛ فإنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا، إنّما تدعون
سميعًا بصيرًا، إنّ الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته. يا عبد اللّه
بن قيسٍ، ألا أعلّمك كلمةً من كنوز الجنّة؟ لا حول ولا قوّة إلّا باللّه".
أخرجاه في الصّحيحين، وبقيّة الجماعة من حديث أبي عثمان النّهديّ، واسمه عبد الرّحمن بن مل، عنه، بنحوه.
وقال الإمام أحمد:
حدّثنا سليمان بن داود، حدّثنا شعبة، حدّثنا قتادة، عن أنسٍ رضي اللّه عنه:
أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "يقول اللّه تعالى: أنا عند ظنّ
عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني".
وقال الإمام أحمد:
حدّثنا عليّ بن إسحاق، أخبرنا عبد اللّه، أخبرنا عبد الرّحمن بن يزيد بن
جابرٍ، حدّثنا إسماعيل بن عبيد اللّه، عن كريمة بنت الخشخاش المزنيّة،
قالت: حدّثنا أبو هريرة: أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول:
"قال اللّه: أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحرّكت بي شفتاه".
قلت: وهذا كقوله
تعالى: {إنّ اللّه مع الّذين اتّقوا والّذين هم محسنون} [النّحل: 128]،
وكقوله لموسى وهارون، عليهما السّلام: {إنّني معكما أسمع وأرى} [طه: 46].
والمراد من هذا: أنّه تعالى لا يخيب دعاء داعٍ، ولا يشغله عنه شيءٌ، بل هو
سميع الدّعاء. وفيه ترغيبٌ في الدّعاء، وأنّه لا يضيع لديه تعالى، كما قال
الإمام أحمد: حدّثنا يزيد، حدّثنا رجلٌ أنّه سمع أبا عثمان -هو النّهديّ
-يحدّث عن سلمان -يعني الفارسيّ -رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلّى اللّه
عليه وسلّم أنّه قال: "إنّ اللّه تعالى ليستحيي أن يبسط العبد إليه يديه
يسأله فيهما خيرًا فيردّهما خائبتين".
قال يزيد: سمّوا لي هذا الرّجل، فقالوا: جعفر بن ميمونٍ.
وقد رواه أبو داود،
والتّرمذيّ، وابن ماجه من حديث جعفر بن ميمونٍ، صاحب الأنماط، به. وقال
التّرمذيّ: حسنٌ غريبٌ. ورواه بعضهم، ولم يرفعه.
وقال الشّيخ الحافظ
أبو الحجّاج المزّي، رحمه اللّه، في أطرافه: وتابعه أبو همّامٍ محمّد بن
الزّبرقان، عن سليمان التّيميّ، عن أبي عثمان النّهديّ، به.
وقال الإمام أحمد
أيضًا: حدّثنا أبو عامرٍ، حدّثنا عليّ بن دؤاد أبو المتوكّل النّاجي، عن
أبي سعيدٍ: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "ما من مسلمٍ يدعو
اللّه عزّ وجلّ بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعة رحمٍ، إلّا أعطاه اللّه بها
إحدى ثلاث خصالٍ: إمّا أن يعجّل له دعوته، وإمّا أن يدّخرها له في الآخرة،
وإمّا أن يصرف عنه من السّوء مثلها" قالوا: إذًا نكثر. قال: "اللّه أكثر
".
وقال عبد اللّه بن
الإمام أحمد: حدّثنا إسحاق بن منصورٍ الكوسج، أخبرنا محمّد بن يوسف، حدّثنا
ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحولٍ، عن جبير بن نفيرٍ، أنّ عبادة بن الصّامت
حدّثهم أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "ما على ظهر الأرض من رجلٍ
مسلم يدعو اللّه، عزّ وجلّ، بدعوةٍ إلّا آتاه اللّه إيّاها، أو كفّ عنه من
السّوء مثلها، ما لم يدع بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ".
ورواه التّرمذيّ، عن
عبد اللّه بن عبد الرّحمن الدّارميّ، عن محمّد بن يوسف الفريابي، عن ابن
ثوبان -وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان -به. وقال: حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من
هذا الوجه.
وقال الإمام مالكٌ،
عن ابن شهابٍ، عن أبي عبيدٍ -مولى ابن أزهر -عن أبي هريرة: أنّ رسول اللّه
صلّى الله عليه وسلم قال: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب
لي".
أخرجاه في الصّحيحين من حديث مالكٍ، به. وهذا لفظ البخاريّ، رحمه اللّه، وأثابه الجنّة.
وقال مسلمٌ أيضًا:
حدّثني أبو الطّاهر، حدّثنا ابن وهبٍ، أخبرني معاوية بن صالحٍ، عن ربيعة
ابن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه
عليه وسلّم أنّه قال: "لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثمٍ أو قطيعة رحمٍ
ما لم يستعجل". قيل: يا رسول اللّه، ما الاستعجال؟ قال: "يقول: قد دعوت،
وقد دعوت، فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك، ويترك الدّعاء".
وقال الإمام أحمد:
حدّثنا عبد الصّمد، حدّثنا ابن هلالٍ، عن قتادة، عن أنسٍ: أنّ رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لا يزال العبد بخيرٍ ما لم يستعجل". قالوا:
وكيف يستعجل؟ قال: "يقول: قد دعوت ربّي فلم يستجب لي".
وقال الإمام أبو
جعفرٍ الطّبريّ في تفسيره: حدّثني يونس بن عبد الأعلى، حدّثنا ابن وهبٍ،
حدّثني أبو صخرٍ: أنّ يزيد بن عبد اللّه بن قسيط حدّثه، عن عروة بن
الزّبير، عن عائشة، رضي اللّه عنها، أنّها قالت: ما من عبد مؤمنٍ يدعو
اللّه بدعوةٍ فتذهب، حتّى تعجّل له في الدّنيا أو تدّخر له في الآخرة، إذا
لم يعجّل أو يقنط. قال عروة: قلت: يا أمّاه كيف عجلته وقنوطه؟ قالت: يقول:
سألت فلم أعط، ودعوت فلم أجب.
قال ابن قسيط: وسمعت سعيد بن المسيّب يقول كقول عائشة سواءٌ.
وقال الإمام أحمد:
حدّثنا حسنٌ، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثنا بكر بن عمرٍو، عن أبي عبد الرّحمن
الحبليّ، عن عبد اللّه بن عمرٍو، أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم قال:
"القلوب أوعيةٌ، وبعضها أوعى من بعضٍ، فإذا سألتم اللّه أيّها النّاس
فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإنّه لا يستجيب لعبدٍ دعاه عن ظهر قلبٍ
غافلٍ".
وقال ابن مردويه:
حدّثنا محمّد بن إسحاق بن أيّوب، حدّثنا إسحاق بن إبراهيم بن أبيّ بن نافع
ابن معد يكرب ببغداد، حدّثني أبيّ بن نافعٍ، حدثني أبي نافع بن معد يكرب،
قال: كنت أنا وعائشة سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الآية:
{أجيب دعوة الدّاع إذا دعان} قال: "يا ربّ، مسألة عائشة". فهبط جبريل فقال:
اللّه يقرؤك السّلام، هذا عبدي الصالحٍ بالنّيّة الصّادقة، وقلبه نقيٌّ
يقول: يا ربّ، فأقول: لبّيك. فأقضي حاجته.
هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه.
وروى ابن مردويه من
حديث الكلبيّ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ: حدّثني جابر بن عبد اللّه أنّ
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ: {وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ
أجيب دعوة الدّاع إذا دعان} الآية. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
"اللّهمّ أمرت بالدّعاء، وتوكّلت بالإجابة، لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا
شريك لك، لبّيك إنّ الحمد والنّعمة لك، والملك لا شريك لك، أشهد أنّك فردٌ
أحدٌ صمد لم تلد ولم تولد ولم يكن لك كفوًا أحدٌ، وأشهد أنّ وعدك حقٌّ،
ولقاءك حقٌّ، والجنّة حقٌّ، والنّار حقٌّ، والسّاعة آتيةٌ لا ريب فيها،
وأنت تبعث من في القبور".
وقال الحافظ أبو بكرٍ
البزّار: حدّثنا الحسن بن يحيى الأرزيّ ومحمّد بن يحيى القطعي قالا حدّثنا
الحجّاج بن منهال، حدّثنا صالحٍ المرّي، عن الحسن، عن أنسٍ، عن النّبيّ
صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "يقول اللّه تعالى: يا ابن آدم، واحدةٌ لك
وواحدةٌ لي، وواحدةٌ فيما بيني وبينك؛ فأمّا التي لي فتعبدني لا تشرك بي
شيئًا، وأمّا التي لك فما عملت من شيءٍ وفّيتكه وأمّا التي بيني وبينك فمنك
الدّعاء وعليّ الإجابة".
وفي ذكره تعالى هذه
الآية الباعثة على الدّعاء، متخلّلةً بين أحكام الصّيام، إرشادٌ إلى
الاجتهاد في الدّعاء عند إكمال العدّة، بل وعند كلّ فطرٍ، كما رواه الإمام
أبو داود الطّيالسيّ في مسنده:
حدّثنا أبو محمّدٍ
المليكيّ، عن عمرو -هو ابن شعيب بن محمّد بن عبد اللّه بن عمرٍو، عن أبيه،
عن جدّه عبد اللّه بن عمرٍو، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم
يقول: "للصّائم عند إفطاره دعوةٌ مستجابةٌ". فكان عبد اللّه بن عمرٍو إذ
أفطر دعا أهله، وولده ودعا.
وقال أبو عبد اللّه
محمّد بن يزيد بن ماجه في سننه: حدّثنا هشام بن عمّارٍ، أخبرنا الوليد بن
مسلمٍ، عن إسحاق بن عبيد اللّه المدنيّ، عن عبد اللّه بن أبي مليكة، عن عبد
اللّه بن عمرو، قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ للصّائم عند
فطره دعوةً ما تردّ". قال عبد اللّه بن أبي مليكة: سمعت عبد اللّه بن عمرو
يقول إذا أفطر: اللّهمّ إنّي أسألك برحمتك التي وسعت كلّ شيءٍ أن تغفر لي.
وفي مسند الإمام
أحمد، وسنن التّرمذيّ، والنّسائيّ، وابن ماجه، عن أبي هريرة قال: قال رسول
اللّه صلى الله عليه وسلم: " ثلاثةٌ لا تردّ دعوتهم: الإمام العادل،
والصّائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها اللّه دون الغمام يوم القيامة،
وتفتح لها أبواب السّماء، ويقول: بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين"). [تفسير ابن كثير: 1/505-509]
لفظة أحلّ تقتضي أنه
كان محرما قبل ذلك، وليلة نصب على الظرف، وهي اسم جنس فلذلك أفردت، ونحوه
قول عامر الرامي الحضرمي المحاربي: [الوافر]
هم المولى وقد جنفوا علينا = وإنّا من عداوتهم لزور
والرّفث كناية عن الجماع، لأن الله تعالى كريم يكني، قاله ابن عباس والسدي، وقرأ ابن
مسعود «الرفوث»، والرّفث في غير هذا ما فحش من القول، ومنه قول الشاعر: [الرجز] عن اللّغا ورفث التّكلّم.
وقال أبو إسحاق: «الرفث كل ما يأتيه الرجل مع المرأة من قبل ولمس وجماع».
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: أو كلام في هذه المعاني، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
«من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من خطاياه كيوم ولدته أمه».
وسبب هذه الآية فيما
قال ابن عباس وغيره أن جماعة من المسلمين اختانوا أنفسهم وأصابوا النساء
بعد النوم، أو بعد صلاة العشاء، على الخلاف، منهم عمر بن الخطاب، جاء إلى
امرأته فأرادها، فقالت له: قد نمت، فظن أنها تعتل، فوقع بها ثم تحقق أنها
قد كانت نامت، وكان الوطء بعد نوم أحدهما ممنوعا، وقال السدي: جرى له هذا
في جارية له، قالوا: فذهب عمر فاعتذر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وجرى نحو هذا لكعب بن مالك الأنصاري، فنزل صدر الآية فيهم، فهي ناسخة للحكم
المتقرر في منع الوطء بعد النوم، وحكى النحاس ومكي أن عمر نام ثم وقع
بامرأته، وهذا عندي بعيد على عمر رضي الله عنه، وروي أن صرمة بن قيس، ويقال
صرمة بن مالك، ويقال أبو أنس قيس بن صرمة، نام قبل الأكل فبقي كذلك دون
أكل حتى غشي عليه في نهاره المقبل، فنزل فيه من قوله تعالى: وكلوا واشربوا،
واللباس أصله في الثياب ثم شبه التباس الرجل بالمرأة وامتزاجهما وتلازمهما
بذلك، كما قال النابغة الجعدي: [المتقارب]
إذا ما الضّجيع ثنى جيدها = تداعت فكانت عليه لباسا
وقال النابغة أيضا: [المتقارب]
لبست أناسا فأفنيتهم = وأفنيت بعد أناس أناسا
فشبه خلطته لهم باللباس، نحا هذا المنحى في تفسير اللباس الربيع وغيره، وقال مجاهد والسدي:
لباسٌ: سكن، أي يسكن
بعضهم إلى بعض، وإنما سميت هذه الأفعال اختيانا لعاقبة المعصية وجزائها،
فراكبها يخون نفسه ويؤذيها، وفتاب عليكم معناه من المعصية التي واقعتموها،
وعفا عنكم يحتمل أن يريد عن المعصية بعينها فيكون ذلك تأكيدا، وتأنيسا
بزيادة على التوبة، ويحتمل أن يريد عفا عما كان ألزمكم من اجتناب النساء
فيما يؤتنف، بمعنى تركه لكم، كما تقول شيء معفو عنه أي متروك.
قال ابن عباس وغيره:
باشروهنّ كناية عن الجماع، مأخوذ من البشرة، وقد ذكرنا لفظة «الآن» في ماضي
قصة البقرة. وابتغوا ما كتب اللّه لكم.
قال ابن عباس ومجاهد والحكم بن عتيبة وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك: معناه ابتغوا الولد.
وروي أيضا عن ابن
عباس وغيره أن المعنى وابتغوا ليلة القدر، وقيل: المعنى ابتغوا الرخصة
والتوسعة، قاله قتادة، وهو قول حسن، وقرأ الحسن فيما روي عنه ومعاوية بن
قرة «واتبعوا» من الاتباع، وجوزها ابن عباس، ورجح ابتغوا من الابتغاء.
وكلوا واشربوا حتّى
يتبيّن نزلت بسبب صرمة بن قيس، وحتّى غاية للتبين، ولا يصح أن يقع التبين
لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر، والخيط استعارة وتشبيه
لرقة البياض أولا ورقة السواد الحاف به، ومن ذلك قول أبي داود:
فلمّا بصرن به غدوة = ولاح من الفجر خيط أنارا
ويروى فنارا، وقال
بعض المفسرين: الخيط اللون، وهذا لا يطرد لغة، والمراد فيما قال جميع
العلماء بياض النهار وسواد الليل، وهو نص قول النبي صلى الله عليه وسلم
لعدي بن حاتم في حديثه المشهور، ومن الأولى لابتداء الغاية، والثانية
للتبعيض، والفجر مأخوذ من تفجر الماء، لأنه يتفجر شيئا بعد شيء، وروي عن
سهل بن سعد وغيره من الصحابة أن الآية نزلت إلا قوله من الفجر فصنع بعض
الناس خيطين أبيض وأسود، فنزل قوله تعالى: من الفجر، وروي أنه كان بين طرفي
المدة عام.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: من رمضان إلى رمضان، تأخر البيان إلى وقت الحاجة، وعدي بن حاتم
جعل خيطين على وساده وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: «إن وسادك
لعريض»، وروي أنه قال له: «إنك لعريض القفا»، ولهذه الألفاظ تأويلان،
واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك: فقال الجمهور وبه أخذ الناس ومضت
عليه الأمصار والأعصار ووردت به الأحاديث الصحاح: ذلك الفجر المعترض الآخذ
في الأفق يمنة ويسرة، فبطلوع أوله في الأفق يجب الإمساك، وهو مقتضى حديث
ابن مسعود وسمرة بن جندب، وروي عن عثمان بن عفان وحذيفة بن اليمان وابن
عباس وطلق بن علي وعطاء بن أبي رباح والأعمش وغيرهم أن الإمساك يجب بتبين
الفجر في الطرق وعلى رؤوس الجبال، وذكر عن حذيفة أنه قال: «تسحرت مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهو النهار، إلا أنّ الشمس لم تطلع»، وروي عن علي
بن أبي طالب رضي الله عنه أنه صلى الصبح بالناس ثم قال: «الآن تبين الخيط
الأبيض من الخيط الأسود».
قال الطبري: «ومما
قادهم إلى هذا القول أنهم يرون أن الصوم إنما هو في النهار، والنهار عندهم
من طلوع الشمس لأن آخره غروبها، فكذلك أوله طلوعها».
وحكى النقاش عن
الخليل بن أحمد أن النهار من طلوع الفجر، ويدل على ذلك قول الله تبارك
وتعالى: أقم الصّلاة طرفي النّهار [هود: 114]، قال القاضي أبو محمد رحمه
الله: والقول في نفسه صحيح، وقد ذكرت حجته في تفسير قوله تعالى:
واختلاف اللّيل
والنّهار [البقرة: 164، آل عمران: 190، الجاثية: 5]، وفي الاستدلال بهذه
الآية نظر، ومن أكل وهو يشك هل طلع الفجر أم لم يطلع فعليه عند مالك
القضاء.
وقوله تعالى: ثمّ
أتمّوا الصّيام إلى اللّيل أمر يقتضي الوجوب، وإلى غاية، إذا كان ما بعدها
من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه، كقولك اشتريت الفدان إلى حاشيته، وإذا
كان من غير جنسه كما تقول اشتريت الفدان إلى الدار لم يدخل في المحدود ما
بعد إلى، ورأت عائشة رضي الله عنها أن قوله إلى اللّيل يقتضي النهي عن
الوصال، وقد واصل النبي صلى الله عليه وسلم ونهى الناس عن الوصال، وقد واصل
جماعة من العلماء وقد تقدم أن هذه الآية نسخت الحكم الذي في قوله كما كتب
على الّذين من قبلكم [البقرة: 183] على قول من رأى التشبيه في الامتناع من
الوطء والأكل بعد النوم في قول بعضهم، وبعد صلاة العشاء في قول بعضهم،
والليل الذي يتم به الصيام مغيب قرص الشمس، فمن أفطر وهو شاكّ هل غابت
الشمس فالمشهور من المذهب أن عليه القضاء والكفارة.
وفي ثمانية أبي زيد: عليه القضاء فقط قياسا على الشك في الفجر، وهو قول جماعة من العلماء.
وقال إسحاق والحسن: لا قضاء عليه كالناسي.
وقوله تعالى: ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد، قالت فرقة: المعنى لا تجامعوهن.
وقال الجمهور: ذلك
يقع على الجماع فما دونه مما يتلذذ به من النساء، وعاكفون ملازمون، يقال
عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه، قال الراجز: [الرجز]
... ... ... ... = عكف النبيط يلعبون الفنزجا
وقال الشاعر: [الطويل]
وظلّ بنات اللّيل حولي عكّفا = عكوف البواكي بينهنّ صريع
وقال أبو عمرو وأبو حاتم: قرأ قتادة «عكفون» بغير ألف، والاعتكاف سنة، وقرأ الأعمش «في المسجد» بالإفراد، وقال: «وهو المسجد الحرام».
قال مالك رحمه الله
وجماعة معه: لا اعتكاف إلا في مساجد الجمعات، وروي عن مالك أيضا أن ذلك في
كل مسجد، ويخرج إلى الجمعة كما يخرج إلى ضروري أشغاله.
وقال قوم: لا اعتكاف إلا في أحد المساجد الثلاثة التي تشد المطي إليها حسب الحديث في ذلك.
وقالت فرقة لا اعتكاف إلا في مسجد نبي.
وقال مالك: «لا يعتكف أقل من يوم وليلة، ومن نذر أحدهما لزمه الآخر».
وقال سحنون: «من نذر اعتكاف ليلة لم يلزمه شيء».
وقالت طائفة: أيهما نذر اعتكفه ولم يلزمه أكثر.
وقال مالك: «لا اعتكاف إلا بصوم».
وقال غيره: يعتكف بغير صوم، وروي عن عائشة أنه يعتكف في غير مسجد.
وتلك إشارة إلى هذه
الأوامر والنواهي، والحدود: الحواجز بين الإباحة والحظر، ومنه قيل للبواب
حداد لأنه يمنع، ومنه الجاد وهي المرأة الممتنعة من الزينة، والآيات:
العلامات الهادية إلى الحق، ولعلّهم ترّج في حقهم، وظاهر ذلك عموم ومعناه
خصوص فيمن يسره الله للهدى بدلالة الآيات التي تتضمن أن الله يضل من يشاء).
[المحرر الوجيز: 1/448-457]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({أحلّ
لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم هنّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنّ علم
اللّه أنّكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهنّ
وابتغوا ما كتب اللّه لكم وكلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من
الخيط الأسود من الفجر ثمّ أتمّوا الصّيام إلى اللّيل ولا تباشروهنّ وأنتم
عاكفون في المساجد تلك حدود اللّه فلا تقربوها كذلك يبيّن اللّه آياته
للنّاس لعلّهم يتّقون (187)}
هذه رخصة من اللّه
تعالى للمسلمين، ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فإنّه كان إذا
أفطر أحدهم إنّما يحلّ له الأكل والشّرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام
قبل ذلك، فمتى نام أو صلّى العشاء حرم عليه الطّعام والشّراب والجماع إلى
اللّيلة القابلة. فوجدوا من ذلك مشقة كبيرةً. والرّفث هنا هو: الجماع. قاله
ابن عبّاسٍ، وعطاءٌ، ومجاهدٌ، وسعيد بن جبيرٍ، وطاوسٌ، وسالم بن عبد
اللّه، وعمرو بن دينارٍ والحسن، وقتادة، والزّهريّ، والضّحّاك، وإبراهيم
النّخعي، والسّدّيّ، وعطاءٌ الخراسانيّ، ومقاتل بن حيّان.
وقوله: {هنّ لباسٌ
لكم وأنتم لباسٌ لهنّ} قال ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، وسعيد بن جبير، والحسن،
وقتادة، والسّدّيّ، ومقاتل بن حيّان: يعني هنّ سكن لكم، وأنتم سكنٌ لهنّ.
وقال الرّبيع بن أنسٍ: هنّ لحافٌ لكم وأنتم لحافٌ لهنّ.
وحاصله أنّ الرّجل
والمرأة كلٌّ منهما يخالط الآخر ويماسه ويضاجعه، فناسب أن يرخّص لهم في
المجامعة في ليل رمضان، لئلّا يشقّ ذلك عليهم، ويحرجوا، قال الشّاعر
إذا ما الضّجيع ثنى جيدها = تداعت فكانت عليه لباسا
وكان السّبب في نزول
هذه الآية كما تقدّم في حديث معاذٍ الطويل، وقال أبو إسحاق عن البراء ابن
عازبٍ قال: كان أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إذا كان الرّجل صائمًا
فنام قبل أن يفطر، لم يأكل إلى مثلها، وإنّ قيس بن صرمة الأنصاريّ كان
صائمًا، وكان يومه ذاك يعمل في أرضه، فلمّا حضر الإفطار أتى امرأته فقال:
هل عندك طعامٌ؟ قالت: لا ولكن أنطلق فأطلب لك. فغلبته عينه فنام، وجاءت
امرأته، فلمّا رأته نائمًا قالت: خيبةٌ لك! أنمت؟ فلمّا انتصف النّهار غشي
عليه، فذكر ذلك للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية: {أحلّ لكم
ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم} إلى قوله: {وكلوا واشربوا حتّى يتبيّن
لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} ففرحوا بها فرحًا شديدًا.
ولفظ البخاريّ هاهنا
من طريق أبي إسحاق: سمعت البراء قال: لمّا نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون
النّساء، رمضان كلّه، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل اللّه: {علم اللّه
أنّكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم}.
وقال عليّ بن أبي
طلحة، عن ابن عباس قال: كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلّوا العشاء حرم
عليهم النّساء والطّعام إلى مثلها من القابلة، ثمّ إنّ أناسًا من المسلمين
أصابوا من النّساء والطّعام في شهر رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطّاب،
فشكوا ذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأنزل اللّه تعالى: {علم
اللّه أنّكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهنّ}
وكذا روى العوفيّ عن ابن عبّاسٍ.
وقال موسى بن عقبة،
عن كريب، عن ابن عبّاسٍ، قال: إنّ النّاس كانوا قبل أن ينزل في الصّوم ما
نزل فيهم يأكلون ويشربون، ويحلّ لهم شأن النّساء، فإذا نام أحدهم لم يطعم
ولم يشرب ولا يأتي أهله حتّى يفطر من القابلة، فبلغنا أنّ عمر بن الخطّاب
بعدما نام ووجب عليه الصوم وقع على أهله، ثمّ جاء إلى النّبيّ صلّى اللّه
عليه وسلّم فقال: أشكو إلى اللّه وإليك الذي صنعت. قال: "وماذا صنعت؟ "
قال: إنّي سوّلت لي نفسي، فوقعت على أهلي بعد ما نمت وأنا أريد الصّوم.
فزعموا أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "ما كنت خليقًا أن تفعل".
فنزل الكتاب: {أحلّ لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم}
وقال سعيد بن أبي
عروبة، عن قيس بن سعدٍ، عن عطاء بن أبي رباحٍ، عن أبي هريرة في قول اللّه
تعالى {أحلّ لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم} إلى قوله: {ثمّ أتمّوا
الصّيام إلى اللّيل} قال: كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الآية إذا صلّوا
العشاء الآخرة حرم عليهم الطّعام والشّراب والنّساء حتّى يفطروا، وإنّ عمر
بن الخطّاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء، وأنّ صرمة بن قيسٍ الأنصاريّ غلبته
عينه بعد صلاة المغرب، فنام ولم يشبع من الطّعام، ولم يستيقظ حتّى صلّى
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم العشاء، فقام فأكل وشرب، فلمّا أصبح أتى
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبره بذلك، فأنزل اللّه عند ذلك: {أحلّ
لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم} يعني بالرّفث: مجامعة النّساء {هنّ
لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنّ علم اللّه أنّكم كنتم تختانون أنفسكم} يعني:
تجامعون النّساء، وتأكلون وتشربون بعد العشاء {فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن
باشروهنّ} يعني: جامعوهنّ {وابتغوا ما كتب اللّه لكم} يعني: الولد {وكلوا
واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثمّ أتمّوا
الصّيام إلى اللّيل} فكان ذلك عفوًا من اللّه ورحمةً.
وقال هشيم، عن حصين
بن عبد الرّحمن، عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، قال: قام عمر بن الخطّاب، رضي
اللّه عنه، فقال: يا رسول اللّه، إنّي أردت أهلي البارحة على ما يريد
الرجل أهله فقالت: إنّها قد نامت، فظننتها تعتلّ، فواقعتها، فنزل في عمر:
{أحلّ لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم} وهكذا رواه شعبة، عن عمرو بن
مرّة، عن ابن أبي ليلى، به.
وقال أبو جعفر بن
جريرٍ: حدّثني المثنّى، حدّثنا سويدٌ، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة،
حدّثني موسى بن جبيرٍ -مولى بني سلمة -أنّه سمع عبد اللّه بن كعب بن مالكٍ
يحدّث عن أبيه قال: كان النّاس في رمضان إذا صام الرّجل فأمسى فنام، حرّم
عليه الطّعام والشّراب والنّساء حتّى يفطر من الغد. فرجع عمر بن الخطّاب من
عند النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ذات ليلةٍ وقد سمر عنده، فوجد امرأته
قد نامت، فأرادها، فقالت: إنّي قد نمت! فقال: ما نمت! ثمّ وقع بها. وصنع
كعب بن مالكٍ مثل ذلك. فغدا عمر بن الخطّاب إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم فأخبره، فأنزل اللّه: {علم اللّه أنّكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب
عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهنّ} [الآية] .
وهكذا روي عن مجاهدٍ،
وعطاءٍ، وعكرمة، والسّدّيّ، وقتادة، وغيرهم في سبب نزول هذه الآية في عمر
بن الخطّاب ومن صنع كما صنع، وفي صرمة بن قيسٍ؛ فأباح الجماع والطّعام
والشّراب في جميع اللّيل رحمةً ورخصةً ورفقًا.
وقوله: {وابتغوا ما
كتب اللّه لكم} قال أبو هريرة، وابن عبّاسٍ وأنسٌ، وشريح القاضي، ومجاهدٌ،
وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ، وعطاءٌ، والرّبيع بن أنسٍ، والسّدّيّ، وزيد بن
أسلم، والحكم بن عتبة ومقاتل بن حيّان، والحسن البصريّ، والضّحّاك، وقتادة،
وغيرهم: يعني الولد.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: {وابتغوا ما كتب اللّه لكم} يعني: الجماع.
وقال عمرو بن مالكٍ
النّكري، عن أبي الجوزاء، عن ابن عبّاسٍ: {وابتغوا ما كتب اللّه لكم} قال:
ليلة القدر. رواه ابن أبي حاتمٍ، وابن جريرٍ.
وقال عبد الرّزّاق:
أخبرنا معمر قال: قال قتادة: وابتغوا الرّخصة التي كتب اللّه لكم. وقال
سعيدٌ عن قتادة: {وابتغوا ما كتب اللّه لكم} يقول: ما أحلّ اللّه لكم.
وقال عبد الرّزّاق
أيضًا: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينارٍ، عن عطاء بن أبي رباحٍ، قال:
قلت لابن عبّاسٍ: كيف تقرأ هذه الآية: {وابتغوا} أو: "اتّبعوا"؟ قال:
أيّتهما شئت: عليك بالقراءة الأولى.
واختار ابن جريرٍ أنّ الآية أعمّ من هذا كلّه.
وقوله: {وكلوا
واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثمّ أتمّوا
الصّيام إلى اللّيل} أباح تعالى الأكل والشّرب، مع ما تقدّم من إباحة
الجماع في أيّ اللّيل شاء الصائم إلى أن يتبيّن ضياء الصّباح من سواد
اللّيل، وعبّر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود، ورفع اللّبس بقوله:
{من الفجر} كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أبو عبد اللّه البخاريّ:
حدّثنا ابن أبي مريم، حدّثنا أبو غسّان محمّد بن مطرّف، حدّثني أبو حازمٍ،
عن سهل بن سعدٍ، قال: أنزلت: {وكلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض
من الخيط الأسود} ولم ينزل {من الفجر} وكان رجالٌ إذا أرادوا الصّوم، ربط
أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل حتّى يتبيّن له
رؤيتهما، فأنزل اللّه بعد: {من الفجر} فعلموا أنّما يعني: اللّيل والنّهار.
وقال الإمام أحمد:
حدّثنا هشيم، أخبرنا حصين، عن الشّعبيّ، أخبرني عديّ بن حاتمٍ قال: لمّا
نزلت هذه الآية: {وكلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط
الأسود} عمدت إلى عقالين، أحدهما أسود والآخر أبيض، قال: فجعلتهما تحت
وسادتي، قال: فجعلت أنظر إليهما فلا تبيّن لي الأسود من الأبيض، ولا الأبيض
من الأسود، فلمّا أصبحت غدوت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
فأخبرته بالّذي صنعت. فقال: "إنّ وسادك إذًا لعريضٌ، إنّما ذلك بياض
النّهار وسواد اللّيل".
أخرجاه في الصّحيحين
من غير وجهٍ، عن عديّ. ومعنى قوله: "إنّ وسادك إذًا لعريضٌ" أي: إن كان يسع
لوضع الخيط الأسود والخيط الأبيض المرادين من هذه الآية تحتها، فإنّهما
بياض النّهار وسواد اللّيل. فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب.
وهكذا وقع في رواية
البخاريّ مفسّرًا بهذا: أخبرنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا أبو عوانة، عن
حصين، عن الشّعبيّ، عن عديّ قال: أخذ عدي عقالا أبيض وعقالا أسود، حتّى كان
بعض اللّيل نظر فلم يتبيّنا. فلمّا أصبح قال: يا رسول اللّه، جعلت تحت
وسادتي. قال: "إنّ وسادك إذًا لعريضٌ، إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت
وسادتك".
وجاء في بعض الألفاظ:
إنّك لعريض القفا. ففسّره بعضهم بالبلادة، وهو ضعيفٌ. بل يرجع إلى هذا؛
لأنّه إذا كان وساده عريضًا فقفاه أيضًا عريضٌ، واللّه أعلم. ويفسّره رواية
البخاريّ أيضًا:
حدّثنا قتيبة، حدّثنا
جريرٌ، عن مطرّف، عن الشّعبيّ، عن عديّ بن حاتمٍ قال: قلت: يا رسول اللّه،
ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أهما الخيطان؟ قال: "إنّك لعريض القفا
إن أبصرت الخيطين". ثمّ قال: "لا بل هو سواد اللّيل وبياض النّهار".
وفي إباحته تعالى
جواز الأكل إلى طلوع الفجر، دليلٌ على استحباب السّحور؛ لأنّه من باب
الرّخصة، والأخذ بها محبوبٌ؛ ولهذا وردت السّنّة الثّابتة عن رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم بالحثّ على السّحور [لأنّه من باب الرّخصة والأخذ
بها] ففي الصّحيحين عن أنسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
"تسحّروا فإنّ في السّحور بركةٌ". وفي صحيح مسلمٍ، عن عمرو بن العاص رضي
اللّه عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن فصل ما بين صيامنا
وصيام أهل الكتاب أكلة السّحر ".
وقال الإمام أحمد:
حدّثنا إسحاق بن عيسى هو ابن الطّبّاع، حدّثنا عبد الرّحمن بن زيدٍ، عن
أبيه، عن عطاء بن يسارٍ، عن أبي سعيدٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم: "السّحور أكله بركةٌ؛ فلا تدعوه، ولو أنّ أحدكم يجرع جرعةً من
ماءٍ، فإنّ اللّه وملائكته يصلّون على المتسحّرين".
وقد ورد في التّرغيب
في السّحور أحاديث كثيرةٌ حتّى ولو بجرعةٍ من ماءٍ، تشبّهًا بالآكلين.
ويستحبّ تأخيره إلى قريب انفجار الفجر، كما جاء في الصّحيحين، عن أنس بن
مالكٍ، عن زيد بن ثابتٍ، قال: تسحّرنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم، ثمّ قمنا إلى الصّلاة. قال أنسٌ: قلت لزيدٍ: كم كان بين الأذان
والسّحور؟ قال: قدر خمسين آيةً.
وقال الإمام أحمد:
حدّثنا موسى بن داود، حدّثنا ابن لهيعة، عن سالم بن غيلان، عن سليمان بن
أبي عثمان، عن عديّ بن حاتمٍ الحمصيّ، عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلم: "لا تزال أمّتي بخيرٍ ما عجّلوا الإفطار وأخّروا
السّحور". وقد ورد في أحاديث كثيرةٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
سمّاه الغداء المبارك، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد، والنّسائيّ، وابن
ماجه من رواية حمّاد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ بن حبيشٍ، عن
حذيفة بن اليمان قال: تسحّرنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وكان
النّهار إلّا أنّ الشّمس لم تطلع. وهو حديثٌ تفرّد به عاصم بن أبي النّجود،
قاله النّسائيّ، وحمله على أنّ المراد قرب النّهار، كما قال تعالى: {فإذا
بلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروفٍ أو فارقوهنّ بمعروفٍ} [الطّلاق: 2] أي:
قاربن انقضاء العدّة، فإمّا إمساكٌ أو ترك للفراق. وهذا الذي قاله هو
المتعيّن حمل الحديث عليه: أنّهم تسحّروا ولم يتيقّنوا طلوع الفجر، حتّى
أنّ بعضهم ظنّ طلوعه وبعضهم لم يتحقّق ذلك. وقد روي عن طائفةٍ كثيرةٍ من
السّلف أنّهم تسامحوا في السّحور عند مقاربة الفجر. روي مثل هذا عن أبي
بكرٍ، وعمر، وعليٍّ، وابن مسعودٍ، وحذيفة، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن
عبّاسٍ، وزيد بن ثابتٍ وعن طائفةٍ كثيرةٍ من التّابعين، منهم: محمّد بن
عليّ بن الحسين، وأبو مجلز، وإبراهيم النّخعي، وأبو الضّحى، وأبو وائلٍ،
وغيره من أصحاب ابن مسعودٍ وعطاءٌ، والحسن، والحكم بن عيينة ومجاهدٌ، وعروة
بن الزّبير، وأبو الشّعثاء جابر بن زيد. وإليه ذهب الأعمش معمر بن راشدٍ.
وقد حرّرنا أسانيد ذلك في كتاب الصّيام المفرد، وللّه الحمد.
وحكى أبو جعفر بن جريرٍ في تفسيره، عن بعضهم: أنّه إنّما يجب الإمساك من طلوع الشّمس كما يجوز الإفطار بغروبها.
قلت: وهذا القول ما
أظنّ أحدًا من أهل العلم يستقرّ له قدم عليه، لمخالفته نصّ القرآن في قوله:
{وكلوا واشربوا حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر
ثمّ أتمّوا الصّيام إلى اللّيل} وقد ورد في الصّحيحين من حديث القاسم، عن
عائشة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لا يمنعكم أذان بلالٍ
عن سحوركم، فإنّه ينادي بليلٍ، فكلوا واشربوا حتّى تسمعوا أذان ابن أمّ
مكتومٍ فإنّه لا يؤذّن حتّى يطلع الفجر". لفظ البخاريّ.
وقال الإمام أحمد:
حدّثنا موسى بن داود، حدّثنا محمّد بن جابرٍ، عن قيس بن طلق، عن أبيه: أنّ
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: "ليس الفجر المستطيل في الأفق ولكنّه
المعترض الأحمر". ورواه أبو داود، والتّرمذيّ ولفظهما: "كلوا واشربوا ولا
يهيدنّكم السّاطع المصعد، فكلوا واشربوا حتّى يعترض لكم الأحمر".
وقال ابن جريرٍ:
حدّثنا محمّد بن المثنّى، حدّثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ، حدّثنا شعبة، عن
شيخٍ من بني قشيرٍ: سمعت سمرة بن جندب يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم: "لا يغرّنّكم نداء بلالٍ وهذا البياض حتّى ينفجر الفجر، أو
يطلع الفجر".
ثمّ رواه من حديث
شعبة وغيره، عن سوادة بن حنظلة، عن سمرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم: "لا يمنعكم من سحوركم أذان بلالٍ ولا الفجر المستطيل، ولكنّ
الفجر المستطير في الأفق".
قال: وحدّثني يعقوب
بن إبراهيم، حدّثنا ابن علية، عن عبد اللّه بن سوادة القشيري، عن أبيه، عن
سمرة بن جندبٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا يغرّنّكم
أذان بلال ولا هذا البياض، تعمدوا الصبح حين يستطير".
ورواه مسلمٌ في صحيحه عن زهير بن حربٍ، عن إسماعيل بن إبراهيم -يعني ابن عليّة -مثله سواءً.
وقال ابن جريرٍ:
حدّثنا ابن حميد، حدّثنا ابن المبارك، عن سليمان التّيميّ، عن أبي عثمان
النّهديّ، عن ابن مسعودٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا
يمنعنّ أحدكم أذان بلالٍ عن سحوره -أو قال نداء بلالٍ -فإنّ بلالًا يؤذّن
-أو [قال] ينادي -لينبّه نائمكم وليرجع قائمكم، وليس الفجر أن يقول هكذا
أوهكذا، حتّى يقول هكذا".
ورواه من وجهٍ آخر عن التّيميّ، به.
وحدّثني الحسن بن
الزّبرقان النّخعيّ، حدّثنا أبو أسامة عن محمّد بن أبي ذئب، عن الحارث بن
عبد الرّحمن، عن محمّد بن عبد الرّحمن بن ثوبان قال: قال رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم: "الفجر فجران، فالذي كأنّه ذنب السّرحان لا يحرّم شيئًا،
وأمّا المستطير الذي يأخذ الأفق، فإنّه يحلّ الصّلاة ويحرّم الطّعام".
وهذا مرسلٌ جيّدٌ.
وقال عبد الرّزّاق:
أخبرنا ابن جريجٍ، عن عطاءٍ قال: سمعت ابن عبّاسٍ يقول: هما فجران، فأمّا
الذي يسطع في السّماء فليس يحلّ ولا يحرّم شيئًا، ولكنّ الفجر الذي يستبين
على رؤوس الجبال، هو الذي يحرّم الشّراب. قال عطاءٌ: فأمّا إذا سطع سطوعًا
في السّماء، وسطوعه أن يذهب في السّماء طولًا فإنّه لا يحرم به شرابٌ
لصيامٍ ولا صلاةٌ، ولا يفوت به حجٌّ ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال، حرّم
الشّراب للصّيام وفات الحجّ.
وهذا إسنادٌ صحيحٌ إلى ابن عبّاسٍ وعطاءٍ، وهكذا روي عن غير واحدٍ من السّلف، رحمهم اللّه.
مسألةٌ: ومن جعله
تعالى الفجر غايةً لإباحة الجماع والطّعام والشّراب لمن أراد الصّيام،
يستدلّ على أنّه من أصبح جنبًا فليغتسل، وليتمّ صومه، ولا حرج عليه. وهذا
مذهب الأئمّة الأربعة وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا، لما رواه البخاريّ
ومسلمٌ من حديث عائشة وأمّ سلمة، رضي اللّه عنهما، أنّهما قالتا: كان رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصبح جنبًا من جماعٍ غير احتلامٍ، ثمّ يغتسل
ويصوم. وفي حديث أمّ سلمة عندهما: ثمّ لا يفطر ولا يقضي. وفي صحيح مسلمٍ،
عن عائشة: أنّ رجلًا قال: يا رسول اللّه، تدركني الصّلاة وأنا جنبٌ، فأصوم؟
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "وأنا تدركني الصّلاة وأنا جنبٌ،
فأصوم". فقال: لست مثلنا -يا رسول اللّه -قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك
وما تأخّر. فقال: "واللّه إنّي لأرجو أن أكون أخشاكم للّه وأعلمكم بما
أتّقي". فأمّا الحديث الذي رواه الإمام أحمد:
حدّثنا عبد الرّزّاق،
عن معمر، عن همّامٍ، عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
أنّه قال: "إذا نودي للصّلاة -صلاة الصّبح -وأحدكم جنبٌ فلا يصم يومئذٍ"
فإنّه حديثٌ جيّد الإسناد على شرط الشّيخين، كما ترى وهو في الصّحيحين عن
أبي هريرة، عن الفضل بن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وفي سنن
النّسائيّ عنه، عن أسامة بن زيدٍ، والفضل بن عبّاسٍ ولم يرفعه. فمن العلماء
من علّل هذا الحديث بهذا، ومنهم من ذهب إليه، ويحكى هذا عن أبي هريرة،
وسالمٍ، وعطاءٍ، وهشام بن عروة، والحسن البصريّ. ومنهم من ذهب إلى التّفرقة
بين أن يصبح جنبًا نائمًا فلا عليه، لحديث عائشة وأمّ سلمة، أو مختارًا
فلا صوم له، لحديث أبي هريرة. يحكى هذا عن عروة، وطاوسٍ، والحسن. ومنهم من
فرّق بين الفرض فيتمّه ويقضيه وأمّا النّفل فلا يضرّه. رواه الثّوريّ، عن
منصورٍ، عن إبراهيم النخعي. وهو روايةٌ عن الحسن البصريّ أيضًا، ومنهم من
ادّعى نسخ حديث أبي هريرة بحديثي عائشة وأمّ سلمة، ولكن لا تاريخ معه.
وادّعى ابن حزمٍ أنّه
منسوخٌ بهذه الآية الكريمة، وهو بعيدٌ أيضًا، وأبعد؛ إذ لا تاريخ، بل
الظّاهر من التّاريخ خلافه. ومنهم من حمل حديث أبي هريرة على نفي الكمال
"فلا صوم له" لحديث عائشة وأمّ سلمة الدّالّين على الجواز. وهذا المسلك
أقرب الأقوال وأجمعها، واللّه أعلم.
وقوله تعالى: {ثمّ
أتمّوا الصّيام إلى اللّيل} يقتضي الإفطار عند غروب الشّمس حكمًا شرعيًّا،
كما جاء في الصّحيحين، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه،
قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إذا أقبل اللّيل من هاهنا
وأدبر النّهار من هاهنا، فقد أفطر الصّائم".
وعن سهل بن سعدٍ
السّاعديّ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا
يزال النّاس بخيرٍ ما عجّلوا الفطر" أخرجاه أيضًا.
وقال الإمام أحمد:
حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، حدّثنا الأوزاعيّ، حدّثنا قرّة بن عبد الرّحمن، عن
الزّهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم:
"يقول اللّه، عزّ وجلّ: إنّ أحبّ عبادي إليّ أعجلهم فطرًا".
ورواه التّرمذيّ من غير وجهٍ، عن الأوزاعيّ، به. وقال: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
وقال أحمد أيضًا:
حدّثنا عفّان، حدّثنا عبيد اللّه بن إيادٍ، سمعت إياد بن لقيطٍ قال: سمعت
ليلى امرأة بشير بن الخصاصيّة، قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلةً، فمنعني
بشيرٌ وقال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه. وقال: "يفعل ذلك
النّصارى، ولكن صوموا كما أمركم اللّه، وأتمّوا الصيام إلى اللّيل، فإذا
كان اللّيل فأفطروا".
[وروى الحافظ ابن
عساكر، حدّثنا بكر بن سهلٍ، حدّثنا عبد اللّه بن يوسف، حدّثنا يحيى بن
حمزة، عن ثور بن يزيد، عن عليّ بن أبي طلحة، عن عبد الملك بن أبي ذرٍّ، أنّ
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم واصل يومين وليلةً؛ فأتاه جبريل فقال:
إنّ اللّه قد قبل وصالك، ولا يحلّ لأحدٍ بعدك، وذلك بأنّ اللّه قال: {ثمّ
أتمّوا الصّيام إلى اللّيل} فلا صيام بعد اللّيل، وأمرني بالوتر قبل الفجر،
وهذا إسنادٌ لا بأس به، أورده في ترجمة عبد الملك بن أبي ذرٍّ في تاريخه] .
ولهذا ورد في الأحاديث الصّحيحة النّهي عن الوصال، وهو أن يصل صوم يومٍ بيومٍ آخر، ولا يأكل بينهما شيئًا. قال الإمام أحمد:
حدّثنا عبد الرّزّاق،
حدّثنا معمر، عن الزّهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا تواصلوا". قالوا: يا رسول اللّه، إنّك تواصل.
قال: "فإنّي لست مثلكم، إنّي أبيت يطعمني ربّي ويسقيني". قال: فلم ينتهوا
عن الوصال، فواصل بهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يومين وليلتين، ثمّ
رأوا الهلال، فقال: "لو تأخّر الهلال لزدتكم" كالمنكّل بهم.
وأخرجاه في الصّحيحين، من حديث الزّهريّ به. وكذلك أخرجا النّهي عن الوصال من حديث أنسٍ وابن عمر.
وعن عائشة، رضي اللّه
عنها، قالت: نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن الوصال، رحمةً لهم،
فقالوا: إنّك تواصل. قال: "إنّي لست كهيئتكم، إنّي يطعمني ربّي ويسقيني".
فقد ثبت النّهي عنه
من غير وجهٍ، وثبت أنّه من خصائص النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وأنّه كان
يقوّى على ذلك ويعان، والأظهر أنّ ذلك الطّعام والشّراب في حقّه إنّما كان
معنويًّا لا حسّيًّا، وإلّا فلا يكون مواصلًا مع الحسّيّ، ولكن كما قال
الشّاعر:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها = عن الشّراب وتلهيها عن الزاد
وأمّا من أحبّ أن
يمسك بعد غروب الشّمس إلى وقت السّحر فله ذلك، كما في حديث أبي سعيدٍ
الخدريّ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا
تواصلوا، فأيّكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السّحر". قالوا: فإنّك تواصل يا
رسول اللّه. قال: "إنّي لست كهيئتكم، إنّي أبيت لي مطعم يطعمني، وساقٍ
يسقيني". أخرجاه في الصّحيحين أيضًا.
وقال ابن جريرٍ:
حدّثنا أبو كريب، حدّثنا أبو نعيمٍ، حدّثنا أبو إسرائيل العبسي عن أبي بكر
ابن حفصٍ، عن أمّ ولد حاطب بن أبي بلتعة: أنّها مرّت برسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم وهو يتسحّر، فدعاها إلى الطّعام. فقالت: إنّي صائمةٌ.
قال: وكيف تصومين؟ فذكرت ذلك للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: "أين
أنت من وصال آل محمّدٍ، من السّحر إلى السّحر".
وقال الإمام أحمد:
حدّثنا عبد الرّزّاق، حدّثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن محمّد بن عليٍّ،
عن عليٍّ: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان يواصل من السّحر إلى
السّحر.
وقد روى ابن جريرٍ،
عن عبد اللّه بن الزّبير وغيره من السّلف، أنّهم كانوا يواصلون الأيّام
المتعدّدة [وقد روى ابن جريرٍ عن عبد اللّه بن الزّبير وغيره من السّلف]
وحمله منهم على أنّهم كانوا يفعلون ذلك رياضةً لأنفسهم، لا أنّهم كانوا
يفعلونه عبادةً. واللّه أعلم. ويحتمل أنّهم كانوا يفهمون من النّهي أنّه
إرشاد، [أي] من باب الشّفقة، كما جاء في حديث عائشة: "رحمةً لهم"، فكان ابن
الزّبير وابنه عامرٌ ومن سلك سبيلهم يتجشّمون ذلك ويفعلونه، لأنّهم كانوا
يجدون قوة عليه. وقد ذكر عنهم أنّهم كانوا أوّل ما يفطرون على السّمن
والصّبر لئلّا تتخرّق الأمعاء بالطّعام أوّلًا. وقد روي عن ابن الزّبير
أنّه كان يواصل سبعة أيّامٍ ويصبح في اليوم السّابع أقواهم وأجلدهم. وقال
أبو العالية: إنّما فرض اللّه الصّيام بالنّهار فإذا جاء باللّيل فمن شاء
أكل ومن شاء لم يأكل.
وقوله تعالى: {ولا
تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد} قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس:
هذا في الرّجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غير رمضان، فحرّم اللّه عليه
أن ينكح النّساء ليلًا ونهارًا حتّى يقضي اعتكافه.
وقال الضّحّاك: كان
الرّجل إذا اعتكف فخرج من المسجد، جامع إن شاء، فقال اللّه تعالى: {ولا
تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد} أي: لا تقربوهنّ ما دمتم عاكفين في
المسجد ولا في غيره. وكذا قال مجاهدٌ، وقتادة وغير واحدٍ إنّهم كانوا
يفعلون ذلك حتّى نزلت هذه الآية.
قال ابن أبي حاتمٍ:
وروي عن ابن مسعودٍ، ومحمّد بن كعبٍ، ومجاهدٍ، وعطاءٍ، والحسن، وقتادة،
والضّحّاك والسّدّي، والرّبيع بن أنسٍ، ومقاتلٍ، قالوا: لا يقربها وهو
معتكفٌ. وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الأمر المتّفق عليه عند العلماء: أنّ
المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفًا في مسجده، ولو ذهب إلى منزله
لحاجةٍ لا بدّ له منها فلا يحلّ له أن يتلبّث فيه إلّا بمقدار ما يفرغ من
حاجته تلك، من قضاء الغائط، أو أكلٍ، وليس له أن يقبّل امرأته، ولا يضمّها
إليه، ولا يشتغل بشيءٍ سوى اعتكافه، ولا يعود المريض، لكن يسأل عنه وهو
مارٌّ في طريقه.
وللاعتكاف أحكامٌ
مفصّلةٌ في بابه، منها ما هو مجمعٌ عليه بين العلماء، ومنها ما هو مختلفٌ
فيه. وقد ذكرنا قطعة صالحٍةً من ذلك في آخر كتاب الصّيام، وللّه الحمد.
ولهذا كان الفقهاء
المصنّفون يتبعون كتاب الصّيام بكتاب الاعتكاف، اقتداءً بالقرآن العظيم،
فإنّه نبّه على ذكر الاعتكاف بعد ذكر الصّوم. وفي ذكره تعالى الاعتكاف بعد
الصّيام إرشادٌ وتنبيهٌ على الاعتكاف في الصّيام، أو في آخر شهر الصّيام،
كما ثبتت السّنّة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أنّه كان يعتكف
العشر الأواخر من شهر رمضان، حتّى توفّاه اللّه، عزّ وجلّ. ثمّ اعتكف
أزواجه من بعده. أخرجاه من حديث عائشة أمّ المؤمنين، رضي اللّه عنها، وفي
الصّحيحين أنّ صفيّة بنت حيي كانت تزور النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو
معتكفٌ في المسجد، فتحدّثت عنده ساعةً، ثمّ قامت لترجع إلى منزلها -وكان
ذلك ليلًا -فقام النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ليمشي معها حتّى تبلغ
دارها، وكان منزلها في دار أسامة بن زيدٍ في جانب المدينة، فلمّا كان ببعض
الطّريق لقيه رجلان من الأنصار، فلمّا رأيا النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم
أسرعا -وفي روايةٍ: تواريا-أي حياءً من النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لكون
أهله معه، فقال لهما النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "على رسلكما إنّها
صفيّة بنت حييٍّ" أي: لا تسرعا، واعلما أنّها صفيّة بنت حييٍّ، أي: زوجتي.
فقالا سبحان اللّه يا رسول اللّه، فقال عليه الصّلاة والسّلام: "إنّ
الشّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم، وإنّي خشيت أن يقذف في قلوبكما
شيئًا" أو قال: "شرًّا".
قال الشّافعيّ، رحمه
اللّه: أراد، عليه السّلام، أن يعلّم أمّته التّبرّي من التّهمة في محلها،
لئلّا يقعا في محذورٍ، وهما كانا أتقى للّه أن يظنّا بالنّبيّ صلّى اللّه
عليه وسلّم شيئًا. واللّه أعلم.
ثمّ المراد
بالمباشرة: إنّما هو الجماع ودواعيه من تقبيلٍ، ومعانقةٍ ونحو ذلك، فأمّا
معاطاة الشّيء ونحوه فلا بأس به؛ فقد ثبت في الصّحيحين، عن عائشة، رضي
اللّه عنها، أنّها قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يدني إليّ
رأسه فأرجّله وأنا حائضٌ، وكان لا يدخل البيت إلّا لحاجة الإنسان. قالت
عائشة: ولقد كان المريض يكون في البيت فما أسأل عنه إلّا وأنا مارّةٌ.
وقوله: {تلك حدود
اللّه} أي: هذا الذي بيّنّاه، وفرضناه، وحدّدناه من الصّيام، وأحكامه، وما
أبحنا فيه وما حرّمنا، وذكر غاياته ورخصه وعزائمه، حدود اللّه، أي: شرعها
اللّه وبيّنها بنفسه {فلا تقربوها} أي: لا تجاوزوها، وتعتدوها.
وكان الضّحّاك ومقاتلٌ يقولان في قوله تعالى: {تلك حدود اللّه} أي: المباشرة في الاعتكاف.
وقال عبد الرّحمن بن
زيد بن أسلم: يعني هذه الحدود الأربعة، ويقرأ {أحلّ لكم ليلة الصّيام
الرّفث إلى نسائكم} حتّى بلغ: {ثمّ أتمّوا الصّيام إلى اللّيل} قال: وكان
أبي وغيره من مشيختنا يقولون هذا ويتلونه علينا.
{كذلك يبيّن اللّه
آياته للنّاس} أي: كما بيّن الصّيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله، كذلك يبيّن
سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم {للنّاس
لعلّهم يتّقون} أي: يعرفون كيف يهتدون، وكيف يطيعون كما قال تعالى: {هو
الّذي ينزل على عبده آياتٍ بيّناتٍ ليخرجكم من الظّلمات إلى النّور [وإنّ
اللّه بكم لرءوفٌ رحيمٌ}]. [الحديد: 9] ). [تفسير ابن كثير: 1/509-520]
الخطاب لأمة محمد صلى
الله عليه وسلم، والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض، فأضيفت الأموال إلى ضمير
المنهي لما كان كل واحد منهيا عنه، وكما قال تقتلون أنفسكم [البقرة: 85]،
ويدخل في هذه الآية القمار والخداع والغصوب وجحد الحقائق وغير ذلك، ولا
يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما يبيع لأن الغبن كأنه
وهبه.
وقال قوم: المراد
بالآية ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل أي في الملاهي والقيان والشراب
والبطالة، فتجيء على هذا إضافة المال إلى ضمير المالكين.
وقوله تعالى: وتدلوا
بها الآية، يقال أدلى الرجل بالحجة أو بالأمر الذي يرجو النجاح به تشبيها
بالذي يرسل الدلو في البئر يرجو بها الماء.
قال قوم: معنى الآية
تسارعون في الأموال إلى المخاصمة إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم، إما بأن لا
تكون على الجاحد بينة، أو يكون مال أمانة كاليتيم ونحوه مما يكون القول فيه
قوله، فالباء في بها باء السبب، وقيل: معنى الآية ترشوا بها على أكل أكثر
منها، فالباء إلزاق مجرد، وهذا القول يترجح لأن الحكام مظنة الرشا إلا من
عصم وهو الأقل، وأيضا فإن اللفظتين متناسبتان، تدلوا من أرسل الدلو والرشوة
من الرشا، كأنها يمد بها لتقضى الحاجة، وتدلوا في موضع جزم عطفا على
تأكلوا، وفي مصحف أبيّ «ولا تدلوا» بتكرار حرف النهي، وهذه القراءة تؤيد
جزم تدلوا في قراءة الجماعة، وقيل: تدلوا في موضع نصب على الظرف، وهذا مذهب
كوفي أن معنى الظرف هو الناصب، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه «أن»
مضمرة، والفريق: القطعة والجزء، وبالإثم معناه بالظلم والتعدي، وسمي ذلك
إثما لما كان الإثم معنى يتعلق بفاعله، وأنتم تعلمون أي إنكم مبطلون آثمون،
وهذه مبالغة في المعصية والجرأة). [المحرر الوجيز: 1/457-458]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكّام لتأكلوا فريقًا من أموال النّاس بالإثم وأنتم تعلمون (188)}
قال عليّ ابن أبي
طلحة، وعن ابن عبّاسٍ: هذا في الرّجل يكون عليه مالٌ، وليس عليه فيه بيّنة،
فيجحد المال ويخاصم إلى الحكّام، وهو يعرف أنّ الحقّ عليه، وهو يعلم أنّه
آثمٌ آكل حرامٍ.
وكذا روي عن مجاهدٍ،
وسعيد بن جبير، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والسّدّيّ، ومقاتل بن حيّان، وعبد
الرّحمن بن زيد بن أسلم أنّهم قالوا: لا تخاصم وأنت تعلم أنّك ظالمٌ. وقد
ورد في الصّحيحين عن أمّ سلمة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
"ألا إنّما أنا بشر، وإنّما يأتيني الخصم فلعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته
من بعضٍ فأقضي له، فمن قضيت له بحقّ مسلمٍ، فإنّما هي قطعةٌ من نارٍ،
فليحملها، أو ليذرها". فدلّت هذه الآية الكريمة، وهذا الحديث على أنّ حكم
الحاكم لا يغيّر الشّيء في نفس الأمر، فلا يحلّ في نفس الأمر حرامًا هو
حرامٌ، ولا يحرّم حلالًا هو حلالٌ، وإنّما هو يلزم في الظّاهر، فإن طابق في
نفس الأمر فذاك، وإلّا فللحاكم أجره وعلى المحتال وزره؛ ولهذا قال تعالى:
{ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكّام لتأكلوا فريقًا}
[أي: طائفةً] {من أموال النّاس بالإثم وأنتم تعلمون} أي: تعلمون بطلان ما
تدّعونه وتروّجون في كلامكم.
قال قتادة: اعلم -يا
ابن آدم -أنّ قضاء القاضي لا يحل لك حرامًا، ولا يحقّ لك باطلًا وإنّما
يقضي القاضي بنحو ما يرى ويشهد به الشّهود، والقاضي بشر يخطئ ويصيب،
واعلموا أنّ من قضي له بباطلٍ أنّ خصومته لم تنقض حتّى يجمع اللّه بينهما
يوم القيامة، فيقضي على المبطل للمحقّ بأجود ممّا قضي به للمبطل على المحقّ
في الدّنيا.
وقال أبو حنيفة: حكم
الحاكم بطلاق الزّوجة إذا شهد عنده شاهدا زورٍ في نفس الأمر، ولكنّهما
عدلان عنده يحلّها للأزواج حتّى للشّاهدين ويحرّمها على زوجها الذي حكم
بطلاقها منه، وقالوا: هذا كلعان المرأة، إنّه يبينها من زوجها ويحرّمها
عليه، وإن كانت كاذبةً في نفس الأمر، ولو علم الحاكم بكذبها لحدّها ولما
حرّمها وهذا أولى.
مسألةٌ: قال
القرطبيّ: أجمع أهل السّنّة على أنّ من أكل مالًا حرامًا ولو ما يصدق عليه
اسم المال أنّه يفسق، وقال بشر بن المعتمر في طائفةٍ من المعتزلة: لا يفسق
إلّا بأكل مائتي درهمٍ فما زاد، ولا يفسق بما دون ذلك، وقال الجبائيّ: يفسق
بأكل درهمٍ فما فوقه إلّا بما دونه). [تفسير ابن كثير: 1/521]
* للاستزادة ينظر: هنا