17 Sep 2014
تفسير
قول الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ
أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا
رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ
مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ
صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ
إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ
تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)} تفسير
قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ
أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا
رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ
مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ
صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ
إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ
تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)}
تفسير
قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ (195)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: ({وأنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة وأحسنوا إنّ اللّه يحبّ المحسنين}
أي: في الجهاد في سبيل اللّه، وكل ما أمر اللّه به من الخير ، فهو من سبيل الله، أي: من الطريق إلى اللّه عزّ وجلّ؛ لأن السبيل في اللغة: الطريق، وإنما استعمل في الجهاد أكثر ؛ لأنه السبيل الذي يقاتل فيه على عقد الدين.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}
أصل بأيديكم:بأيديكم بكسر الياء، ولكن الكسرة لا تثبت في الياء إذا كان ما قبلها مكسوراً لثقل الكسرة في الياء.
{وأنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة وأحسنوا إنّ اللّه يحبّ المحسنين}
وقوله عزّ وجلّ: {إلى التّهلكة)}، معناه: إلى الهلاك، يقال: هلك الرجل يهلك ، هلاكاً، وهلكا وتهلكة ، وتهلكة.
وتهلكة اسم، ومعناه: إن لم تنفقوا في سبيل الله هلكتم، أي : عصيتم الله فهلكتم، وجائز أن يكون هلكتم بتقوية عدوكم عليكم ، واللّه أعلم.
وقوله عزّ وجلّ: {وأحسنوا إنّ اللّه يحبّ المحسنين}
أي: أنفقوا في سبيل الله ، فمن أنفق في سبيل اللّه ، فمحسن).[معاني القرآن: 1/266]قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
عز وجل: وأنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة وأحسنوا
إنّ اللّه يحبّ المحسنين (195) وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه فإن أحصرتم فما
استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه فمن كان منكم
مريضاً أو به أذىً من رأسه ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ فإذا أمنتم
فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة
أيّامٍ في الحجّ وسبعةٍ إذا رجعتم تلك عشرةٌ كاملةٌ ذلك لمن لم يكن أهله
حاضري المسجد الحرام واتّقوا اللّه واعلموا أنّ اللّه شديد العقاب (196)
سبيل اللّه هنا الجهاد، واللفظ يتناول بعد جميع سبله.
وقال أبو عبيدة وقوم: الباء في قوله بأيديكم زائدة، التقدير تلقوا أيديكم.
وقال الجمهور: ذلك
ضرب مثل، تقول ألقى فلان بيده في أمر كذا إذا استسلم، لأن المستسلم في
القتال يلقي سلاحه بيده، فكذلك فعل كل عاجز في أي فعل كان، ومنه قول عبد
المطلب: «والله إن إلقاءنا بأيدينا إلى الموت لعجز».
وقال قوم: التقدير لا
تلقوا أنفسكم بأيديكم، كما تقول لا تفسد حالك برأيك، و «التهلكة» بضم
اللام مصدر من هلك، وقرأ الخليل التّهلكة بكسر اللام، وهي تفعلة من «هلّك»
بشد اللام.
وروي عن أبي أيوب
الأنصاري أنه كان على القسطنطينية، فحمل رجل على عسكر العدو، فقال قوم ألقى
بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: لا إن هذه الآية نزلت في الأنصار حين
أرادوا لما ظهر الإسلام أن يتركوا الجهاد ويعمروا أموالهم، وأما هذا فهو
الذي قال الله فيه: ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضات اللّه [البقرة:
207].
وقال حذيفة بن اليمان
وابن عباس والحسن وعطاء وعكرمة وجمهور الناس: المعنى لا تلقوا بأيديكم بأن
تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة، فيقول الرجل ليس عندي ما
أنفق.
وقال قوم: المعنى لا تقنطوا من التوبة.
وقال البراء بن عازب
وعبيدة السلماني: الآية في الرجل يقول قد بالغت في المعاصي فلا فائدة في
التوبة فينهمك بعد ذلك، وقال زيد بن أسلم: المعنى لا تسافروا في الجهاد
بغير زاد، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق أو الكون
عالة على الناس، وقوله وأحسنوا، قيل: معناه في أعمالكم بامتثال الطاعات،
وروي ذلك عن بعض الصحابة، وقيل: المعنى وأحسنوا في الإنفاق في سبيل الله
وفي الصدقات، قاله زيد بن أسلم.
وقال عكرمة: المعنى وأحسنوا الظن بالله). [المحرر الوجيز: 1/468-469]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وأنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة وأحسنوا إنّ اللّه يحبّ المحسنين (195)}
قال البخاريّ: حدّثنا
إسحاق، أخبرنا النّضر، أخبرنا شعبة عن سليمان قال: سمعت أبا وائلٍ، عن
حذيفة: {وأنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة} قال: نزلت
في النّفقة.
ورواه ابن أبي حاتمٍ،
عن الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، عن أبي معاوية عن الأعمش، به مثله. قال:
وروي عن ابن عبّاسٍ، ومجاهدٍ، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ، وعطاءٍ، والضّحّاك،
والحسن، وقتادة، والسّدّيّ، ومقاتل بن حيّان، نحو ذلك.
وقال اللّيث بن سعدٍ،
عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجلٌ من المهاجرين
بالقسطنطينيّة على صفّ العدوّ حتّى خرقه، ومعنا أبو أيّوب الأنصاريّ، فقال
ناسٌ: ألقى بيده إلى التّهلكة. فقال أبو أيّوب: نحن أعلم بهذه الآية إنّما
نزلت فينا، صحبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وشهدنا معه المشاهد
ونصرناه، فلمّا فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا معشر الأنصار نجيا، فقلنا: قد
أكرمنا اللّه بصحبة نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم ونصره، حتّى فشا الإسلام
وكثر أهله، وكنّا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب
أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما. فنزل فينا: {وأنفقوا في
سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة} فكانت التّهلكة [في] الإقامة
في الأهل والمال وترك الجهاد.
رواه أبو داود،
والتّرمذيّ، والنّسائيّ، وعبد بن حميد في تفسيره، وابن أبي حاتمٍ، وابن
جريرٍ وابن مردويه، والحافظ أبو يعلى في مسنده، وابن حبّان في صحيحه،
والحاكم في مستدركه، كلّهم من حديث يزيد بن أبي حبيبٍ، به.
وقال التّرمذيّ: حسنٌ
صحيحٌ غريبٌ. وقال الحاكم: على شرط الشّيخين، ولم يخرّجاه. ولفظ أبي داود
عن أسلم أبي عمران: كنّا بالقسطنطينيّة -وعلى أهل مصر عقبة بن عامر؛ وعلى
أهل الشام رجل، يريد بن فضالة بن عبيد -فخرج من المدينة صف عظيمٌ من
الرّوم، فصففنا لهم فحمل رجلٌ من المسلمين على الرّوم حتّى دخل فيهم: ثمّ
خرج إلينا فصاح النّاس إليه فقالوا: سبحان اللّه، ألقى بيده إلى التّهلكة.
فقال أبو أيّوب: يا أيّها النّاس، إنّكم لتتأوّلون هذه الآية على غير
التّأويل، وإنّما نزلت فينا معشر الأنصار، وإنّا لمّا أعزّ اللّه دينه،
وكثر ناصروه قلنا فيما بيننا: لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها. فأنزل
اللّه هذه الآية.
وقال أبو بكر بن
عيّاشٍ، عن أبي إسحاق السّبيعي قال: قال رجلٌ للبراء بن عازبٍ: إن حملت على
العدوّ وحدي فقتلوني أكنت ألقيت بيدي إلى التّهلكة؟ قال: لا قال اللّه
لرسوله: {فقاتل في سبيل اللّه لا تكلّف إلا نفسك} [النّساء: 84]، إنّما هذا
في النّفقة. رواه ابن مردويه وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث إسرائيل،
عن أبي إسحاق، به. وقال: صحيحٌ على شرط الشّيخين، ولم يخرّجاه. ورواه
الثّوريّ، وقيس بن الرّبيع، عن أبي إسحاق، عن البراء -فذكره. وقال بعد
قوله: {لا تكلّف إلا نفسك} ولكنّ التّهلكة أن يذنب الرجل الذنب، فيلقي بيده
إلى التّهلكة ولا يتوب.
وقال ابن أبي حاتمٍ:
حدّثنا أبي، حدّثنا أبو صالحٍ -كاتب اللّيث -حدّثني اللّيث، حدّثنا عبد
الرّحمن بن خالد بن مسافرٍ، عن ابن شهابٍ، عن أبي بكر بن عبد الرّحمن بن
الحارث بن هشامٍ: أنّ عبد الرّحمن بن الأسود بن عبد يغوث أخبره: أنّهم
حاصروا دمشق، فانطلق رجلٌ من أزد شنوءة، فأسرع إلى العدوّ وحده ليستقبل،
فعاب ذلك عليه المسلمون ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص، فأرسل إليه عمرٌو
فردّه، وقال عمرٌو: قال الله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة}
وقال عطاء بن السائب
عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {وأنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا
بأيديكم إلى التّهلكة} ليس ذلك في القتال، إنّما هو في النّفقة أن تمسك
بيدك عن النّفقة في سبيل اللّه. ولا تلق بيدك إلى التّهلكة.
وقال حمّاد بن سلمة،
عن داود، عن الشّعبيّ، عن الضّحّاك بن أبي جبيرة قال: كانت الأنصار
يتصدّقون وينفقون من أموالهم، فأصابتهم سنة، فأمسكوا عن النّفقة في سبيل
اللّه فنزلت: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة}
وقال الحسن البصريّ: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة} قال: هو البخل.
وقال سماك بن حربٍ،
عن النّعمان بن بشيرٍ في قوله: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة} أن يذنب
الرّجل الذّنب، فيقول: لا يغفر لي، فأنزل اللّه: {ولا تلقوا بأيديكم إلى
التّهلكة وأحسنوا إنّ اللّه يحبّ المحسنين} رواه ابن مردويه.
وقال ابن أبي حاتمٍ:
وروي عن عبيدة السّلمانيّ، والحسن، وابن سيرين، وأبي قلابة -نحو ذلك. يعني:
نحو قول النّعمان بن بشيرٍ: إنّها في الرّجل يذنب الذّنب فيعتقد أنّه لا
يغفر له، فيلقي بيده إلى التّهلكة، أي: يستكثر من الذّنوب فيهلك. ولهذا روى
عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ: التّهلكة: عذاب اللّه.
وقال ابن أبي حاتمٍ
وابن جريرٍ جميعًا: حدّثنا يونس، حدّثنا ابن وهبٍ، أخبرني أبو صخرٍ، عن
القرظي: أنّه كان يقول في هذه الآية: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة}
قال: كان القوم في سبيل اللّه، فيتزوّد الرّجل. فكان أفضل زادًا من الآخر،
أنفق البائس من زاده، حتّى لا يبقى من زاده شيءٌ، أحبّ أن يواسي صاحبه،
فأنزل اللّه: {وأنفقوا في سبيل اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة}.
وقال ابن وهبٍ أيضًا:
أخبرني عبد اللّه بن عيّاشٍ عن زيد بن أسلم في قول الله: {وأنفقوا في سبيل
اللّه ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة} وذلك أنّ رجالًا كانوا يخرجون في
بعوثٍ يبعثها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، بغير نفقةٍ، فإمّا يقطع
بهم، وإمّا كانوا عيالًا فأمرهم اللّه أن يستنفقوا ممّا رزقهم اللّه، ولا
يلقوا بأيديهم إلى التّهلكة، والتّهلكة أن يهلك رجالٌ من الجوع أو العطش أو
من المشي. وقال لمن بيده فضلٌ: {وأحسنوا إنّ اللّه يحبّ المحسنين}
ومضمون الآية: الأمر
بالإنفاق في سبيل اللّه في سائر وجوه القربات ووجوه الطّاعات، وخاصّةً صرف
الأموال في قتال الأعداء وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوّهم،
والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنّه هلاكٌ ودمارٌ إن لزمه واعتاده. ثمّ عطف
بالأمر بالإحسان، وهو أعلى مقامات الطّاعة، فقال: {وأحسنوا إنّ اللّه يحبّ
المحسنين}). [تفسير ابن كثير: 1/528-530]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وأتمّوا
الحجّ والعمرة للّه فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم
حتّى يبلغ الهدي محلّه فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام
أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من
الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة
كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتّقوا اللّه واعلموا أنّ
اللّه شديد العقاب}
يجوز في العمرة:
1-النصب
2-والرفع:
والمعنى في النصب: أتموهما.
والمعنى في الرفع: وأتموا الحج، والعمرة لله، أي: هي مما تتقرّبون به إلى اللّه عزّ وجلّ، وليس بفرض.
وقيل أيضاً في قوله عزّ وجلّ: {وأتمّوا الحجّ والعمرة} غير قول: يروى عن علي ، وابن مسعود - رحمة الله عليهما - أنهما قالا: إتمامهما أن تحرم من دويرة أهلك.
ويروى عن غيرهما ، إنّه قال : إتمامهما أن تكون النفقة حلالًا، وينتهي عما نهى الله عنه.
وقال بعضهم: إن الحج والعمرة لهما مواقف ، ومشاعر، كالطواف، والموقف بعرفة ، وغير ذلك، فإتمامهما تأدية كل ما فيهما، وهذا بين.
ومعنى: اعتمر في اللغة ، قيل فيه قولان: قال بعضهم:اعتمر : قصد.
قال الشاعر:
لقد سما ابن معمر حين اعتمر= مغزى بعيدا من بعيد وضبر
المعنى: حين قصد مغزى بعيداً، وقال بعضهم : معنى : اعتمر: زار من الزيارة.
ومعنى العمرة في العمل: الطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة فقط، والعمرة للإنسان في كل السنة، والحج وقته وقت واحد من السنة.
ومعنى اعتمر عندي في قصد البيت، أنه إنما خص بهذا - أعني بذكر اعتمر - ؛ لأنه قصد العمل في وضع عامر ، لهذا قيل معتمر.
وقوله عزّ وجلّ: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي}
الرواية عند أهل اللغة: أنه يقال للرجل الذي يمنعه الخوف ، أو المرض من التصرف : قد احصر ، فهو محصر، ويقال للرجل الذي حبس : قد حصر ، فهو محصور.
وقال الفراء: لو قيل
للذي حبس أحصر لجاز، كأنه يجعل حابسه بمنزلة المرض ، والخوف الذيمنعه من
التصرف، وألحق في هذا ما عليه أهل اللغة من أنه يقال للذي يمنعه الخوف ،
والمرض : أحصر ، وللمحبوس حصر، وإنما كان ذلك هو الحق ؛ لأن الرجل إذا
امتنع من التصرف ، فقد حبس نفسه، فكأن المرض أحبسه ، أي: جعله يحبس نفسه،
وقوله : حصرت فلاناً، إنما هو حبسته، لا أنه حبس نفسه، ولا يجوز فيه أحصر.
وقوله عزّ وجلّ: {فما استيسر من الهدي}
موضع " ما " رفع
المعنى ، فواجب عليه ما استيسر من الهدي، وقد قيل في الهدى: الهدي، والهدي
جمع هدية، وهدي، كقولهم في حذية السرج حذيّة وحذي، وقال بعضهم:ما استيسر :
ما تيسر من الإبل ، والبقر.
وقال بعضهم : بعير ، أو بقرة ، أو شاة ، وهذا هو الأجود.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محله}
قالوا في محله : من كان حاجاً، محله يوم النحر، ولمن كان معتمراً: يوم بدخل مكة.
وقوله عزّ وجلّ: {فمن كان منكم مريضاص أو به أذى من رأسه ففدية}أي: فعليه
فدية، ولو نصب جاز في اللغة على إضمار ، فليعط فدية ، أو فليأت بفدية،
وإنما عليه الفدية إذا حلق رأسه، وحل من إحرامه ، وقوله :{أو نسك}، أي: أو نسيكة يذبحها، والنسيكة الذبيحة..
وقوله عزّ وجلّ: {فإذا أمنتم فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي}أي: فعليه ما استيسر من الهدي، وموضع (ما) رفع ، ويجوز أن يكون نصباً على إضمار : فليهد ما استيسر من الهدي.
وقوله عزّ وجلّ:{فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة إذا رجعتم}معناه: فعليه صيام، والنصب جائز على : فليصم هذا الصيام، ولكن القراءة لا تجوز بما لم يقرأ به.
وقوله عزّ وجلّ: {تلك عشرة كاملة}
قيل فيها غير قول:
1- قال بعضهم: {كاملة}، أي: تكمل الثواب.
2- وقال بعضهم :{كاملة}في البدل من الهدي.
والذي في هذا - واللّه أعلم - أنه لما قيل :{فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم}:
جاز أن يتوهم المتوهم أن الفرض ثلاثة أيام في الحج ، أو سبعة في الرجوع ، -
فأعلم اللّه عزّ وجلّ - أن العشرة مفترضة كلها، فالمعنى المفروض عليكم :
صوم عشرة كاملة على ما ذكر من تفرقها في الحج والرجوع.
وقوله عزّ وجلّ: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}أي: هذا الفرض على من لم يكن من أهله بمكة ، و{حاضري المسجد الحرام}، أصله:
حاضرين المسجد الحرام، فسقطت النون للإضافة ، وسقطت الياء في الوصل
لسكونها ، وسكون اللام في المسجد، وأما الوقف ، فتقول فيه: متى اضطررت إلى
أن تقف{حاضري}). [معاني القرآن: 1/267-269]
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وفعله عمران بن حصين.
وقال سفيان الثوري: إتمامهما أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك، ويؤيد هذا قوله: للّه.
وقال قتادة والقاسم
بن محمد: إتمامهما أن تحرم بالعمرة وتقضيها في غير أشهر الحج، وأن تتم الحج
دون نقص ولا جبر بدم، وهذا مبني على أن الدم في الحج والعمرة جبر نقص، وهو
قول مالك وجماعة من العلماء. وأبو حنيفة وأصحابه يرون أن كثرة الدم كمال
وزيادة، وكلما كثر عندهم لزوم الدم فهو أفضل، واحتجوا بأنه قيل للنبي صلى
الله عليه وسلم: ما أفضل الحج؟ فقال: العج والثج، ومالك ومن قال بقوله يراه
ثج التطوع.
وقالت فرقة: إتمامهما أن تفرد كل واحدة من حجة وعمرة ولا تقرن، وهذا على أن الإفراد أفضل.
وقالت فرقة: القِران أفضل، وذلك هو الإتمام عندهم.
وقال ابن عباس وعلقمة وإبراهيم وغيرهم: إتمامهما أن تقضي مناسكهما كاملة بما كان فيها من دماء.
وفروض الحج: النية،
والإحرام، والطواف المتصل بالسعي، والسعي بين الصفا والمروة عندنا خلافا
لأبي حنيفة، والوقوف بعرفة، والجمرة على قول ابن الماجشون، وأما أعمال
العمرة فنية وإحرام، وطواف، وسعي.
واختلف في فرض العمرة
فقال مالك رحمه الله: هي سنة واجبة لا ينبغي أن تترك كالوتر، وهي عنده مرة
واحدة في العام، وهذا قول جمهور أصحابه، وحكى ابن المنذر في الإشراف عن
أصحاب الرأي أنها عندهم غير واجبة، وحكى بعض القرويين والبغداديين عن أبي
حنيفة أنه يوجبها كالحج، وبأنها سنة.
قال ابن مسعود وجمهور
من العلماء، وأسند الطبري النص على ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر والشافعي وأحمد وإسحاق والشعبي
وجماعة تابعين: أنها واجبة كالفرض، وقاله ابن الجهم من المالكيين.
وقال مسروق: «الحج
والعمرة فرض، نزلت العمرة من الحج منزلة الزكاة من الصلاة»، وقرأ الشعبي
وأبو حيوة «والعمرة لله» برفع العمرة على القطع والابتداء، وقرأ ابن أبي
إسحاق «الحج» بكسر الحاء، وفي مصحف ابن مسعود «وأتموا الحج والعمرة إلى
البيت لله»، وروي عنه: «وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت»، وروي غير هذا مما
هو كالتفسير.
وقوله تعالى: فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي، قال علقمة وعروة بن الزبير وغيرهما: الآية فيمن أحصر بالمرض لا بالعدو.
وقال ابن عباس وغيره بعكس ذلك، والمشهور من اللغة أحصر بالمرض وحصر بالعدو، وفي المجمل لابن فارس حصر بالمرض وأحصر بالعدو.
وقال الفراء: «هما بمعنى واحد في المرض والعدو».
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: والصحيح أن حصر إنما هي فيما أحاط وجاور فقد يحصر العدو والماء
ونحوه ولا يحصر المرض، وأحصر معناه جعل الشيء ذا حصر كأقبر وأحمى وغير ذلك،
فالمرض والماء والعدو وغير ذلك قد يكون محصرا لا حاصرا، ألا ترى أن العدو
كان محصرا في عام الحديبية، وفي ذلك نزلت هذه الآية عند جمهور أهل التأويل،
وأجمع جمهور الناس على أن المحصر بالعدو يحل حيث أحصر، وينحر هديه إن كان
ثم هدي ويحلق رأسه.
وقال قتادة وإبراهيم: يبعث بهديه إن أمكنه فإذا بلغ محله صار حلالا ولا قضاء عليه عند الجميع إلا أن يكون صرورة فعليه حجة الإسلام.
وقال ابن الماجشون: «ليست عليه حجة الإسلام وقد قضاها حين أحصر».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف لا وجه له.
وقال أشهب: «يهدي المحصر بعدو هديا من أجل الحصر».
وقال ابن القاسم: «لا يهدي شيئا إلا إن كان معه هدي فأراد نحره»، ذكره ابن أبي زيد.
وقال عطاء وغيره: المحصر بالمرض كالمحصر بالعدو.
وقال مالك وجمهور من
العلماء: المحصر بالمرض لا يحله إلا البيت، ويقيم حتى يفيق، وإن أقام سنين،
فإذا وصل البيت بعد فوت الحج قطع التلبية في أوائل الحرم وحل بعمرة، ثم
تكون عليه حجة قضاء وفيها يكون الهدي، وقيل: إن الهدي يجب في وقت الحصر
أولا، ولم ير ابن عباس من أحصره المرض داخلا في هذه الآية، وقال: إن المريض
إن لم يكن معه هدي حل حيث حبس، وإن كان معه هدي لم يحل حتى يبلغ الهدي
محله ثم لا قضاء عليه، قال: وإنما قال الله: فإذا أمنتم والأمن إنما هو من
العدو فليس المريض في الآية.
و «ما» في موضع رفع،
أي فالواجب أو فعليكم ما استيسر، ويحتمل أن تكون في موضع نصب أي فانحروا أو
فاهدوا، وفما استيسر عند جمهور أهل العلم: شاة.
وقال ابن عمر وعروة بن الزبير «ما استيسر» جمل دون جمل وبقرة دون بقرة.
وقال الحسن: أعلى
الهدي بدنة وأوسطه بقرة وأخسّه شاة، والهدي جمع هدية كجدية السرج وهي
البراد جمعها جدى، ويحتمل أن يكون الهدي مصدرا سمي به كالرهن ونحوه فيقع
للإفراد وللجمع.
وقال أبو عمرو بن العلاء: «لا أعرف لهذه اللفظة نظيرا».
وقوله تعالى: ولا
تحلقوا رؤسكم الآية، الخطاب لجميع الأمة محصر ومخلى، ومن العلماء من يراها
للمحصرين خاصة، ومحل الهدي حيث يحل نحره، وذلك لمن لم يحصر بمنى ولمن أحصر
بعدو حيث أحصر إذا لم يمكن إرساله، وأما المريض فإن كان له هدي فيرسله إلى
محله.
والترتيب أن يرمي
الحاج الجمرة ثم ينحر ثم يحلق ثم يطوف طواف الإفاضة، فإن نحر رجل قبل الرمي
أو حلق قبل النحر فلا حرج حسب الحديث ولا دم.
وقال قوم: لا حرج في الحج ولكن يهرق دما.
وقال عبد الملك بن الماجشون من أصحابنا: «إذا حلق قبل أن ينحر فليهد، وإن حلق رجل قبل أن يرمي فعليه دم قولا واحدا في المذهب».
قال ابن المواز عن مالك: ويمر الموسى على رأسه بعد الرمي، ولا دم في ذلك عند أبي حنيفة وجماعة معه.
وقرأ الزهري والأعرج وأبو حيوة «الهديّ» بكسر الدال وشد الياء في الموضعين واحدته هدية، ورويت هذه القراءة عن عاصم.
وقوله تعالى: فمن كان
منكم مريضاً الآية، المعنى فحلق لإزالة الأذى ففديةٌ، وهذا هو فحوى الخطاب
عند أكثر الأصوليين، ونزلت هذه الآية في كعب بن عجرة حين رآه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ورأسه يتناثر قملا، فأمره بالحلاق ونزلت الرخصة، و
«فدية» رفع على خبر الابتداء، والصيام عند مالك وعطاء ومجاهد وإبراهيم
وغيرهم وجميع أصحاب مالك: ثلاثة أيام، والصدقة: ستة مساكين، لكل مسكين نصف
صاع، وذلك مدّان بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم، والنسك: شاة بإجماع، ومن
ذبح أفضل منها فهو أفضل.
وقال الحسن بن أبي الحسن وعكرمة: الصيام عشرة أيام، والإطعام عشرة مساكين.
وقرأ الزهري «أو نسك» بسكون السين.
وقال سعيد بن جبير
ومجاهد: النسك شاة، فإن لم يجدها فقيمتها يشترى بها طعام فيطعم منه مدّان
لكل مسكين، فإن لم يجد القيمة عرفها وعرف ما يشترى بها من الطعام وصام عن
كل مدين يوما.
قال علي بن أبي طالب
رضي الله عنه: ذلك كله حيث شاء، وفاله إبراهيم وهو مذهب مالك وأصحابه إلا
ابن الجهم، فإنه قال: لا يكون النسك إلا بمكة.
وقال عطاء في بعض ما روي عنه وأصحاب الرأي: النسك بمكة، والصيام والإطعام حيث شاء.
وقال الحسن بن أبي
الحسن وطاوس وعطاء أيضا ومجاهد والشافعي: النسك والإطعام بمكة، والصيام حيث
شاء، والمفتدي مخير في أي هذه الثلاثة شاء، وكذلك قال مالك وغيره في كل ما
في القرآن أو فإنه على التخيير.
وقوله تعالى: فإذا
أمنتم، قال علقمة وعروة: المعنى إذا برأتم من مرضكم. وقال ابن عباس وقتادة
وغيرهما: إذا أمنتم من خوفكم من العدو المحصر، وهذا أشبه باللفظ إلا أن
يتخيل الخوف من المرض فيكون الأمن منه.
وقوله تعالى: فمن
تمتّع بالعمرة إلى الحجّ الآية، قال عبد الله بن الزبير وعلقمة وإبراهيم:
الآية في المحصرين دون المخلى سبيلهم، وصورة المتمتع عند ابن الزبير أن
يحصر الرجل حتى يفوته الحج ثم يصل إلى البيت فيحل بعمرة ويقضي الحج من
قابل، فهذا قد تمتع بما بين العمرة إلى حج القضاء، وصورة المتمتع المحصر
عند غيره أن يحصر فيحل دون عمرة ويؤخرها حتى يأتي من قابل فيعتمر في أشهر
الحج ويحج من عامه.
وقال ابن عباس وجماعة
من العلماء: الآية في المحصرين وغيرهم ممن خلي سبيله، وصورة المتمتع أن
تجتمع فيه ستة شروط: أن يكون معتمرا في أشهر الحج، وهو من غير حاضري المسجد
الحرام، ويحل وينشىء الحج من عامه ذلك دون رجوع إلى وطنه أو ما ساواه
بعدا. هذا قول مالك وأصحابه، واختلف لم سمي متمتعا، فقال ابن القاسم: لأنه
تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله في العمرة إلى وقت إنشائه
الحج، وقال غيره: سمي متمتعا لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين، وذلك أن
حق العمرة أن تقصد بسفرة وحق الحج كذلك، فلما تمتع بإسقاط أحدهما ألزمه الله هديا كالقارن الذي يجمع الحج والعمرة في سفر واحد.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: هذه شدة على القادم مكة من سائر الأقطار لما أسقط سفرا، والمكي
لا يقتضي حاله سفرا في عمرة ولا حج لأنه في بقعة الحج فلم يلزم شيئا لأنه
لم يسقط شيئا، ومن قال إن اسم التمتع وحكمه إنما هو من جهة التمتع بالنساء
والطيب وغير ذلك فيرد عليه أنه يستغرق قوله: فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ
المكي وغيره على السواء في القياس، فكيف يشتد مع ذلك على الغريب الذي هو
أعذر ويلزم هديا، ولا يفعل ذلك بالمكي، فيترجح بهذا النظر أن التمتع إنما
هو من أجل إسقاط أحد السفرين، إلا أن أبا عبيد قال في كتاب الناسخ والمنسوخ
له: إن العمرة في أشهر الحج ممنوعة للمكي لا تجوز له، ورخص الله تعالى
للقادم لطول بقائه محرما وقرن الرخصة بالهدي.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: فهذه شدة على أهل مكة، وبهذا النظر يحسن أن يكون التمتع من جهة
استباحة ما لا يجوز للمحرم، لكنه قول شاذ لا يعول عليه، وجل الأمة على جواز
العمرة في أشهر الحج للمكي ولا دم عليه، وذكر أبو عبيد القولين عن ابن عمر
واستند إليه في الذي وافقه، وقد حكاه الطبري عن ابن عباس وقال: إنه قال يا
أهل مكة لا متعة لكم، إن الله قد أحلها لأهل الآفاق وحرمها عليكم، إنما
يقطع أحدكم واديا ثم يحرم بعمرة.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: فمعنى هذا أنهم متى أحرموا داموا إلى الحج، وقال السدي: المتمتع
هو الذي يفسخ الحج في العمرة، وذلك لا يجوز عند مالك، وفي صحيح مسلم حديث
سراقة بن مالك قال:
قلت يا رسول الله: فسخ الحج في العمرة ألنا خاصة أم للأبد؟ فقال: «بل لأبد أبد، بل لأبد أبد».
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: وإنما شرط في التمتع أن يحل في أشهر الحج لأنها مدة يملكها الحج
فمن كان فيها محرما فحقه أن يصل الإحرام إلى الحج، وفي كتاب مسلم إيعاب
الأحاديث في هذا المعنى، ومذهب عمر وقول أبي ذر إن متعة النساء ومتعة الحج
خاصتان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال طاوس: «من اعتمر في غير أشهر
الحج ثم أقام حتى حج من عامه فهو متمتع».
وقال الحسن بن أبي
الحسن البصري «من اعتمر بعد يوم النحر في بقية العام فهو متمتع»، وهذان
قولان شاذان لم يوافقهما أحد من العلماء، وتقدم القول فيما استيسر من
الهدي.
قوله: لم يجد إما بعدم المال وإما بعدم الحيوان، وفي الحجّ قال عكرمة وعطاء: له أن يصومها في أشهر الحج وإن كان لم يحرم بالحج.
وقال ابن عباس ومالك بن أنس: له أن يصومها منذ يحرم بالحج.
وقال عطاء أيضا ومجاهد: لا يصومها إلا في عشر ذي الحجة.
وقال ابن عمر والحسن والحكم: يصوم يوما قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة، وكلهم يقول:
لا يجوز تأخيرها عن عشر ذي الحجة لأن بانقضائه ينقضي الحج.
وقال علي بن أبي طالب
رضي الله عنه وابن عمر ومالك بن أنس وجماعة من أهل العلم: من فاته صيامها
قبل يوم النحر فله صيامها في أيام التشريق، لأنها من أيام الحج.
وقال قوم: له ابتداء تأخيرها إلى أيام التشريق لأنه لا يجب عليه الصيام إلا بأن لا يجد يوم النحر.
وقوله تعالى: وسبعةٍ
إذا رجعتم قال مجاهد وعطاء وإبراهيم: المعنى إذا رجعتم من منى فمن بقي بمكة
صامها، ومن نهض إلى بلده صامها في الطريق.
وقال قتادة والربيع:
هذه رخصة من الله تعالى، والمعنى إذا رجعتم إلى أوطانكم فلا يجب على أحد
صوم السبعة إلا إذا وصل وطنه، إلا أن يتشدد أحدكما يفعل من يصوم في السفر
في رمضان، وقرأ زيد بن علي «وسبعة» بالنصب، أي وصوموا سبعة، ولما جاز أن
يتوهم متوهم التخيير بين ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع أزيل ذلك
بالجملة من قوله تعالى: تلك عشرةٌ كاملةٌ قال الحسن بن أبي الحسن:
المعنى كاملة في
الثواب كمن أهدى، وقيل كاملة في الثواب كمن لم يتمتع، وهذا على أن الحج
الذي لم تكثر فيه الدماء أخلص وأفضل خلافا لأبي حنيفة، وقيل: كاملةٌ توكيد
كما تقول كتبت بيدي، وكقوله تعالى: فخرّ عليهم السّقف من فوقهم [النحل: 6]،
وقيل: لفظها الإخبار ومعناها الأمر أي أكملوها فذلك فرضها.
وقال الأستاذ الأجل أبو الحسن علي بن أحمد: المعنى تلك كاملة، وكرر الموصوف تأكيدا كما تقول زيد رجل عاقل.
وقوله تعالى: ذلك لمن
لم يكن أهله الآية، الإشارة إلى التمتع وهديه وحكمه، وهذا على قول من يرى
أن المكي لا تجوز له المتعة في أشهر الحج، فكان الكلام ذلك الترخيص، ويتأيد
هذا بقوله لمن، لأن اللام أبدا إنما تجيء مع الرخص، تقول لك إن تفعل كذا،
وأما مع الشدة فالوجه أن تقول عليك، وأما من يرى أن المكي يعتمر ولا دم
عليه لأنه لم يسقط سفرا فالإشارة بذلك- على قوله- هي إلى الهدي، أي ذلك
الاشتداد والإلزام.
واختلف الناس في
حاضري المسجد الحرام بعد الإجماع على أهل مكة وما اتصل بها، وقال الطبري:
بعد الإجماع على أهل الحرم، وليس كما قال: فقال بعض العلماء: من كان حيث
تجب الجمعة عليه بمكة فهو حضري، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة، وقال بعضهم: من كان بحيث لا
تقصر الصلاة إلى مكانه فهو حاضر أي شاهد، ومن كان أبعد من ذلك فهو غائب،
وقال عطاء بن أبي رباح: مكة وضجنان وذو طوى وما أشبهها حاضر والمسجد
الحرام.
وقال ابن عباس ومجاهد: أهل الحرم كله حاضر والمسجد الحرام، وقال مكحول وعطاء: من كان دون المواقيت من كل جهة حاضر والمسجد الحرام.
وقال الزهري: من كان على يوم أو يومين فهو من حاضري المسجد الحرام، ثم أمر تعالى بتقواه على العموم، وحذر من شديد عقابه). [المحرر الوجيز: 1/470-480]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وأتمّوا
الحجّ والعمرة للّه فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم
حتّى يبلغ الهدي محلّه فمن كان منكم مريضًا أو به أذًى من رأسه ففديةٌ من
صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ فإذا أمنتم فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر
من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّامٍ في الحجّ وسبعةٍ إذا رجعتم تلك
عشرةٌ كاملةٌ ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتّقوا اللّه
واعلموا أنّ اللّه شديد العقاب (196)}
لمّا ذكر تعالى أحكام
الصّيام وعطف بذكر الجهاد، شرع في بيان المناسك، فأمر بإتمام الحجّ
والعمرة، وظاهر السّياق إكمال أفعالهما بعد الشّروع فيهما ؛ ولهذا قال
بعده: {فإن أحصرتم} أي: صددتم عن الوصول إلى البيت ومنعتم من إتمامهما.
ولهذا اتّفق العلماء على أنّ الشّروع في الحجّ والعمرة ملزمٌ، سواءٌ قيل
بوجوب العمرة أو باستحبابها، كما هما قولان للعلماء. وقد ذكرناهما
بدلائلهما في كتابنا "الأحكام" مستقصًى وللّه الحمد والمنّة.
وقال شعبة، عن عمرو
بن مرّة، عن عبد اللّه بن سلمة، عن عليٍّ: أنّه قال في هذه الآية: {وأتمّوا
الحجّ والعمرة للّه} قال: أن تحرم من دويرة أهلك.
وكذا قال ابن عبّاسٍ،
وسعيد بن جبيرٍ، وطاوسٌ. وعن سفيان الثّوريّ أنّه قال في هذه الآية:
إتمامهما أن تحرم من أهلك، لا تريد إلّا الحجّ والعمرة، وتهلّ من الميقات
ليس أن تخرج لتجارةٍ ولا لحاجةٍ، حتّى إذا كنت قريبًا من مكّة قلت: لو حججت
أو اعتمرت، وذلك يجزئ، ولكنّ التّمام أن تخرج له، ولا تخرج لغيره.
وقال مكحولٌ: إتمامهما إنشاؤهما جميعًا من الميقات.
وقال عبد الرّزّاق:
أخبرنا معمر عن الزّهريّ قال: بلغنا أنّ عمر قال في قول اللّه: {وأتمّوا
الحجّ والعمرة للّه} [قال]: من تمامهما أن تفرد كلّ واحدٍ منهما من الآخر،
وأن تعتمر في غير أشهر الحجّ؛ إنّ اللّه تعالى يقول: {الحجّ أشهرٌ
معلوماتٌ}.
وقال هشيم عن ابن
عونٍ قال: سمعت القاسم بن محمّدٍ يقول: إن العمرة في أشهر الحجّ ليست
بتامّةٍ فقيل له: العمرة في المحرّم؟ قال: كانوا يرونها تامّةً. وكذا روي
عن قتادة بن دعامة، رحمهما اللّه.
وهذا القول فيه نظرٌ؛
لأنّه قد ثبت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اعتمر أربع عمرٍ كلّها
في ذي القعدة: عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ستٍّ، وعمرة القضاء في ذي
القعدة سنة سبعٍ، وعمرة الجعرّانة في ذي القعدة سنة ثمانٍ، وعمرته التي مع
حجّته أحرم بهما معًا في ذي القعدة سنة عشرٍ، ولا اعتمر قطّ في غير ذلك بعد
هجرته، ولكن قال لأمّ هانئٍّ "عمرة في رمضان تعدل حجّةً معي". وما ذاك
إلّا لأنّها [كانت] قد عزمت على الحجّ معه، عليه السّلام، فاعتاقت عن ذلك
بسبب الطّهر، كما هو مبسوطٌ في الحديث عند البخاريّ، ونصّ سعيد بن جبيرٍ
على أنّه من خصائصها، واللّه أعلم.
وقال السّدّيّ في
قوله: {وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه} أي: أقيموا الحجّ والعمرة. وقال عليّ
بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ في قوله: {وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه} يقول: من
أحرم بالحجّ أو بالعمرة فليس له أن يحلّ حتّى يتمّهما، تمام الحجّ يوم
النّحر، إذا رمى جمرة العقبة، وطاف بالبيت، وبالصّفا، والمروة، فقد حلّ.
وقال قتادة، عن
زرارة، عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: الحجّ عرفة، والعمرة الطّواف. وكذا روى
الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة في قوله: {وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه} قال:
هي [في] قراءة عبد الله: "وأقيموا الحجّ والعمرة إلى البيت" لا تجاوز
بالعمرة البيت. قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد ابن جبيرٍ، فقال: كذلك قال
ابن عبّاسٍ.
وقال سفيان عن
الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة أنّه قال: "وأقيموا الحجّ والعمرة إلى البيت"
وكذا روى الثّوريّ أيضًا عن إبراهيم، عن منصورٍ، عن إبراهيم أنّه قرأ:
"وأقيموا الحجّ والعمرة إلى البيت".
وقرأ الشّعبيّ: "وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه" برفع العمرة، وقال: ليست بواجبةٍ. وروي عنه خلاف ذلك.
وقد وردت أحاديث
كثيرةٌ من طرقٍ متعدّدةٍ، عن أنسٍ وجماعةٍ من الصّحابة: أنّ رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم جمع في إحرامه بحجٍّ وعمرةٍ، وثبت عنه في الصّحيح
أنّه قال لأصحابه: "من كان معه هدي فليهلّ بحجٍّ وعمرةٍ".
وقال في الصّحيح أيضًا: "دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة".
وقد روى الإمام أبو
محمّد بن أبي حاتمٍ في سبب نزول هذه الآية حديثًا غريبًا فقال: حدّثنا عليّ
بن الحسين، حدّثنا أبو عبد اللّه الهرويّ، حدّثنا غسّان الهرويّ، حدّثنا
إبراهيم بن طهمان، عن عطاءٍ، عن صفوان بن أميّة أنّه قال: جاء رجلٌ إلى
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم متضمّخٌ بالزّعفران، عليه جبّةٌ، فقال: كيف
تأمرني يا رسول اللّه في عمرتي؟ قال: فأنزل اللّه: {وأتمّوا الحجّ والعمرة
للّه} فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أين السّائل عن العمرة؟ "
فقال: ها أنا ذا. فقال له: "ألق عنك ثيابك، ثمّ اغتسل، واستنشق ما استطعت،
ثمّ ما كنت صانعًا في حجّك فاصنعه في عمرتك" هذا حديثٌ غريبٌ وسياقٌ عجيبٌ،
والذي ورد في الصّحيحين، عن يعلى بن أميّة في قصّة الرّجل الذي سأل
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو بالجعرّانة فقال: كيف ترى في رجلٍ أحرم
بالعمرة وعليه جبة وخلوق؟ فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ثمّ جاءه
الوحي، ثمّ رفع رأسه فقال: "أين السّائل؟ " فقال: ها أنا ذا، فقال: "أمّا
الجبّة فانزعها، وأمّا الطّيب الذي بك فاغسله، ثمّ ما كنت صانعًا في حجّك
فاصنعه في عمرتك". ولم يذكر فيه الغسل والاستنشاق ولا ذكر نزول الآية، وهو
عن يعلى بن أميّة، لا [عن] صفوان بن أميّة، واللّه أعلم.
وقوله: {فإن أحصرتم
فما استيسر من الهدي} ذكروا أنّ هذه الآية نزلت في سنة ستٍّ، أي عام
الحديبية، حين حال المشركون بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وبين
الوصول إلى البيت، وأنزل اللّه في ذلك سورة الفتح بكمالها، وأنزل لهم
رخصةً: أن يذبحوا ما معهم من الهدي وكان سبعين بدنةً، وأن يتحللوا من
إحرامهم، فعند ذلك أمرهم عليه السّلام بأن يحلقوا رؤوسهم ويتحلّلوا. فلم
يفعلوا انتظارًا للنّسخ حتّى خرج فحلق رأسه، ففعل النّاس وكان منهم من قصّر
رأسه ولم يحلقه، فلذلك قال صلّى اللّه عليه وسلّم: "رحم اللّه المحلّقين".
قالوا: والمقصّرين يا رسول اللّه؟ فقال في الثّالثة: "والمقصّرين". وقد
كانوا اشتركوا في هديهم ذلك، كلّ سبعةٍ في بدنة، وكانوا ألفًا وأربعمائةٍ،
وكان منزلهم بالحديبية خارج الحرم، وقيل: بل كانوا على طرف الحرم، فاللّه
أعلم.
ولهذا اختلف العلماء هل يختصّ الحصر بالعدوّ، فلا يتحلّل إلّا من حصره عدو، لا مرضٌ ولا غيره؟ على قولين:
فقال ابن أبي حاتمٍ:
حدّثنا محمّد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدّثنا سفيان، عن عمرو بن
دينارٍ، عن ابن عبّاسٍ، وابن طاوسٍ، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، وابن أبي نجيح
[ومجاهدٍ] عن ابن عبّاسٍ، أنّه قال: لا حصر إلّا حصر العدوّ، فأمّا من
أصابه مرضٌ أو وجعٌ أو ضلالٌ فليس عليه شيءٌ، إنّما قال اللّه تعالى: {فإذا
أمنتم} فليس الأمن حصرًا.
قال: وروي عن ابن عمر، وطاوسٍ، والزّهريّ، وزيد بن أسلم، نحو ذلك.
والقول الثّاني: أنّ
الحصر أعمّ من أن يكون بعدوّ أو مرضٍ أو ضلالٍ -وهو التّوهان عن الطّريق أو
نحو ذلك. قال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، حدّثنا حجّاج بن
الصوّاف، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن عكرمة، عن الحجّاج بن عمرٍو الأنصاريّ،
قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: "من كسر أو عرج فقد حلّ،
وعليه حجّةٌ أخرى".
قال: فذكرت ذلك لابن عبّاسٍ وأبي هريرة فقالا صدق.
وأخرجه أصحاب الكتب
الأربعة من حديث يحيى بن أبي كثيرٍ، به. وفي روايةٍ لأبي داود وابن ماجه:
من عرج أو كسر أو مرض -فذكر معناه. ورواه ابن أبي حاتمٍ، عن الحسن بن عرفة،
عن إسماعيل بن عليّة، عن الحجّاج بن أبي عثمان الصّوّاف، به. ثمّ قال:
وروي عن ابن مسعودٍ، وابن الزّبير، وعلقمة، وسعيد بن المسيّب، وعروة بن
الزّبير، ومجاهدٍ، والنّخعيّ، وعطاءٍ، ومقاتل بن حيّان، أنّهم قالوا:
الإحصار من عدوٍّ، أو مرضٍ، أو كسرٍ.
وقال الثّوريّ:
الإحصار من كلّ شيءٍ آذاه. وثبت في الصّحيحين عن عائشة: أنّ رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم دخل على ضباعة بنت الزّبير بن عبد المطّلب، فقالت:
يا رسول اللّه، إنّي أريد الحجّ وأنا شاكيةٌ. فقال: "حجّي واشترطي: أنّ
محلّي حيث حبستني". ورواه مسلمٌ عن ابن عبّاسٍ بمثله. فذهب من ذهب من
العلماء إلى صحّة الاشتراط في الحجّ لهذا الحديث. وقد علّق الإمام محمد بن
إدريس الشّافعيّ القول بصحّة هذا المذهب على صحّة هذا الحديث. قال البيهقيّ
وغيره من الحفّاظ: فقد صحّ، وللّه الحمد.
وقوله: {فما استيسر
من الهدي} قال الإمام مالكٌ، عن جعفر بن محمّدٍ، عن أبيه، عن علي ابن أبي
طالبٍ أنّه كان يقول: {فما استيسر من الهدي} شاةٌ. وقال ابن عبّاسٍ: الهدي
من الأزواج الثّمانية: من الإبل والبقر والمعز والضّأن.
وقال الثّوريّ، عن
حبيبٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {فما استيسر من الهدي}
قال: شاةٌ. وكذا قال عطاءٌ، ومجاهدٌ، وطاوسٌ، وأبو العالية، ومحمّد بن عليّ
بن الحسين، وعبد الرّحمن بن القاسم، والشّعبيّ، والنّخعيّ، والحسن،
وقتادة، والضّحّاك، ومقاتل بن حيّان، وغيرهم مثل ذلك، وهو مذهب الأئمّة
الأربعة.
وقال ابن أبي حاتمٍ:
حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا أبو خالدٍ الأحمر، عن يحيى بن سعيدٍ، عن
القاسم، عن عائشة وابن عمر: أنّهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلّا
من الإبل والبقر.
قال: وروي عن سالمٍ، والقاسم، وعروة بن الزّبير، وسعيد بن جبيرٍ -نحو ذلك.
قلت: والظّاهر أنّ
مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قضيّة الحديبية، فإنّه لم ينقل عن أحدٍ منهم
أنّه ذبح في تحللّه ذاك شاةً، وإنّما ذبحوا الإبل والبقر، ففي الصّحيحين عن
جابرٍ قال: أمرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن نشترك في الإبل
والبقر كلّ سبعةٍ منّا في بقرةٍ.
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {فما استيسر من الهدي} قال: بقدر يسارته.
وقال العوفيّ، عن ابن
عبّاسٍ: إن كان موسرًا فمن الإبل، وإلّا فمن البقر، وإلّا فمن الغنم. وقال
هشام بن عروة، عن أبيه: {فما استيسر من الهدي} قال: إنّما ذلك فيما بين
الرّخص والغلاء.
والدّليل على صحّة
قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجزاء ذبح الشّاة في الإحصار: أنّ اللّه
أوجب ذبح ما استيسر من الهدي، أي: مهما تيسّر ممّا يسمّى هديًا، والهدي من
بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، كما قاله الحبر البحر ترجمان
القرآن وابن عمّ الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم. وقد ثبت في الصّحيحين عن
عائشة أمّ المؤمنين، رضي اللّه عنها، قالت: أهدى النّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم مرة غنمًا.
وقوله: {ولا تحلقوا
رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه} معطوفٌ على قوله: {وأتمّوا الحجّ والعمرة
للّه} وليس معطوفًا على قوله: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} كما زعمه
ابن جريرٍ، رحمه اللّه؛ لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه عام
الحديبية لمّا حصرهم كفّار قريشٍ عن الدّخول إلى الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم
خارج الحرم، فأمّا في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق {حتّى
يبلغ الهدي محلّه} ويفرغ النّاسك من أفعال الحجّ والعمرة، إن كان قارنًا،
أو من فعل أحدهما إن كان مفردًا أو متمتّعًا، كما ثبت في الصّحيحين عن حفصة
أنّها قالت: يا رسول اللّه، ما شأن النّاس حلّوا من العمرة، ولم تحلّ أنت
من عمرتك؟ فقال: "إنّي لبّدت رأسي وقلّدت هديي، فلا أحلّ حتّى أنحر".
وقوله: {فمن كان منكم
مريضًا أو به أذًى من رأسه ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ} قال
البخاريّ: حدّثنا آدم، حدّثنا شعبة، عن عبد الرّحمن بن الأصبهانيّ: سمعت
عبد اللّه بن معقل، قال: فعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد -يعني مسجد
الكوفة -فسألته عن {ففديةٌ من صيامٍ} فقال: حملت إلى النّبيّ صلّى اللّه
عليه وسلّم والقمل يتناثر على وجهي. فقال: "ما كنت أرى أنّ الجهد بلغ بك
هذا! أما تجد شاةً؟ " قلت: لا. قال: "صم ثلاثة أيّامٍ، أو أطعم ستّة
مساكين، لكلّ مسكينٍ نصف صاعٍ من طعامٍ، واحلق رأسك". فنزلت فيّ خاصّةً،
وهي لكم عامّةً.
وقال الإمام أحمد:
حدّثنا إسماعيل، حدّثنا أيّوب، عن مجاهدٍ، عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، عن
كعب بن عجرة قال: أتى عليّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأنا أوقد تحت
قدرٍ، والقمل يتناثر على وجهي -أو قال: حاجبي -فقال: "يؤذيك هوامّ رأسك؟ ".
قلت: نعم. قال: "فاحلقه، وصم ثلاثة أيّامٍ، أو أطعم ستّة مساكين، أو انسك
نسيكةً". قال أيّوب: لا أدري بأيّتهنّ بدأ.
وقال أحمد أيضًا:
حدّثنا هشيم، أخبرنا أبو بشرٍ عن مجاهدٍ، عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، عن
كعب بن عجرة قال: كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالحديبية،
ونحن محرمون وقد حصره المشركون وكانت لي وفرة، فجعلت الهوامّ تساقط على
وجهي، فمرّ بي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "أيؤذيك هوامّ رأسك؟
" فأمره أن يحلق. قال: ونزلت هذه الآية: {فمن كان منكم مريضًا أو به أذًى
من رأسه ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ}.
وكذا رواه عفّان، عن
شعبة، عن أبي بشرٍ، وهو جعفر بن إياسٍ، به. وعن شعبة، عن الحكم، عن عبد
الرّحمن بن أبي ليلى، به. وعن شعبة، عن داود، عن الشّعبيّ، عن كعب بن عجرة،
نحوه.
ورواه الإمام مالكٌ عن حميد بن قيسٍ، عن مجاهدٍ، عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، عن كعب ابن عجرة -فذكر نحوه.
وقال سعد بن إسحاق بن
كعب بن عجرة، عن أبان بن صالح، عن الحسن البصري: أنه سمع كعب بن عجرة
يقول: فذبحت شاةً. رواه ابن مردويه. وروي أيضًا من حديث عمر بن قيسٍ، سندلٌ
-وهو ضعيفٌ -عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم: "النّسك شاةٌ، والصّيام ثلاثة أيّام، والطّعام فرق، بين ستّةٍ".
وكذا روي عن عليٍّ، ومحمّد بن كعبٍ، وعكرمة وإبراهيم [النّخعيّ] ومجاهدٍ، وعطاءٍ، والسّدّيّ، والرّبيع بن أنسٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ:
أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا عبد اللّه بن وهبٍ: أنّ مالك بن أنسٍ
حدّثه عن عبد الكريم بن مالكٍ الجزري، عن مجاهدٍ، عن عبد الرّحمن بن أبي
ليلى، عن كعب ابن عجرة: أنّه كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم،
فآذاه القمل في رأسه، فأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يحلق
رأسه، وقال: "صم ثلاثة أيّامٍ، أو أطعم ستّة مساكين، مدّين مدّين لكلّ
إنسانٍ، أو انسك شاةً، أيّ ذلك فعلت أجزأ عنك".
وهكذا روى ليث بن أبي
سليمٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو
نسكٍ} قال: إذا كان "أو" فأيّه أخذت أجزأ عنك.
قال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن مجاهدٍ، وعكرمة، وعطاءٍ، وطاوسٍ، والحسن، وحميد الأعرج، وإبراهيم النخعي، والضّحّاك، نحو ذلك.
قلت: وهو مذهب
الأئمّة الأربعة وعامّة العلماء أنّه يخيّر في هذا المقام، إن شاء صام، وإن
شاء تصدّق بفرق، وهو ثلاثةٌ آصعٍ، لكلّ مسكينٍ نصف صاعٍ، وهو مدّان، وإن
شاء ذبح شاةً وتصدّق بها على الفقراء، أيّ ذلك فعل أجزأه. ولمّا كان لفظ
القرآن في بيان الرّخصة جاء بالأسهل فالأسهل: {ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو
نسكٍ} ولمّا أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كعب بن عجرة بذلك، أرشده
إلى الأفضل، فالأفضل فقال: انسك شاةً، أو أطعم ستّة مساكين أو صم ثلاثة
أيّامٍ. فكلٌّ حسنٌ في مقامه. وللّه الحمد والمنّة.
وقال ابن جريرٍ:
حدّثنا أبو كريب، حدّثنا أبو بكر بن عيّاشٍ قال: ذكر الأعمش قال: سأل
إبراهيم سعيد بن جبيرٍ عن هذه الآية: {ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ}
فأجابه يقول: يحكم عليه طعامٌ، فإن كان عنده اشترى شاةً، وإن لم يكن قوّمت
الشّاة دراهم، وجعل مكانها طعامٌ فتصدّق، وإلّا صام بكلّ نصف صاعٍ يومًا،
قال إبراهيم: كذلك سمعت علقمة يذكر. قال: لمّا قال لي سعيد بن جبيرٍ: من
هذا؟ ما أظرفه! قال: قلت: هذا إبراهيم. فقال: ما أظرفه! كان يجالسنا. قال:
فذكرت ذلك لإبراهيم، قال: فلما قلت: "يجالسنا" انتفض منها.
وقال ابن جريرٍ
أيضًا: حدّثنا ابن أبي عمران، حدّثنا عبيد اللّه بن معاذٍ، عن أبيه، عن
أشعث، عن الحسن في قوله: {ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ} قال: إذا كان
بالمحرم أذًى من رأسه، حلق وافتدى بأيّ هذه الثّلاثة شاء، والصّيام عشرة
أيّامٍ، والصّدقة على عشرة مساكين، كلّ مسكينٍ مكّوكين: مكّوكًا من تمرٍ،
ومكّوكًا من بر، والنّسك شاةٌ.
وقال قتادة، عن الحسن وعكرمة في قوله: {ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ} قال: إطعام عشرة مساكين.
وهذان القولان من
سعيد بن جبيرٍ، وعلقمة، والحسن، وعكرمة قولان غريبان فيهما نظرٌ؛ لأنّه قد
ثبتت السنة في حديث كعب بن عجرة بصيام ثلاثة أيّامٍ، [لا عشرة و] لا ستّة،
أو إطعام ستّة مساكين أو نسك شاةٍ، وأنّ ذلك على التّخيير كما دلّ عليه
سياق القرآن. وأمّا هذا الترتيب فإنّما هو معروفٌ في قتل الصّيد، كما هو
نصّ القرآن. وعليه أجمع الفقهاء هناك، بخلاف هذا، واللّه أعلم.
وقال هشيم: أخبرنا
ليثٌ، عن طاوسٍ: أنّه كان يقول: ما كان من دمٍ أو طعامٍ فبمكّة، وما كان من
صيامٍ فحيث شاء. وكذا قال عطاءٌ، ومجاهدٌ، والحسن.
وقال هشيم: أخبرنا حجّاجٌ وعبد الملك وغيرهما عن عطاءٍ: أنّه كان يقول: ما كان من دمٍ فبمكّة، وما كان من طعامٍ وصيامٍ فحيث شاء.
وقال هشيمٌ: أخبرنا
يحيى بن سعيدٍ، عن يعقوب بن خالدٍ، أخبرنا أبو أسماء مولى ابن جعفرٍ، قال:
حجّ عثمان بن عفّان، ومعه عليٌّ والحسين بن عليٍّ، فارتحل عثمان. قال أبو
أسماء: وكنت مع ابن جعفرٍ، فإذا نحن برجلٍ نائمٍ وناقته عند رأسه، قال:
فقلت: أيّها النّؤوم. فاستيقظ، فإذا الحسين بن عليٍّ. قال: فحمله ابن جعفرٍ
حتّى أتينا به السّقيا قال: فأرسل إلى عليٍّ ومعه أسماء بنت عميسٍ. قال:
فمرّضناه نحوًا من عشرين ليلةً. قال: قال عليٌّ للحسين: ما الذي تجد؟ قال:
فأومأ بيده إلى رأسه. قال: فأمر به عليّ فحلق رأسه، ثمّ دعا ببدنةٍ فنحرها.
فإن كانت هذه النّاقة عن الحلق ففيه أنّه نحرها دون مكّة. وإن كانت عن
التّحلّل فواضحٌ.
وقوله: {فإذا أمنتم
فمن تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي} أي: إذا تمكّنتم من أداء
المناسك، فمن كان منكم متمتّعًا بالعمرة إلى الحجّ، وهو يشمل من أحرم
بهما، أو أحرم بالعمرة أوّلًا فلمّا فرغ منها أحرم بالحجّ وهذا هو التّمتّع
الخاصّ، وهو المعروف في كلام الفقهاء. والتّمتّع العامّ يشمل القسمين، كما
دلّت عليه الأحاديث الصّحاح، فإنّ من الرواة من يقول: تمتّع رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم. وآخر يقول: قرن. ولا خلاف أنّه ساق الهدي.
وقال تعالى: {فمن
تمتّع بالعمرة إلى الحجّ فما استيسر من الهدي} أي: فليذبح ما قدر عليه من
الهدي، وأقلّه شاةٌ، وله أن يذبح البقر؛ لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم ذبح عن نسائه البقر. وقال الأوزاعيّ، عن يحيى بن أبي كثيرٍ، عن أبي
سلمة عن أبي هريرة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذبح بقرةً عن
نسائه، وكن متمتّعاتٍ. رواه أبو بكر بن مردويه.
وفي هذا دليلٌ على
شرعيّة التّمتّع، كما جاء في الصّحيحين عن عمران بن حصين قال: نزلت آية
المتعة في كتاب اللّه، وفعلناها مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. ثمّ
لم ينزل قرآنٌ يحرّمه، ولم ينه عنها، حتّى مات. قال رجلٌ برأيه ما شاء. قال
البخاريّ: يقال: إنّه عمر. وهذا الذي قاله البخاريّ قد جاء مصرّحًا به أنّ
عمر، رضي اللّه عنه، كان ينهى النّاس عن التّمتّع، ويقول: إن نأخذ بكتاب
اللّه فإنّ اللّه يأمر بالتّمام. يعني قوله: {وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه}
وفي نفس الأمر لم يكن عمر، رضي اللّه عنه، ينهى عنها محرّمًا لها، إنّما
كان ينهى عنها ليكثر قصد النّاس للبيت حاجّين ومعتمرين، كما قد صرّح به،
رضي اللّه عنه.
وقوله: {فمن لم يجد
فصيام ثلاثة أيّامٍ في الحجّ وسبعةٍ إذا رجعتم تلك عشرةٌ كاملةٌ} يقول
تعالى: فمن لم يجد هديًا فليصم ثلاثة أيّامٍ في الحجّ، أي: في أيّام
المناسك. قال العلماء: والأولى أن يصومها قبل يوم عرفة في العشر، قاله
عطاءٌ. أو من حين يحرم، قاله ابن عبّاسٍ وغيره، لقوله: {في الحجّ} ومنهم من
يجوّز صيامها من أوّل شوّال، قاله طاوسٌ ومجاهدٌ وغير واحدٍ. وجوّز
الشّعبيّ صيام يوم عرفة وقبله يومين، وكذا قال مجاهدٌ، وسعيد بن جبير،
والسّدّيّ، وعطاءٌ، وطاوسٌ، والحكم، والحسن، وحمّادٌ، وإبراهيم، وأبو جعفرٍ
الباقر، والرّبيع، ومقاتل بن حيّان. وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: إذا لم
يجد هديًا فعليه صيام ثلاثة أيّامٍ في الحجّ قبل يوم عرفة، فإذا كان يوم
عرفة الثّالث فقد تمّ صومه وسبعةٌ إذا رجع إلى أهله. وكذا روى أبو إسحاق عن
وبرة، عن ابن عمر، قال: يصوم يومًا قبل التّروية، ويوم التّروية، ويوم
عرفة. وكذا روى عن جعفر بن محمّدٍ، عن أبيه، عن عليٍّ أيضًا.
فلو لم يصمها أو
بعضها قبل [يوم] العيد فهل يجوز أن يصومها في أيّام التّشريق؟ فيه قولان
للعلماء، وهما للإمام الشّافعيّ أيضًا، القديم منهما أنّه يجوز له صيامها
لقول عائشة وابن عمر في صحيح البخاريّ: لم يرخّص في أيّام التّشريق أن يصمن
إلّا لمن لا يجد الهدي. وكذا رواه مالكٌ، عن الزّهريّ، عن عروة، عن عائشة.
وعن سالمٍ، عن ابن عمر [إنّما قالوا ذلك لعموم قوله: {فصيام ثلاثة أيّامٍ
في الحجّ وسبعةٍ}]. وقد روي من غير وجهٍ عنهما. ورواه سفيان، عن جعفر بن
محمّدٍ، عن أبيه، عن عليٍّ أنّه كان يقول: من فاته صيام ثلاثة أيّامٍ في
الحجّ صامهنّ أيام التّشريق. وبهذا يقول عبيد بن عمير اللّيثيّ وعكرمة،
والحسن البصريّ، وعروة بن الزّبير؛ وإنّما قالوا ذلك لعموم قوله: {فصيام
ثلاثة أيّامٍ في الحجّ} والجديد من القولين: أنّه لا يجوز صيامها أيّام
التّشريق، لما رواه مسلمٌ عن نبيشة الهذليّ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أيّام التّشريق أيّام أكلٍ وشربٍ وذكر
اللّه".
وقوله: {وسبعةٍ إذا رجعتم} فيه قولان:
أحدهما: إذا رجعتم في الطّريق. ولهذا قال مجاهدٌ: هي رخصةٌ إذا شاء صامها في الطّريق. وكذا قال عطاء بن أبي رباحٍ.
والقول الثّاني: إذا
رجعتم إلى أوطانكم؛ قال عبد الرّزّاق: أخبرنا الثّوريّ، عن يحيى بن سعيدٍ،
عن سالمٍ، سمعت ابن عمر قال: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّامٍ في الحجّ
وسبعةٍ إذا رجعتم} قال: إذا رجع إلى أهله، وكذا روي عن سعيد بن جبير، وأبي
العالية، ومجاهدٍ، وعطاءٍ، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والزّهريّ، والرّبيع بن
أنسٍ. وحكى على ذلك أبو جعفر بن جريرٍ الإجماع.
وقد قال البخاريّ:
حدّثنا يحيى بن بكير، حدّثنا اللّيث، عن عقيل، عن ابن شهابٍ، عن سالم بن
عبد اللّه أنّ ابن عمر قال: تمتّع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في
حجّة الوداع بالعمرة إلى الحجّ وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأهلّ بالعمرة، ثمّ أهلّ بالحجّ، فتمتّع
النّاس مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بالعمرة إلى الحجّ. فكان من
النّاس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد. فلمّا قدم النّبيّ صلّى اللّه
عليه وسلّم مكّة قال للنّاس: "من كان منكم أهدى فإنّه لا يحل لشيءٍ حرم
منه حتى يقضي حجّه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصّفا والمروة،
وليقصّر وليحلل ثمّ ليهلّ بالحجّ، فمن لم يجد هديًا فليصم ثلاثة أيّامٍ في
الحجّ وسبعةً إذا رجع إلى أهله". وذكر تمام الحديث.
قال الزّهريّ: وأخبرني عروة، عن عائشة بمثل ما أخبرني سالمٌ عن أبيه والحديث مخرّجٌ في الصّحيحين من حديث الزّهريّ، به.
وقوله: {تلك عشرةٌ
كاملةٌ} قيل: تأكيدٌ، كما تقول العرب: رأيت بعيني، وسمعت بأذني وكتبت بيدي.
وقال اللّه تعالى: {ولا طائرٍ يطير بجناحيه} [الأنعام: 38] وقال: {ولا
تخطّه بيمينك} [العنكبوت: 48]، وقال: {وواعدنا موسى ثلاثين ليلةً وأتممناها
بعشرٍ فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلةً} [الأعراف: 142].
وقيل: معنى {كاملةٌ}
الأمر بإكمالها وإتمامها، اختاره ابن جريرٍ. وقيل: معنى {كاملةٌ} أي: مجزئة
عن الهدي. قال هشيم، عن عبّاد بن راشدٍ، عن الحسن البصريّ، في قوله: {تلك
عشرةٌ كاملةٌ} قال: من الهدي.
وقوله: {ذلك لمن لم
يكن أهله حاضري المسجد الحرام} قال ابن جريرٍ: اختلف أهل التّأويل فيمن عني
بقوله: {لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} بعد إجماع جميعهم على أنّ
أهل الحرم معنيّون به، وأنّه لا متعة لهم، فقال بعضهم: عني بذلك أهل الحرم
خاصّةً دون غيرهم.
حدّثنا ابن بشّارٍ،
حدّثنا عبد الرّحمن، حدّثنا سفيان -هو الثّوريّ -قال: قال ابن عبّاسٍ
ومجاهدٌ: هم أهل الحرم. وكذا روى ابن المبارك، عن الثّوريّ، وزاد: الجماعة
عليه.
وقال قتادة: ذكر لنا
أنّ ابن عبّاسٍ كان يقول: يا أهل مكّة، لا متعة لكم، أحلّت لأهل الآفاق
وحرّمت عليكم، إنّما يقطع أحدكم واديًا -أو قال: يجعل بينه وبين الحرم
واديًا -ثمّ يهلّ بعمرةٍ.
وقال عبد الرّزّاق:
حدّثنا معمر، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه قال: المتعة للنّاس -لا لأهل مكّة -من
لم يكن أهله من الحرم. وذلك قول اللّه عزّ وجلّ: {ذلك لمن لم يكن أهله
حاضري المسجد الحرام} قال: وبلغني عن ابن عبّاسٍ مثل قول طاوسٍ.
وقال آخرون: هم أهل
الحرم ومن بينه وبين المواقيت، كما قال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمرٌ عن
رجلٍ، عن عطاءٍ، قال: من كان أهله دون المواقيت، فهو كأهل مكّة، لا يتمتّع.
وقال عبد اللّه بن
المبارك، عن عبد الرّحمن بن يزيد بن جابرٍ، عن مكحولٍ، في قوله: {ذلك لمن
لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} قال: من كان دون الميقات.
وقال ابن جريج عن عطاءٍ: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} قال: عرفة، ومرّ، وعرنة، وضجنان، والرّجيع.
وقال عبد الرّزّاق:
أخبرنا معمرٌ، سمعت الزّهريّ يقول: من كان أهله على يومٍ أو نحوه تمتّع.
وفي روايةٍ عنه: اليوم واليومين. واختار ابن جريرٍ في ذلك مذهب الشّافعيّ
أنّهم أهل الحرم، ومن كان منه على مسافةٍ لا تقصر منها الصّلاة؛ لأنّ من
كان كذلك يعدّ حاضرًا لا مسافرًا، واللّه أعلم.
وقوله: {واتّقوا اللّه} أي: فيما أمركم وما نهاكم {واعلموا أنّ اللّه شديد العقاب} أي: لمن خالف أمره، وارتكب ما عنه زجره). [تفسير ابن كثير: 1/530-540]
* للاستزادة ينظر: هنا