17 Sep 2014
تفسير قول الله تعالى: {الْحَجُّ
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ
وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ
يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى
وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا
هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ
أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) }
تفسير
قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ
الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا
تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ
الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {الحجّ أشهر معلومات فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ وما تفعلوا من خير يعلمه اللّه وتزوّدوا فإنّ خير الزّاد التّقوى واتّقون يا أولي الألباب}
قال أكثر الناس: إن أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.
{فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث}.
وقال بعضهم: لو كانت الشهور التي هي أشهر الحج شوالا، وذا القعدة لما جاز للذي منزله بينه وبين مكة مسافة أكثر من هذه الأشهر أن يفرض على نفسه الحج.
وهذا حقيقته عندي أنه لا ينبغي للإنسان أن يبتدئ بعمل من أعمال الحج قبل هذا الوقت نحو الإحرام، لأنه إذا ابتدأ قبل هذا الوقت أضر بنفسه - فأمر الله عزّ وجل - أن يكون أقصى الأوقات التي ينبغي للإنسان ألا يتقدمها في عقد فرض الحج على نفسه شوالا،
وقال بعض أهل اللغة: معنى الحج إنما هو في السنة في وقت بعينه، وإنما هو في الأيام التي يأخذ الإنسان فيها في عمل الحج لأن العمرة له - في طول السنة، فينبغي له في ذلك الوقت ألا يرفث ولا يفسق.
وتأويل {فلا رفث ولا فسوق}، لا جماع ولا كلمة من أسباب الجماع قال الراجز:
عن اللّغا ورفث التكلم والرفث كلمة جامعة لما يريده الرجل من أهله.
وأمّا {فلا فسوق} فإذا نهي عن الجماع كلّه فالفسوق داخل فيه - ولكن المعنى - واللّه أعلم - {فلا فسوق}أي: لا يخرج عن شيء من أمر الحج - وقالوا في قوله {ولا جدال في الحج} قولين:
1- قالوا: {لا جدال في الحجّ} - لا شك في الحج،
2- وقالوا لا ينبغي للرجل أن يجادل أخاه فيخرجه الجدال إلى ما لا ينبغي تعظيما لأمر الحج، وكلّ صواب، ويجوز فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج.
وبعضهم يقرأ - وهو أبو عمرو - (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج). وكلّ صواب.
وقد شرحنا (أن) لا تنصب النكرات بغير تنوين وبيّنّا حقيقة نصبها وزعم سيبويه والخليل أنه يجوز أن ترفع النكرات بتنوين
وأن قول العجاج:
تالله لولا أن يحشّن الطّبّخ... بي الجحيم حين لا مستصرخ
يجب أن يكون رفع مستصرخ بلا، وأن قوله.
من صدّ عن نيرانها... فأنا ابن قيس لا براح
وحقيقة ما ارتفع بعدها عند بعض أصحابه على الابتداء لأنه إذا لم تنصب فإنّما يجري ما بعدها كما يجرى ما بعد هل، أي: لا تعمل فيه شيئا،
فيجوز أن يكون: لا رفث على ما قال سيبويه
ويجوز أن يكون: على الابتداء كما وصفنا، ويكون في الحج هو خبر لهذه المرفوعات، ويجوز إذا نصبت ما قبل المرفوع بغير تنوين وأتيت بما بعده مرفوعا أن يكون عطفا على الموضع، ويجوز أن يكون: رفعه على ما وصفنا، فأما العطف على الموضع إذا قلت لا رجل وغلام في الدار فكأنك قلت ما رجل ولا غلام في الدار.
وقوله عزّ وجلّ: {وتزوّدوا فإنّ خير الزّاد التّقوى}.
يروى أن قوما كانوا يخرجون في حجهم يتأكّلون الناس، يخرجون بغير زاد، فأمروا بأن يتزودوا، وأعلموا مع ذلك أن خير ما تزود به تقوى اللّه عزّ وجلّ.
وقوله عزّ وجلّ: {واتّقون يا أولي الألباب}.
(الألباب) واحدها لب، وهي العقول {أولي} نصب لأنه نداء مضاف). [معاني القرآن: 1/269-271]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
عز وجل: الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا
جدال في الحجّ وما تفعلوا من خيرٍ يعلمه اللّه وتزوّدوا فإنّ خير الزّاد
التّقوى واتّقون يا أولي الألباب (197) ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلاً من
ربّكم فإذا أفضتم من عرفاتٍ فاذكروا اللّه عند المشعر الحرام واذكروه كما
هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضّالّين (198) تفسير
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ
رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ
الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ
قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ليس
عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربّكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا اللّه
عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضّالّين} قيل إنهم كانوا يزعمون أنه ليس لحمّال ولا أجير ولا تاجر حج فأعلمهم اللّه عزّ وجلّ أن ذلك مباح، واف لا جناح فيه، أي: لا إثم فيه، وجناح اسم ليس، والخبر عليكم، وموضع أن نصب على تقدير ليس عليكم جناح في أن تبتغوا فلما أسقطت " في " عمل فيها معنى جناح. المعنى: لستم تأثمون أن تبتغوا، أي في أن تبتغوا. وقوله عزّ وجلّ: {فإذا أفضتم من عرفات}. قد دل بهذا اللفظ أن الوقوف بها واجب لأن الإفاضة لا تكون إلا بعد وقوف، ومعنى {أفضتم}: دفعتم بكثرة، ويقال أفاض القوم في الحديث إذا اندفعوا فيه وأكثروا التصرف. وأفاض الرجل إناءه إذا صبه وأفاض البعير بجرته إذا رمى بها متفرقة كثيرة. قال الراعي: وأفضن بعد كظومهن بجرة... من ذي الأباطح إذ رعين حقيلا وأفاض الرجل بالقداح إذا ضرب بها، لأنها تقع منبعثة متفرقة قال أبو ذؤلب: وكأنهنّ ربابة وكأنّه... يسر يفيض على القداح ويصدع وكل ما في اللغة من باب الإفاضة فليس يكون إلا من تفرقة أو كثرة. وقوله عزّ وجلّ: {من عرفات} القراءة
والوجه الكسر والتنوين، وعرفات اسم لمكان واحد ولفظه لفظ الجمع، والوجه
فيه الصرف عند جميع النحويين لأنه بمنزلة الزيدين يستوي نصبه وجره، وليس
بمنزلة هاء التأنيث -، وقد يجوز منعه من الصرف إذا كان اسما لواحد، إلا أنه
لا يكون إلا مكسورا وإن أسقطت التنوين. قال امرؤ القيس: تنورثها من أذرعات وأهلها... بيثرب أدنى دارها نظر عال فهذا أكثر الرواية، وقد أنشد بالكسر بغير تنوين، وأما الفتح فخطأ لأن نصب الجمع وفتحه كسر. وقوله عزّ وجلّ: {فاذكروا اللّه عند المشعر الحرام}. هو مزدلفة، وهي جمع، يسمى بهما جميعا المشعر المتعبد وقوله عزّ وجلّ:{واذكروه كما هداكم}. موضع الكاف نصب، والمعنى: واذكروه ذكرا مثل هدايته إياكم أي يكون جزاء لهدايته إياكم، واذكروه بتوحيده، والثناء عليه والشكر. وقوله عزّ وجلّ: {وإن كنتم من قبله لمن الضّالّين}. معنى(من قبله) أي: من قبل هدايته، ومعنى: كنتم من قبله {لمن الضالين} هذا من التوكيد للأمر، كأنه قيل وما كنتم من قبله إلا ضالين). [معاني القرآن: 1/271-273] تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ثمّ أفيضوا من حيث أفاض النّاس واستغفروا اللّه إنّ اللّه غفور رحيم} قيل
كانت الحمس من قريش وغيرها (وقد بيّنّا الحمس فيما تقدم) لا تفيض مع الناس
في عرفة - تتمسك بسنتها في الجاهلية، وتفعل ذلك افتخارا على الناس وتعاليا
عليهم، فأمرهم الله عزّ وجلّ أن يساووا الناس في الفرض، وأن يقفوا مواقفهم
وألا يفيضوا من حيث أفاضوا. قوله عزّ وجلّ: (واستغفروا اللّه إنّ اللّه غفور رحيم) أي: سلوه أن يغفر لكم من مخالفتكم الناس في الإفاضة والموقف). [معاني القرآن: 1/273]
وقوله تعالى: الحجّ
أشهرٌ معلوماتٌ، في الكلام حذف تقديره: أشهر الحج أشهر، أو: وقت الحج أشهر،
أو: وقت عمل الحج أشهر، والغرض إنما هو أن يكون الخبر عن الابتداء هو
الابتداء نفسه، والحج ليس بالأشهر فاحتيج إلى هذه التقديرات، ومن قدر
الكلام: الحج في أشهر، فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر، ولم يقرأ
بنصبها أحد.
وقال ابن مسعود وابن عمر وعطاء والربيع ومجاهد والزهري: أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو لحجة كله.
وقال ابن عباس
والشعبي والسدي وإبراهيم: هي شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة، والقولان
لمالك رحمه الله، حكى الأخير ابن حبيب، وجمع على هذا القول الأخير الاثنان
وبعض الثالث كما فعلوا في جمع عشر فقالوا عشرون لعشرين ويومين من الثالث،
وكما قال امرؤ القيس: [الطويل] ثلاثون شهرا في ثلاثة أحوال فمن قال إن ذا
الحجة كله من أشهر الحج لم ير دما فيما يقع من الأعمال بعد يوم النحر لأنها
في أشهر الحج، وعلى القول الآخر ينقضي الحج بيوم النحر ويلزم الدم فيما
عمل بعد ذلك.
وقوله تعالى: فمن فرض
فيهنّ الحجّ أي من ألزمه نفسه، وأصل الفرض الحز الذي يكون في السهام
والقسي وغيرها، ومنه فرضة النهر والجبل، فكأن من التزم شيئا وأثبته على
نفسه قد فرضه، وفرض الحج هو بالنية والدخول في الإحرام، والتلبية تبع لذلك،
ومن رفع بالابتداء، ومعناها الشرط، والخبر قوله فرض لأن من ليست بموصولة
فكأنه قال فرجل فرض، وقوله فلا رفث يحتمل أن يكون الخبر، وتكون فرض صفة.
وقوله تعالى: فيهنّ ولم يجىء الكلام فرض فيها: فقال قوم: هما سواء في الاستعمال.
وقال أبو عثمان المازني: «الجمع الكثير لما لا يعقل يأتي كالواحدة المؤنثة، والقليل ليس كذلك،
تقول الأجذاع انكسرن
والجذوع انكسرت»، ويؤيد ذلك قوله تعالى: إنّ عدّة الشّهور [التوبة: 36]، ثم
قال: منها، وقرأ نافع «فلا رفث ولا فسوق ولا جدال» بنصب الجميع، وهي قراءة
ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فلا رفث ولا
فسوق ولا جدال» بالرفع في الاثنين ونصب الجدال، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع
بالرفع في الثلاثة، ورويت عن عاصم في بعض الطرق، ولا بمعنى ليس في قراءة
الرفع وخبرها محذوف على قراءة أبي عمرو، وفي الحجّ خبر لا جدال، وحذف الخبر
هنا هو مذهب أبي علي، وقد خولف في ذلك، بل في الحجّ هو خبر الكل، إذ هو في
موضع رفع في الوجهين، لأن لا إنما تعمل على بابها فيما يليها وخبرها مرفوع
باق على حاله من خبر الابتداء، وظن أبو علي أنها بمنزلة ليس في نصب الخبر،
وليس كذلك، بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر، وفي الحجّ هو
الخبر في قراءة كلها بالرفع وفي قراءتها بالنصب، والتحرير أن في الحجّ في
موضع نصب بالخبر المقدر كأنك قلت موجود في الحج، ولا فرق بين الآية وبين
قولك زيد في الدار.
وقال ابن عباس وابن جبير والسدي وقتادة ومالك ومجاهد وغيرهم: الرفث الجماع.
وقال عبد الله بن عمر
وطاوس وعطاء وغيرهم: الرفث الإعراب والتعريب، وهو الإفحاش بأمر الجماع عند
النساء خاصة، وهذا قول ابن عباس أيضا، وأنشد وهو محرم:
وهنّ يمشين بنا هميسا = إن تصدق الطّير ننك لميسا
فقيل له: ترفث وأنت
محرم؟ فقال: إنما الرفث ما كان عند النساء وقال قوم: الرفث الإفحاش بذكر
النساء كان ذلك بحضرتهن أم لا، وقد قال ابن عمر للحادي: «لا تذكر النساء».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا يحتمل أن تحضر امرأة فلذلك نهاه، وإنما يقوي القول من جهة ما يلزم من توقير الحج.
وقال أبو عبيدة: «الرفث اللغا من الكلام»، وأنشد:
وربّ أسراب حجيج كظم = عن اللّغا ورفث التّكلّم
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولا حجة في البيت، وقرأ ابن مسعود «ولا رفوث».
وقال ابن عباس وعطاء والحسن وغيرهم: الفسوق المعاصي كلها لا يختص بها شيء دون شيء.
وقال ابن عمر وجماعة معه: الفسوق المعاصي في معنى الحج كقتل الصيد وغيره.
وقال ابن زيد ومالك: الفسوق الذبح للأصنام، ومنه قول الله تعالى: أو فسقاً أهلّ لغير اللّه به [الأنعام: 145].
وقال الضحاك: الفسوق التنابز بالألقاب، ومنه قول الله تعالى: بئس الاسم الفسوق [الحجرات: 11].
وقال ابن عمر أيضا ومجاهد وعطاء وإبراهيم: الفسوق السباب، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وعموم جميع المعاصي أولى الأقوال.
وقال قتادة وغيره: الجدال هنا السباب.
وقال ابن مسعود وابن عباس وعطاء ومجاهد: الجدال هنا أن تماري مسلما حتى تغضبه.
وقال مالك وابن زيد:
الجدال هنا أن يختلف الناس أيهم صادف موقف إبراهيم عليه السلام كما كانوا
يفعلون في الجاهلية حين كانت قريش تقف في غير موقف سائر العرب ثم يتجادلون
بعد ذلك.
وقال محمد بن كعب القرظي: الجدال أن تقول طائفة حجنا أبر من حجكم وتقول الأخرى مثل ذلك.
وقالت فرقة: الجدال هنا أن تقول طائفة: الحج اليوم وتقول طائفة بل الحج غدا، وقيل: الجدال كان في الفخر بالآباء.
وقال مجاهد وجماعة
معه: الجدال أن تنسئ العرب الشهور حسبما كان النسيء عليه، فقرر الشرع وقت
الحج وبينه، وأخبر أنه حتم لا جدال فيه، وهذا أصح الأقوال وأظهرها، والجدال
مأخوذ من الجدل وهو الفتل، كأن كل مجادل يفاتل صاحبه في الكلام. وأما ما
كان النسيء عليه فظاهر سير ابن إسحاق وغيرها من الدواوين أن الناسئ كان يحل
المحرم لئلا تتوالى على العرب ثلاثة أشهر لا إغارة فيها، ويحرم صفر، وربما
سموه المحرم، وتبقى سائر الأشهر بأسمائها حتى يأتي حجهم في ذي الحجة على
الحقيقة، وأسند الطبري عن مجاهد أنه قال: كانوا يسقطون المحرم ثم يقولون
صفران لصفر وشهر ربيع الأول، ثم كذلك ينقلون أسماء الشهور، ويتبدل وقت الحج
في الحقيقة، لكنه يبقى في ذي الحجة بالتسمية لا في حقيقة الشهر، قال: فكان
حج أبي بكر سنة تسع في ذي القعدة على الحقيقة ثم حج رسول الله صلى الله
عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة على الحقيقة، وحينئذ قال: «إن الزمان قد
استدار» الحديث، ونزلت ولا جدال في الحجّ أي قد تبين أمره فلا ينتقل شهر
البتة أبدا.
وقوله تعالى: وما تفعلوا من خيرٍ يعلمه اللّه المعنى فيثيب عليه، وفي هذا تخصيص على فعل الخير.
وقوله تعالى:
وتزوّدوا الآية، قال ابن عمر وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد: نزلت الآية في
طائفة من العرب كانت تجيء إلى الحج بلا زاد ويقول بعضهم: نحن المتوكلون،
ويقول بعضهم: كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا، فكانوا يبقون عالة على الناس،
فنهوا عن ذلك وأمروا بالتزود.
وقال بعض الناس:
المعنى تزودوا الرفيق الصالح، وهذا تخصيص ضعيف، والأولى في معنى الآية:
وتزودوا لمعادكم من الأعمال الصالحة، وفي قوله تعالى: فإنّ خير الزّاد
التّقوى حض على التقوى، وخص أولو الألباب بالخطاب وإن كان الأمر يعم الكل
لأنهم الذين قامت عليهم حجة الله وهم قابلو أوامره والناهضون بها، وهذا على
أن اللب لب التجارب وجودة النظر، وإن جعلناه لب التكليف فالنداء ب أولي
الألباب عام لجميع المكلفين، واللب العقل، تقول العرب لببت بضم الباء
الأولى ألب بضم اللام، حكاه سيبويه، وليس في الكلام فعل يفعل بضم العين
فيهما غير هذه الكلمة). [المحرر الوجيز: 1/480-487]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({الحجّ
أشهرٌ معلوماتٌ فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ
وما تفعلوا من خيرٍ يعلمه اللّه وتزوّدوا فإنّ خير الزّاد التّقوى واتّقون
يا أولي الألباب (197)}
اختلف أهل العربيّة
في قوله: {الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ} فقال بعضهم: [تقديره] الحجّ حجّ أشهرٍ
معلوماتٍ، فعلى هذا التّقدير يكون الإحرام بالحجّ فيها أكمل من الإحرام به
فيما عداها، وإن كان ذاك صحيحًا، والقول بصحّة الإحرام بالحجّ في جميع
السّنة مذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وبه يقول
إبراهيم النخعي، والثّوريّ، واللّيث بن سعدٍ. واحتجّ لهم بقوله تعالى:
{يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للنّاس والحجّ} [البقرة: 189] وبأنّه أحد
النّسكين. فصحّ الإحرام به في جميع السّنة كالعمرة.
وذهب الشّافعيّ، رحمه
اللّه، إلى أنّه لا يصحّ الإحرام بالحجّ إلّا في أشهره فلو أحرم به قبلها
لم ينعقد إحرامه به، وهل ينعقد عمرة؟ فيه قولان عنه. والقول بأنّه لا يصحّ
الإحرام بالحجّ إلّا في أشهره مرويّ عن ابن عبّاسٍ، وجابرٍ، وبه يقول
عطاءٌ، وطاوسٌ، ومجاهدٌ، رحمهم اللّه، والدّليل عليه قوله تعالى: {الحجّ
أشهرٌ معلوماتٌ} وظاهره التّقدير الآخر الذي ذهب إليه النّحاة، وهو أنّ:
وقت الحجّ أشهرٌ معلومات، فخصّصه بها من بين سائر شهور السّنة، فدلّ على
أنّه لا يصحّ قبلها، كميقات الصّلاة.
قال الشّافعيّ، رحمه
اللّه: أخبرنا مسلم بن خالدٍ، عن ابن جريجٍ، أخبرني عمر بن عطاء، عن عكرمة،
عن ابن عبّاسٍ، أنّه قال: لا ينبغي لأحدٍ أن يحرم بالحجّ إلّا في شهور
الحجّ، من أجل قول اللّه: {الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ} وكذا رواه ابن أبي حاتمٍ،
عن أحمد بن يحيى بن مالكٍ السّوسيّ، عن حجّاج بن محمّدٍ الأعور، عن ابن
جريجٍ، به. ورواه ابن مردويه في تفسيره من طريقين، عن حجّاج بن أرطاة، عن
الحكم بن عتيبة عن مقسم، عن ابن عبّاسٍ: أنّه قال: من السّنّة ألّا يحرم
[بالحجّ] إلّا في أشهر الحجّ.
وقال ابن خزيمة في
صحيحه: حدّثنا أبو كريب، حدّثنا أبو خالدٍ الأحمر، عن شعبة، عن الحكم، عن
مقسم، عن ابن عبّاسٍ، قال: لا يحرم بالحجّ إلّا في أشهر الحجّ، فإنّ من
سنّة الحجّ أن يحرم بالحجّ في أشهر الحجّ. وهذا إسنادٌ صحيحٌ، وقول
الصّحابيّ: "من السّنّة كذا" في حكم المرفوع عند الأكثرين، ولا سيّما قول
ابن عبّاسٍ تفسيرًا للقرآن، وهو ترجمانه.
وقد ورد فيه حديثٌ
مرفوعٌ، قال ابن مردويه: حدّثنا عبد الباقي بن قانعٍ حدّثنا الحسن بن
المثنى، حدّثنا أبو حذيفة، حدثنا سفيان، عن أبي الزّبير، عن جابرٍ، عن
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "لا ينبغي لأحدٍ أن يحرم بالحجّ
إلّا في أشهر الحجّ".
وإسناده لا بأس به.
لكن رواه الشّافعيّ، والبيهقيّ من طرق، عن ابن جريجٍ، عن أبي الزّبير، أنّه
سمع جابر بن عبد اللّه يسأل: أيهلّ بالحجّ قبل أشهر الحجّ؟ فقال: لا.
وهذا الموقوف أصحّ
وأثبت من المرفوع، ويبقى حينئذٍ مذهب صحابيٍّ، يتقوّى بقول ابن عبّاسٍ: "من
السّنّة أن لا يحرم بالحجّ إلّا في أشهره". واللّه أعلم.
وقوله: {أشهرٌ
معلوماتٌ} قال البخاريّ: قال ابن عمر: هي شوّالٌ، وذو القعدة، وعشرٌ من ذي
الحجّة. وهذا الذي علّقه البخاريّ عنه بصيغة الجزم رواه ابن جرير موصولا
حدثنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة حدّثنا أبو نعيمٍ، حدّثنا ورقاء، عن عبد
اللّه بن دينارٍ، عن ابن عمر: {الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ} قال: شوّالٌ، وذو
القعدة وعشرٌ من ذي الحجّة.
إسنادٌ صحيحٌ، وقد
رواه الحاكم أيضًا في مستدركه، عن الأصمّ، عن الحسن بن عليّ بن عفّان، عن
عبد اللّه بن نميرٍ، عن عبيد اللّه عن نافعٍ، عن ابن عمر -فذكره وقال: على
شرط الشّيخين.
قلت: وهو مرويّ عن
عمر، وعليٍّ، وابن مسعودٍ، وعبد اللّه بن الزّبير، وابن عبّاسٍ، وعطاءٍ،
وطاوسٍ، ومجاهدٍ، وإبراهيم النّخعيّ، والشّعبيّ، والحسن، وابن سيرين،
ومكحولٍ، وقتادة، والضّحّاك بن مزاحمٍ، والرّبيع بن أنسٍ، ومقاتل بن حيّان.
وهو مذهب الشّافعيّ، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبلٍ، وأبي يوسف، وأبي ثور،
رحمهم اللّه. واختار هذا القول ابن جريرٍ، قال: وصحّ إطلاق الجمع على شهرين
وبعض الثّالث للتّغليب، كما تقول العرب: "زرته العام، ورأيته اليوم".
وإنّما وقع ذلك في بعض العام واليوم؛ قال اللّه تعالى: {فمن تعجّل في يومين
فلا إثم عليه} [البقرة: 203] وإنّما تعجّل في يومٍ ونصفٍ.
وقال الإمام مالك بن
أنسٍ [والشّافعيّ في القديم]:هي:شوّالٌ وذو القعدة وذو الحجّة بكماله. وهو
روايةٌ عن ابن عمر أيضًا؛ قال ابن جريرٍ:
حدّثنا أحمد بن
إسحاق، حدّثنا أبو أحمد، حدّثنا شريكٌ، عن إبراهيم بن مهاجرٍ، عن مجاهدٍ،
عن ابن عمر قال: شوّالٌ وذو القعدة وذو الحجّة.
وقال ابن أبي حاتمٍ
في تفسيره: حدّثنا يونس بن عبد الأعلى، حدّثنا ابن وهبٍ، أخبرني ابن جريجٍ،
قال: قلت لنافعٍ: أسمعت عبد اللّه بن عمر يسمّي شهور الحجّ؟ قال: نعم، كان
عبد اللّه يسمّي: "شوّالٌ وذو القعدة وذو الحجّة". قال ابن جريجٍ: وقال
ذلك ابن شهاب، وعطاءٌ، وجابر بن عبد اللّه صاحب النّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم، وهذا إسنادٌ صحيحٌ إلى ابن جريجٍ. وقد حكي هذا أيضًا عن طاوسٍ،
ومجاهدٍ، وعروة بن الزّبير، والرّبيع بن أنسٍ، وقتادة. وجاء فيه حديثٌ
مرفوعٌ، ولكنّه موضوعٌ، رواه الحافظ بن مردويه، من طريق حصين بن مخارقٍ
-وهو متّهمٌ بالوضع -عن يونس بن عبيدٍ، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة، قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ: شوّالٌ وذو
القعدة وذو الحجّة".
وهذا كما رأيت لا يصح رفعه، واللّه أعلم.
وفائدة مذهب مالكٍ
أنّه إلى آخر ذي الحجّة، بمعنى أنّه مختصٌّ بالحجّ، فيكره الاعتمار في بقية
ذي الحجّة، لا أنّه يصحّ الحجّ بعد ليلة النّحر.
وقال ابن أبي حاتمٍ:
حدّثنا أحمد بن سنان، حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن قيس بن مسلم، عن
طارق بن شهابٍ، قال: قال عبد اللّه: الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ، ليس فيها عمرةٌ.
وهذا إسنادٌ صحيحٌ.
قال ابن جريرٍ: إنّما
أراد من ذهب إلى أنّ أشهر الحجّ شوّالٌ وذو القعدة وذو الحجّة أنّ هذه
الأشهر ليست أشهر العمرة، إنّما هي للحجّ، وإن كان عمل الحجّ قد انقضى
بانقضاء أيّام منًى، كما قال محمّد بن سيرين: ما أحدٌ من أهل العلم يشكّ في
أنّ عمرةً في غير أشهر الحجّ أفضل من عمرةٍ في أشهر الحجّ.
وقال ابن عونٍ: سألت القاسم بن محمّدٍ، عن العمرة في أشهر الحجّ، فقال: كانوا لا يرونها تامّةً.
قلت: وقد ثبت عن عمر
وعثمان، رضي اللّه عنهما، أنّهما كانا يحبّان الاعتمار في غير أشهر الحجّ،
وينهيان عن ذلك في أشهر الحجّ، واللّه أعلم.
وقوله: {فمن فرض
فيهنّ الحجّ} أي: أوجب بإحرامه حجًّا. فيه دلالةٌ على لزوم الإحرام بالحجّ
والمضيّ فيه. قال ابن جريرٍ: أجمعوا على أنّ المراد من الفرض هاهنا الإيجاب
والإلزام.
وقال عليّ بن أبي
طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {فمن فرض فيهنّ الحجّ} يقول: من أحرم بحجّ أو عمرةٍ.
وقال عطاءٌ: الفرض الإحرام. وكذا قال إبراهيم، والضّحّاك، وغيرهم.
وقال ابن جريج:
أخبرني عمر بن عطاءٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: أنّه قال {فمن فرض فيهنّ
الحجّ} فلا ينبغي أن يلبّي بالحجّ ثمّ يقيم بأرضٍ. قال ابن أبي حاتمٍ: وروي
عن ابن مسعودٍ، وابن عبّاسٍ، وابن الزّبير، ومجاهدٍ، وعطاءٍ، وإبراهيم
النخعي، وعكرمة، والضّحّاك، وقتادة، وسفيان الثّوريّ، والزّهريّ، ومقاتل بن
حيّان -نحو ذلك.
وقال طاوسٌ، والقاسم بن محمّدٍ: هو التّلبية.
وقوله: {فلا رفث} أي:
من أحرم بالحجّ أو العمرة، فليجتنب الرّفث، وهو الجماع، كما قال تعالى:
{أحلّ لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم} [البقرة: 187]، وكذلك يحرم
تعاطي دواعيه من المباشرة والتّقبيل ونحو ذلك، وكذا التّكلّم به بحضرة
النّساء.
قال ابن جريرٍ:
حدّثني يونس، أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرني يونس: أنّ نافعًا أخبره: أنّ عبد
اللّه بن عمر كان يقول: الرفث إتيان النّساء، والتّكلّم بذلك: الرجال
والنّساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم.
قال ابن وهبٍ: وأخبرني أبو صخرٍ، عن محمّد بن كعب، مثله.
قال ابن جريرٍ:
وحدّثنا محمّد بن بشّارٍ، حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة، عن قتادة،
عن رجلٍ، عن أبي العالية الرّياحي، عن ابن عبّاسٍ: أنّه كان يحدو -وهو
محرمٌ -وهو يقول:
وهنّ يمشين بنا هميسا = إن يصدق الطّير ننل لميسا
قال أبو العالية فقلت: تكلّم بالرّفث وأنت محرمٌ؟! قال: إنّما الرّفث ما قيل عند النساء.
ورواه الأعمش، عن زياد بن حصينٍ، عن أبي العالية، عن ابن عبّاسٍ، فذكره.
وقال ابن جريرٍ
أيضًا: حدّثنا ابن أبي عديٍّ، عن عون حدّثني زياد بن حصينٍ، حدّثني أبي
حصين بن قيسٍ، قال: أصعدت مع ابن عبّاسٍ في الحاجّ، وكنت خليلًا له، فلمّا
كان بعد إحرامنا قال ابن عبّاسٍ، فأخذ بذنب بعيره فجعل يلويه و [هو] يرتجز،
ويقول:
وهنّ يمشين بنا هميسا = إن يصدق الطّير ننل لميسا
قال: فقلت: أترفث وأنت محرمٌ؟ فقال: إنّما الرّفث ما قيل عند النّساء.
وقال عبد اللّه بن
طاوسٍ، عن أبيه: سألت ابن عبّاسٍ عن قول اللّه تعالى: {فلا رفث ولا فسوق}
قال: الرّفث التّعريض بذكر الجماع، وهي العرابة في كلام العرب، وهو أدنى
الرّفث.
وقال عطاء بن أبي
رباحٍ: الرفث: الجماع، وما دونه من قول الفحش، وكذا قال عمرو بن دينارٍ.
وقال عطاءٌ: كانوا يكرهون العرابة، وهو التّعريض بذكر الجماع وهو محرم.
وقال طاوسٌ: هو أن تقول للمرأة: إذا حللت أصبتك. وكذا قال أبو العالية.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: الرّفث: غشيان النّساء والقبل والغمز، وأن يعرّض لها بالفحش من الكلام، ونحو ذلك.
وقال ابن عبّاسٍ
أيضًا وابن عمر: الرفث: غشيان النّساء. وكذا قال سعيد بن جبير، وعكرمة،
ومجاهدٌ، وإبراهيم، وأبو العالية، وعطاءٌ، ومكحولٌ، وعطاء بن يسارٍ،
وعطيّة، وإبراهيم النّخعي، والرّبيع، والزّهريّ، والسّدّيّ، ومالك بن أنسٍ،
ومقاتل بن حيّان، وعبد الكريم بن مالكٍ، والحسن، وقتادة والضّحّاك،
وغيرهم.
وقوله: {ولا فسوق}
قال مقسم وغير واحدٍ، عن ابن عبّاسٍ: هي المعاصي. وكذا قال عطاءٌ، ومجاهدٌ،
وطاوسٌ، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومحمّد بن كعبٍ، والحسن، وقتادة، وإبراهيم
النّخعيّ، والزّهريّ، ومكحولٌ، وابن أبان، والرّبيع بن أنسٍ، وعطاء بن
يسارٍ، وعطاءٌ الخراسانيّ، ومقاتل بن حيّان.
وقال محمّد بن إسحاق،
عن نافعٍ، عن ابن عمر قال: الفسوق: ما أصيب من معاصي اللّه به صيد أو
غيره. وكذا روى ابن وهبٍ، عن يونس، عن نافعٍ أنّ عبد اللّه بن عمر كان
يقول: الفسوق إتيان معاصي اللّه في الحرم.
وقال آخرون: الفسوق
هاهنا السّباب، قاله ابن عبّاسٍ، وابن عمر، وابن الزّبير، ومجاهدٌ،
والسّدّيّ، وإبراهيم والحسن. وقد يتمسّك لهؤلاء بما ثبت في الصحيح "سباب
المسلم فسوق، وقتاله كفر".
ولهذا رواه هاهنا
الحبر أبو محمّد بن أبي حاتمٍ، رحمه اللّه، من حديث سفيان الثّوريّ عن يزيد
عن أبي وائلٍ، عن عبد اللّه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "سباب
المسلم فسوقٌ، وقتاله كفرٌ". وروي من حديث عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن
مسعودٍ عن أبيه ومن حديث أبي إسحاق عن محمّد بن سعدٍ عن أبيه].
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: الفسوق هاهنا: الذّبح للأصنام. قال اللّه تعالى: {أو فسقًا أهلّ لغير اللّه به} [الأنعام: 145].
وقال الضّحّاك: الفسوق: التّنابز بالألقاب.
والّذين قالوا:
الفسوق هاهنا هو جميع المعاصي، معهم الصّواب، كما نهى تعالى عن الظّلم في
الأشهر الحرم، وإن كان في جميع السّنة منهيًّا عنه، إلّا أنّه في الأشهر
الحرم آكد؛ ولهذا قال: {منها أربعةٌ حرمٌ ذلك الدّين القيّم فلا تظلموا
فيهنّ أنفسكم} [التّوبة: 36]، وقال في الحرم: {ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ
نذقه من عذابٍ أليمٍ} [الحجّ: 25].
واختار ابن جريرٍ أنّ
الفسوق هاهنا: هو ارتكاب ما نهي عنه في الإحرام، من قتل الصّيد، وحلق
الشّعر، وقلم الأظفار، ونحو ذلك، كما تقدّم عن ابن عمر. وما ذكرناه أولى،
واللّه أعلم. وقد ثبت في الصّحيحين من حديث أبي حازمٍ، عن أبي هريرة قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من حجّ هذا البيت فلم يرفث ولم
يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه".
وقوله: {ولا جدال في الحجّ} فيه قولان:
أحدهما: ولا مجادلة
في وقت الحجّ وفي مناسكه، وقد بيّنه اللّه أتمّ بيانٍ ووضّحه أكمل إيضاحٍ.
كما قال وكيع، عن العلاء بن عبد الكريم: سمعت مجاهدًا يقول: {ولا جدال في
الحجّ} قد بيّن اللّه أشهر الحج، فليس فيه جدالٌ بين النّاس.
وقال ابن أبي نجيح،
عن مجاهدٍ: {ولا جدال في الحجّ} قال: لا شهر ينسأ، ولا جدال في الحجّ، قد
تبيّن، ثمّ ذكر كيفيّة ما كان المشركون يصنعون في النّسيء الذي ذمّهم اللّه
به.
وقال الثّوريّ، عن
عبد العزيز بن رفيع، عن مجاهدٍ في قوله: {ولا جدال في الحجّ} قال: قد
استقام الحجّ، فلا جدال فيه. وكذا قال السّدّيّ.
وقال هشيم: أخبرنا حجّاجٌ، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ: {ولا جدال في الحجّ} قال: المراء في الحج.
وقال عبد اللّه بن
وهبٍ: قال مالكٌ: قال اللّه تعالى: {ولا جدال في الحجّ} فالجدال في الحجّ
-واللّه أعلم -أنّ قريشًا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة، وكانت
العرب، وغيرهم يقفون بعرفة، وكانوا يتجادلون، يقول هؤلاء: نحن أصوب. ويقول
هؤلاء: نحن أصوب. فهذا فيما نرى، واللّه أعلم.
وقال ابن وهبٍ، عن
عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: كانوا يقفون مواقف مختلفةً يتجادلون، كلّهم
يدّعي أنّ موقفه موقف إبراهيم فقطعه اللّه حين أعلم نبّيه بالمناسك.
وقال ابن وهبٍ، عن
أبي صخرٍ، عن محمّد بن كعبٍ، قال: كانت قريشٌ إذا اجتمعت بمنًى قال هؤلاء:
حجّنا أتمّ من حجّكم. وقال هؤلاء: حجّنا أتمّ من حجكم.
وقال حمّاد بن سلمة عن جبر بن حبيبٍ، عن القاسم بن محمّدٍ أنّه قال: الجدال في الحجّ أن يقول بعضهم: الحجّ غدًا. ويقول بعضهم: اليوم.
وقد اختار ابن جريرٍ مضمون هذه الأقوال، وهو قطع التّنازع في مناسك الحجّ.
والقول الثّاني: أنّ المراد بالجدال هاهنا: المخاصمة.
قال ابن جريرٍ:
حدّثنا عبد الحميد بن بيانٍ حدّثنا إسحاق، عن شريكٍ، عن أبي إسحاق، عن أبي
الأحوص، عن عبد اللّه -هو ابن مسعودٍ -في قوله: {ولا جدال في الحجّ} قال:
أن تماري صاحبك حتّى تغضبه.
وبهذا الإسناد إلى
أبي إسحاق، عن التّميميّ: سألت ابن عبّاسٍ عن "الجدال" قال: المراء، تماري
صاحبك حتّى تغضبه. وكذا روى مقسم والضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ. وكذا قال أبو
العالية، وعطاءٌ ومجاهدٌ، وسعيد بن جبيرٍ، وعكرمة، وجابر بن زيدٍ، وعطاءٌ
الخراسانيّ، ومكحولٌ، وعمرو بن دينارٍ، والسّدّيّ، والضّحّاك، والرّبيع بن
أنسٍ، وإبراهيم النّخعي، وعطاء بن يسارٍ، والحسن، وقتادة، والزّهريّ،
ومقاتل بن حيّان.
وقال عليّ بن أبي
طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {ولا جدال في الحجّ} قال الجدال: المراء والملاحاة،
حتّى تغضب أخاك وصاحبك، فنهى اللّه عن ذلك.
وقال إبراهيم
النّخعيّ: {ولا جدال في الحجّ} قال: كانوا يكرهون الجدال. وقال محمّد بن
إسحاق، عن نافعٍ، عن ابن عمر، قال: الجدال: السّباب والمنازعة. وكذا روى
ابن وهبٍ، عن يونس، عن نافعٍ: أنّ ابن عمر كان يقول: الجدال في الحجّ:
السّباب، والمراء، والخصومات، وقال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن ابن الزّبير،
والحسن، وإبراهيم، وطاوسٍ، ومحمّد بن كعبٍ، قالوا: الجدال المراء.
وقال عبد اللّه بن
المبارك، عن يحيى بن بشرٍ عن عكرمة: {ولا جدال في الحجّ} والجدال الغضب، أن
تغضب عليك مسلمًا، إلّا أن تستعتب مملوكًا فتغضبه من غير أن تضربه، فلا
بأس عليك، إن شاء الله.
قلت: ولو ضربه لكان
جائزًا سائغًا. والدّليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد: حدّثنا عبد اللّه بن
إدريس، حدّثنا محمّد بن إسحاق، عن يحيى بن عبّاد بن عبد اللّه بن الزّبير،
عن أبيه: أنّ أسماء بنت أبي بكرٍ قالت: خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم حجّاجًا، حتّى إذا كنّا بالعرج نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم، فجلست عائشة إلى جنب رسول اللّه، وجلست إلى جنب أبي. وكانت زمالة
أبي بكرٍ وزمالة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم واحدةً مع غلام أبي
بكرٍ، فجلس أبو بكرٍ ينتظره إلى أن يطلع عليه، فأطلع وليس معه بعيره، فقال:
أين بعيرك؟ فقال: أضللته البارحة. فقال أبو بكرٍ: بعيرٌ واحدٌ تضلّه؟ فطفق
يضربه، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يتبسّم ويقول: "انظروا إلى هذا
المحرم ما يصنع؟ ".
وهكذا أخرجه أبو
داود، وابن ماجه، من حديث ابن إسحاق. ومن هذا الحديث حكى بعضهم عن بعض
السّلف أنّه قال: من تمام الحجّ ضرب الجمال. ولكن يستفاد من قول النّبيّ
صلّى اللّه عليه وسلّم عن أبي بكرٍ: "انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع؟ "
-كهيئة الإنكار اللّطيف -أنّ الأولى ترك ذلك، واللّه أعلم.
وقد قال الإمام عبد
بن حميدٍ في مسنده: حدّثنا عبيد اللّه بن موسى، عن موسى بن عبيدة، عن أخيه
عبد اللّه بن عبيدة عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم: "من قضى نسكه وسلم المسلمون من لسانه ويده، غفر له ما تقدّم من
ذنبه ".
وقوله: {وما تفعلوا
من خيرٍ يعلمه اللّه} لمّا نهاهم عن إتيان القبيح قولا وفعلا حثّهم على فعل
الجميل، وأخبرهم أنّه عالمٌ به، وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة.
وقوله: {وتزوّدوا
فإنّ خير الزّاد التّقوى} قال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: كان أناسٌ يخرجون من
أهليهم ليست معهم أزودة، يقولون: نحجّ بيت اللّه ولا يطعمنا.. فقال اللّه:
تزوّدوا ما يكفّ وجوهكم عن النّاس.
وقال ابن أبي حاتمٍ:
حدّثنا محمّد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدّثنا سفيان، عن عمرو بن
دينارٍ، عن عكرمة: قال: إنّ ناسًا كانوا يحجّون بغير زادٍ، فأنزل اللّه:
{وتزوّدوا فإنّ خير الزّاد التّقوى}
وكذا رواه ابن جريرٍ عن عمرٍو -وهو الفلاس -عن ابن عيينة.
قال ابن أبي حاتمٍ: وقد روى هذا الحديث ورقاء، عن عمرو بن دينارٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ. قال: وما يرويه عن ابن عيينة أصح.
قلت: قد رواه
النّسائيّ، عن سعيد بن عبد الرّحمن المخزوميّ، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو
بن دينارٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ [قال] كان ناس يحجّون بغير زادٍ، فأنزل
اللّه: {وتزوّدوا فإنّ خير الزّاد التّقوى}. وأمّا حديث ورقاء فأخرجه
البخاريّ، عن يحيى بن بشرٍ، عن شبابة. وأخرجه أبو داود، عن أبي مسعودٍ أحمد
بن الفرات الرّازيّ، ومحمّد بن عبد اللّه المخرّمي، عن شبابة، عن ورقاء،
عن عمرو بن دينارٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: كان أهل اليمن يحجون ولا
يتزوّدون، ويقولون: نحن المتوكّلون. فأنزل اللّه: {وتزوّدوا فإنّ خير
الزّاد التّقوى}.
ورواه عبد بن حميدٍ في تفسيره، عن شبابة [به]. ورواه ابن حبّان في صحيحه من حديث شبابة، به.
وروى ابن جريرٍ وابن
مردويه من حديث عمرو بن عبد الغفّار [عن محمّد بن سوقة] عن نافعٍ، عن ابن
عمر، قال: كانوا إذا أحرموا -ومعهم أزوادهم -رموا بها، واستأنفوا زادًا آخر
؛ فأنزل اللّه تعالى: {وتزوّدوا فإنّ خير الزّاد التّقوى} فنهوا عن ذلك،
وأمروا أن يتزوّدوا الكعك والدّقيق والسّويق. وكذا قال ابن الزّبير، وأبو
العالية، ومجاهدٌ، وعكرمة، والشّعبيّ، والنّخعيّ، وسالم بن عبد اللّه،
وعطاءٌ الخراسانيّ، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ، ومقاتل بن حيّان.
وقال سعيد بن جبيرٍ:
فتزوّدوا الدّقيق والسّويق والكعك وقال وكيع [بن الجرّاح] في تفسيره:
حدّثنا سفيان، عن محمّد بن سوقة عن سعيد بن جبيرٍ: {وتزوّدوا} قال:
الخشكنانج والسّويق. وقال وكيعٌ أيضًا: حدّثنا إبراهيم المكّيّ، عن ابن أبي
نجيح، عن مجاهدٍ، عن ابن عمر، قال: إنّ من كرم الرّجل طيب زاده في السّفر.
وزاد فيه حمّاد بن سلمة، عن أبي ريحانة أنّ ابن عمر كان يشترط على من صحبه
الجوزة.
وقوله: {فإنّ خير
الزّاد التّقوى} لمّا أمرهم بالزّاد للسّفر في الدّنيا أرشدهم إلى زاد
الآخرة، وهو استصحاب التّقوى إليها، كما قال: {وريشًا ولباس التّقوى ذلك
خيرٌ} [الأعراف: 26]. لمّا ذكر اللّباس الحسّيّ نبّه مرشدًا إلى اللّباس
المعنويّ، وهو الخشوع، والطّاعة والتّقوى، وذكر أنّه خيرٌ من هذا، وأنفع.
قال عطاءٌ الخراسانيّ في قوله: {فإنّ خير الزّاد التّقوى} يعني: زاد الآخرة.
وقال الحافظ أبو
القاسم الطّبرانيّ: حدّثنا عبدان، حدّثنا هشام بن عمّارٍ، حدّثنا مروان بن
معاوية، عن إسماعيل عن قيسٍ، عن جرير بن عبد اللّه، عن النّبيّ، صلّى اللّه
عليه وسلّم [قال]: "من يتزوّد في الدّنيا ينفعه في الآخرة".
وقال مقاتل بن حيّان:
لمّا نزلت هذه الآية: {وتزوّدوا} قام رجلٌ من فقراء المسلمين فقال: يا
رسول اللّه، ما نجد زادًا نتزوّده. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
"تزوّد ما تكفّ به وجهك عن النّاس، وخير ما تزوّدتم التّقوى". رواه ابن
أبي حاتمٍ.
وقوله: {واتّقون يا أولي الألباب} يقول: واتّقوا عقابي، ونكالي، وعذابي، لمن خالفني ولم يأتمر بأمري، يا ذوي العقول والأفهام). [تفسير ابن كثير: 1/540-549]
وقال ابن عمر وابن
عباس ومجاهد وعطاء: إن الآية نزلت لأن العرب تحرجت لما جاء الإسلام أن
يحضروا أسواق الجاهلية كعكاظ وذي المجاز ومجنة، فأباح الله تعالى ذلك، أي
لا درك في أن تتجروا وتطلبوا الربح.
وقال مجاهد: «كان بعض العرب لا يتجرون مذ يحرمون، فنزلت الآية في إباحة ذلك».
وقال ابن عمر فيمن
أكرى ليحج: «حجه تام ولا حرج عليه في ابتغاء الكراء»، وقرأ ابن عباس وابن
مسعود وابن الزبير: «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم
الحج».
وقوله تعالى: فإذا
أفضتم من عرفاتٍ أجمع أهل العلم على تمام حج من وقف بعرفة بعد الزوال وأفاض
نهارا قبل الليل إلا مالك بن أنس، فإنه قال: «لا بد أن يأخذ من الليل
شيئا، وأما من وقف بعرفة بالليل فلا خلاف بين الأمة في تمام حجه» وأفاض
القوم أو الجيش إذا اندفعوا جملة، ومنه أفاض الرجل في الكلام، ومنه فاض
الإناء، وأفضته، ومنه المفيض في القداح، والتنوين في عرفات على حده في
مسلمات، الكسرة مقابلة للياء في مسلمين والتنوين مقابل للنون، فإذا سميت به
شخصا ترك، وهو معرف على حده قبل أن تسمي به، فإن كان عرفاتٍ اسما لتلك
البقعة كلها فهو كما ذكرناه، وإن كان جمع عرفة فهو كمسلمات دون أن يسمى به،
وحكى سيبويه كسر التاء من «عرفات» دون تنوين في حال النصب والخفض مع
التعريف، وحكى الكوفيون فتحها في حال النصب والخفض تشبيها بتاء فاطمة
وطلحة، وسميت تلك البقعة عرفاتٍ لأن إبراهيم عرفها حين رآها على ما وصفت
له، قاله السدي.
وقال ابن عباس: «سميت
بذلك لأن جبريل عليه السلام كان يقول لإبراهيم عليه السلام: هذا موضع كذا،
فيقول قد عرفت»، وقيل: سميت بذلك لأن آدم عرف بها حواء حين لقيها هناك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والظاهر أنه اسم مرتجل كسائر أسماء البقاع، وعرفة هي نعمان الأراك، وفيها يقول الشاعر:
تزودت من نعمان عود أراكة = لهند ولكن من يبلغه هندا؟
والمشعر الحرام جمع
كله، وهو ما بين جبلي المزدلفة من حد مفضى مأزمي عرفة، قال ذلك ابن عباس
وابن جبير والربيع وابن عمر ومجاهد، فهي كلها مشعر إلى بطن محسر، كما أن
عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، بفتح الراء وضمها، روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: «عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، والمزدلفة كلها مشعر،
إلا وارتفعوا عن بطن محسر» وذكر هذا عبد الله بن الزبير في خطبته، وفي
المزدلفة قرن قزح الذي كانت قريش تقف عليه، وذكر الله تعالى عند المشعر
الحرام ندب عند أهل العلم.
وقال مالك: «من مر به
ولم ينزل فعليه دم»، وقال الشافعي: «من خرج من مزدلفة قبل نصف الليل فعليه
دم، وإن كان بعد نصف الليل فلا شيء عليه» ؟
وقال الشعبي والنخعي: من فاته الوقوف بمزدلفة فاته الحج.
وقوله: واذكروه كما
هداكم تعديد للنعمة وأمر بشكرها، ثم ذكرهم بحال ضلالهم ليظهر قدر الإنعام،
والكاف في كما نعت لمصدر محذوف، وأن مخففة من الثقيلة، ويدل على ذلك دخول
اللام في الخبر، هذا قول سيبويه.
وقال الفراء: «هي النافية بمعنى ما، واللام بمعنى إلّا»، والضمير في قبله عائد على الهدي). [المحرر الوجيز: 1/487-489]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ليس
عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلا من ربّكم فإذا أفضتم من عرفاتٍ فاذكروا اللّه
عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضّالّين
(198)}
قال البخاريّ: حدّثنا
محمّدٌ، أخبرني ابن عيينة، عن عمرو، عن ابن عبّاسٍ، قال: كانت عكاظٌ
ومجنّة، وذو المجاز أسواق الجاهليّة، فتأثّموا أن يتّجروا في المواسم
فنزلت: {ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلا من ربّكم} في مواسم الحجّ.
وهكذا رواه عبد الرّزّاق، وسعيد بن منصورٍ، وغير واحدٍ، عن سفيان بن عيينة، به.
ولبعضهم: فلمّا جاء
الإسلام تأثّموا أن يتّجروا، فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن
ذلك، فأنزل اللّه هذه الآية. وكذلك رواه ابن جريجٍ، عن عمرو بن دينارٍ، عن
ابن عبّاسٍ، قال: كان متجر النّاس في الجاهليّة عكاظ ومجّنة وذو المجاز،
فلمّا كان الإسلام كأنّهم كرهوا ذلك، حتّى نزلت هذه الآية.
وروى أبو داود،
وغيره، من حديث يزيد بن أبي زيادٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ، قال: كانوا
يتّقون البيوع والتّجارة في الموسم، والحجّ، يقولون: أيّام ذكرٍ، فأنزل
اللّه: {ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلا من ربّكم}.
وقال ابن جريرٍ:
حدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا هشيم، أخبرنا حجّاجٌ، عن عطاءٍ، عن ابن
عبّاسٍ: أنّه قال: "ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلًا من ربّكم في مواسم
الحجّ".
وقال عليّ بن أبي
طلحة، عن ابن عبّاسٍ في هذه الآية: لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل
الإحرام وبعده. وهكذا روى العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ.
وقال وكيع: حدّثنا
طلحة بن عمرٍو الحضرميّ، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ أنّه كان يقرأ: "ليس
عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلًا من ربّكم في مواسم الحجّ". [وقال عبد
الرّزّاق: عن أبيه عيينة، عن عبيد اللّه بن أبي يزيد: سمعت ابن الزّبير
يقول: "ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلًا من ربّكم في مواسم الحجّ"].
ورواه عبد بن حميدٍ،
عن محمّد بن الفضل، عن حمّاد بن زيدٍ، عن عبيد اللّه بن أبي يزيد، سمعت ابن
الزّبير يقرأ -فذكر مثله سواءً. وهكذا فسّرها مجاهدٌ، وسعيد بن جبيرٍ،
وعكرمة، ومنصور بن المعتمر، وقتادة، وإبراهيم النّخعيّ، والرّبيع بن أنسٍ،
وغيرهم.
وقال ابن جريرٍ:
حدّثنا الحسن بن عرفة، حدّثنا شبابة بن سوّار، حدّثنا شعبة، عن أبي أميمة
قال: سمعت ابن عمر -وسئل عن الرّجل يحجّ ومعه تجارةٌ -فقرأ ابن عمر: {ليس
عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلا من ربّكم}
وهذا موقوفٌ، وهو
قويٌّ جيّدٌ. وقد روي مرفوعًا قال أحمد: حدّثنا [أحمد بن] أسباطٍ، حدّثنا
الحسن بن عمرو الفقيمي، عن أبي أمامة التّيميّ، قال: قلت لابن عمر: إنّا
نكري، فهل لنا من حجٍّ، قال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون المعرّف، وترمون
الجمار، وتحلّقون رؤوسكم؟ قال: قلنا: بلى. فقال ابن عمر: جاء رجلٌ إلى
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه، حتّى نزل
عليه جبريل بهذه الآية: {ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلا من ربّكم} فدعاه
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: "أنتم حجّاجٌ".
وقال عبد الرّزّاق:
أخبرنا الثّوريّ، عن العلاء بن المسيّب، عن رجلٍ من بني تيم اللّه قال: جاء
رجل إلى عبد اللّه بن عمر، فقال: يا أبا عبد الرّحمن، إنّا قومٌ نكري،
ويزعمون أنّه ليس لنا حجٌّ. قال: ألستم تحرمون كما يحرمون، وتطوفون كما
يطوفون، وترمون كما يرمون؟ قال: بلى. قال: فأنت حاجٌّ. ثمّ قال ابن عمر:
جاء رجلٌ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فسأله عمّا سألت عنه، فنزلت
هذه الآية: {ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلا من ربّكم}.
ورواه عبد [بن حميدٍ
في تفسيره] عن عبد الرّزّاق به. وهكذا روى هذا الحديث ابن حذيفة، عن
الثّوريّ، مرفوعًا. وهكذا روي من غير هذا الوجه مرفوعًا.
وقال ابن أبي حاتمٍ:
حدّثنا الحسن بن عرفة، حدّثنا عبّاد بن العوّام، عن العلاء بن المسيّب، عن
أبي أمامة التّيميّ، قال: قلت لابن عمر: إنّا أناسٌ نكري في هذا الوجه إلى
مكّة، وإنّ أناسًا يزعمون أنّه لا حجّ لنا، فهل ترى لنا حجًّا؟ قال: ألستم
تحرمون، وتطوفون بالبيت، وتقفون المناسك؟ قال: قلت: بلى. قال: فأنتم
حجّاجٌ. ثمّ قال: جاء رجلٌ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فسأله عن
[مثل] الذي سألت، فلم يدر ما يعود عليه -أو قال: فلم يردّ عليه شيئًا -حتّى
نزلت: {ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلا من ربّكم} فدعا الرّجل، فتلاها
عليه، وقال: "أنتم حجّاجٌ".
وكذا رواه مسعود بن سعدٍ، وعبد الواحد بن زيادٍ، وشريك القاضي، عن العلاء بن المسيّب به مرفوعًا.
وقال ابن جريرٍ:
حدّثني طليق بن محمّد الواسطيّ، حدّثنا أسباطٌ -هو ابن محمّدٍ -أخبرنا
الحسن بن عمرو-هو الفقيمي -عن أبي أمامة التّيميّ. قال: قلت لابن عمر: إنّا
قومٌ نكري، فهل لنا من حجٍّ؟ فقال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون المعرّف،
وترمون الجمار، وتحلّقون رؤوسكم؟ قلنا: بلى. قال جاء رجلٌ إلى النّبيّ صلّى
اللّه عليه وسلّم، فسأله عن الذي سألتني عنه، فلم يدر ما يقول له، حتّى
نزل جبريل، عليه السّلام، بهذه الآية: {ليس عليكم جناحٌ أن تبتغوا فضلا من
ربّكم} إلى آخر الآية، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "أنتم حجّاجٌ".
وقال ابن جريرٍ:
حدّثني أحمد بن إسحاق، حدّثنا أبو أحمد، حدّثنا مندل، عن عبد الرّحمن بن
المهاجر، عن أبي صالحٍ مولى عمر، قال: قلت: يا أمير المؤمنين، كنتم تتّجرون
في الحجّ؟ قال: وهل كانت معايشهم إلّا في الحجّ؟
وقوله تعالى: {فإذا أفضتم من عرفاتٍ فاذكروا اللّه عند المشعر الحرام}
إنّما صرف "عرفاتٍ"
وإن كان علمًا على مؤنّثٍ؛ لأنّه في الأصل جمع كمسلماتٍ ومؤمناتٍ، سمّي به
بقعةٌ معيّنةٌ، فروعي فيه الأصل، فصرف. اختاره ابن جريرٍ.
وعرفة: موضع الموقف
في الحجّ، وهي عمدة أفعال الحجّ؛ ولهذا روى الإمام أحمد، وأهل السّنن،
بإسنادٍ صحيحٍ، عن الثّوريّ، عن بكير بن عطاءٍ، عن عبد الرحمن بن يعمر
الديلي، قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "الحجّ عرفاتٌ
-ثلاثًا -فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر، فقد أدرك. وأيّام منًى ثلاثةٌ
فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخّر فلا إثم عليه".
ووقت الوقوف من
الزّوال يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثّاني من يوم النّحر؛ لأنّ النّبيّ صلّى
اللّه عليه وسلّم وقف في حجّة الوداع، بعد أن صلّى الظّهر إلى أن غربت
الشّمس، وقال: "لتأخذوا عنّي مناسككم".
وقال في هذا الحديث:
"فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك" وهذا مذهب مالكٍ، وأبي حنيفة،
والشّافعيّ رحمهم اللّه. وذهب الإمام أحمد إلى أنّ وقت الوقوف من أوّل يوم
عرفة. واحتجّوا بحديث الشّعبيّ، عن عروة بن مضرّس بن حارثة بن لامٍ
الطّائيّ قال: أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالمزدلفة، حين خرج
إلى الصّلاة، فقلت: يا رسول اللّه، إنّي جئت من جبلي طيئٍ، أكللت راحلتي،
وأتعبت نفسي، واللّه ما تركت من جبلٍ إلّا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من شهد صلاتنا هذه، فوقف معنا حتّى
ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا، فقد تمّ حجّه، وقضى تفثه".
رواه الإمام أحمد، وأهل السّنن، وصحّحه التّرمذيّ.
ثمّ قيل: إنّما سمّيت
عرفات لما رواه عبد الرّزّاق: أخبرني ابن جريجٍ قال: قال ابن المسيّب: قال
عليّ بن أبي طالبٍ: بعث اللّه جبريل، عليه السّلام، إلى إبراهيم، عليه
السّلام، فحجّ به، حتّى إذا أتى عرفة قال: عرفت، وكان قد أتاها مرّةً قبل
ذلك، فلذلك سمّيت عرفة.
وقال ابن المبارك، عن
عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاءٍ، قال: إنّما سمّيت عرفة، أنّ جبريل كان
يري إبراهيم المناسك، فيقول: عرفت عرفت. فسمّي "عرفاتٌ". وروي نحوه عن ابن
عبّاسٍ، وابن عمر وأبي مجلز، فاللّه أعلم.
وتسمّى عرفاتٌ المشعر
الحلال، والمشعر الأقصى، وإلال -على وزن هلال -ويقال للجبل في وسطها: جبل
الرّحمة. قال أبو طالبٍ في قصيدته المشهورة:
وبالمشعر الأقصى إذا قصدوا له = إلال إلى تلك الشّراج القوابل
وقال ابن أبي حاتمٍ:
حدّثنا حمّاد بن الحسن بن عنبسة، حدّثنا أبو عامر، عن زمعة -هو ابن صالحٍ
-عن سلمة -هو ابن وهرام -عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، قال: كان أهل الجاهليّة
يقفون بعرفة حتّى إذا كانت الشّمس على رؤوس الجبال، كأنّها العمائم على
رؤوس الرّجال، دفعوا، فأخّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الدّفعة من
عرفة حتّى غربت الشّمس.
ورواه ابن مردويه، من
حديث زمعة بن صالحٍ، وزاد: ثمّ وقف بالمزدلفة، وصلّى الفجر بغلس، حتّى إذا
أسفر كلّ شيءٍ وكان في الوقت الآخر، دفع. وهذا حسن الإسناد.
وقال ابن جريج، عن
محمّد بن قيسٍ، عن المسور بن مخرمة قال: خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم، وهو بعرفاتٍ، فحمد اللّه وأثنى عليه. ثمّ قال: "أمّا بعد -وكان إذا
خطب خطبةً قال: أمّا بعد -فإنّ هذا اليوم الحج الأكبر، ألا وإنّ أهل الشّرك
والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشّمس، إذا كانت الشّمس
في رؤوس الجبال، كأنّها عمائم الرّجال في وجوهها، وإنّا ندفع بعد أن تغيب
الشّمس، وكانوا يدفعون من المشعر الحرام بعد أن تطلع الشّمس، إذا كانت
الشّمس في رؤوس الجبال كأنّها عمائم الرّجال في وجوهها وإنّا ندفع قبل أن
تطلع الشّمس، مخالفاً هدينا هدي أهل الشّرك".
هكذا رواه ابن مرديه
وهذا لفظه، والحاكم في مستدركه، كلاهما من حديث عبد الرّحمن بن المبارك
العيشيّ، عن عبد الوارث بن سعيدٍ، عن ابن جريجٍ، به. وقال الحاكم: صحيحٌ
على شرط الشّيخين، ولم يخرّجاه. قال: وقد صحّ وثبت بما ذكرناه سماع المسور
من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، لا كما يتوهّمه رعاع أصحابنا أنّه
ممّن له رؤيةٌ بلا سماعٍ.
وقال وكيع، عن شعبة،
عن إسماعيل بن رجاءٍ [الزّبيديّ] عن المعرور بن سويدٍ، قال: رأيت عمر، رضي
اللّه عنه، حين دفع من عرفة، كأنّي أنظر إليه رجلا أصلع على بعيرٍ له، يوضع
وهو يقول: إنّا وجدنا الإفاضة هي الإيضاع.
وفي حديث جابر بن عبد
اللّه الطّويل، الذي في صحيح مسلمٍ، قال فيه: فلم يزل واقفًا -يعني بعرفة
-حتّى غربت الشّمس، وذهبت الصّفرة قليلًا حتّى غاب القرص، وأردف أسامة
خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزّمام، حتّى
إنّ رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: "أيّها النّاس، السّكينة
السّكينة". كلّما أتى جبلًا من الجبال أرخى لها قليلًا حتّى تصعد، حتّى أتى
المزدلفة فصلّى بها المغرب والعشاء بأذانٍ واحدٍ وإقامتين، ولم يسبّح
بينهما شيئًا، ثمّ اضطجع حتّى طلع الفجر فصلّى الفجر حين تبيّن له الصّبح
بأذانٍ وإقامةٍ، ثمّ ركب القصواء حتّى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة،
فدعا اللّه وكبّره وهلّله ووحّده، فلم يزل واقفًا حتّى أسفر جدًّا، فدفع
قبل أن تطلع الشّمس وفي الصّحيح عن أسامة بن زيدٍ، أنّه سئل كيف كان يسير
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين دفع؟
قال: "كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص". والعنق: هو انبساط السّير، والنّصّ، فوقه.
وقال ابن أبي حاتمٍ:
أخبرنا أبو محمّدٍ ابن بنت الشّافعيّ، فيما كتب إليّ، عن أبيه أو عمّه، عن
سفيان بن عيينة قوله: {فإذا أفضتم من عرفاتٍ فاذكروا اللّه عند المشعر
الحرام} وهي الصّلاتين جميعًا.
وقال أبو إسحاق
السّبيعي، عن عمرو بن ميمونٍ: سألت عبد اللّه بن عمرو عن المشعر الحرام،
فسكت حتّى إذا هبطت أيدي رواحلنا بالمزدلفة قال: أين السّائل عن المشعر
الحرام؟ هذا المشعر الحرام.
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن الزّهريّ، عن سالمٍ قال: قال ابن عمر: المشعر الحرام المزدلفة كلّها.
وقال هشيم، عن حجّاجٍ عن نافعٍ، عن ابن عمر: أنّه سئل عن قوله: {فاذكروا اللّه عند المشعر الحرام} قال: فقال: هو الجبل وما حوله.
وقال عبد الرّزّاق:
أخبرنا معمر، عن المغيرة، عن إبراهيم قال: رآهم ابن عمر يزدحمون على قزح،
فقال: علام يزدحم هؤلاء؟ كلّ ما هاهنا مشعرٌ.
وروي عن ابن عبّاسٍ، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهدٍ، والسّدّيّ، والرّبيع بن أنسٍ، والحسن، وقتادة أنّهم قالوا: هو ما بين الجبلين.
وقال ابن جريجٍ: قلت
لعطاءٍ: أين المزدلفة؟ قال: إذا أفضت من مأزمي عرفة فذلك إلى محسّر. قال:
وليس المأزمان مأزما عرفة من المزدلفة، ولكن مفاضاهما. قال: فقف بينهما إن
شئت، قال: وأحبّ أن تقف دون قزح، هلمّ إلينا من أجل طريق النّاس.
قلت: والمشاعر هي
المعالم الظّاهرة، وإنّما سمّيت المزدلفة المشعر الحرام؛ لأنّها داخل
الحرم، وهل الوقوف بها ركنٌ في الحجّ لا يصحّ إلّا به، كما ذهب إليه طائفةٌ
من السّلف، وبعض أصحاب الشّافعيّ، منهم: القفّال، وابن خزيمة، لحديث عروة
بن مضرس؟ أو واجبٌ، كما هو أحد قولي الشّافعيّ يجبر بدمٍ؟ أو مستحبٌّ لا
يجب بتركه شيءٌ كما هو القول الآخر؟ في ذلك ثلاثة أقوالٍ للعلماء، لبسطها
موضع آخر غير هذا، والله أعلم.
وقال عبد اللّه بن
المبارك، عن سفيان الثّوريّ، عن زيد بن أسلم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم قال: "عرفة كلّها موقفٌ، وارفعوا عن عرنة، وجمع كلّها موقف إلّا
محسرًا".
هذا حديثٌ مرسلٌ. وقد
قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو المغيرة، حدّثنا سعيد بن عبد العزيز، حدّثني
سليمان بن موسى، عن جبير بن مطعمٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: قال:
"كلّ عرفاتٍ موقفٌ، وارفعوا عن عرنة. وكلّ مزدلفة موقفٌ وارفعوا عن محسّر،
وكلّ فجاج مكّة منحر، وكلّ أيّام التّشريق ذبحٌ".
وهذا أيضًا منقطعٌ،
فإنّ سليمان بن موسى هذا -وهو الأشدق -لم يدرك جبير بن مطعمٍ. ولكن رواه
الوليد بن مسلمٍ، وسويد بن عبد العزيز، عن سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان،
فقال الوليد: عن ابنٍ لجبير بن مطعمٍ، عن أبيه. وقال سويدٌ: عن نافع بن
جبير بن مطعمٍ، عن أبيه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فذكره، واللّه
أعلم.
وقوله: {واذكروه كما
هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضّالّين} تنبيهٌ لهم على ما أنعم به عليهم،
من الهداية والبيان والإرشاد إلى مشاعر الحجّ، على ما كان عليه إبراهيم
الخليل، عليه السّلام؛ ولهذا قال: {وإن كنتم من قبله لمن الضّالّين} قيل:
من قبل هذا الهدي، وقبل القرآن، وقبل الرّسول، والكلّ متقاربٌ، ومتلازمٌ،
وصحيحٌ). [تفسير ابن كثير: 1/549-555]
قال ابن عباس وعائشة
وعطاء وغيرهم: المخاطب بهذه الآية قريش ومن ولدت وهم الحمس، وذلك أنهم
كانوا يقولون نحن قطين الله فينبغي لنا أن نعظم الحرم ولا نعظم شيئا من
الحل، فسنوا شق الثياب في الطواف إلى غير ذلك، وكانوا مع معرفتهم وإقرارهم
أن عرفة هي موقف إبراهيم لا يخرجون من الحرم ويقفون بجمع ويفيضون منه، ويقف
الناس بعرفة، فقيل لهم أن يفيضوا مع الجملة، وثمّ ليست في هذه الآية
للترتيب، إنما هي لعطف جملة كلام على جملة هي منها منقطعة، وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم من الحمس، ولكنه كان يقف مذ كان بعرفة، هداية من الله.
وقال الضحاك:
«المخاطب بالآية جملة الأمة»، والمراد ب النّاس إبراهيم عليه السلام كما
قال: الّذين قال لهم النّاس [آل عمران: 173] وهو يريد واحدا، ويحتمل على
هذا أن يؤمروا بالإفاضة من عرفة، ويحتمل أن تكون إفاضة أخرى وهي التي من
المزدلفة فتجيء ثمّ على هذا الاحتمال على بابها، وعلى هذا الاحتمال عول
الطبري، وقرأ سعيد بن جبير «الناسي» وتأوله آدم عليه السلام، ويجوز عند
بعضهم تخفيف الياء فيقول الناس كالقاض والهاد.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، وأما جوازه مقروءا به فلا
أحفظه، وأمر تعالى بالاستغفار لأنها مواطنه ومظان القبول ومساقط الرحمة،
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب عشية عرفة فقال: «أيها
الناس، إن الله عز وجل قد تطاول عليكم في مقامكم هذا، فقبل من محسنكم ووهب
مسيئكم لمحسنكم إلا التبعات فيما بينكم، أفيضوا على اسم الله»، فلما كان
غداة جمع، خطب فقال: «أيها الناس إن الله تطاول عليكم فعوض التبعات من
عنده».
وقالت فرقة: المعنى واستغفروا الله من فعلكم الذي كان مخالفا لسنة إبراهيم في وقوفكم بقزح من المزدلفة). [المحرر الوجيز: 1/489-491]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ثمّ أفيضوا من حيث أفاض النّاس واستغفروا اللّه إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ (199)}
"ثمّ" هاهنا لعطف
خبرٍ على خبرٍ وترتيبه عليه، كأنّه تعالى أمر الواقف بعرفاتٍ أن يدفع إلى
المزدلفة، ليذكر اللّه عند المشعر الحرام، وأمره أن يكون وقوفه مع جمهور
النّاس بعرفاتٍ، كما كان جمهور النّاس يصنعون، يقفون بها إلّا قريشًا،
فإنّهم لم يكونوا يخرجون من الحرم، فيقفون في طرف الحرم عند أدنى الحل،
ويقولون: نحن أهل اللّه في بلدته، وقطّان بيته.
وقال البخاريّ:
حدّثنا عليّ بن عبد اللّه، حدّثنا محمّد بن حازمٍ، حدّثنا هشامٌ، عن أبيه،
عن عائشة قالت: كانت قريشٌ ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمّون
الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفاتٍ. فلمّا جاء الإسلام أمر اللّه نبيّه
صلّى اللّه عليه وسلّم أن يأتي عرفاتٍ، ثمّ يقف بها ثمّ يفيض منها، فذلك
قوله: {من حيث أفاض النّاس}.
وكذا قال ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، وعطاءٌ، وقتادة، والسّدّيّ، وغيرهم. واختاره ابن جريرٍ، وحكى عليه الإجماع، رحمهم اللّه.
وقال الإمام أحمد،
حدّثنا سفيان، عن عمرٍو، عن محمّد بن جبير بن مطعمٍ، عن أبيه، قال: أضللت
بعيرًا لي بعرفة، فذهبت أطلبه، فإذا النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم واقفٌ،
قلت: إنّ هذا من الحمس ما شأنه هاهنا؟
أخرجاه في الصّحيحين.
ثمّ روى البخاريّ من حديث موسى بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس ما يقتضي
أنّ المراد بالإفاضة هاهنا هي الإفاضة من المزدلفة إلى منًى لرمي الجمار.
فاللّه أعلم. وحكاه ابن جريرٍ، عن الضّحّاك بن مزاحمٍ فقط. قال: والمراد
بالنّاس: إبراهيم، عليه السّلام. وفي روايةٍ عنه: الإمام. قال ابن جريرٍ
ولولا إجماع الحجّة على خلافه لكان هو الأرجح.
وقوله: {واستغفروا
اللّه إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} كثيرًا ما يأمر اللّه بذكره بعد قضاء
العبادات؛ ولهذا ثبت في صحيح مسلمٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
كان إذا فرغ من الصّلاة يستغفر ثلاثًا. وفي الصّحيحين أنّه ندب إلى
التّسبيح والتّحميد والتّكبير، ثلاثًا وثلاثين، ثلاثًا وثلاثين.
وقد روى ابن جريرٍ
هاهنا حديث ابن عبّاس بن مرداسٍ السّلميّ في استغفاره، عليه السّلام،
لأمّته عشيّة عرفة، وقد أوردناه في جزء جمعناه في فضل يوم عرفة.
وأورد ابن مردويه
هاهنا الحديث الذي رواه البخاريّ، عن شدّاد بن أوسٍ قال: قال رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم: "سيّد الاستغفار أن يقول العبد: اللّهمّ أنت ربّي،
لا إله إلّا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ
بك من شرّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنّه لا
يغفر الذّنوب إلّا أنت. من قالها في ليلةٍ فمات في ليلته دخل الجنّة، ومن
قالها في يومه فمات دخل الجنّة".
وفي الصّحيحين عن عبد
اللّه بن عمرو: أنّ أبا بكرٍ قال: يا رسول اللّه، علمني دعاءً أدعو به في
صلاتي؟ فقال: "قل: اللّهمّ إنّي ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذّنوب
إلّا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني، إنّك أنت الغفور الرّحيم".
والأحاديث في الاستغفار كثيرةٌ). [تفسير ابن كثير: 1/555-557]
* للاستزادة ينظر: هنا