17 Sep 2014
تفسير
قول الله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ
خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ
أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا
أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ
حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ
مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
حَلِيمٌ (235) لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا
لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ
عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا
بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ
لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ
يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)}
تفسير
قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ
خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ
أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا
أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ
حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ
مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
حَلِيمٌ (235)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ : {ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النّساء أو أكننتم في أنفسكم علم اللّه أنّكم ستذكرونهنّ ولكن لا تواعدوهنّ سرّا إلّا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النّكاح حتّى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أنّ اللّه يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أنّ اللّه غفور حليم}المعنى: أنه لا جناح على الرجل أن يعرّض للمرأة التي هي في عدّة بالتزويج. والتعريض أن يقول إني فيك لراغب.
وإن قضى الله أمرا كان، وما أشبه هذا من القول.
ولا يجوز أن: يقطع أمر التزويج والمرأة لم تخرج من عدتها، ومعنى خطبة كمعنى خطب، أما خطبة فهو ماله أول وآخر نحو الرسالة، وحكي عن بعض العرب " اللهم ارفع عنا هذه الضغطة " فالضغطة ضغط له أول وآخر متصل.
ومعنى{أو أكننتم في أنفسكم}: يقال في كل شيء تستره أكننته وكننته، وأكننته فيما يستره أكثر، وما صنته تقول فيه كننته فهو مكنون.
قال اللّه عزّ وجلّ: {كأنّهنّ بيض مكنون}أي: مصون، وكل واحدة منهما قريبة من الأخرى.
وقوله عزّ وجلّ: {ولكن لا تواعدوهنّ سرّا}.
قال أبو عبيدة: السّر الإفصاح بالنكاح وأنشد:
ويحرم سرّ جارتهم عليهم... ويأكل جارهم أنف القصاع
وقال غيره: كأن السّر كناية عن الجماع - كما أن الغائط كناية عن الموضع وهذا القول عندي صحيح.
وقوله عزّ وجلّ: {ولا تعزموا عقدة النّكاح} معناه: لا تعزموا على عقد النكاح، وحذف " على " استخفافا كما تقول: ضرب زيد الظهر والبطن، معناه على الظهر والبطن،
وقال سيبويه: إن الحذف في هذه الأشياء لا يقاس.
وقوله عزّ وجلّ: {حتّى يبلغ الكتاب أجله} فعناه: حتى يبلغ فرض الكتاب أجله،
ويجوز أن يكون: الكتاب نفسه في معنى الفرض، فيكون المعنى حتى يبلغ الفرض أجله - كما قال: عزّ وجلّ: (كتب عليكم الصّيام)أي: فرض عليكم، وإنّما جاز أن يقع {كتب} في معنى فرض، لأن ما يكتب يقع في النفوس أنه ثبت، ومعنى هذا الفرض الذي يبلغ أجله أيام عدة المطلقة والمتوفي عنها زوجها). [معاني القرآن: 1/317-318]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
عز وجل: ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النّساء أو أكننتم في
أنفسكم علم اللّه أنّكم ستذكرونهنّ ولكن لا تواعدوهنّ سرًّا إلاّ أن تقولوا
قولاً معروفاً تفسير
قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا
لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ
عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا
بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {لا
جناح عليكم إن طلّقتم النّساء ما لم تمسّوهنّ أو تفرضوا لهنّ فريضة
ومتّعوهنّ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقّا على
المحسنين} فقد
أعلم الله في هذه الآية أن عقد التزويج بغير مهر جائز، وأنه لا إثم على من
طلق من تزوج بها من غير مهر كما أنه لا إثم على من طلق من تزوج بمهر، وأمر
بأن تمتع المتزوج بها بغير مهر إذا طلقت ولم يدخل بها فقال الله عزّ وجلّ:
{ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره}. و{قدره}،
يقرآن جميعا، فقالوا إن التمتّع يكون بأشياء بأن تخدم المرأة وبأن تكسى،
وبأن تعطى ما تنفقه، أيّ ذلك فعل يمتع، فذلك جائز له على قدر إمكانه. وقوله عزّ وجلّ: {متاعا بالمعروف}أي: بما تعرفون أنه القصد وقدر الإمكان، ويجوز أن يكون نصب {متاعا بالمعروف}، على قوله: ومتعوهن متاعا، يجوز أن يكون: منصوبا على الخروج من قوله: على الموسع قدره متاعا أي ممتّعا متاعا. وقوله عزّ وجلّ: {حقا على المحسنين}. منصوب على حق ذلك عليهم حقا، كما يقال حققت عليه القضاء وأحققته، أي أوجبته). [معاني القرآن: 1/318-319] تفسير
قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ
وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ
يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ
تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ
اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)} قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:
{وإن طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضة فنصف ما فرضتم
إلّا أن يعفون أو يعفو الّذي بيده عقدة النّكاح وأن تعفوا أقرب للتّقوى ولا
تنسوا الفضل بينكم إنّ اللّه بما تعملون بصير}أي: فعليكم نصف ما فرضتم، ويجوز النصب - {فنصف ما فرضتم}. المعنى: فأدّوا نصف ما فرضتم، ولا أعلم أحدا قرأ بها فإن لم تثبت بها رواية فلا تقرأنّ بها. وقوله عزّ وجلّ: {إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النّكاح}المعنى: إلا أن يعفو النساء أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح، وهو الزوج أو الولي إذا كان أبا. ومعنى عفو المرأة: - أن تعفو عن النصف المواجب لها من المهر فتتركه للزوج، أو يعفو الزوج عن النصف فيعطيها الكل. وموضع {أن يعفون} نصب بأن، إلا أن جماعة المؤنث في الفعل المضارع تستوي في الرفع والنصب، والجزم، وقد بيّنّا ذلك فيما سلف من الكتاب. وقوله عزّ وجلّ: {وأن تعفوا أقرب للتّقوى ولا تنسوا الفضل بينكم}. ظاهر
هذا الخطاب للرجال خاصة دون النساء، وهو محتمل أن يكون للفريقين لأن
الخطاب إذا وقع على مذكرين ومؤنثين غلب التذكير لأن الأول أمكن. والأجود في قوله: {ولا تنسوا الفضل بينكم} الضم. ويجوز {ولا تنسوا الفضل بينكم} - وقد شرحنا العلة فيه). [معاني القرآن: 1/319-320]
المخاطبة بهذه الآية
لجميع الناس، والمباشر لحكمها هو الرجل الذي في نفسه تزويج معتدة، والتعريض
هو الكلام الذي لا تصريح فيه كأنه يعرض لفكر المتكلم به، وأجمعت الأمة على
أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزويجها وتنبيه عليه لا يجوز، وكذلك
أجمعت على أن الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز.
وجوز ما عدا ذلك، ومن أعظمه قربا إلى التصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم
لفاطمة بنت قيس: «كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك». ومن المجوز قول
الرجل: إنك لإلى خير، وإنك لمرغوب فيك، وإني لأرجو أن أتزوجك، وإن يقدر أمر
يكن، هذا هو تمثيل مالك وابن شهاب وكثير من أهل العلم في هذا، وجائز أن
يمدح نفسه ويذكر مآثره على جهة التعريض بالزواج، وقد فعله أبو جعفر محمد بن
علي بن حسين، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله مع أم سلمة،
والهدية إلى المعتدة جائزة، وهي من التعريض، قاله سحنون وكثير من العلماء.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: وقد كره مجاهد أن يقول لا تسبقيني بنفسك، ورآه من المواعدة سرا،
وهذا عندي على أن يتأول قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس إنه
على جهة الرأي لها فيمن يتزوجها لا أنه أرادها لنفسه، وإلا فهو خلاف لقوله
صلى الله عليه وسلم، والخطبة بكسر الخاء فعل الخاطب من كلام وقصد واستلطاف
بفعل أو قول، يقال خطبها يخطبها خطبا وخطبة ورجل خطّاب كثير التصرف في
الخطبة، ومنه قول الشاعر: [الرجز]
برح بالعينين خطّاب الكثب = يقول إني خاطب وقد كذب
وإنما يخطب عسا من
حلب والخطبة «فعلة» كجلسة «وقعدة»، والخطبة بضم الخاء هي الكلام الذي يقال
في النكاح وغيره، أو أكننتم معناه سترتم وأخفيتم، تقول العرب: كننت الشيء
من الأجرام، إذا سترته في بيت أو ثوب أو أرض ونحوه، وأكننت الأمر في نفسي،
ولم يسمع من العرب كننته في نفسي، وتقول أكن البيت الإنسان ونحو هذا، فرفع
الله الجناح عمن أراد تزوج المعتدة مع التعريض ومع الإكنان، ونهى عن
المواعدة التي هي تصريح بالتزويج وبناء عليه واتفاق على وعد، فرخص لعلمه
تعالى بغلبة النفوس وطمحانها وضعف البشر عن ملكها، وقوله تعالى ستذكرونهنّ،
قال الحسن: معناه ستخطبونهن.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: كأنه قال إن لم تنهوا، وقال غير الحسن: معناه علم الله أنكم
ستذكرون النساء المعتدات في نفوسكم وبألسنتكم لمن يخف عندكم فنهى عن أن
يوصل إلى التواعد معها لما في ذلك من هتك حرمة العدة، وقوله تعالى: ولكن لا
تواعدوهنّ سرًّا ذهب ابن عباس وابن جبير ومالك وأصحابه والشعبي ومجاهد
وعكرمة والسدي وجمهور أهل العلم إلى أن المعنى لا توافقوهن بالمواعدة
والتوثق وأخذ العهود في استسرار منكم وخفية، ف سرًّا على هذا التأويل نصب
على الحال أي مستسرين. وقال جابر بن زيد وأبو مجلز لاحق بن حميد والحسن بن
أبي الحسن والضحاك وإبراهيم النخعي: السر في هذه الآية الزنا أي لا
تواعدوهن زنى.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: هكذا جاءت عبارة هؤلاء في تفسير السر وفي ذلك عندي نظر، وذلك أن
السر في اللغة يقع على الوطء حلاله وحرامه، لكن معنى الكلام وقرينته ترد
إلى أحد الوجهين، فمن الشواهد قول الحطيئة: [الوافر]
ويحرم سرّ جارتهم عليهم = ويأكل جارهم أنف القصاع
فقرينة هذا البيت
تعطي أن السر أراد به الوطء حراما، وإلا فلو تزوجت الجارة كما يحسن لم يكن
في ذلك عار، ومن الشواهد قول الآخر: [الطويل]
أخالتنا سرّ النّساء محرّم = عليّ، وتشهاد النّدامى مع الخمر
لئن لم أصبّح داهنا ولفيفها = وناعبها يوما براغية البكر
فقرينة هذا الشعر
تعطي أنه أراد تحريم جماع النساء عموما في حرام وحلال حتى ينال ثأره،
والآية تعطي النهي عن أن يواعد الرجل المعتدة أن يطأها بعد العدة بوجه
التزويج، وأما المواعدة في الزنى فمحرم على المسلم مع معتدة وغيرها، وحكى
مكي عن ابن جبير أنه قال: «سرا: نكاحا»، وهذه عبارة مخلصة، وقال ابن زيد:
«معنى قوله ولكن لا تواعدوهنّ سرًّا أي لا تنكحوهن وتكتمون ذلك فإذا حلت
أظهر تموه ودخلتم بهن».
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: فابن زيد في معنى السر مع القول الأول أي خفية، وإنما شذ في أن
سمى العقد مواعدة، وذلك قلق لأن العقد متى وقع وإن تكتم به فإنما هو في عزم
العقدة، وحكى مكي عنه أنه قال: «الآية منسوخة بقوله: ولا تعزموا عقدة
النّكاح وأجمعت الأمة على كراهية المواعدة في العدة للمرأة في نفسها، وللأب
في ابنته البكر، وللسيد في أمته، قال ابن المواز: «فأما الولي الذي لا
يملك الجبر فأكرهه، وإن نزل لم أفسخه»، وقال مالك رحمه الله فيمن يواعد في
العدة ثم يتزوج بعدها: «فراقها أحب إليّ دخل بها أو لم يدخل وتكون تطليقة
واحدة، فإذا حلت خطبها مع الخطاب»، هذه رواية ابن وهب، وروى أشهب عن مالك
أنه يفرق بينهما إيجابا، وقاله ابن القاسم، وحكى ابن حارث مثله عن ابن
الماجشون، وزاد ما يقتضي أن التحريم يتأبد، وقوله تعالى: إلّا أن تقولوا
قولًا معروفاً استثناء منقطع، والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض، وقد
ذكر الضحاك أن من القول المعروف أن يقول الرجل للمعتدة احبسي عليّ نفسك فإن
لي بك رغبة، فتقول هي وأنا مثل ذلك.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه عندي مواعدة، وإنما التعريض قول الرجل: إنكم لأكفاء كرام، وما قدر كان، وإنك لمعجبة، ونحو هذا.
قوله عز وجل: ولا
تعزموا عقدة النّكاح حتّى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أنّ اللّه يعلم ما في
أنفسكم فاحذروه واعلموا أنّ اللّه غفورٌ حليمٌ (235)
عزم العقدة عقدها
بالإشهاد والولي، وحينئذ تسمى عقدة، وقوله تعالى: حتّى يبلغ الكتاب أجله
يريد تمام العدة، والكتاب هنا هو الحد الذي جعل والقدر الذي رسم من المدة،
سماه كتابا إذ قد حده وفرضه كتاب الله، كما قال: كتاب اللّه عليكم [النساء:
24]، وكما قال: إنّ الصّلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً [النساء:
103]، ولا يحتاج عندي في الكلام إلى حذف مضاف، وقد قدر أبو إسحاق في ذلك
حذف مضاف أي فرض الكتاب، وهذا على أن جعل الكتاب القرآن، واختلف أهل العلم
إن خالف أحد هذا النهي وعزم العقدة قبل بلوغ الأجل.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: وأنا أفصل المسألة إن شاء الله تعالى، أما إن عقد في العدة وعثر
عليه ففسخ الحاكم نكاحه وذلك قبل الدخول: فقول عمر بن الخطاب وجماعة من
العلماء إن ذلك لا يؤبد تحريما، وقاله مالك وابن القاسم في المدونة في آخر
الباب الذي يليه ضرب أجل امرأة المفقود، وقال الجميع: يكون خاطبا من
الخطّاب، وحكى ابن الجلاب عن مالك رواية أن التحريم يتأبد في العقد في
العدة وإن فسخ قبل الدخول، وأما إن عقد في العدة ودخل بعد انقضائها فقال
قوم من أهل العلم: ذلك كالدخول في العدة يتأبد التحريم بينهما، وقال قوم من
أهل العلم: لا يتأبد بذلك تحريم، وقال مالك مرة: يتأبد التحريم، وقال مرة:
وما التحريم بذلك بالبين، والقولان له في المدونة في طلاق السنة، وأما إن
دخل في العدة فقول عمر بن الخطاب ومالك وجماعة من أصحابه والأوزاعي والليث
وغيرهم من أهل العلم: إن التحريم يتأبد، وقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وابن مسعود وإبراهيم وأبي حنيفة والشافعي وجماعة من العلماء وعبد العزيز
بن أبي سلمة: إن التحريم لا يتأبد وإن وطئ في العدة، بل يفسخ بينهما ثم
تعتد منه ثم يكون خاطبا من الخطاب، قال أبو حنيفة والشافعي: تعتد من الأول
فإذا انقضت العدة فلا بأس أن يتزوجها الآخر، وحكى ابن الجلاب رواية في
المذهب أن التحريم لا يتأبد مع الدخول في العدة، ذكرها في العالم بالتحريم
المجترئ لأنه زان، وأما الجاهل فلا أعرف فيها خلافا في المذهب.
حدثني أبو علي الحسين
بن محمد الغساني مناولة، قال نا أبو عمر بن عبد البر، نا عبد الوارث بن
سفيان، نا قاسم بن أصبغ، عن محمد بن إسماعيل، عن نعيم بن حماد، عن ابن
المبارك، عن أشعث، عن الشعبي، عن مسروق، قال: بلغ عمر بن الخطاب أن امرأة
من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها، فأرسل إليهما ففرق بينهما وعاقبهما،
وقال: «لا تنكحها أبدا». وجعل صداقها في بيت المال، وفشا ذلك في الناس،
فبلغ عليا فقال: «يرحم الله أمير المؤمنين، ما بال الصداق وبيت المال؟ إنما
جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة»، قيل: فما تقول أنت فيها؟.
قال: لها الصداق بما
استحل من فرجها، ويفرق بينهما، ولا حد عليهما، وتكمل عدتها من الأول، ثم
تعتد من الثاني عدة كاملة ثلاثة أقراء، ثم يخطبها إن شاء»، فبلغ ذلك عمر بن
الخطاب فخطب الناس فقال: «يا أيها الناس ردوا الجهالات إلى السنة»، وهذا
قول الشافعي والليث في العدة من اثنين، وقال مالك وأصحاب الرأي والأوزاعي
والثوري: عدة واحدة تكفيهما جميعا سواء كانت بالحمل أو بالإقراء أو
بالأشهر، وروى المدنيون عن مالك مثل قول علي بن أبي طالب والشافعي في إكمال
العدتين، واختلف قول مالك رحمه الله في الذي يدخل في العدة عالما بالتحريم
مجترما، فمرة قال: العالم والجاهل فيه سواء لا حد عليه، والصداق له لازم،
والولد لاحق، ويعاقبان ولا يتناكحان أبدا، ومرة قال: العالم بالتحريم
كالزاني يحد، ولا يلحق به الولد، وينكحها بعد الاستبراء، والقول الأول أشهر
عن مالك رحمه الله.
وقوله تعالى واعلموا
إلى آخر الآية: تحذير من الوقوع فيما نهى عنه، وتوقيف على غفره وحلمه في
هذه الأحكام التي بيّن ووسّع فيها من إباحة التعريض ونحوه). [المحرر الوجيز: 1/580-588]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولا
جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النّساء أو أكننتم في أنفسكم علم اللّه
أنّكم ستذكرونهنّ ولكن لا تواعدوهنّ سرًّا إلا أن تقولوا قولا معروفًا ولا
تعزموا عقدة النّكاح حتّى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أنّ اللّه يعلم ما في
أنفسكم فاحذروه واعلموا أنّ اللّه غفورٌ حليمٌ (235)}
يقول تعالى: {ولا
جناح عليكم} أن تعرّضوا بخطبة النّساء في عدّتهنّ من وفاة أزواجهنّ من غير
تصريحٍ. قال الثّوريّ وشعبة وجريرٌ وغيرهم، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن
عبّاسٍ في قوله: {ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النّساء} قال:
التّعريض أن تقول: إنّي أريد التّزويج، وإنّي أحبّ امرأةً من أمرها ومن
أمرها -يعرّض لها بالقول بالمعروف -وفي روايةٍ: وددت أنّ اللّه رزقني
امرأةً ونحو هذا. ولا ينصب للخطبة. وفي روايةٍ: إنّي لا أريد أن أتزوّج
غيرك إن شاء اللّه، ولوددت أنّي وجدت امرأةً صالحٍةً، ولا ينصب لها ما دامت
في عدّتها. ورواه البخاريّ تعليقًا، فقال: قال لي طلق بن غنّام، عن زائدة،
عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ: {ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من
خطبة النّساء} هو أن يقول: إنّي أريد التّزويج، وإنّ النّساء لمن حاجتي،
ولوددت أنّه تيسّر لي امرأةٌ صالحٍةٌ.
وهكذا قال مجاهدٌ،
وطاوسٌ، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، والشّعبيّ، والحسن،
وقتادة، والزّهريّ، ويزيد بن قسيط، ومقاتل بن حيّان، والقاسم بن محمّدٍ،
وغير واحدٍ من السّلف والأئمّة في التّعريض: أنّه يجوز للمتوفّى عنها زوجها
من غير تصريحٍ لها بالخطبة. وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التّعريض
لها، كما قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لفاطمة بنت قيسٍ، حين طلّقها
زوجها أبو عمرو بن حفص: آخر ثلاث تطليقاتٍ. فأمرها أن تعتدّ في بيت ابن أمّ
مكتومٍ، وقال لها: "فإذا حللت فآذنيني". فلمّا حلّت خطب عليها أسامة بن
زيدٍ مولاه، فزوّجها إيّاه.
فأمّا المطلّقة الرّجعيّة: فلا خلاف في أنّه لا يجوز لغير زوجها التّصريح بخطبتها ولا التّعريض لها، واللّه أعلم.
وقوله: {أو أكننتم في
أنفسكم} أي: أضمرتم في أنفسكم خطبتهنّ وهذا كقوله تعالى: {وربّك يعلم ما
تكنّ صدورهم وما يعلنون} [القصص:69] وكقوله: {وأنا أعلم بما أخفيتم وما
أعلنتم} [المتحنة:1] ولهذا قال: {علم اللّه أنّكم ستذكرونهنّ} أي: في
أنفسكم، فرفع الحرج عنكم في ذلك، ثمّ قال: {ولكن لا تواعدوهنّ سرًّا} قال
أبو مجلز، وأبو الشّعثاء -جابر بن زيدٍ -والحسن البصريّ، وإبراهيم النّخعيّ
وقتادة، والضّحّاك، والرّبيع بن أنسٍ، وسليمان التّيميّ، ومقاتل بن حيّان،
والسّدّيّ: يعني الزّنا. وهو معنى رواية العوفي عن ابن عباس، واختاره ابن
جرير.
وقال عليّ بن أبي
طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {ولكن لا تواعدوهنّ سرًّا} لا تقل لها: إنّي عاشقٌ،
وعاهديني ألّا تتزوّجي غيري، ونحو هذا. وكذا روي عن سعيد بن جبير،
والشّعبيّ، وعكرمة، وأبي الضّحى، والضّحّاك، والزّهريّ، ومجاهدٍ،
والثّوريّ: هو أن يأخذ ميثاقها ألّا تتزوّج غيره، وعن مجاهدٍ: هو قول
الرّجل للمرأة: لا تفوتيني بنفسك، فإنّي ناكحك.
وقال قتادة: هو أن يأخذ عهد المرأة، وهي في عدّتها ألّا تنكح غيره، فنهى اللّه عن ذلك وقدّم فيه، وأحلّ الخطبة والقول بالمعروف.
وقال ابن زيدٍ: {ولكن لا تواعدوهنّ سرًّا} هو أن يتزوّجها في العدّة سرًّا، فإذا حلّت أظهر ذلك.
وقد يحتمل أن تكون
الآية عامّةً في جميع ذلك؛ ولهذا قال: {إلا أن تقولوا قولا معروفًا} قال
ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ وسعيد بن جبيرٍ، والسّدّيّ، والثّوريّ، وابن زيدٍ:
يعني به: ما تقدّم من إباحة التّعريض. كقوله: إنّي فيك لراغبٌ. ونحو ذلك.
وقال محمّد بن سيرين:
قلت لعبيدة: ما معنى قوله: {إلا أن تقولوا قولا معروفًا}؟ قال: يقول
لوليّها: لا تسبقني بها، يعني: لا تزوّجها حتّى تعلمني. رواه ابن أبي
حاتمٍ.
وقوله: {ولا تعزموا
عقدة النّكاح حتّى يبلغ الكتاب أجله} يعني: ولا تعقدوا العقد بالنّكاح حتّى
تنقضي العدّة. قال ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، والشّعبيّ، وقتادة، والرّبيع بن
أنسٍ، وأبو مالكٍ، وزيد بن أسلم، ومقاتل بن حيّان، والزّهريّ، وعطاءٌ
الخراسانيّ، والسّدّيّ، والثّوريّ، والضّحّاك: {حتّى يبلغ الكتاب أجله}
يعني: حتّى تنقضي العدّة.
وقد أجمع العلماء على
أنّه لا يصحّ العقد في مدّة العدّة. واختلفوا فيمن تزوّج امرأةً في عدّتها
فدخل بها، فإنّه يفرّق بينهما، وهل تحرم عليه أبدًا؟ على قولين: الجمهور
على أنّها لا تحرم عليه، بل له أن يخطبها إذا انقضت عدّتها. وذهب الإمام
مالكٌ إلى أنّها تحرم عليه على التّأبيد. واحتجّ في ذلك بما رواه عن ابن
شهابٍ، وسليمان بن يسارٍ: أنّ عمر، رضي اللّه عنه، قال: أيّما امرأةٍ نكحت
في عدّتها، فإنّ زوجها الّذي تزوّجها لم يدخل بها، فرّق بينهما، ثمّ اعتدّت
بقيّة عدّتها من زوجها الأوّل، ثمّ كان الآخر خاطبًا من الخطّاب، وإن كان
دخل بها فرّق بينهما، ثمّ اعتدّت بقيّة عدّتها من الأوّل ثمّ اعتدّت من
الآخر، ثمّ لم ينكحها أبدًا.
قالوا: ومأخذ هذا:
أنّ الزّوج لمّا استعجل ما أجّل اللّه، عوقب بنقيض قصده، فحرمت عليه على
التّأبيد، كالقاتل يحرم الميراث. وقد روى الشّافعيّ هذا الأثر عن مالكٍ.
قال البيهقيّ: وذهب إليه في القديم ورجع عنه في الجديد، لقول عليٍّ: إنّها
تحلّ له.
قلت: ثمّ هو منقطعٌ عن عمر. وقد روى الثّوريّ، عن أشعث، عن الشعبي، عن مسروق: أنّ عمر رجع عن ذلك وجعل لها مهرها، وجعلهما يجتمعان.
وقوله: {واعلموا أنّ
اللّه يعلم ما في أنفسكم فاحذروه} توعّدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور
النّساء، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشّرّ، ثمّ لم يؤيسهم من رحمته، ولم
يقنطهم من عائدته، فقال: {واعلموا أنّ اللّه غفورٌ حليمٌ}). [تفسير ابن كثير: 1/638-641]
هذا ابتداء إخبار
برفع الجناح عن المطلق قبل البناء والجماع، فرض مهرا أو لم يفرض، ولما نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التزوج لمعنى الذوق وقضاء الشهوة وأمر
بالتزوج طلبا للعصمة والتماس ثواب الله وقصد دوام الصحبة وقع في نفوس
المؤمنين أن من طلق قبل البناء قد واقع جزءا من هذا المكروه، فنزلت الآية
رافعة للجناح في ذلك إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن، وقال قوم: لا
جناح عليكم معناه لا طلب بجميع المهر بل عليكم نصف المفروض لمن فرض لها
والمتعة لمن لم يفرض لها، وقال قوم: لا جناح عليكم معناه في أن ترسلوا
الطلاق في وقت حيض بخلاف المدخول بها، وقال مكي: «المعنى لا جناح عليكم في
الطلاق قبل البناء لأنه قد يقع الجناح على المطلق بعد أن كان قاصدا للذوق،
وذلك مأمون قبل المسيس»، والخطاب بالآية لجميع الناس، وقرأ أبو عمرو وابن
كثير ونافع وعاصم وابن عامر «تمسوهن» بغير ألف، وقرأ الكسائي وحمزة
«تماسوهن» بألف وضم التاء، وهذه القراءة الأخيرة تعطي المس من الزوجين،
والقراءة الأولى تقتضي ذلك بالمعنى المفهوم من المس، ورجحها أبو علي لأن
أفعال هذا المعنى جاءت ثلاثية على هذا الوزن: نكح وسفد وقرع وذقط وضرب
الفحل، والقراءتان حسنتان، وتفرضوا عطف على «تمسوا»، وفرض المهر إثباته
وتحديده، وهذه الآية تعطي جواز العقد على التفويض لأنه نكاح مقرر في الآية
مبين حكم الطلاق فيه، قاله مالك في المدونة، والفريضة الصداق، وقوله تعالى
ومتّعوهنّ معناه أعطوهن شيئا يكون متاعا لهن، وحمله ابن عمر وعلي بن أبي
طالب والحسن بن أبي الحسن وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك
بن مزاحم على الوجوب، وحمله أبو عبيد ومالك بن أنس وأصحابه وشريح وغيرهم
على الندب، ثم اختلفوا في الضمير المتصل ب «متعوا» من المراد به من
النساء؟، فقال ابن عباس وابن عمر وعطاء وجابر بن زيد والحسن والشافعي وأحمد
وإسحاق وأصحاب الرأي: المتعة واجبة للمطلقة قبل البناء والفرض، ومندوبة في
غيرها، وقال مالك وأصحابه: المتعة مندوب إليها في كل مطلقة وإن دخل بها
إلا في التي لم يدخل بها وقد فرض لها، فحسبها ما فرض لها، ولا متعة لها،
وقال أبو ثور: لها المتعة ولكل مطلقة، وأجمع أهل العلم على أن التي لم يفرض
لها ولم يدخل بها لا شيء لها غير المتعة، فقال الزهري: يقضي لها بها
القاضي، وقال جمهور الناس: لا يقضي بها، قاله شريح، ويقال للزوج: إن كنت من
المتقين والمحسنين فمتع ولم يقض عليه.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: وهذا مع إطلاق لفظ الوجوب عند بعضهم، وأما ربط مذهب مالك فقال
ابن شعبان: المتعة بإزاء غم الطلاق ولذلك ليس للمختلعة والمبارئة والملاعنة
متعة، وقال الترمذي وعطاء والنخعي: للمختلعة متعة، وقال أصحاب الرأي:
للملاعنة متعة، قال ابن القاسم: ولا متعة في نكاح مفسوخ، قال ابن المواز:
ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد مثل ملك أحد الزوجين صاحبه، وروى ابن
وهب عن مالك أن المخيرة لها المتعة بخلاف الأمة تعتق تحت العبد فتختار،
فهذه لا متعة لها، وأما الحرة تخير أو تملك أو يتزوج عليها أمة فتختار هي
نفسها في ذاك كله فلها المتعة، لأن الزوج سبب الفراق، وعليها هي غضاضة في
أن لا تختار نفسها.
واختلف الناس في
مقدار المتعة، فقال ابن عمر: «أدنى ما يجزىء في المتعة ثلاثون درهما أو
شبهها»، وروي أن ابن حجيرة كان يقضي على صاحب الديوان بثلاثة دنانير، وقال
ابن عباس: «أرفع المتعة خادم ثم كسوة ثم نفقة»، وقال عطاء: «من أوسط ذلك
درع وخمار وملحفة»، وقال الحسن: «يمتع كل على قدره: هذا بخادم، وهذا
بأثواب، وهذا بثوب وهذا بنفقة»، وكذلك يقول مالك بن أنس، ومتع الحسن بن علي
بعشرين ألفا وزقاق من عسل، ومتع شريح بخمسمائة درهم، وقالت أم حميد بن عبد
الرحمن بن عوف: «كأني أنظر إلى خادم سوداء متع بها عبد الرحمن بن عوف زوجه
أم أبي سلمة»، وقال أصحاب الرأي وغيرهم: متعة التي تطلق قبل الدخول والفرض
نصف مهر مثلها لا غير، وقوله تعالى على الموسع قدره وعلى المقتر قدره دليل
على رفض التحديد، وقرأ الجمهور «على الموسع» بسكون الواو وكسر السين بمعنى
الذي أوسع أي اتسعت حاله، وقرأ أو حيوة: «الموسّع» بفتح الواو وشد السين
وفتحها، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر «قدره»
بسكون الدال في الموضعين، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص
«قدره» بفتح الدال فيهما، قال أبو الحسن الأخفش وغيره: هما بمعنى لغتان
فصيحتان، وكذلك حكى أبو زيد، تقول: خذ قدر كذا وقدر كذا بمعنى، ويقرأ في
كتاب الله فسالت أوديةٌ بقدرها [الرعد: 17] وقدرها، وقال: وما قدروا اللّه
حقّ قدره [الأنعام: 91]، ولو حركت الدال لكان جائزا، والمقتر: المقل القليل
المال، ومتاعاً نصب على المصدر وقوله تعالى بالمعروف أي لا حمل فيه ولا
تكلف على أحد الجانبين، فهو تأكيد لمعنى قوله على الموسع قدره وعلى المقتر
قدره، ثم أكد تعالى الندب بقوله حقًّا على المحسنين أي في هذه النازلة من
التمتيع هم محسنون، ومن قال بأن المتعة واجبة قال: هذا تأكيد الوجوب، أي
على المحسنين بالإيمان والإسلام، فليس لأحد أن يقول لست بمحسن على هذا
التأويل، وحقًّا صفة لقوله متاعاً، أو نصب على المصدر وذلك أدخل في التأكيد
للأمر). [المحرر الوجيز: 1/589-593]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({لا
جناح عليكم إن طلّقتم النّساء ما لم تمسّوهنّ أو تفرضوا لهنّ فريضةً
ومتّعوهنّ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعًا بالمعروف حقًّا على
المحسنين (236)}
أباح تبارك وتعالى
طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدّخول بها. قال ابن عبّاسٍ، وطاوسٌ،
وإبراهيم، والحسن البصريّ: المسّ: النّكاح. بل ويجوز أن يطلّقها قبل
الدّخول بها، والفرض لها إن كانت مفوّضةً، وإن كان في هذا انكسارٌ لقلبها؛
ولهذا أمر تعالى بإمتاعها، وهو تعويضها عمّا فاتها بشيءٍ تعطاه من زوجها
بحسب حاله، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره.
وقال سفيان الثّوريّ،
عن إسماعيل بن أمّيّة، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: متعة الطّلاق أعلاه
الخادم، ودون ذلك الورق، ودون ذلك الكسوة.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: إن كان موسرًا متّعها بخادمٍ، أو شبه ذلك، وإن كان معسرًا أمتعها بثلاثة أثوابٍ.
وقال الشّعبيّ: أوسط
ذلك: درعٌ وخمارٌ وملحفةٌ وجلبابٌ. قال: وكان شريحٌ يمتّع بخمسمائةٍ. وقال
عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن أيّوب، عن ابن سيرين قال: كان يمتع بالخادم،
أو بالنّفقة، أو بالكسوة، قال: ومتّع الحسن بن عليٍّ بعشرة آلافٍ ويروى
أنّ المرأة قالت:
متاعٌ قليلٌ من حبيبٍ مفارق
وذهب أبو حنيفة، رحمه
اللّه، إلى أنّه متى تنازع الزّوجان في مقدار المتعة وجب لها عليه نصف مهر
مثلها. وقال الشّافعيّ في الجديد: لا يجبر الزّوج على قدرٍ معلومٍ، إلّا
على أقلّ ما يقع عليه اسم المتعة، وأحبّ ذلك إليّ أن يكون أقلّه ما تجزئ
فيه الصّلاة. وقال في القديم: لا أعرف في المتعة قدرًا إلّا أنّي أستحسن
ثلاثين درهمًا؛ لما روي عن ابن عمر، رضي اللّه عنهما.
وقد اختلف العلماء أيضًا: هل تجب المتعة لكلّ مطلّقةٍ، أو إنّما تجب المتعة لغير المدخول بها الّتي لم يفرض لها؟ على أقوالٍ:
أحدها: أنّه تجب
المتعة لكلّ مطلّقةٍ، لعموم قوله تعالى: {وللمطلّقات متاعٌ بالمعروف حقًّا
على المتّقين} [البقرة:241] ولقوله تعالى: {يا أيّها النّبيّ قل لأزواجك إن
كنتنّ تردن الحياة الدّنيا وزينتها فتعالين أمتّعكنّ وأسرّحكنّ سراحًا
جميلا} [الأحزاب:28] وقد كن مفروضا لهن ومدخولا بهن، وهذا قول سعيد بن
جبير، وأبي العالية، والحسن البصريّ. وهو أحد قولي الشّافعيّ، ومنهم من
جعله الجديد الصّحيح، فاللّه أعلم.
والقول الثّاني:
أنّها تجب للمطلّقة إذا طلّقت قبل المسيس، وإن كانت مفروضًا لها لقوله
تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثمّ طلّقتموهنّ من قبل
أن تمسّوهنّ فما لكم عليهنّ من عدّةٍ تعتدّونها فمتّعوهنّ وسرّحوهنّ سراحًا
جميلا} [الأحزاب:49] قال شعبة وغيره، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب قال:
نسخت هذه الآية الّتي في الأحزاب الآية الّتي في البقرة.
وقد روى البخاريّ في
صحيحه، عن سهل بن سعدٍ، وأبي أسيد أنّهما قالا تزوّج رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم أميمة بنت شراحيل، فلمّا أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنّما
كرهت ذلك، فأمر أبا أسيدٍ أن يجهّزها ويكسوها ثوبين رازقيّين .
والقول الثّالث: أنّ
المتعة إنّما تجب للمطلّقة إذا لم يدخل بها، ولم يفرض لها، فإن كان قد دخل
بها وجب لها مهر مثلها إذا كانت مفوّضةً، وإن كان قد فرض لها وطلّقها قبل
الدّخول، وجب لها عليه شطره، فإن دخل بها استقرّ الجميع، وكان ذلك عوضًا
لها عن المتعة، وإنّما المصابة الّتي لم يفرض لها ولم يدخل بها فهذه الّتي
دلّت هذه الآية الكريمة على وجوب متعتها. وهذا قول ابن عمر، ومجاهدٍ. ومن
العلماء: من استحبّها لكلّ مطلّقةٍ ممّن عدا المفوّضة المفارقة قبل
الدّخول: وهذا ليس بمنكورٍ وعليه تحمل آية التّخيير في الأحزاب؛ ولهذا قال
تعالى: {وللمطلّقات متاعٌ بالمعروف حقًّا على المتّقين} [البقرة:241].
ومن العلماء من يقول:
إنّها مستحبّةٌ مطلقًا. قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا كثير بن شهابٍ
القزوينيّ، حدّثنا محمّد بن سعيد بن سابقٍ، حدّثنا عمرو -يعني ابن أبي قيسٍ
-عن أبي إسحاق، عن الشّعبيّ قال: ذكروا له المتعة، أيحبس فيها؟ فقرأ: {على
الموسع قدره وعلى المقتر قدره} قال الشّعبيّ: واللّه ما رأيت أحدًا حبس
فيها، واللّه لو كانت واجبةً لحبس فيها القضاة). [تفسير ابن كثير: 1/641-642]
اختلف الناس في هذه
الآية، فقالت فرقة فيها مالك وغيره: إنها مخرجة المطلقة بعد الفرض من حكم
التمتيع، إذ يتناولها قوله تعالى: ومتّعوهنّ، وقال ابن المسيب: نسخت هذه
الآية الآية التي في الأحزاب، لأن تلك تضمنت تمتيع كل من لم يدخل بها. وقال
قتادة: نسخت هذه الآية الآية التي قبلها.
وقال ابن القاسم في
المدونة: كان المتاع لكل مطلقة بقوله تعالى وللمطلّقات متاعٌ بالمعروف
[البقرة: 241] ولغير المدخول بها بالآية التي في سورة الأحزاب، الآية: 49
فاستثنى الله المفروض لها قبل الدخول بهذه الآية، وأثبت للمفروض لها نصف ما
فرض فقط، وزعم زيد بن أسلم أنها منسوخة بهذه الآية، حكى ذلك في المدونة عن
زيد بن أسلم زعما، وقال ابن القاسم: إنه استثناء، والتحرير برد ذلك إلى
النسخ الذي قال زيد، لأن ابن القاسم قال: إن قوله تعالى وللمطلّقات متاعٌ
[البقرة: 241] عم الجميع، ثم استثنى الله منه هذه التي فرض لها قبل المسيس،
وقال فريق من العلماء منهم أبو ثور: المتعة لكل مطلقة عموما، وهذه الآية
إنما بينت أن المفروض لها تأخذ نصف ما فرض، ولم تعن الآية لإسقاط متعتها بل
لها المتعة ونصف المفروض، وقرأ الجمهور «فنصف» بالرفع، والمعنى فالواجب
نصف ما فرضتم، وقرأت فرقة «فنصف» بنصب الفاء، المعنى فادفعوا نصف، وقرأ علي
بن أبي طالب وزيد بن ثابت «فنصف» بضم النون في جميع القرآن، وهي لغة،
وكذلك روى الأصمعي قراءة عن أبي عمرو بن العلاء، وقوله تعالى إلّا أن يعفون
استثناء منقطع لأن عفوهن عن النصف ليس من جنس أخذهن، ويعفون معناه يتركن
ويصفحن، وزنه يفعلن، والمعنى إلا أن يتركن النصف الذي وجب لهن عند الزوج،
والعافيات في هذه الآية كل امرأة تملك أمر نفسها. وقال ابن عباس وجماعة من
الفقهاء والتابعين: ويجوز عفو البكر التي لا ولي لها، وحكاه سحنون في
المدونة عن غير ابن القاسم بعد أن ذكر لابن القاسم أن وضعها نصف الصداق لا
يجوز، وأما التي في حجر أب وصي فلا يجوز وضعها لنصف صداقها قولا واحدا فيما
أحفظ.
واختلف الناس في
المراد بقوله تعالى أو يعفوا الّذي بيده عقدة النّكاح فقال ابن عباس وعلقمة
وطاوس ومجاهد وشريح والحسن وإبراهيم والشعبي وأبو صالح وعكرمة والزهري
ومالك وغيرهم: هو الولي الذي المرأة في حجره، فهو الأب في ابنته التي لم
تملك أمرها، والسيد في أمته، وأما شريح فإنه
جوز عفو الأخ عن نصف
المهر، وقال وأنا أعفو عن مهور بني مرة وإن كرهن، وكذلك قال عكرمة: يجوز
عفو الذي عقد عقدة النكاح بينهما، كان عما أو أخا أو أبا وإن كرهت، وقالت
فرقة من العلماء: الذي بيده عقدة النكاح الزوج، قاله علي بن أبي طالب وقاله
ابن عباس أيضا، وشريح أيضا رجع إليه، وقاله سعيد ابن جبير وكثير من فقهاء
الأمصار، فعلى القول الأول: الندب لهما هو في النصف الذي يجب للمرأة فإما
أن تعفو هي وإما أن يعفو وليها، وعلى القول الثاني: فالندب في الجهتين إما
أن تعفو هي عن نصفها فلا تأخذ من الزوج شيئا، وإما أن يعفو الزوج عن النصف
الذي يحط فيؤدي جميع المهر، وهذا هو الفضل منهما، وبحسب حال الزوجين يحسن
التحمل والتجمل، ويروى أن جبير بن مطعم دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه
ابنة له فتزوجها، فلما خرج طلقها وبعث إليه بالصداق، فقيل له: لم تزوجتها؟،
فقال: عرضها علي فكرهت رده، قيل: فلم تبعث بالصداق؟ قال: فأين الفضل؟
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: ويحتج القائلون بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، بأن هذا
الولي لا يجوز له ترك شيء من صداقها قبل الطلاق فلا فرق بعد الطلاق. وأيضا
فإنه لا يجوز له ترك شيء من مالها الذي ليس من الصداق فماله يترك نصف
الصداق؟ وأيضا فإنه إذا قيل إنه الولي فما الذي يخصص بعض الأولياء دون بعض
وكلهم بيده عقدة النكاح وإن كان كافلا أو وصيا أو الحاكم أو الرجل من
العشيرة؟، ويحتج من يقول إنه الولي الحاجر بعبارة الآية، لأن قوله الّذي
بيده عقدة النّكاح عبارة متمكنة في الولي، وهي في الزوج قلقة بعض القلق،
وليس الأمر في ذلك كما قال الطبري ومكي من أن المطلق لا عقدة بيده بل نسبة
العقدة إليه باقية من حيث كان عقدها قبل، وأيضا فإن قوله إلّا أن يعفون لا
تدخل فيه من لا تملك أمرها لأنها لا عفو لها فكذلك لا يغبن النساء بعفو من
يملك أمر التي لا تملك أمرها، وأيضا فإن الآية إنما هي ندب إلى ترك شيء قد
وجب في مال الزوج، يعطي ذلك لفظ العفو الذي هو الترك والاطراح وإعطاء الزوج
المهر كاملا لا يقال فيه عفو، إنما هو انتداب إلى فضل، اللهم إلا أن تقدر
المرأة قد قبضته، وهذا طار لا يعتد به، قال مكي: وأيضا فقد ذكر الله
الأزواج في قوله فنصف ما فرضتم ثم ذكر الزوجات بقوله يعفون، فكيف يعبر عن
الأزواج بعد بالذي بيده عقدة النكاح بل هي درجة ثالثة لم يبق لها إلا
الولي.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: وفي هذا نظر، وقرأ الجمهور «أو يعفو» بفتح الواو لأن الفعل
منصوب، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «أو يعفو الذي» بواو ساكنة، قال المهدوي:
ذلك على التشبيه بالألف، ومنه قول عامر بن الطفيل: [الطويل]
فما سوّدتني عامر عن وراثة = أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: والذي عندي أنه استثقل الفتحة على واو متطرفة قبلها متحرك لقلة
مجيئها في كلام العرب، وقد قال الخليل رحمه الله: لم يجىء في الكلام واو
مفتوحة متطرفة قبلها فتحة إلا في قولهم عفوة وهو جمع عفو وهو ولد الحمار،
وكذلك الحركة ما كانت قبل الواو المفتوحة فإنها ثقيلة، ثم خاطب تعالى
الجميع نادبا بقوله وأن تعفوا أقرب للتّقوى أي يا جميع الناس، وهذه قراءة
الجمهور بالتاء باثنتين من فوق، وقرأ أبو نهيك والشعبي «وأن يعفو» بالياء،
وذلك راجع إلى الذي بيده عقدة النكاح، وقرأ الجمهور «ولا تنسوا الفضل»،
وقرأ علي بن أبي طالب ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة «ولا تناسوا الفضل»،
وهي قراءة متمكنة المعنى لأنه موضع تناس لا نسيان إلا على التشبيه، وقوله
تعالى ولا تنسوا الفضل ندب إلى المجاملة، قال مجاهد: الفضل إتمام الزوج
الصداق كله أو ترك المرأة النصف الذي لها، وقوله إنّ اللّه بما تعملون
بصيرٌ خبر في ضمنه الوعد للمحسن والحرمان لغير المحسن). [المحرر الوجيز: 1/593-597]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإن
طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضةً فنصف ما فرضتم إلا
أن يعفون أو يعفو الّذي بيده عقدة النّكاح وأن تعفوا أقرب للتّقوى ولا
تنسوا الفضل بينكم إنّ اللّه بما تعملون بصيرٌ (237)}
وهذه الآية الكريمة
ممّا يدلّ على اختصاص المتعة بما دلّت عليه الآية الأولى حيث إنّما أوجب في
هذه الآية نصف المهر المفروض، وإذا طلّق الزّوج قبل الدّخول، فإنّه لو كان
ثمّ واجبٌ آخر من متعةٍ لبيّنها لا سيّما وقد قرنها بما قبلها من اختصاص
المتعة بتلك الحالة واللّه أعلم.
وتشطير الصّداق
-والحالة هذه -أمرٌ مجمعٌ عليه بين العلماء، لا خلاف بينهم في ذلك، فإنّه
متى كان قد سمّى لها صداقًا ثمّ فارقها قبل دخوله بها، فإنّه يجب لها نصف
ما سمّى من الصّداق، إلّا أنّ عند الثّلاثة أنّه يجب جميع الصّداق إذا خلا
بها الزّوج، وإن لم يدخل بها، وهو مذهب الشّافعيّ في القديم، وبه حكم
الخلفاء الرّاشدون، لكن قال الشّافعيّ: أخبرنا مسلم بن خالدٍ، أخبرنا ابن
جريجٍ، عن ليث بن أبي سليمٍ، عن طاوسٍ، عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: -في الرّجل
يتزوّج المرأة فيخلو بها ولا يمسّها ثمّ يطلّقها -ليس لها إلّا نصف
الصّداق؛ لأنّ اللّه يقول: {وإن طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ وقد فرضتم
لهنّ فريضةً فنصف ما فرضتم} قال الشّافعيّ: هذا أقوى وهو ظاهر الكتاب.
قال البيهقيّ: وليث بن أبي سليمٍ وإن كان غير محتجٍّ به، فقد روّيناه من حديث ابن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ فهو يقوله.
وقوله: {إلا أن يعفون} أي: النّساء عمّا وجب لها على زوجها من النّصف، فلا يجب لها عليه شيءٌ.
قال السّدّيّ، عن أبي
صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {إلا أن يعفون} قال: إلّا أن تعفو الثّيّب
فتدع حقّها. قال الإمام أبو محمّد بن أبي حاتمٍ، رحمه اللّه: وروي عن
شريحٍ، وسعيد بن المسيّب، وعكرمة، ومجاهدٍ، والشّعبيّ، والحسن، ونافعٍ،
وقتادة، وجابر بن زيدٍ، وعطاءٍ الخراسانيّ، والضّحّاك، والزّهريّ، ومقاتل
بن حيّان، وابن سيرين، والرّبيع بن أنسٍ، والسّدّيّ، نحو ذلك. قال: وخالفهم
محمّد بن كعبٍ القرظيّ فقال: {إلا أن يعفون} يعني: الرّجال، وهو قولٌ
شاذٌّ لم يتابع عليه. انتهى كلامه.
وقوله: {أو يعفو
الّذي بيده عقدة النّكاح} قال ابن أبي حاتمٍ: ذكر عن ابن لهيعة، حدّثني
عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدّه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم [قال]:
"وليّ عقدة النّكاح الزّوج".
وهكذا أسنده ابن
مردويه من حديث عبد اللّه بن لهيعة، به. وقد أسنده ابن جريرٍ، عن ابن
لهيعة، عن عمرو بن شعيبٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فذكره ولم
يقل: عن أبيه، عن جدّه فاللّه أعلم.
ثمّ قال ابن أبي
حاتمٍ، رحمه اللّه: وحدّثنا يونس بن حبيبٍ، حدّثنا أبو داود، حدّثنا جريرٌ،
يعني ابن حازمٍ، عن عيسى -يعني ابن عاصمٍ -قال: سمعت شريحًا يقول: سألني
عليّ بن طالب عن الّذي بيده عقدة النّكاح. فقلت له: هو وليّ المرأة. فقال
عليٌّ: لا بل هو الزّوج.
ثمّ قال: وفي إحدى
الرّوايات عن ابن عبّاسٍ، وجبير بن مطعمٍ، وسعيد بن المسيّب، وشريحٍ -في
أحد قوليه -وسعيد بن جبيرٍ، ومجاهدٍ، والشّعبيّ، وعكرمة، ونافعٍ، ومحمّد بن
سيرين، والضّحّاك، ومحمّد بن كعبٍ القرظيّ، وجابر بن زيدٍ، وأبي مجلز،
والرّبيع بن أنسٍ، وإياس بن معاوية، ومكحولٍ، ومقاتل بن حيّان: أنّه
الزّوج.
قلت: وهذا هو الجديد
من قولي الشّافعيّ، ومذهب أبي حنيفة. وأصحابه، والثّوريّ، وابن شبرمة،
والأوزاعيّ، واختاره ابن جريرٍ. ومأخذ هذا القول: أنّ الّذي بيده عقدة
النّكاح حقيقةً الزّوج، فإنّ بيده عقدها وإبرامها ونقضها وانهدامها، وكما
أنّه لا يجوز للوليّ أن يهب شيئًا من مال المولية للغير، فكذلك في الصّداق.
قال والوجه الثّاني:
حدّثنا أبي، حدّثنا ابن أبي مريم، حدّثنا محمّد بن مسلمٍ، حدّثنا عمرو بن
دينارٍ، عن ابن عبّاسٍ -في الّذي ذكر اللّه بيده عقدة النّكاح -قال: ذلك
أبوها أو أخوها، أو من لا تنكح إلّا بإذنه، وروي عن علقمة، والحسن، وعطاءٍ،
وطاوسٍ، والزّهريّ، وربيعة، وزيد بن أسلم، وإبراهيم النّخعيّ، وعكرمة في
أحد قوليه، ومحمّد بن سيرين -في أحد قوليه: أنّه الوليّ. وهذا مذهب مالكٍ،
وقول الشّافعيّ في القديم؛ ومأخذه أنّ الوليّ هو الّذي أكسبها إيّاه، فله
التّصرّف فيه بخلاف سائر مالها.
وقال ابن جريرٍ:
حدّثنا سعيد بن الرّبيع الرّازيّ، حدّثنا سفيان، عن عمرو بن دينارٍ، عن
عكرمة قال: أذن اللّه في العفو وأمر به، فأيّ امرأةٍ عفت جاز عفوها، فإن
شحّت وضنّت عفا وليّها وجاز عفوه.
وهذا يقتضي صحّة عفو
الوليّ، وإن كانت رشيدةً، وهو مرويٌّ عن شريحٍ. لكن أنكر عليه الشّعبيّ،
فرجع عن ذلك، وصار إلى أنّه الزّوج وكان يباهل عليه.
وقوله: {وأن تعفوا
أقرب للتّقوى} قال ابن جريرٍ: قال بعضهم: خوطب به الرّجال، والنّساء.
حدّثني يونس، أخبرنا ابن وهبٍ، سمعت ابن جريجٍ يحدّث عن عطاء بن أبي رباحٍ،
عن ابن عبّاسٍ: {وأن تعفوا أقرب للتّقوى} قال: أقربهما للتّقوى الّذي
يعفو.
وكذا روي عن الشّعبيّ
وغيره، وقال مجاهدٌ، والضّحّاك، ومقاتل بن حيّان، والرّبيع بن أنسٍ،
والثّوريّ: الفضل هاهنا أن تعفو المرأة عن شطرها، أو إتمام الرّجل الصّداق
لها. ولهذا قال: {ولا تنسوا الفضل [بينكم]} أي: الإحسان، قاله سعيدٌ. وقال
الضّحّاك، وقتادة، والسّدّيّ، وأبو وائلٍ: المعروف، يعني: لا تهملوه بل
استعملوه بينكم.
وقد قال أبو بكر بن
مردويه: حدّثنا محمّد بن أحمد بن إبراهيم، حدّثنا موسى بن إسحاق، حدّثنا
عقبة بن مكرمٍ، حدّثنا يونس بن بكيرٍ، حدّثنا عبيد اللّه بن الوليد
الوصّافيّ، عن عبد اللّه بن عبيدٍ، عن عليّ بن أبي طالبٍ، أنّ رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "ليأتينّ على النّاس زمانٌ عضوض، يعضّ المؤمن
على ما في يديه وينسى الفضل، وقد قال اللّه تعالى: {ولا تنسوا الفضل بينكم}
شرارٌ يبايعون كلّ مضطرٍّ، وقد نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن
بيع المضطرّ، وعن بيع الغرر، فإن كان عندك خيرٌ فعد به على أخيك، ولا تزده
هلاكًا إلى هلاكه، فإنّ المسلم أخو المسلم لا يحزنه ولا يحرمه".
وقال سفيان، عن أبي
هارون قال: رأيت عون بن عبد اللّه في مجلس القرظيّ، فكان عونٌ يحدّثنا
ولحيته ترش من البكاء ويقول: صحبت الأغنياء فكنت من أكثرهم همًّا، حين
رأيتهم أحسن ثيابًا، وأطيب ريحًا، وأحسن مركبًا [منّي]. وجالست الفقراء
فاسترحت بهم، وقال: {ولا تنسوا الفضل بينكم} إذا أتاه السّائل وليس عنده
شيءٌ فليدع له: رواه ابن أبي حاتمٍ.
{إنّ اللّه بما تعملون بصيرٌ} أي: لا يخفى عليه شيءٌ من أموركم وأحوالكم، وسيجزي كل عامل بعمله). [تفسير ابن كثير: 1/642-645]
* للاستزادة ينظر: هنا