17 Sep 2014
تفسير
قول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ
لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ
ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ
أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا
تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ
وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ
فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ
إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ
الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)}
تفسير
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ
لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ
ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ
أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للنّاس والحجّ وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى وأتوا البيوت من أبوابها واتّقوا اللّه لعلّكم تفلحون}
كان النّبى صلى الله عليه وسلم سئل عن الهلال في بدئه دقيقاً، وعن عظمه بعد، وعن رجوعه دقيقاً كالعرجون القديم، فأعلم اللّه عزّ وجلّ أنه جعل ذلك ليعلم الناس، أوقاتهم في حجهم وعدد نسائهم، وجميع ما يريدون عدمه مشاهرة؛ لأن هذا أسهل على الناس من حفظ عدد الأيام، ويستوي فيه الحاسب ، وغير الحاسب.
ومعنى الهلال واشتقاقه: من قولهم : استهل الصبي إذا بكى حين يولد ، أو صاح، وكأن قولهم أهل القوم بالحج والعمرة،أي: رفعوا أصواتهم بالتلبية، وإنما قيل له هلال ؛ لأنه حين يرى ، يهل الناس بذكره ، ويقال: أهل الهلال ، واستهل، ولا يقال: أهلّ، ويقال: أهللنا، أي : رأينا الهلال وأهللنا شهر كذا وكذا، إذا دخلنا فيه.
وأخبرني من أثق به من رواة البصريين والكوفيين جميعاً بما أذكره في أسماء الهلال ، وصفات الليالي التي في كل شهر.
فأول ذلك: إنما سمي الشهر شهراً لشهرته وبيانه، وسمّي هلالاً لما وصفنا من رفع الصوت بالإخبار عنه،
وقد اختلف الناس في تسميته هلالاً، وكم ليلة يسمّى؟ ، ومتى يسمّى قمراً؟،
1- فقال بعضهم يسمى هلالاً لليلتين من الشهر، ثم لا يسمى هلالاً إلى أن يعود في الشهر التالي،
2-وقال بعضهم يسمى هلالاً ثلاث ليال، ثم يسمى قمراً،
3- وقال بعضهم : يسمى هلالاً إلى أن يحجّر ، وتحجيره : أن يستدير بخطة دقيقة، وهو قول الأصمعي،
4-وقال بعضهم يسمى هلالاً إلى أن يبهر ضوؤه سواد الليل، فإذا غلب ضوؤة سواد الليل ، قيل له: قمر، وهذا لا يكون إلا في الليلة السابعة، والذي عندي، وما عليه الأكثر أنه يسمى هلالاً ابن ليلتين، فإنه في الثالثة يبين ضوؤه،
واسم القمر: الزبرقان، واسم دارته: الهالة، واسم ضوئ: ه الفخت
وقد قال بعض أهل اللغة : لا أدري الفخت اسم ضوئه أم ظلمته، واسم ظلمته على الحقيقة (واسم ظله) : السّمر، ولهذا قيل للمتحدثين ليلاً: سمّار، ويقال: ضاء القمر ، وأضاء، ويقال: طلع القمر، ولا يقال: أضاءت القمر ، أو ضاءت.
قال أبو إسحاق وحدثني من أثق به، عن الرّياشي ، عن أبي زيد، وأخبرني أيضاً من أثق ب، ه عن ابن الأعرابي بما أذكره في هذا الفصل: قال أبو زيد الأنصاري، يقال للقمر ابن ليلة: عتمة سخيلة حل أهلها برميلة، وابن ليلتين: حديث أمتين كذب ومين ، ورواه ابن الأعرابي بكذب ومين، وابن ثلاث : حديث فتيات غير جد مؤتلفات.
وقيل ابن ثلاث: قليل اللباث، وابن أربع عتمة ربع ، لا جائع /، ولا مرضع، وعن ابن الأعرابي : عتمة أم الربع، وابن خمس حديث وأنس،وقال أبو زيد : عشا خلفات قعس، وابن ست سمروبت، وابن سبع : دلجة الضبع ، وابن ثمان : قمر أضحيان ، وابن تسع ، عن أبي زيد: انقطع السشسع، وعن غيره : يلتقط فيه الجزع، وابن عشر : ثلث الشهر، وعن أبي زيد ، وغيره : محنق الفجر،
ولم تقل العرب بعد العشر في صفته ليلة ليلة كما قالت في هده العشر ، ولكنهم جزأوا صفته أجزاء عشرة، فجعلوا لكل ثلاث ليال صفة، فقالوا:
ثلاث غرر، وبعضهم يقول غز، وثلاث شهب، وثلاث بهر وبهر، وثلاث عشر، وثلاث بيض، وثلاث درع، ودرع،
ومعنى الدرع: سواد مقدّم الشاة ، وبياض مؤخرها، وإنما قيل لها : درع ودرع ؛ لأن القمر يغيب في أولها، فيكون أول الليل أدرع ؛ لأن أوله أسود، وما بعده مضي، وثلاث خنس؛ لأن القمر ينخنس فيها ، أي: يتأخر، وثلاث دهم، وإنما قيل لها دهم ؛ لأنها تظلم حتى تدهامّ، وقال بعضهم : ثلاث حنادس، وثلاث فحم ؛ لأن القمر يتفحم فيها، أي: يطلع في آخر الليل ، وثلاث دادي، وهي أواخر الشهر ، وإنما أخذت من الدأداء ، وهو ضرب من السير تسرع فيه الإبل نقل أرجلها إلى موضع أيديها، فالدأدأة آخر نقل القوائم، فكذلك الدأدي في آخر الشهر.
وجمع هلال: أهله،لأدنى العدد وأكثره؛ لأن فعالاً يجمع في أقل العدد على أفعلة ، مثل، مثال،وأمثلة،وحمار، وأحمرة ، وإذا جاوز أفعلة جمع على فعل، مثل:حمر ، ومثل،فكرهوا في التضعيف فعل نحو : هلل، وخلل، فقالوا: أهلة، وأخلة، فاقتصروا على جمع أدنى العدد، كما اقتصروا في ذوات الواو ، والياء على ذلك، نحو كساء ، وأكسية ، ورداء، وأردية.
وقوله عزّ وجلّ: {وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى}
قيل: إنه كان قوم من قريش ، وجماعة معهم من العرب إذا خرج الرجل منهم في حاجة فلم يقضها، ولم تتيسر له رجع ، فلم يدخل من باب بيته سنة، يفعل ذلك تطيراً، فأعلمهم اللّه عزّ وجل أن ذلك غير بر، أي: الإقامة على الوفاء بهذه السّنة ليس ببر،
وقال الأكثر من أهل التفسير: إنهم الحمس، وهم قوم من قريش، وبنو عامر بن صعصعة ، وثقيف ، وخزاعة، كانوا إذا أحرموا ، لا يأقطون الأقط، ولا ينفون الوبر ، ولا يسلون السّمن، وإذا خرج أحدهم من الإحرام لم يدخل من باب بيته، وإنما سمّوا الحمس؛ لأنهم تحمّسوا في دينهم ، أي: تشددوا.
وقال أهل اللغة الحماسة الشدة في الغضب، والشدة في القتال، والحماسة على الحقيقة الشدة في كل شيء.
وقال العجاج:
= وكم قطعنا من قفاف حمس =
أي: شداد، فأعلمهم اللّه عزّ وجلّ أن تشددهم في هذا الإحرام ليس ببر، وأعلمهم أن البر التقي، فقال:{ولكنّ البرّ من اتّقى}.
المعنى: ولكن البر برّ من اتقى مخالفة أمر اللّه عزّ وجلّ، فقال:
{وأتوا البيوت من أبوابها}، فأمرهم اللّه بترك سنة الجاهلية في هذه الحماسة). [معاني القرآن: 1/257-263]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله
تعالى: يسئلونك عن الأهلّة الآية، قال ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم:
نزلت على سؤال قوم من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم عن الهلال وما
فائدة محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس؟، وجمع الأهلّة وهو واحد في
الحقيقة من حيث كونه هلالا في شهر غير كونه هلالا في الآخر، فإنما جمع
أحواله من الهلالية، والهلال ليلتان بلا خلاف ثم يقمر، وقيل ثلاث. تفسير
قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ
وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وقاتلوا في سبيل اللّه الّذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين} قالوا في تفسيره : قاتلوا أهل مكة، وقال قوم : هذا أول فرض الجهاد ، ثم نسخه:{وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة} وقوله عزّ وجلّ:{ولا تعتدوا}أي: لا تظلموا، والاعتداء: مجاوزة الحق، وقيل في تفسيره قولان: قيل:{لا تعتدوا} : لا تقاتلوا غير من أمرتم بقتاله، ولا تقتلوا غيرهم، وقيل:{لا تعتدوا}أي: لا تجاوزوا إلى قتل النساء والأطفال).[معاني القرآن: 1/263] تفسير
قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ
حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا
تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ
فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ
(191)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {واقتلوهم
حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشدّ من القتل ولا تقاتلوهم
عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء
الكافرين} أي: حيث وجدتموهم، يقال: ثقفته أثقفه ثقفاًوثقافة، ويقال: رجل ثقف لقف، ومعنى الآية: لا تمتنعوا من قتلهم في الحرم وغيره. وقوله عزّ وجلّ: {والفتنة أشدّ من القتل} أي: فكفرهم في هذه الأمكنة أشد من القتل. وقوله عزّ وجلّ:{ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه} كانوا قد نهوا عن ابتدائهم بقتل ، أو قتال حتى يبتدي المشركون بذلك. وتقرأ: {ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه}، أي:
لا تبدأوهم بقتل حتى يبدأوكم به، وجائز : ولا تقتلوهم، وإن وقع القتل ببعض
دون بعض؛ لأن اللغة يجوز فيها قتلت القوم ، وإنّما قتل بعضهم إذا كان في
الكلام دليل على إرادة المتكلم).[معاني القرآن: 1/263-264] تفسير قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)} تفسير
قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ
الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى
الظَّالِمِينَ (193)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ويكون الدّين للّه فإن انتهوا فلا عدوان إلّا على الظّالمين (193)} هذا أمر من اللّه عزّ وجلّ أن يقاتل كل كافر ؛ لأن المعنى ههنا في الفتنة والكفر).[معاني القرآن: 1/264] تفسير
قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ
قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ (194)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الشّهر
الحرام بالشّهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل
ما اعتدى عليكم واتّقوا اللّه واعلموا أنّ اللّه مع المتّقين} {الشّهر)} رفع بالابتداء ، وخبره {بالشّهر الحرام}،ومعناه: قتال الشهر الحرام. ويروى
أن المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهر الحرام : هل فيه
قتال؟، فأنزل الله عز وجلّ أن القتل فيه كبير، أي : عظيم في الإثم، وإنما
سألوا ليغرّوا المسلمين، فإن علموا أنهم لم يؤمروا بقتلهم قاتلوهم، فأعلمهم
الله عزّ وجلّ أن القتال فيه محرم إلا أن يبتدئ المشركون بالقتال فيه ،
فيقاتلهم المسلمون. فالمعنى في قوله: {الشّهر الحرام}،أي : قتال الشهر الحرام، أي: في الشهر الحرام، بالشهر الحرام. وأعلم اللّه عزّ وجلّ أن هذه الحرمات قصاص، أي : لا يجوز للمسلمين إلا قصاصاً. وقوله عزّ وجلّ:{فمن اعتدى عليكم} أي: من ظلم ، فقاتل ، فقد اعتدى، {فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}،
وسمي الثاني اعتداء ؛ لأنه مجازاة اعتداء ، فسمي بمثل اسمه؛ لأن صورة
الفعلين واحدة، وإن كان أحدهما طاعة ، والآخر معصية، والعرب تقول ظلمني
فلان ، فظلمته ، أي: جازيته بظلمه، وجهل عليّ ، فجهلت عليه ، أي: جازيته
بجهله. قال الشاعر: ألا لا يجهلنّ أحد علينا= فنجهل فوق جهل الجاهلينا أي: فنكافئ على الجهل بأكثر من مقداره. وقال اللّه عزّ وجلّ:{ومكروا ومكر اللّه} وقال: {فيسخرون منهم سخر اللّه منهم} جعل اسم مجازاتهم مكراً كما مكروا، وجعل اسم مجازاتهم على سخريتهم سخرياً، فكذلك: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه}). [معاني القرآن: 1/263-265]
وقال الأصمعي: هو هلال حتى يحجر ويستدير له كالخيط الرقيق، وقيل هو هلال حتى يبهر بضوئه السماء وذلك ليلة سبع.
وقوله: مواقيت معناه
لمحل الديون وانقضاء العدد والأكرية وما أشبه هذا من مصالح العباد، ومواقيت
الحج أيضا يعرف بها وقته وأشهره، ومواقيت لا ينصرف لأنه جمع لا نظير له في
الآحاد، فهو جمع ونهاية إذ ليس يجمع، وقرأ ابن أبي إسحاق «والحج» بكسر
الحاء في جميع القرآن، وفي قوله «حج البيت» في آل عمران.
قال سيبوية: الحج كالرد والشد، والحج كالذكر، فهما مصدران بمعنى، وقيل: الفتح مصدر والكسر الاسم.
وقوله تعالى: وليس
البرّ الآية، قال البراء بن عازب والزهري وقتادة: سببها أن الأنصار كانوا
إذا حجوا أو اعتمروا يلتزمون تشرعا أن لا يحول بينهم وبين السماء حائل،
فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم على الجدرات، وقيل: كانوا يجعلون في ظهور
بيوتهم فتوحا يدخلون منها ولا يدخلون من الأبواب، وقيل غير هذا مما يشبهه
فاختصرته، فجاء رجل منهم فدخل من باب بيته فعيّر بذلك، فنزلت الآية فيه.
وقال إبراهيم: «كان يفعل ما ذكر قوم من أهل الحجاز».
وقال السدي: ناس من
العرب، وهم الذين يسمون الحمس، قال: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم بابا
ومعه رجل منهم، فوقف ذلك الرجل وقال إني أحمس، فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم وأنا أحمس، ونزلت الآية.
وروى الربيع أن النبي
صلى الله عليه وسلم دخل وخلفه رجل أنصاري فدخل وخرق عادة قومه، فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم: لم دخلت وأنت قد أحرمت؟، قال: دخلت أنت فدخلت
بدخولك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني أحمس، أي من قوم لا يدينون
بذلك، فقال الرجل: وأنا ديني دينك، فنزلت الآية.
وقال أبو عبيدة:
الآية ضرب مثل، المعنى: ليس البر أن تسألوا الجهّال ولكن اتقوا واسألوا
العلماء، فهذا كما يقال أتيت هذا الأمر من بابه.
وقال غير أبي عبيدة: «المعنى ليس البر أن تشذوا في الأسئلة عن الأهلّة وغيرها فتأتون الأمور على غير ما يجب».
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: وهذا يحتمل والأول أسدّ، وأما ما حكاه المهدوي ومكي عن ابن
الأنباري من أن الآية مثل في جماع النساء فبعيد مغير نمط الكلام، وقرأ ابن
كثير وابن عامر والكسائي ونافع بخلاف عنه «البيوت» بكسر الباء، وقرأ بعض
القراء «ولكنّ البرّ» بتشديد نون «لكنّ» ونصب «البرّ»، وقد تقدم القول على
من في قوله من آمن باللّه [البقرة: 177]، واتّقوا معناه اجعلوا بينكم وبين
عقابه وقاية، ولعلّكم ترجّ في حق البشر، والفلاح درك البغية). [المحرر الوجيز: 1/458-462]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يسألونك
عن الأهلّة قل هي مواقيت للنّاس والحجّ وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من
ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى وأتوا البيوت من أبوابها واتّقوا اللّه لعلّكم
تفلحون (189)}
قال العوفيّ عن ابن
عبّاسٍ: سأل الناس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن الأهلّة، فنزلت هذه
الآية: {يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للنّاس [والحجّ]} يعلمون بها حلّ
دينهم، وعدّة نسائهم، ووقت حجّهم.
وقال أبو جعفرٍ، عن
الرّبيع، عن أبي العالية: بلغنا أنّهم قالوا: يا رسول اللّه، لم خلقت
الأهلّة؟ فأنزل اللّه {يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للنّاس} يقول:
جعلها اللّه مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم، وعدّة نسائهم، ومحلّ دينهم.
وكذا روي عن عطاء، والضّحّاك، وقتادة، والسّدّيّ، والرّبيع بن أنسٍ، نحو ذلك.
وقال عبد الرّزّاق،
عن عبد العزيز بن أبي روّاد، عن نافعٍ، عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم: "جعل اللّه الأهلّة مواقيت للنّاس فصوموا لرؤيته
وأفطروا لرؤيته، فإنّ غمّ عليكم فعدّوا ثلاثين يومًا".
ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث ابن أبي روّادٍ، به. وقال: كان ثقةً عابدًا مجتهدًا شريف النّسب، فهو صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه.
وقال محمّد بن جابرٍ،
عن قيس بن طلقٍ؛ عن أبيه قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم: "جعل
اللّه الأهلّة، فإذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن أغمي
عليكم فأكملوا العدّة ثلاثين". وكذا روي من حديث أبي هريرة، ومن كلام عليّ
بن أبي طالبٍ، رضي اللّه عنه .
وقوله: {وليس البرّ
بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى وأتوا البيوت من أبوابها}
قال البخاريّ: حدّثنا عبيد اللّه بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن
البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهليّة أتوا البيت من ظهره، فأنزل
اللّه {وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى وأتوا
البيوت من أبوابها}.
وكذا رواه أبو داود
الطّيالسيّ، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: كانت الأنصار إذا
قدموا من سفر لم يدخل الرّجل من قبل بابه، فنزلت هذه الآية.
وقال الأعمش، عن أبي
سفيان، عن جابرٍ: كانت قريشٌ تدعى الحمس، وكانوا يدخلون من الأبواب في
الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من بابٍ في الإحرام، فبينا
رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم في بستانٍ إذ خرج من بابه، وخرج معه قطبة
بن عامرٍ الأنصاريّ، فقالوا: يا رسول اللّه، إنّ قطبة ابن عامرٍ رجلٌ تاجرٌ
وإنّه خرج معك من الباب. فقال له: "ما حملك على ما صنعت؟ " قال: رأيتك
فعلته ففعلت كما فعلت. فقال: "إنّي [رجلٌ] أحمس". قال له: فإنّ ديني دينك.
فأنزل اللّه {وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتّقى
وأتوا البيوت من أبوابها} رواه ابن أبي حاتمٍ. ورواه العوفيّ عن ابن عبّاسٍ
بنحوه. وكذا روي عن مجاهدٍ، والزّهريّ، وقتادة، وإبراهيم النّخعيّ،
والسّدّيّ، والرّبيع بن أنسٍ.
وقال الحسن البصريّ:
كان أقوامٌ من أهل الجاهليّة إذا أراد أحدهم سفرًا وخرج من بيته يريد سفره
الذي خرج له، ثمّ بدا له بعد خروجه أن يقيم ويدع سفره، لم يدخل البيت من
بابه، ولكن يتسوّره من قبل ظهره، فقال اللّه تعالى: {وليس البرّ بأن تأتوا
البيوت من ظهورها [ولكنّ البرّ من اتّقى]} الآية.
وقال محمّد بن كعبٍ: كان الرّجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت، فأنزل اللّه هذه الآية.
وقال عطاء بن أبي
رباحٍ: كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم دخلوا منازلهم من ظهورها ويرون أنّ
ذلك أدنى إلى البرّ، فقال اللّه تعالى: {وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من
ظهورها}
وقوله: {واتّقوا
اللّه لعلّكم تفلحون} أي: اتّقوا اللّه فافعلوا ما أمركم به، واتركوا ما
نهاكم عنه {لعلّكم تفلحون} غدًا إذا وقفتم بين يديه، فيجزيكم بأعمالكم على
التّمام، والكمال). [تفسير ابن كثير: 1/521-523]
قال ابن زيد والربيع:
معناها قاتلوا من قاتلكم وكفوا عمن كف عنكم، ولا تعتدوا في قتال من لم
يقاتلوكم، وهذه الموادعة منسوخة بآية براءة، وبقوله: قاتلوا المشركين
كافّةً [التوبة: 36].
وقال ابن عباس وعمر
بن عبد العزيز ومجاهد: معنى الآية قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلكم، ولا
تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم، فهي محكمة على هذا القول،
وقال قوم: المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله كالحمية وكسب الذكر). [المحرر الوجيز: 1/462-463]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وقاتلوا
في سبيل اللّه الّذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين
(190) واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشدّ من
القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم
فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين (191) فإن انتهوا فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ
(192) وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنةٌ ويكون الدّين للّه فإن انتهوا فلا عدوان
إلا على الظّالمين (193)}
قال أبو جعفرٍ
الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية في قوله تعالى: {وقاتلوا في
سبيل اللّه الّذين يقاتلونكم} قال: هذه أوّل آيةٍ نزلت في القتال بالمدينة،
فلمّا نزلت كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقاتل من قاتله، ويكفّ
عمّن كفّ عنه حتّى نزلت سورة براءةٍ وكذا قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم
حتّى قال: هذه منسوخةٌ بقوله: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التّوبة:
5] وفي هذا نظرٌ؛ لأنّ قوله: {الّذين يقاتلونكم} إنّما هو تهييج وإغراءٌ
بالأعداء الّذين همّتهم قتال الإسلام وأهله، أي: كما يقاتلونكم فقاتلوهم
أنتم، كما قال: {وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً} [التّوبة:
36]؛ ولهذا قال في هذه الآية: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث
أخرجوكم} أي: لتكن همّتكم منبعثةً على قتالهم، كما أنّ همّتهم منبعثةٌ على
قتالكم، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها، قصاصًا.
وقد حكي عن أبي بكرٍ
الصّديق، رضي اللّه عنه، أنّ أوّل آيةٍ نزلت في القتال بعد الهجرة، {أذن
للّذين يقاتلون بأنّهم ظلموا} الآية [الحجّ: 39] وهو الأشهر وبه ورد
الحديث.
وقوله: {ولا تعتدوا
إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين} أي: قاتلوا في سبيل اللّه ولا تعتدوا في ذلك
ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي -كما قاله الحسن البصريّ -من المثلة، والغلول،
وقتل النّساء والصّبيان والشّيوخ الّذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم،
والرّهبان وأصحاب الصّوامع، وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحةٍ، كما
قال ذلك ابن عبّاسٍ، وعمر بن عبد العزيز، ومقاتل بن حيّان، وغيرهم. ولهذا
جاء في صحيح مسلمٍ، عن بريدة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان
يقول: "اغزوا في سبيل اللّه، قاتلوا من كفر باللّه، اغزوا ولا تغلّوا، ولا
تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليدًا، ولا أصحاب الصّوامع". رواه الإمام
أحمد.
وعن ابن عبّاسٍ قال:
كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا بعث جيوشه قال: "اخرجوا بسم
اللّه، قاتلوا في سبيل اللّه من كفر باللّه، لا تغدروا ولا تغلّوا، ولا
تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصّوامع". رواه الإمام أحمد.
ولأبي داود، عن أنسٍ
مرفوعًا، نحوه. وفي الصّحيحين عن ابن عمر قال: وجدت امرأةٌ في بعض مغازي
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم مقتولةً، فأنكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم قتل النّساء والصّبيان.
وقال الإمام أحمد:
حدّثنا مصعب بن سلام، حدّثنا الأجلح، عن قيس بن أبي مسلمٍ، عن ربعي ابن
حراش، قال: سمعت حذيفة يقول: ضرب لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
أمثالًا واحدًا، وثلاثةً، وخمسةً، وسبعةً، وتسعةً، وأحد عشر، فضرب لنا رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منها مثلًا وترك سائرها، قال: "إنّ قومًا
كانوا أهل ضعف ومسكنةٍ، قاتلهم أهل تجبّرٍ وعداءٍ، فأظهر اللّه أهل الضّعف
عليهم، فعمدوا إلى عدوهم فاستعملوهم وسلّطوهم فأسخطوا اللّه عليهم إلى يوم
يلقونه".
هذا حديثٌ حسن
الإسناد. ومعناه: أنّ هؤلاء الضّعفاء لمّا قدروا على الأقوياء، فاعتدوا
عليهم واستعملوهم فيما لا يليق بهم، أسخطوا اللّه عليهم بسبب هذا الاعتداء.
والأحاديث والآثار في هذا كثيرةٌ جدًّا). [تفسير ابن كثير: 1/523-524]
قال ابن إسحاق وغيره:
نزلت هذه الآيات في شأن عمرو بن الحضرمي وواقد، وهي سرية عبد الله بن جحش،
وثقفتموهم معناه أحكمتم غلبهم ولقيتموهم قادرين عليهم، يقال رجل ثقف لقف
إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور، وأخرجوهم.
قال الطبري: «الخطاب للمهاجرين، والضمير لكفار قريش».
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: بل الخطاب لجميع المؤمنين، ويقال أخرجوكم إذا أخرجوا بعضهم
الأجل قدرا وهم النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون، والفتنة أشدّ من
القتل أي الفتنة التي حملوكم عليها وراموكم بها على الرجوع إلى الكفر أشد
من القتل.
قال مجاهد: «أي من أن يقتل المؤمن، فالقتل أخف عليه من الفتنة».
قال غيره: بل المعنى
الفتنة التي فعلوا أشد في هتك حرمات الحق من القتل الذي أبيح لكم أيها
المؤمنون أن توقعوه بهم، ويحتمل أن يكون المعنى والفتنة أي الكفر والضلال
الذي هم فيه أشد في الحرم وأعظم جرما من القتل الذي عيروكم به في شأن ابن
الحضرمي.
وقوله تعالى: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام الآية، قال الجمهور: كان هذا ثم نسخ وأمر بالقتال في كل موضع.
قال الربيع: نسخه وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنةٌ.
وقال قتادة: نسخه قوله تعالى: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [التوبة: 5].
وقال مجاهد: «الآية محكمة ولا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل».
وقرأ حمزة والكسائي
والأعمش «ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم
فاقتلوهم» بالقتل في الأربعة، ولا خلاف في الأخيرة أنها فاقتلوهم، والمعنى
على قراءة حمزة والكسائي: فإن قتلوا منكم فاقتلوهم أيها الباقون، وذلك
كقوله تعالى: قاتل معه ربّيّون كثيرٌ فما وهنوا [آل عمران: 146] أي فما وهن
الباقون). [المحرر الوجيز: 1/463-464]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ولمّا
كان الجهاد فيه إزهاق النّفوس وقتل الرّجال، نبّه تعالى على أنّ ما هم
مشتملون عليه من الكفر باللّه والشّرك به والصّدّ عن سبيله أبلغ وأشدّ
وأعظم وأطم من القتل؛ ولهذا قال: {والفتنة أشدّ من القتل} قال أبو مالكٍ:
أي: ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل.
وقال أبو العالية،
ومجاهدٌ، وسعيد بن جبيرٍ، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والضّحّاك، والرّبيع ابن
أنسٍ في قوله: {والفتنة أشدّ من القتل} يقول: الشّرك أشدّ من القتل.
وقوله: {ولا تقاتلوهم
عند المسجد الحرام} كما جاء في الصّحيحين: "إنّ هذا البلد حرّمه اللّه يوم
خلق السّموات والأرض، فهو حرامٌ بحرمة اللّه إلى يوم القيامة، ولم يحلّ لي
إلّا ساعةً من نهارٍ، وإنّها ساعتي هذه، حرام بحرمة اللّه إلى يوم
القيامة، لا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه. فإن أحدٌ ترخّص بقتال رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم فقولوا: إنّ اللّه أذن لرسوله ولم يأذن لكم".
يعني بذلك -صلوات
اللّه وسلامه عليه -قتاله أهلها يوم فتح مكّة، فإنّه فتحها عنوةً، وقتلت
رجالٌ منهم عند الخندمة، وقيل: صلحًا؛ لقوله: من أغلق بابه فهو آمنٌ، ومن
دخل المسجد فهو آمنٌ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمنٌ.
[وقد حكى القرطبيّ:
أنّ النّهي عن القتال عند المسجد الحرام منسوخٌ. قال قتادة: نسخها قوله:
{فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم} [التّوبة:
5]. قال مقاتل بن حيّان: نسخها قوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا
المشركين حيث وجدتموهم} وفي هذا نظرٌ].
وقوله: {حتّى
يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين} يقول تعالى: لا
تقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يبدؤوكم بالقتال فيه، فلكم حينئذٍ
قتالهم وقتلهم دفعًا للصّيال كما بايع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم
أصحابه يوم الحديبية تحت الشّجرة على القتال، لمّا تألّبت عليه بطون قريشٍ
ومن والاهم من أحياء ثقيفٍ والأحابيش عامئذٍ، ثمّ كفّ اللّه القتال بينهم
فقال: {وهو الّذي كفّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكّة من بعد أن أظفركم
عليهم} [الفتح: 24]،، وقال: {ولولا رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمناتٌ لم
تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرّةٌ بغير علمٍ ليدخل اللّه في رحمته من
يشاء لو تزيّلوا لعذّبنا الّذين كفروا منهم عذابًا أليمًا} [الفتح: 25]). [تفسير ابن كثير: 1/524-525]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله:
{فإن انتهوا فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} أي: فإن تركوا القتال في الحرم،
وأنابوا إلى الإسلام والتّوبة، فإنّ اللّه [غفورٌ رحيمٌ] يغفر ذنوبهم، ولو
كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم اللّه، فإنّه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن
يغفره لمن تاب منه إليه). [تفسير ابن كثير: 1/525]
الشرك وما تابعه من
أذى المؤمنين، قاله ابن عباس وقتادة والربيع والسدي، والدّين هنا الطاعة
والشرع. وقال الأعشى ميمون بن قيس: [الخفيف]
هو دان الرباب إذ كرهوا الذي = ن دراكا بغزوة وصيال
والانتهاء في هذا
الموضع يصح مع عموم الآية في الكفار أن يكون الدخول في الإسلام، ويصح أن
يكون أداء الجزية، وسمى ما يصنع بالظالمين عدوانا من حيث هو جزاء عدوان إذ
الظلم يتضمن العدوان، والعقوبة تسمى باسم الذنب في غير ما موضع، والظالمون
هم على أحد التأويلين: من بدأ بقتال، وعلى التأويل الآخر: من بقي على كفر
وفتنة). [المحرر الوجيز: 1/465]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ
أمر تعالى بقتال الكفّار: {حتّى لا تكون فتنةٌ} أي: شركٌ. قاله ابن
عبّاسٍ، وأبو العالية، ومجاهدٌ، والحسن، وقتادة، والرّبيع، ومقاتل بن
حيّان، والسّدي، وزيد بن أسلم.
{ويكون الدّين للّه}
أي: يكون دين اللّه هو الظّاهر [العالي] على سائر الأديان، كما ثبت في
الصّحيحين: عن أبي موسى الأشعريّ، قال: سئل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم
عن الرّجل يقاتل شجاعةً، ويقاتل حميّة، ويقاتل رياءً، أيّ ذلك في سبيل
اللّه؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا فهو في سبيل اللّه". وفي
الصّحيحين: "أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا: لا إله إلّا اللّه، فإذا
قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها، وحسابهم على اللّه"
وقوله: {فإن انتهوا
فلا عدوان إلا على الظّالمين} يقول: فإن انتهوا عمّا هم فيه من الشّرك،
وقتال المؤمنين، فكفّوا عنهم، فإنّ من قاتلهم بعد ذلك فهو ظالمٌ، ولا عدوان
إلّا على الظّالمين، وهذا معنى قول مجاهدٍ: لا يقاتل إلّا من قاتل. أو
يكون تقديره؛ فإن انتهوا فقد تخلّصوا من الظّلم، وهو الشّرك. فلا عدوان
عليهم بعد ذلك، والمراد بالعدوان هاهنا المعاقبة والمقاتلة، كقوله: {فمن
اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} وقوله: {وجزاء سيّئةٍ
سيّئةٌ مثلها} [الشّورى: 40]، {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}
[النّحل: 126]. ولهذا قال عكرمة وقتادة: الظّالم: الذي أبى أن يقول: لا إله
إلّا اللّه.
وقال البخاريّ: قوله:
{وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنةٌ [ويكون الدّين للّه]} الآية: حدّثنا محمّد
بن بشّارٍ، حدّثنا عبد الوهّاب، حدّثنا عبيد اللّه، عن نافعٍ، عن ابن عمر،
قال: أتاه رجلان في فتنة ابن الزّبير فقالا: إنّ النّاس صنعوا وأنت ابن عمر
وصاحب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فما يمنعك أن تخرج؟ قال: يمنعني أنّ
اللّه حرّم دم أخي. قالا ألم يقل اللّه: {وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنةٌ}؟
قال: قاتلنا حتّى لم تكن فتنةٌ وكان الدّين للّه، وأنتم تريدون أن تقاتلوا
حتّى تكون فتنةٌ ويكون الدّين لغير الله. زاد عثمان ابن صالحٍ عن ابن وهبٍ
قال: أخبرني فلانٌ وحيوة بن شريحٍ، عن بكر بن عمرٍو المعافريّ أنّ بكير بن
عبد اللّه حدّثه، عن نافعٍ: أنّ رجلًا أتى ابن عمر فقال [له] يا أبا عبد
الرّحمن، ما حملك على أن تحجّ عامًا وتعتمر عامًا، وتترك الجهاد في سبيل
اللّه، وقد علمت ما رغّب اللّه فيه؟ فقال: يا ابن أخي، بني الإسلام على
خمسٍ: الإيمان باللّه ورسوله، والصّلوات الخمس، وصيام رمضان، وأداء
الزّكاة، وحجّ البيت. قال: يا أبا عبد الرّحمن، ألا تسمع ما ذكر اللّه في
كتابه: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما
على الأخرى فقاتلوا الّتي تبغي حتّى تفيء إلى أمر اللّه} [الحجرات: 9]،
{وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنةٌ} قال: فعلنا على عهد النّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم وكان الإسلام قليلًا وكان الرّجل يفتن في دينه: إمّا قتلوه أو
عذّبوه حتّى كثر الإسلام فلم تكن فتنةٌ، قال: فما قولك في عليٍّ وعثمان؟
قال: أمّا عثمان فكان اللّه عفا عنه، وأمّا أنتم فكرهتم أن تعفوا عنه،
وأمّا عليٌّ فابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وختنه، وأشار بيده
فقال: هذا بيته حيث ترون). [تفسير ابن كثير: 1/525-526]
وقال الحسن بن أبي
الحسن: نزلت الآية في أن الكفار سألوا النبي صلى الله عليه وسلم هل يقاتل
في الشهر الحرام؟ فأخبرهم أنه لا يقاتل فيه، فهموا بالهجوم عليه فيه وقتل
من معه حين طمعوا أنه لا يدافع فيه، فنزلت: الشّهر الحرام بالشّهر الحرام
والحرمات قصاصٌ، أي هو عليكم في الامتناع من القتال أو الاستباحة بالشهر
الحرام عليهم في الوجهين، فأية سلكوا فاسلكوا، والحرمات على هذا جمع حرمة
عموما: النفس والمال والعرض وغير ذلك، فأباح الله بالآية مدافعتهم. والقول
الأول أكثر.
وقالت فرقة: قوله:
والحرمات قصاصٌ مقطوع مما قبله، وهو ابتداء أمر كان في أول الإسلام أن من
انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك به، ثم نسخ ذلك بالقتال.
وقالت طائفة: ما
تناول من الآية التعدي بين أمة محمد والجنايات ونحوها لم ينسخ، وجائز لمن
تعدي عليه في مال أو جرح أن يتعدى بمثل ما تعدي عليه به إذا خفي ذلك له،
وليس بينه وبين الله في ذلك شيء، قاله الشافعي وغيره، وهي رواية في مذهب
مالك.
وقالت طائفة منهم
مالك: ليس ذلك له، وأمور القصاص وقف على الحكام، والأموال يتناولها قول
النبي صلى الله عليه وسلم «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك».
وقرأ الحسن بن أبي الحسن «والحرمات» بسكون الراء.
وقوله تعالى: فمن
اعتدى عليكم الآية، اختلف في نسخ هذه الآية حسبما تقدم، وسمي الجزاء على
العدوان عدوانا كما قال اللّه يستهزئ بهم [البقرة: 15] إلى غير ذلك،
واتّقوا اللّه، قيل: معناه في أن لا تعتدوا، وقيل: في أن لا تزيدوا على
المثل.
وقال ابن عباس: «نزلت
هذه الآية وما هو في معناها بمكة والإسلام لم يعزّ، فلما هاجر رسول الله
صلى الله عليه وسلم وعز دينه أمر المسلمون برفع أمورهم إلى حكامهم وأمروا
بقتال الكفار».
وقال مجاهد: «بل نزلت هذه الآية بالمدينة بعد عمرة القضاء، وهي من التدريج في الأمر بالقتال»). [المحرر الوجيز: 1/465-467]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({الشّهر
الحرام بالشّهر الحرام والحرمات قصاصٌ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل
ما اعتدى عليكم واتّقوا اللّه واعلموا أنّ اللّه مع المتّقين (194)}
قال عكرمة، عن ابن
عبّاسٍ، والضّحّاك، والسّدّيّ، ومقسم، والرّبيع بن أنسٍ، وعطاءٍ وغيرهم:
لمّا سار رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم معتمرًا في سنة ستٍّ من الهجرة،
وحبسه المشركون عن الدّخول والوصول إلى البيت، وصدّوه بمن معه من المسلمين
في ذي القعدة، وهو شهرٌ حرامٌ، حتّى قاضاهم على الدّخول من قابلٍ، فدخلها
في السّنة الآتية، هو ومن كان [معه] من المسلمين، وأقصه اللّه منهم، فنزلت
في ذلك هذه الآية: {الشّهر الحرام بالشّهر الحرام والحرمات قصاصٌ}
وقال الإمام أحمد:
حدّثنا إسحاق بن عيسى، حدّثنا ليث بن سعدٍ، عن أبي الزّبير، عن جابر بن عبد
اللّه، قال: لم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يغزو في الشّهر
الحرام إلّا أن يغزى ويغزوا فإذا حضره أقام حتّى ينسلخ.
هذا إسنادٌ صحيحٌ؛
ولهذا لمّا بلغ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم -وهو مخيّم بالحديبية -أنّ
عثمان قد قتل -وكان قد بعثه في رسالةٍ إلى المشركين -بايع أصحابه، وكانوا
ألفًا وأربعمائةٍ تحت الشّجرة على قتال المشركين، فلمّا بلغه أنّ عثمان لم
يقتل كفّ عن ذلك، وجنح إلى المسالمة والمصالحٍة، فكان ما كان.
وكذلك لمّا فرغ من
قتال هوازن يوم حنينٍ وتحصّن فلّهم بالطّائف، عدل إليها، فحاصرها ودخل ذو
القعدة وهو محاصرها بالمنجنيق، واستمرّ عليها إلى كمال أربعين يومًا، كما
ثبت في الصّحيحين عن أنسٍ. فلمّا كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم تفتح،
ثمّ كرّ راجعًا إلى مكّة واعتمر من الجعرانة، حيث قسّم غنائم حنين. وكانت
عمرته هذه في ذي القعدة أيضًا عام ثمانٍ، صلوات اللّه وسلامه عليه.
وقوله: {فمن اعتدى
عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} أمر بالعدل حتّى في المشركين: كما
قال: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النّحل: 126]. وقال: {وجزاء
سيّئةٍ سيّئةٌ مثلها} [الشّورى: 40].
وروى عليّ بن أبي
طلحة عن ابن عبّاسٍ إن قوله: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى
عليكم} نزلت بمكّة حيث لا شوكة ولا جهاد، ثمّ نسخ بآية الجهاد بالمدينة.
وقد ردّ هذا القول ابن جريرٍ، وقال: بل [هذه] الآية مدنيّةٌ بعد عمرة
القضيّة، وعزا ذلك إلى مجاهدٍ، رحمه اللّه.
وقد أطلق هاهنا الاعتداء على الاقتصاص، من باب المقابلة، كما قال عمرو بن أمّ كلثوم:
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا = فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وقال ابن دريد:
لي استواءٌ إن مواليّ استوا = لي التواءٌ إن تعادى التوا
وقال غيره:
ولي فرسٌ للحلم بالحلم ملجمٌ = ولي فرسٌ للجهل بالجهل مسرج
ومن رام تقويمي فإنّي مقوّمٌ = ومن رام تعويجي فإنّي معوّج
وقوله: {واتّقوا
اللّه واعلموا أنّ اللّه مع المتّقين} أمرٌ لهم بطاعة اللّه وتقواه،
وإخبارٌ بأنّه تعالى مع الّذين اتّقوا بالنّصر والتّأييد في الدّنيا
والآخرة). [تفسير ابن كثير: 1/526-528]
* للاستزادة ينظر: هنا