تفسير
قول الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ
مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ
وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي
اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ
الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)}
تفسير
قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ
تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ
وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (26)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جل شأنه: {قل اللّهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير إنّك على كلّ شيء قدير}
أمر اللّه النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بتقديمه وذكر ما يدل على توحيده، ومعنى{مالك الملك} : أن اللّه يملك العباد ويملك ما ملكوا, ومعنى: {تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء}.
فيه قولان: -
1-تؤتي الملك الذي هو المال والعبيد والحضرة من تشاء, وتنزعه ممن تشاء،
2-وقيل: تؤتي الملك
من تشاء من جهة الغلبة بالدّين والطاعة، فجعل اللّه - عزّ وجلّ - كل ما في
ملكه ملك غير مسلم للمسلمين ملكاً غنيمة، وجعلهم أحق بالأملاك كلها من كل
أهل لمن خالفوا دين الإسلام.
وقيل في التفسير: إن اللّه عزّ وجلّ أمر النبي
صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات أن يسأله نقل عزّ فارس إلى العرب, وذل
العرب إلى فارس , واللّه أعلم بحقيقة ذلك.
فأما إعراب {اللّهمّ} فضم الهاء وفتح الميم، لا اختلاف في اللفظ به بين النحويين، فأما العلة فقد اختلف فيها النحويون:
1- فقال بعضهم: معنى
الكلام يا الله أم بخير، وهذا إقدام عظيم؛ لأن كل ما كان من هذا الهمز
الذي طرح, فأكثر الكلام الإتيان به، يقال: ويل أمه، وويل أمه، والأكثر
إثبات الهمز.
ولو كان كما يقول لجاز, أومم، واللّه أم، وكان
يجب أن تلزمه ياء النداء؛ لأن العرب تقول: يا اللّه اغفر لنا، ولم يقل أحد
من العرب إلا اللهم، ولم يقل أحد: يا اللهم.
قال اللّه عزّ وجلّ: {وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ}.
وقال: {قل اللّهمّ فاطر السّماوات والأرض}, فهذا القول يبطل من جهات:
أحدها: أن " يا "
ليست في الكلام وأخرى أن هذا المحذوف لم يتكلم به على أصله كما نتكلم
بمثله, وأنه لا يقدم أمام الدعاء هذا الذي ذكره، وزعم أن الصفة التي في
الهاء ضمة الهمزة التي كانت في أم، وهذا محال أن يترك الضم الذي هو دليل
على النداء للمفرد.
وأن يجعل في اللّه ضمة (أم), هذا الحاد في اسم اللّه عزّ وجل, وزعم أن قولنا: هلم مثل ذلك أن أصلها: هل أم - وإنما هي لم.
والهاء للتنبيه، وقال المحتج بهذا القول: أن " يا " قد يقال مع: {اللهم}, فيقال: يا اللّهم، ولا يروي أحد عن العرب هذا غيره , زعم أن بعضهم أنشده:
وما عليك أن تقولي كلما صليت أو سبّحت = يا اللهم مااردد علينا شيخنا مسلما
وليس يعارض الإجماع , وما أتى به كتاب اللّه
تعالى , ووجد في جميع ديوان العرب بقول قائل أنشدني بعضهم، وليس ذلك البعض
بمعروف , ولا بمسمى.
2- وقال الخليل ,
وسيبويه, وجميع النحويين الموثوق بعلمهم: أن " اللهم "بمعنى - يا اللّه،
وأن الميم المشددة عوض من " يا " ؛لأنهم لم يجدوا ياء مع هذه الميم في
كلمة، ووجدوا اسم اللّه جلّ وعزّ مستعملا بـ (يا) إذا لم يذكر الميم.
فعلموا أن الميم من آخر الكلمة بمنزلة يا في
أولها، والضمة التي في أولها ضمة الاسم المنادى في المفرد، والميم مفتوحة
لسكونها وسكون الميم التي قبلها.
وزعم سيبويه: أن هذا الاسم لا يوصف؛ لأنه قد ضمت إليه الميم، فقال في قوله جلّ وعزّ: {قل اللّهمّ فاطر السّماوات والأرض}, أن {فاطر} منصوب على النداء، وكذلك {مالك الملك} ولكن لم يذكره في كتابه.
والقول عندي أن:{مالك الملك} صفة اللّه، وأن {فاطر السّماوات والأرض} كذلك , وذلك أن الاسم, ومعه الميم بمنزلته ومعه : " يا " فلا تمنع الصفة مع الميم كما لا تمنع " مع " يا ", فهذا جملة تفسير وإعراب {اللّهمّ}.
ومعنى {وتنزع الملك ممّن تشاء}: على ما ذكرنا في {تؤتي الملك من تشاء}.
ومعنى {بيدك الخير}أي: بيدك الخير كله، خير الدنيا وخير الآخرة). [معاني القرآن: 1/392-395]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وفي قوله: {تؤتي الملك من تشاء} أي: تؤتي الملك من تشاء أن تؤتيه، وكذلك {وتنزع الملك ممّن تشاء} أن تنزعه منه إلا أنه حذف لأن في الكلام ما يدل عليه).[معاني القرآن: 1/396-397] (م)
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {قل
اللّهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من
تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير إنّك على كلّ شيءٍ قديرٌ (26) تولج اللّيل
في النّهار وتولج النّهار في اللّيل وتخرج الحيّ من الميّت وتخرج الميّت من
الحيّ وترزق من تشاء بغير حسابٍ (27)}
قال بعض العلماء:
إن هذه الآية دافعة لباطل نصارى نجران في قولهم: إن عيسى هو الله وذلك أن
هذه الأوصاف تبين لكل صحيح الفطرة أن عيسى عليه السلام ليس في شيء منها،
وقال قتادة: «ذكر لنا أن النبي عليه السلام سأل ربه أن يجعل في أمته ملك فارس والروم فنزلت الآية في ذلك»، وقال مجاهد: «الملك في هذه الآية النبوة»،
والصحيح أنه مالك الملك كله مطلقا في جميع أنواعه، وأشرف ملك يؤتيه سعادة
الآخرة، وروي أن الآية نزلت بسبب أن النبي عليه السلام بشّر أمته بفتح ملك
فارس وغيره فقالت اليهود
والمنافقون: هيهات
وكذبوا ذلك، واختلف النحويون في تركيب لفظة اللّهمّ بعد إجماعهم على أنها
مضمومة الهاء مشددة الميم المفتوحة وأنها منادى، ودليل ذلك أنها لا تأتي
مستعملة في معنى خبر، فمذهب الخليل وسيبويه والبصريين، أن الأصل «يا لله»
فلما استعملت الكلمة دون حرف النداء الذي هو- يا- جعلوا بدل حرف النداء هذه
الميم المشددة، والضمة في الهاء هي ضمة الاسم المنادى المفرد، وذهب حرفان
فعوض بحرفين، ومذهب الفراء والكوفيين، أن أصل اللّهمّ يا لله أم: أي أم
بخير وأن ضمة الهاء هي ضمة الهمزة التي كانت في أم نقلت، ورد الزجاج على
هذا القول وقال: «محال أن يترك الضم الذي هو دليل على نداء المفرد وأن تجعل في اسم الله ضمة أم، هذا إلحاد في اسم الله تعالى».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا غلو من الزجاج»، وقال أيضا: «إن
هذا الهمز الذي يطرح في الكلام فشأنه أن يؤتى به أحيانا كما قالوا:
«ويلمه» في ويل أمه والأكثر إثبات الهمزة، وما سمع قط «يا لله أم» في هذا
اللفظ»، وقال أيضا: «ولا تقول العرب «ياللهم» »، وقال الكوفيون: إنه قد يدخل حرف النداء على اللّهمّ وأنشدوا على ذلك:
وما عليك أن تقولي كلما ....... سبحت أو هللت ياللهم ما
اردد علينا شيخنا مسلّما قالوا: فلو كانت الميم عوضا من حرف النداء لما اجتمعا، قال الزجاج: «وهذا شاذ لا يعرف قائله ولا يترك له ما في كتاب الله وفي جميع ديوان العرب»،
قال الكوفيون: وإنما تزاد الميم مخففة في «فم وابنم» ونحوه فأما ميم مشددة
فلا تزاد، قال البصريون: لما ذهب حرفان عوض بحرفين، ومالك نصب على النداء،
نص سيبويه ذلك في قوله تعالى: {قل اللّهمّ فاطر السّماوات والأرض}[الزمر: 46] وقال: إن اللّهمّ لا يوصف لأنه قد ضمت إليه الميم، قال الزجاج: «ومالك عندي صفة لاسم الله تعالى وكذلك فاطر السّماوات»، قال أبو علي: «وهو مذهب أبي العباس»،
وما قال سيبويه أصوب وذلك أنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد اللّهمّ
لأنه اسم مفرد ضم إليه صوت والأصوات لا توصف نحو، غاق وما أشبه، وكأن حكم
الاسم المفرد أن لا يوصف وإن كانوا قد وصفوه في مواضع فلما ضم هنا ما لا
يوصف إلى ما كان قياسه أن لا يوصف صار بمنزلة صوت ضم إلى صوت نحو، «حيهل»
فلم يوصف، قال النضر بن شميل: «من قال اللّهمّ فقد دعا الله بجميع أسمائه كلها»، وقال الحسن: «اللّهمّ مجمع الدعاء».
وخص الله تعالى:
الخير بالذكر وهو تعالى بيده كل شيء، إذ الآية في معنى دعاء ورغبة فكأن
المعنى بيدك الخير فأجزل حظي منه، وقيل المراد بيدك الخير والشر فحذف
لدلالة أحدهما على الآخر، كما قال: {تقيكم الحرّ}[النحل: 81] قال النقاش: «بيدك الخير أي النصر والغنيمة فحذف لدلالة أحدهما» ). [المحرر الوجيز: 2/ 187-189]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {قل
اللّهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من
تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير إنّك على كلّ شيءٍ قديرٌ (26) تولج اللّيل
في النّهار وتولج النّهار في اللّيل وتخرج الحيّ من الميّت وتخرج الميّت من
الحيّ وترزق من تشاء بغير حسابٍ (27)}
يقول تعالى: {قل} يا محمّد، معظّمًا لربّك ومتوكّلًا عليه، وشاكرًا له ومفوّضًا إليه: {اللّهمّ مالك الملك} أي: لك الملك كلّه {تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء} أي: أنت المعطي، وأنت المانع، وأنت الّذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن.
وفي هذه الآية تنبيهٌ وإرشادٌ إلى شكر نعمة اللّه تعالى على رسوله صلّى
اللّه عليه وسلّم وهذه الأمّة؛ لأنّ اللّه حوّل النّبوّة من بني إسرائيل
إلى النّبيّ العربيّ القرشيّ المكّيّ الأمّيّ خاتم الأنبياء على الإطلاق،
ورسول اللّه إلى جميع الثّقلين الإنس والجنّ، الّذي جمع اللّه فيه محاسن من
كان قبله، وخصّه بخصائص لم يعطها نبيًّا من الأنبياء ولا رسولًا من
الرّسل، في العلم باللّه وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية،
وكشفه عن حقائق الآخرة ونشر أمّته في الآفاق، في مشارق الأرض ومغاربها،
وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان، والشّرائع، فصلوات اللّه وسلامه عليه
دائمًا إلى يوم الدّين، ما تعاقب اللّيل والنّهار. ولهذا قال تعالى: {قل اللّهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير إنّك على كلّ شيءٍ قديرٌ} أي: أنت المتصرّف في خلقك، الفعّال لما تريد، كما ردّ تبارك وتعالى على من يتحكّم عليه في أمره، حيث قال: {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيمٍ}[الزّخرف: 31].
قال اللّه تعالى ردًّا عليهم: {أهم يقسمون رحمت ربّك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدّنيا ورفعنا بعضهم فوق بعضٍ درجاتٍ} الآية [الزّخرف: 32]
أي: نحن نتصرّف في خلقنا كما نريد، بلا ممانعٍ ولا مدافعٍ، ولنا الحكمة
والحجّة في ذلك، وهكذا نعطي النّبوّة لمن نريد، كما قال تعالى: {اللّه أعلم حيث يجعل رسالته}[الأنعام: 124] وقال تعالى: {انظر كيف فضّلنا بعضهم على بعضٍ وللآخرة أكبر درجاتٍ وأكبر تفضيلا}[الإسراء: 21]
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة "إسحاق بن أحمد" من تاريخه عن المأمون
الخليفة: أنّه رأى في قصرٍ ببلاد الرّوم مكتوبًا بالحميريّة، فعرّب له،
فإذا هو: باسم اللّه ما اختلف اللّيل والنّهار، ولا دارت نجوم السّماء في
الفلك إلّا بنقل النّعيم عن ملك قد زال سلطانه إلى ملكٍ. وملك ذي العرش
دائمٌ أبدًا ليس بفانٍ ولا بمشتركٍ). [تفسير القرآن العظيم: 2/ 29]
تفسير
قوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي
اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ
الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {تولج اللّيل في النّهار وتولج النّهار في اللّيل وتخرج الحيّ من الميّت وتخرج الميّت من الحيّ وترزق من تشاء بغير حساب}المعنى: تدخل أحدهما في الآخر, يقال: ولج الشيء إذا دخل يلج ولوجاً وولجة، والولج والولجة شيء يكون بين يدي فناء.
فمعنى{تولج الليل في النهار}أي: تنقص من الليل, فتدخل ذلك النقصان زيادة في النهار، وتنقص من النهار, فتدخل ذلك النقصان زيادة في الليل.
{وتخرج الحيّ من الميّت}أي: تخرج الإنسان من النطفة، والطائر من البيضة، وتخرج للناس الحب الذي يعيشون به من الأرض الميتة.
{وتخرج الميّت من الحيّ} أي: تخرج النطفة من الإنسان، والبيضة من الطائر.
ومعنى {وترزق من تشاء بغير حساب} أي:
بغير تقتير، وهذا مستعمل في اللغة، يقال للذي ينفق موسعاً: فلان ينفق بغير
حساب، أي: يوسع على نفسه، وكأنه لا يحسب ما أنفقه إنفاقاً). [معاني القرآن: 1/394-395]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقال ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي وابن زيد في معنى قوله تعالى: {تولج اللّيل في النّهار}
الآية: أنه ما ينتقص من النهار فيزيد في الليل وما ينتقص من الليل فيزيد
في النهار دأبا كل فصل من السنة، وتحتمل ألفاظ الآية أن يدخل فيها تعاقب
الليل والنهار كأن زوال أحدهما ولوج في الآخر.
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: {وتخرج الحيّ من الميّت} الآية، فقال الحسن: «معناه تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن»، وروي نحوه عن سلمان الفارسي، وروى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بعض أزواجه فإذا بامرأة حسنة النغمة فقال: «من هذه؟» قالت إحدى خالاتك فقال: «إن خالاتي بهذه البلدة لغرائب، أي خالاتي هي؟» قالت: خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث فقال النبي عليه السلام: «سبحان الذي يخرج الحي من الميت»، وكانت امرأة صالحة وكان أبوها كافرا وهو أحد المستهزئين الذين كفيهم النبي عليه السلام.
قال أبو محمد: «فالمراد على هذا القول موت قلب الكافر وحياة قلب المؤمن والحياة والموت مستعاران»،
وذهب جمهور كثير من العلماء إلى أن الحياة والموت في الآية إنما هو الحياة
حقيقة والموت حقيقة لا باستعارة، ثم اختلفوا في المثل التي فسروا بها فقال
عكرمة: «هو إخراج الدجاجة وهي حية من
البيضة وهي ميتة وإخراج البيضة وهي ميتة من الدجاجة وهي حية ولفظ الإخراج
في هذا المثال وما ناسبه لفظ متمكن على عرف استعماله»، وقال عبد الله بن مسعود في تفسير الآية: «هي النطفة تخرج من الرجل وهي ميتة وهو حي ويخرج الرجل منها وهي ميتة».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «ولفظ
الإخراج في تنقل النطفة حتى تكون رجلا إنما هو عبارة عن تغير الحال كما
تقول في صبي جيد البنية يخرج من هذا رجل قوي، وهذا المعنى يسميه ابن جني:
التجريد أي تجرد الشيء من حال إلى حال هو خروج». وقد يحتمل قوله تعالى: {ويخرج الميّت من الحيّ} أن يراد به أن الحيوان كله يميته فهذا هو معنى التجريد بعينه وأنشد ابن جني على ذلك:
أفاءت بنو مروان ظلما دماءنا ....... وفي الله- إن لم ينصفوا- حكم عدل
وروى السدي عن أبي مالك قال في تفسير الآية: «هي
الحبة تخرج من السنبلة والسنبلة تخرج من الحبة، والنواة تخرج من النخلة
والنخلة تخرج من النواة والحياة في النخلة والسنبلة تشبيه»، وقوله تعالى: {بغير حسابٍ} قيل معناه: «بغير حساب منك لأنه تعالى لا يخاف أن تنتقص خزائنه»،
هذا قول الربيع وغيره، وقيل معنى بغير حسابٍ أي من أحد لك، لأنه تعالى لا
معقب لأمره، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر
«الميت» بسكون الياء في جميع القرآن. وروى حفص عن عاصم «من الميّت» بتشديد
الياء، وقرأ نافع وحمزة والكسائي «الميّت» بتشديد الياء في هذه الآية، وفي
قوله: {لبلدٍ ميّتٍ}[الأعراف: 57]{وإلى بلدٍ ميّتٍ}[فاطر: 9] وخفف حمزة والكسائي غير هذه الحروف، قال أبو علي: «الميّت
هو الأصل والواو التي هي عين منه انقلبت ياء لإدغام الياء فيها وميت
التخفيف محذوف منه عينه أعلت بالحذف كما أعلت بالقلب، والحذف حسن والإتمام
حسن وما مات وما لم يمت في هذا الباب يستويان في الاستعمال».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وذهب قوم إلى أن «الميت» بالتخفيف إنما يستعمل فيما قد مات، وأما «الميّت» بالتشديد فيستعمل فيما مات وفيما لم يمت بعد» ). [المحرر الوجيز: 2/ 189-190]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {تولج اللّيل في النّهار وتولج النّهار في اللّيل}
أي: تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان، ثمّ تأخذ من هذا في هذا
فيتفاوتان، ثمّ يعتدلان. وهكذا في فصول السّنة: ربيعًا وصيفًا وخريفًا
وشتاءً.
وقوله: {وتخرج الحيّ من الميّت وتخرج الميّت من الحيّ}
أي: تخرج الحبّة من الزّرع والزّرع من الحبّة، والنّخلة من النّواة
والنّواة من النّخلة، والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن، والدّجاجة من
البيضة والبيضة من الدّجاجة، وما جرى هذا المجرى من جميع الأشياء {وترزق من تشاء بغير حسابٍ}
أي: تعطي من شئت من المال ما لا يعده ولا يقدر على إحصائه، وتقتر على
آخرين، لما لك في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة والعدل. قال الطّبرانيّ:
حدّثنا محمّد بن زكريّا الغلّابيّ، حدّثنا جعفر بن جسر بن فرقد، حدّثنا
أبي، عن عمرو بن مالكٍ، عن أبي الجوزاء، عن ابن عبّاسٍ، عن النّبيّ صلّى
اللّه عليه وسلّم قال: «اسم الله الأعظم الّذي إذا دعي به أجاب، في هذه الآية من آل عمران:{قل اللّهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير إنّك على كلّ شيءٍ قديرٌ} » ). [تفسير القرآن العظيم: 2/ 29-30]
* للاستزادة ينظر: هنا