الدروس
course cover
تفسير سورة البقرة [من الآية (204) إلى الآية (207) ]
17 Sep 2014
17 Sep 2014

4788

0

1

course cover
تفسير سورة البقرة

القسم الخامس عشر

تفسير سورة البقرة [من الآية (204) إلى الآية (207) ]
17 Sep 2014
17 Sep 2014

17 Sep 2014

4788

0

1


0

0

0

1

0

تفسير قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) }




تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ومن النّاس من يعجبك قوله في الحياة الدّنيا ويشهد اللّه على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام}
- موضع (من) رفع على ضربين:
1- على الابتداء،
2- وبالعامل في (من) وقد شرحنا هذا الباب.
ويروى أن رجلا من ثقيف كان يعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلامه، ويظهر له من الجميل خلاف ما في نفسه.
وقوله عزّ وجلّ: {ويشهد اللّه على ما في قلبه} وإن قلت: ويشهد اللّه على ما في قلبه فهو جائز إن كان قد قرئ به والمعنى فيه أن الله عالم بما يسرّه، فأعلم اللّه عزّ وجلّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حقيقة أمر هذا المنافق - وقال: {وهو ألدّ الخصام}.
ومعنى خصم ألدّ في اللغة - الشديد الخصومة والجدل، واشتقاقه من لديدي العنق، وهما صفحتا العنق، وتأويله، أن خصمه في أي وجه أخذ - من يمين أو شمال - من أبواب الخصومة غلبه في ذلك.
يقال رجل ألدّ، وامرأة لدّاء وقوم لدّ - وقد لددت فلانا ألده - إذا جادلته فغلبته.
وخصام جمع خصم، لأن فعلا يجمع إذا كان صفة على فعال، نحو صعب وصعاب، وخدل وخدال.
وكذلك أن جعلت خصما صفة، فهو يجمع على أقل العدد، وأكثره على فعول وفعال جميعا، يقال خصم وخصام وخصوم، وإن كان اسما ففعال فيه أكثر العدد، نحو فرخ وأفراخ، لأقل العدد، وفراخ وفروخ لما جاوز العشرة). [معاني القرآن: 1/276-277]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: ومن النّاس من يعجبك قوله في الحياة الدّنيا ويشهد اللّه على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام (204) وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنّسل واللّه لا يحبّ الفساد (205) وإذا قيل له اتّق اللّه أخذته العزّة بالإثم فحسبه جهنّم ولبئس المهاد (206) ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضات اللّه واللّه رؤفٌ بالعباد (207) يا أيّها الّذين آمنوا ادخلوا في السّلم كافّةً ولا تتّبعوا خطوات الشّيطان إنّه لكم عدوٌّ مبينٌ (208)
قال السدي: «نزلت في الأخنس بن شريق، واسمه أبيّ، والأخنس لقب، وذلك أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأظهر الإسلام، وقال: الله يعلم أني صادق، ثم هرب بعد ذلك، فمر بقوم من المسلمين، فأحرق لهم زرعا، وقتل حمرا، فنزلت فيه هذه الآيات».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ما ثبت قط أن الأخنس أسلم.
وقال ابن عباس: نزلت في قوم من المنافقين تكلموا في الذين قتلوا في غزوة الرجيع عاصم بن ثابت وخبيب وابن الدثنة وغيرهم قالوا: ويح هؤلاء القوم لا هم قعدوا في بيوتهم ولا أدوا رسالة صاحبهم، فنزلت هذه الآيات في صفات المنافقين. ثم ذكر المستشهدين في غزوة الرجيع في قوله: ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضات اللّه الآية، وقال قتادة ومجاهد وجماعة من العلماء: نزلت هذه الآيات في كل مبطن كفر أو نفاق أو كذب أو إضرار وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك، فهي عامة، وهي تشبه ما ورد في الترمذي أن في بعض كتب الله تعالى: «أن من عباد الله قوما ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، يجترون الدنيا بالدين، يقول الله تعالى: أبي يغترون وعلي يجترون؟ حلفت لأسلطن عليهم فتنة تدع الحليم منهم حيران». ومعنى ويشهد اللّه أي يقول: الله يعلم أني أقول حقا، وقرأ أبو حيوة وابن محيصن «ويشهد الله» بإسناد الفعل إلى اسم الجلالة، المعنى يعجبك قوله والله يعلم منه خلاف ما قال، والقراءة التي للجماعة أبلغ في ذمه، لأنه قوى على نفسه التزام الكلام الحسن ثم ظهر من باطنه خلافه، وما في قلبه مختلف بحسب القراءتين، فعلى قراءة الجمهور هو الخير الذي يظهر، أي هو في قلبه بزعمه، وعلى قراءة ابن محيصن هو الشر الباطن، وقرأ ابن عباس «والله يشهد على ما في قلبه»، وقرأ أبي وابن مسعود «ويستشهد الله على ما في قلبه»، والألد: الشديد الخصومة الصعب الشكيمة الذي يلوي الحجج في كل جانب، فيشبه انحرافه المشي في لديدي الوادي، ومنه لديد الفم، واللدود، ويقال منه: لددت بكسر العين ألد، وهو ذم، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم»، ويقال: لددته بفتح العين ألده بضمها إذا غلبته في الخصام، ومن اللفظة قول الشاعر: [الخفيف]
إنّ تحت الأحجار حزما وعزما = وخصيما ألدّ ذا مغلاق
والخصام في الآية مصدر خاصم، وقيل جمع خصم ككلب وكلاب، فكان الكلام وهو أشد الخصماء والدهم). [المحرر الوجيز: 1/496-499]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ومن النّاس من يعجبك قوله في الحياة الدّنيا ويشهد اللّه على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام (204) وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنّسل واللّه لا يحبّ الفساد (205) وإذا قيل له اتّق اللّه أخذته العزّة بالإثم فحسبه جهنّم ولبئس المهاد (206) ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه واللّه رءوفٌ بالعباد (207)}
قال السّدّيّ: نزلت في الأخنس بن شريق الثّقفيّ، جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وأظهر الإسلام وفي باطنه خلاف ذلك. وعن ابن عبّاسٍ: أنّها نزلت في نفرٍ من المنافقين تكلّموا في خبيب وأصحابه الّذين قتلوا بالرّجيع وعابوهم، فأنزل اللّه في ذمّ المنافقين ومدح خبيب وأصحابه: {ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه}
وقيل: بل ذلك عامٌّ في المنافقين كلّهم وفي المؤمنين كلّهم. وهذا قول قتادة، ومجاهدٍ، والرّبيع ابن أنسٍ، وغير واحدٍ، وهو الصّحيح.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني يونس، أخبرنا ابن وهبٍ، أخبرني اللّيث بن سعدٍ، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلالٍ، عن القرظيّ، عن نوف -وهو البكاليّ، وكان ممّن يقرأ الكتب -قال: إنّي لأجد صفة ناسٍ من هذه الأمّة في كتاب اللّه المنزّل: قوم يحتالون على الدّنيا بالدّين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصّبر، يلبسون للنّاس مسوك الضّأن، وقلوبهم قلوب الذّئاب. يقول اللّه تعالى: فعليّ يجترئون! وبي يغترون! حلفت بنفسي لأبعثنّ عليهم فتنةً تترك الحليم فيها حيران. قال القرظيّ: تدبّرتها في القرآن، فإذا هم المنافقون، فوجدتها: {ومن النّاس من يعجبك قوله في الحياة الدّنيا ويشهد اللّه على ما في قلبه} الآية.
وحدّثني محمّد بن أبي معشرٍ، أخبرني أبي أبو معشرٍ نجيح قال: سمعت سعيدًا المقبريّ يذاكر محمّد بن كعبٍ القرظيّ، فقال سعيدٌ: إنّ في بعض الكتب: إنّ [لله] عبادًا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرّ من الصّبر، لبسوا للنّاس مسوك الضّأن من اللّين، يجترّون الدّنيا بالدّين. قال اللّه تعالى: عليّ تجترئون! وبي تغترّون!. وعزّتي لأبعثنّ عليهم فتنةً تترك الحليم منهم حيران. فقال محمّد بن كعبٍ: هذا في كتاب اللّه. فقال سعيدٌ: وأين هو من كتاب اللّه؟ قال: قول اللّه: {ومن النّاس من يعجبك قوله في الحياة الدّنيا} الآية. فقال سعيدٌ: قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية. فقال محمّد بن كعبٍ: إنّ الآية تنزل في الرّجل، ثمّ تكون عامّةً بعد. وهذا الذي قاله القرظيّ حسنٌ صحيحٌ.
وأمّا قوله: {ويشهد اللّه على ما في قلبه} فقرأه ابن محيصنٍ: "ويشهد الله" بفتح الياء، وضمّ الجلالة {على ما في قلبه} ومعناها: أنّ هذا وإن أظهر لكم الحيل لكنّ اللّه يعلم من قلبه القبيح، كقوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنّك لرسول اللّه واللّه يعلم إنّك لرسوله واللّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون} [المنافقون: 1].
وقراءة الجمهور بضمّ الياء، ونصب الجلالة {ويشهد اللّه على ما في قلبه} ومعناه: أنّه يظهر للنّاس الإسلام ويبارز اللّه بما في قلبه من الكفر والنّفاق، كقوله تعالى: {يستخفون من النّاس ولا يستخفون من اللّه} الآية [النّساء: 108] هذا معنى ما رواه ابن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ.
وقيل: معناه أنّه إذا أظهر للنّاس الإسلام حلف وأشهد اللّه لهم: أنّ الذي في قلبه موافقٌ للسانه. وهذا المعنى صحيحٌ، وقاله عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جريرٍ، وعزاه إلى ابن عبّاسٍ، وحكاه عن مجاهدٍ، واللّه أعلم.
وقوله: {وهو ألدّ الخصام} الألدّ في اللّغة: [هو] الأعوج، {وتنذر به قومًا لدًّا} [مريم:97] أي: عوجًا. وهكذا المنافق في حال خصومته، يكذب، ويزورّ عن الحقّ ولا يستقيم معه، بل يفتري ويفجر، كما ثبت في الصّحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
وقال البخاريّ: حدّثنا قبيصة، حدّثنا سفيان، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة ترفعه قال: "أبغض الرّجال إلى اللّه الألدّ الخصم".
قال: وقال عبد اللّه بن يزيد: حدّثنا سفيان، حدّثني ابن جريجٍ، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إن أبغض الرّجال إلى اللّه الألدّ الخصم".
وهكذا رواه عبد الرّزّاق، عن معمر في قوله: {وهو ألدّ الخصام} عن ابن جريجٍ، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إنّ أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم"). [تفسير ابن كثير: 1/562-563]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنّسل واللّه لا يحبّ الفساد}
نصب {ليفسد} على إضمار أن، المعنى لأن يفسد فيها، وعطف ويهلك علي ويفسد،
ويجوز أن يكون: {يهلك الحرث والنسل} على الاستئناف، أي: وهو يهلك الحرث والنسل، أي يعتقد ذلك.
وقالوا في {الحرث والنسل}: إن الحرث النساء والنسل الأولاد.
وهذا غير منكر لأن المرأة تسمّى حرثا - قال اللّه عزّ وجلّ: {نساؤكم حرث لكم}
وأصل هذا إنما هو في الزرع، وكل ما حرث. فيشبه ما منه الولد بذلك. وقالوا في الحرث هو ما تعرفه من الزرع. لأنه إذا أفسد في الأرض أبطل - بإفساده وإلقائه الفتنة - أمر الزراعة). [معاني القرآن: 1/277-278]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وتولّى وسعى تحتمل جميعا معنيين: أحدهما أن تكون فعل قلب فيجيء تولّى بمعنى ضل وغضب وأنف في نفسه فسعى بحيله وإرادته الدوائر على الإسلام، ومن هذا السعي قول الله تعالى: وأن ليس للإنسان إلّا ما سعى [النجم: 39]، ومنه وسعى لها سعيها [الإسراء: 19]. ومنه قول الشاعر:
[الرجز]
أسعى على حيّ بني مالك = كل امرئ في شأنه ساع
ونحا هذا المنحى في معنى الآية ابن جريج وغيره، والمعنى الثاني أن يكونا فعل شخص فيجيء تولّى بمعنى أدبر ونهض عنك يا محمد، وسعى يجيء معناها بقدميه فقطع الطريق وأفسدها، نحا هذا المنحى ابن عباس وغيره، وكلا السعيين فساد.
وقوله تعالى: ويهلك الحرث والنّسل.
قال الطبري: «المراد الأخنس في إحراقه الزرع وقتله الحمر».
وقال مجاهد: «المراد أن الظالم يفسد في الأرض فيمسك الله المطر فيهلك الحرث والنسل»، وقيل: المراد أن المفسد يقتل الناس فينقطع عمار الزرع والمنسلون».
وقال الزجّاج: «يحتمل أن يراد بالحرث النساء وبالنسل نسلهن».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والظاهر أن الآية عبارة عن مبالغة في الإفساد، إذ كل فساد في أمور الدنيا، فعلى هذين الفصلين يدور، وأكثر القراء على يهلك بضم الياء وكسر اللام وفتح الكاف عطفا على ليفسد، وفي مصحف أبي بن كعب «وليهلك»، وقرأ قوم «ويهلك» بضم الكاف، إما عطفا على يعجبك وإما على سعى، لأنها بمعنى الاستقبال، وإما على القطع والاستئناف، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن محيصن «ويهلك» بفتح الياء وكسر اللام وضم الكاف ورفع «الحرث» و «النسل»، وكذلك رواه ابن سلمة عن ابن كثير وعبد الوارث عن أبي عمرو، وحكى المهدوي أن الذي روى حماد بن سلمة عن ابن كثير إنما هو «ويهلك» بضم الياء والكاف «الحرث» بالنصب، وقرأ قوم «ويهلك» بفتح الياء واللام ورفع «الحرث» وهي لغة هلك يهلك، تلحق بالشواذ كركن يركن، والحرث في اللغة شق الأرض للزراعة، ويسمى الزرع حرثا للمجاورة والتناسب، ويدخل سائر الشجر والغراسات في ذلك حملا على الزرع، ومنه قول عز وجل إذ يحكمان في الحرث [الأنبياء: 78]، وهو كرم على ما ورد في التفاسير، وسمي النساء حرثا على التشبيه، والنّسل مأخوذ من نسل ينسل إذا خرج متتابعا، ومنه نسال الطائر ما تتابع سقوطه من ريشه، ومنه قوله تعالى: وهم من كلّ حدبٍ ينسلون [الأنبياء: 96]، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]
... ... ... ... = فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل
ولا يحبّ معناه لا يحبه من أهل الصلاح، أي لا يحبه دينا، وإلا فلا يقع إلا ما يحب الله تعالى وقوعه، والفساد واقع، وهذا على ما ذهب إليه المتكلمون من أن الحب بمعنى الإرادة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والحب له على الإرادة مزية إيثار، فلو قال أحد: إن الفساد المراد تنقصه مزية الإيثار لصح ذلك، إذ الحب من الله تعالى إنما هو لما حسن من جميع جهاته). [المحرر الوجيز: 1/499-501]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنّسل واللّه لا يحبّ الفساد} أي: هو أعوج المقال، سيّئ الفعال، فذلك قوله، وهذا فعله: كلامه كذب، واعتقاده فاسدٌ، وأفعاله قبيحةٌ.
والسّعي هاهنا هو: القصد. كما قال إخبارًا عن فرعون: {ثمّ أدبر يسعى* فحشر فنادى* فقال أنا ربّكم الأعلى* فأخذه اللّه نكال الآخرة والأولى* إنّ في ذلك لعبرةً لمن يخشى} [النّازعات: 22-26]، وقال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللّه} [الجمعة: 9] أي: اقصدوا واعمدوا ناوين بذلك صلاة الجمعة، فإنّ السّعي الحسّيّ إلى الصّلاة منهيٌّ عنه بالسّنّة النّبويّة: "إذا أتيتم الصّلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة والوقار".
فهذا المنافق ليس له همّةٌ إلّا الفساد في الأرض، وإهلاك الحرث وهو محل نماء الزّروع والثّمار، والنّسل وهو نتاج الحيوانات الّذين لا قوام للنّاس إلّا بهما.
وقال مجاهدٌ: إذا سعى في الأرض فسادًا، منع اللّه القطر، فهلك الحرث والنّسل. {واللّه لا يحبّ الفساد} أي: لا يحبّ من هذه صفته، ولا من يصدر منه ذلك). [تفسير ابن كثير: 1/564]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)}

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: وإذا قيل له اتّق اللّه الآية، هذه صفة الكافر أو المنافق الذاهب بنفسه زهوا، ويكره للمؤمن أن يوقعه الحرج في نحو هذا.
وقال بعض العلماء: كفى بالمرء إثما أن يقول له أخوه اتق الله فيقول له: عليك نفسك، مثلك يوصيني؟. والعزة هنا المنعة وشدة النفس، أي اعتز في نفسه وانتخى فأوقعته تلك العزة في الإثم حين أخذته به وألزمته أباه، ويحتمل لفظ الآية أن يكون أخذته العزة مع الإثم، فمعنى الباء يختلف بحسب التأويلين، و «حسبه» أي كافيه معاقبة وجزاء، كما تقول للرجل كفاك ما حل بك، وأنت تستعظم وتعظم عليه ما حل به، والمهاد ما مهد الرجل لنفسه كأنه الفراش، ومن هذا الباب قول الشاعر: [الوافر]
... ... ... ... = تحيّة بينهم ضرب وجيع). [المحرر الوجيز: 1/501-502]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وإذا قيل له اتّق اللّه أخذته العزّة بالإثم} أي: إذا وعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله، وقيل له: اتّق اللّه، وانزع عن قولك وفعلك، وارجع إلى الحقّ -امتنع وأبى، وأخذته الحميّة والغضب بالإثم، أي: بسبب ما اشتمل عليه من الآثام، وهذه الآية شبيهةٌ بقوله تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بيّناتٍ تعرف في وجوه الّذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالّذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبّئكم بشرٍّ من ذلكم النّار وعدها اللّه الّذين كفروا وبئس المصير} [الحجّ: 72]، ولهذا قال في هذه الآية: {فحسبه جهنّم ولبئس المهاد} أي: هي كافيته عقوبةً في ذلك). [تفسير ابن كثير: 1/564]

تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضات اللّه واللّه رءوف بالعباد}
قال أهل اللغة: {يشري نفسه} يبيع نفسه، ومعنى بيعه نفسه بذلها في الجهاد في سبيل اللّه.
قال الشاعر في شريت بمعنى بعت:
وشريت بردا ليتني... من بعد برد كنت هامه
وقال أهل التفسير: هذا رجل كان يقال له صهيب بن سنان أراده المشركون مع نفر معه على ترك الإسلام، وقتلوا بعض النفر الذين كانوا معه فقال لهم صهيب: أنا شيخ كبير، إن كنت عليكم لم أضركم " وإن كنت معكم لم أنفعكم فخلوني وما أنا عليه، وخذوا مالي فقبلوا منه ماله، وأتى المدينة فلقيه أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه فقال له: ربح البيع يا صهيب، فرد عليه وأنت فربح بيعك يا أبا بكر وتلا الآية عليه.
ونصب {ابتغاء مرضات اللّه} على معنى المفعول له.
المعنى يشريها لابتغاء مرضاة اللّه). [معاني القرآن: 1/278-279]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: ومن النّاس من يشري نفسه الآية تتناول كل مجاهد في سبيل الله أو مستشهد في ذاته أو مغير منكر، والظاهر من هذا التقسيم أن تكون الآيات قبل هذا على العموم في الكافر بدليل الوعيد بالنار ويأخذ العصاة الذين فيهم شيء من هذا الخلق بحظهم من وعيد الآية، ومن قال إن الآيات المتقدمة هي في منافقين تكلموا في غزوة الرجيع قال: هذه الآية في شهداء غزوة الرجيع، ومن قال تلك في الأخنس قال: هذه في الأنصار والمهاجرين المبادرين إلى الإيمان.
وقال عكرمة وغيره: هذه في طائفة من المهاجرين، وذكروا حديث صهيب أنه خرج من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعته قريش لترده، فنثر كنانته، وقال لهم: تعلمون والله إني لمن أرماكم رجلا، والله لأرمينّكم ما بقي لي سهم، ثم لأضربن بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فقالوا له: لا نتركك تذهب عنا غنيا وقد جئتنا صعلوكا، ولكن دلنا على مالك ونتركك، فدلهم على ماله وتركوه، فهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال له: «ربح البيع أبا يحيى»، فنزلت فيه هذه الآية، ومن قال قصد بالأول العموم قال في هذه كذلك بالعموم، ويشري معناه يبيع، ومنه وشروه بثمنٍ بخسٍ [يوسف: 20]، ومنه قول يزيد بن مفرغ الحميري: [مجزوء الكامل]
وشريت بردا ليتني = من بعد برد كنت هامه
وقال الآخر: [الكامل]
يعطى بها ثمنا فيمنعها = ويقول صاحبه ألا تشري
ومن هذا تسمى الشراة كأنهم الذين باعوا أنفسهم من الله تعالى، وحكى قوم أنه يقال شرى بمعنى اشترى، ويحتاج إلى هذا من تأول الآية في صهيب، لأنه اشترى نفسه بماله ولم يبعها، اللهم إلا أن يقال إن عزم صهيب على قتالهم بيع لنفسه من الله تعالى فتستقيم اللفظة على معنى باع.
وتأول هذه الآية عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم في مغيري
المنكر، ولذلك قال علي وابن عباس: اقتتل الرجلان، أي قال المغير للمفسد: اتق الله، فأبى المفسد وأخذته العزة، فشرى المغير نفسه من الله تعالى وقاتله فاقتتلا.
وروي أن عمر بن الخطاب كان يجمع في يوم الجمعة شبابا من القراءة فيهم ابن عباس والحر بن قيس وغير هما فيقرؤون بين يديه ومعه، فسمع عمر ابن عباس رضي الله عنهم يقول: اقتتل الرجلان، حين قرأ هذه الآية، فسأله عما قال، ففسر له هذا التفسير، فقال له عمر: «لله تلادك يا ابن عباس».
وقال أبو هريرة وأبو أيوب حين حمل هشام بن عامر على الصف في القسطنطينية فقال قوم: ألقى بيده إلى التهلكة، ليس كما قالوا، بل هذا قول الله تعالى: ومن النّاس من يشري نفسه
الآية.
وابتغاء مفعول من أجله، ووقف حمزة على مرضات بالتاء والباقون بالهاء. قال أبو علي:
«وجه وقف حمزة بالتاء إما أنه على لغة من يقول طلحت وعلقمت، ومنه قول الشاعر: [الرجز] بل جوز تيهاء كظهر الحجفت وإما أنه لما كان المضاف إليه في ضمن اللفظة ولا بد أثبت التاء كما تثبت في الوصل ليعلم أن المضاف إليه مراد.
وقوله تعالى: واللّه رؤفٌ بالعباد ترجية تقتضي الحض على امتثال ما وقع به المدح في الآية كما في قوله تعالى: فحسبه جهنّم تخويف يقتضي التحذير مما وقع به الذم في الآية). [المحرر الوجيز: 1/502-504]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه} لمّا أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذّميمة، ذكر صفات المؤمنين الحميدة، فقال: {ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه}
قال ابن عبّاسٍ، وأنسٌ، وسعيد بن المسيّب، وأبو عثمان النّهديّ، وعكرمة، وجماعةٌ: نزلت في صهيب بن سنان الرّوميّ، وذلك أنّه لمّا أسلم بمكّة وأراد الهجرة، منعه النّاس أن يهاجر بماله، وإن أحبّ أن يتجرّد منه ويهاجر، فعل. فتخلّص منهم وأعطاهم ماله، فأنزل اللّه فيه هذه الآية، فتلقّاه عمر بن الخطّاب وجماعةٌ إلى طرف الحرّة. فقالوا: ربح البيع. فقال: وأنتم فلا أخسر اللّه تجارتكم، وما ذاك؟ فأخبروه أنّ اللّه أنزل فيه هذه الآية. ويروى أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال له: "ربح البيع صهيب، ربح البيع صهيب".
قال ابن مردويه: حدّثنا محمّد بن إبراهيم، حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن رستة، حدثنا سليمان ابن داود، حدّثنا جعفر بن سليمان الضبعي، حدّثنا عوفٌ، عن أبي عثمان النّهديّ، عن صهيبٍ قال: لمّا أردت الهجرة من مكّة إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قالت لي قريشٌ: يا صهيب، قدمت إلينا ولا مال لك، وتخرج أنت ومالك! واللّه لا يكون ذلك أبدًا. فقلت لهم: أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلّون عنّي؟ قالوا: نعم. فدفعت إليهم مالي، فخلّوا عنّي، فخرجت حتّى قدمت المدينة. فبلغ ذلك النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "ربح صهيب، ربح صهيبٌ" مرّتين.
وقال حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيد، عن سعيد بن المسيّب قال: أقبل صهيبٌ مهاجرًا نحو النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فاتّبعه نفر من قريشٍ، فنزل عن راحلته، وانتثل ما في كنانته. ثمّ قال يا معشر قريشٍ، قد علمتم أنّي من أرماكم رجلًا وأنتم واللّه لا تصلون إليّ حتّى أرمي كلّ سهمٍ في كنانتي، ثمّ أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثمّ افعلوا ما شئتم، وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكّة وخلّيتم سبيلي؟ قالوا: نعم. فلمّا قدم على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "ربح البيع، ربح البيع". قال: ونزلت: {ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه واللّه رءوفٌ بالعباد}
وأمّا الأكثرون فحملوا ذلك على أنّها نزلت في كلّ مجاهد في سبيل اللّه، كما قال تعالى: {إنّ اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون وعدًا عليه حقًّا في التّوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من اللّه فاستبشروا ببيعكم الّذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} [التّوبة: 111]. ولمّا حمل هشام بن عامرٍ بين الصّفّين، أنكر عليه بعض النّاس، فردّ عليهم عمر بن الخطّاب وأبو هريرة وغيرهما، وتلوا هذه الآية: {ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة اللّه واللّه رءوفٌ بالعباد} ). [تفسير ابن كثير: 1/564-565]



* للاستزادة ينظر: هنا