22 Jan 2015
تفسير
قول الله تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا
بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ
وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا
إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ
يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ
قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو
الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)}
تفسير
قوله تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا
بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ
وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) }
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالّذي أنزل على الّذين آمنوا وجه النّهار واكفروا آخره لعلّهم يرجعون}, الطائفة: الجماعة، وهم اليهود.
{آمنوا بالّذي أنزل على الّذين آمنوا وجه النّهار},أي: أوله.
قال الشاعر:
من كان مسرورا بمقتل مالك= فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء قوائما يندبنه= قد جئن قبل تبلّج الأسحار
أي: في أول النهار,وقد قيل في تفسير هذا غير قول، قال بعضهم: معناه، آمنوا بصلاتهم إلى بيت المقدس, وأكفروا بصلاتهم إلى البيت.
وقيل: إن علماء اليهود قال بعضهم لبعض: قد كنا
نخبر أصحابنا بأشياء قد أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم, فإن نحن كفرنا
بها كلها, اتهمنا أصحابنا, ولكن نؤمن ببعض , ونكفر ببعض لنوهمهم أننا نصدقه
فما يصدق فيه، ونريهم أنا نكذبه فيما ليس عندنا.
وقيل: إنهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم في
صدر النهار, فقالوا له: إنك الذي خبرنا في التوراة بأنك مبعوث، ولكن أنظرنا
إلى العشي لننظر في أمرنا، فلما كان بالعشي أتوا الأنصار , فقالوا لها: قد
كنا أعلمناكم أن محمداً هو النبي الذي هو المكتوب في التوراة، إلا أننا
نظرنا في التوراة فإذا هو من ولد هارون , ومحمد من ولد إسماعيل, فليس هو
النبي الذي عندنا, وإنما فعلوا ذلك لعل من آمن به يرجع , فهذا ما قيل في
تفسير الآية). [معاني القرآن: 1/429-430]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقالت
طائفةٌ من أهل الكتاب آمنوا بالّذي أنزل على الّذين آمنوا وجه النّهار
واكفروا آخره لعلّهم يرجعون (72) ولا تؤمنوا إلاّ لمن تبع دينكم قل إنّ
الهدى هدى اللّه أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم أو يحاجّوكم عند ربّكم قل إنّ
الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء واللّه واسعٌ عليمٌ (73)
أخبر تعالى في هذه
الآية أن طائفة من اليهود من أحبارهم ذهبت إلى خديعة المسلمين بهذا المنزع،
قال الحسن: قالت ذلك يهود خيبر ليهود المدينة، قال قتادة وأبو مالك والسدي
وغيرهم: قال بعض الأحبار:
لنظهر الإيمان لمحمد
صدر النهار ثم لنكفر به آخر النهار، فسيقول المسلمون عند ذلك: ما بال هؤلاء
كانوا معناه ثم انصرفوا عنا؟ ما ذلك إلا لأنهم انكشفت لهم حقيقة في الأمر
فيشكون، ولعلهم يرجعون عن الإيمان بمحمد عليه السلام.
قال الفقيه الإمام
أبو محمد: ولما كانت الأحبار يظن بهم العلم وجودة النظر والاطلاع على
الكتاب القديم، طمعوا أن تنخدع العرب بهذه النزعة ففعلوا ذلك، جاؤوا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم بكرة، فقالوا: يا محمد أنت هو الموصوف في كتابنا،
ولكن أمهلنا إلى العشي حتى ننظر في أمرنا، ثم رجعوا بالعشي، فقالوا: قد
نظرنا ولست به وجه على هذا التأويل منصوب بقوله آمنوا والمعنى أظهروا
الإيمان في وجه النّهار، والضمير في قوله آخره عائد على النّهار، وقال ابن
عباس ومجاهد وغيرهم: نزلت الآية، لأن اليهود ذهبت إلى المكر بالمؤمنين،
فصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، ثم رجعوا آخر النهار، فصلوا
صلاتهم ليرى الناس أنهم بدت لهم منه ضلالة، بعد أن كانوا اتبعوه.
قال الفقيه الإمام:
وهذا القول قريب من القول الأول، وقال جماعة من المفسرين: نزلت هذه الآية
في أمر القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الصبح إلى
الشام، كما كان يصلي، ثم حولت القبلة، فصلى الظهر، وقيل العصر إلى مكة،
فقالت الأحبار لتبّاعهم وللعرب: آمنوا بالذي أنزل في أول النهار واكفروا
بهذه القبلة الأخيرة.
قال الفقيه الإمام:
والعامل في قوله وجه النّهار على هذا التأويل قوله: أنزل والضمير في قوله:
آخره يحتمل أن يعود على النّهار أو يعود على «الذي أنزل»، ويرجعون في هذا
التأويل، معناه عن مكة إلى قبلتنا التي هي الشام كذلك قال قائل هذا
التأويل، ووجه النّهار أوله الذي يواجه منه، تشبيها بوجه الإنسان، وكذلك
تقول: صدر النهار وغرة العام والشهر، ومنه قول النبي عليه السلام أقتلته في
غرة الإسلام؟ ومن هذا قول الربيع بن زياد العبسي: [الكامل]
من كان مسرورا بمقتل مالك = فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النّساء حواسرا يندبنه = قد قمن قبل تبلّج الأسحار
يقول هذا في مالك بن
زهير بن جذيمة العبسي وكانوا قد أخذوا بثأره، وكان القتيل عندهم لا يناح
عليه ولا يندب إلا بعد أخذ ثأره، فالمعنى من سره مصابنا فيه فلينظر إلى ما
يدله على أنّا قد أدركنا ثأره، فيكمد لذلك ويغتم، ومن استعارة الوجه قولهم:
فعلت كذا على وجه الدهر، أي في القديم). [المحرر الوجيز: 2/253-254]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (
{وقالت طائفةٌ من أهل الكتاب آمنوا بالّذي أنزل على الّذين آمنوا وجه
النّهار واكفروا آخره [لعلّهم يرجعون]} هذه مكيدةٌ أرادوها ليلبسوا على
الضّعفاء من النّاس أمر دينهم، وهو أنّهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الإيمان
أوّل النّهار ويصلّوا مع المسلمين صلاة الصّبح، فإذا جاء آخر النّهار
ارتدّوا إلى دينهم ليقول الجهلة من النّاس: إنّما ردّهم إلى دينهم اطّلاعهم
على نقيصةٍ وعيبٍ في دين المسلمين، ولهذا قالوا: {لعلّهم يرجعون}.
قال ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ، في قوله تعالى إخبارًا عن اليهود بهذه الآية:
يعني يهود، صلّت مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم صلاة الفجر وكفروا آخر
النّهار، مكرًا منهم، ليروا النّاس أنّ قد بدت لهم منه الضّلالة، بعد أن
كانوا اتّبعوه.
وقال العوفي، عن ابن عبّاسٍ: قالت طائفةٌ من أهل الكتاب: إذا لقيتم أصحاب
محمّدٍ أوّل النّهار فآمنوا، وإذا كان آخره فصلّوا صلاتكم، لعلّهم يقولون:
هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منّا. [وهكذا روي عن قتادة والسّدّيّ والرّبيع
وأبي مالكٍ] ). [تفسير القرآن العظيم: 2/59]
تفسير
قوله تعالى: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ
الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ
يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولا
تؤمنوا إلّا لمن تبع دينكم قل إنّ الهدى هدى اللّه أن يؤتى أحد مثل ما
أوتيتم أو يحاجّوكم عند ربّكم قل إنّ الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء واللّه
واسع عليم}
قيل المعنى: لا تجعلوا تصديقكم النبي في شيء مما جاءكم به إلا لليهود، فإنكم إن قلتم ذلك للمشركين كان عونا لهم على تصديقه.
وقال أهل اللغة وغيرهم من أهل التفسير: ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، أي: لا تصدقوا أن يعطى أحد من علم النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطيتم {أو يحاجّوكم عند ربّكم}.
ومعنى{أو يحاجّوكم عند ربّكم} أي: ليس يكون لأحد حجة عند اللّه في الإيمان به؛ لعلم من عنده إلا من كان مثلكم.
وقد قيل في المعنى: {قل إنّ الهدى هدى اللّه أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم}, أي: الهدى هو هذا الهدى، لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم.
قال بعض النحويين معنى: " أن " ههنا معنى " لا "
, وإنما المعنى: أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أي: لأن لا تؤتى فحذف " لا
" ؛ لأن في الكلام دليلاً عليها، كما قال اللّه عزّ وجلّ: {يبين اللّه لكم أن تضلوا}, أي: لئلا تضلوا.
قال أبو العباس محمد بن يزيد: " لا ", ليست مما يحذف ههنا, ولكن الإضافة ههنا معلومة، فحذفت الأول وأقمت الثاني مقامه، المعنى:
يبين الله لكم كراهة أن تضلوا , وكذلك ههنا قال: إن الهدى هدى اللّه كراهة
أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم: أي: من خالف دين الإسلام؛ لأن اللّه لا يهدي
من هو كاذب كفار، فهدى الله بعيد من غير المؤمنين.
وقوله عزّ وجلّ: {قل إنّ الفضل بيد اللّه},أي: نبوته , وهداه يؤتيه من يشاء). [معاني القرآن: 1/430-431]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: ولا تؤمنوا إلاّ لمن تبع دينكم قل إنّ الهدى هدى اللّه أن يؤتى
أحدٌ مثل ما أوتيتم أو يحاجّوكم عند ربّكم قل إنّ الفضل بيد اللّه يؤتيه من
يشاء واللّه واسعٌ عليمٌ (73) يختصّ برحمته من يشاء واللّه ذو الفضل
العظيم (74)
وذكر الله تعالى عن
هذه الطائفة من أهل الكتاب، أنهم قالوا: ولا تؤمنوا إلّا لمن تبع دينكم ولا
خلاف بين أهل التأويل أن هذا القول هو من كلام الطائفة، واختلف الناس في
قوله تعالى: أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم أو يحاجّوكم، فقال مجاهد وغيره من
أهل التأويل: الكلام كله من قول الطائفة لأتباعهم، وقوله تعالى: قل إنّ
الهدى هدى اللّه اعتراض بين الكلامين.
قال القاضي: والكلام
على هذا التأويل يحتمل معاني: أحدها: ولا تصدقوا تصديقا صحيحا وتؤمنوا إلا
لمن جاء بمثل دينكم كراهة أو مخافة أو حذارا أن يؤتى أحد من النبوة
والكرامة مثل ما أوتيتم، وحذرا أن يحاجوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم
تستمروا عليه، وهذا القول على هذا المعنى ثمرة الحسد والكفر، مع المعرفة
بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون التقدير، أن لا يؤتى
فحذفت- لا- لدلالة الكلام، ويحتمل الكلام أن يكون معناه: ولا تصدقوا
وتؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما
أوتيتم إلا لمن تبع
دينكم وجاء بمثله وعاضدا له، فإن ذلك لا يؤتاه غيركم، أو يحاجّوكم عند
ربّكم، بمعنى: إلا أن يحاجوكم، كما تقول: أنا لا أتركك أو تقتضيني حقي،
وهذا القول على هذا المعنى ثمرة التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم على
اعتقاد منهم أن النبوة لا تكون إلا في بني إسرائيل، ويحتمل الكلام أن يكون
معناه: ولا تؤمنوا بمحمد وتقروا بنبوته، إذ قد علمتم صحتها، إلا لليهود
الذين هم منكم، وأن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم، صفة لحال محمد فالمعنى،
تستروا بإقراركم، ان قد أوتي أحد مثل ما أوتيتم، أو فإنهم يعنون العرب
يحاجوكم بالإقرار عند ربكم، قال أبو علي وتؤمنوا تعدى بالباء المقدرة في
قوله أن يؤتى كما تعدى أول الآية في قوله، بالّذي أنزل، واللام في قوله،
لمن تبع، لا يسهل أن تعلق ب تؤمنوا، وأنت قد أوصلته بالباء فتعلق بالفعل
جارين، كما لا يستقيم أن تعديه إلى مفعولين إذا كان لا يتعدى إلا إلى واحد،
وإنما يحمل أمر هذه اللام على المعنى، والمعنى: لا تقروا بأن الله يؤتي
أحدا مثل ما أوتيتم إلا لمن، فهذا كما تقول: أقررت لزيد بألف فتكون اللام
متعلة بالمعنى ولا تكون زائدة على حد إن كنتم للرّءيا تعبرون [يوسف: 43]
ولا تتعلق على حد المفعول، قال أبو علي: وقد تعدى «آمن» باللام في قوله فما
آمن لموسى إلّا ذرّيّةٌ [يونس: 83] وقوله آمنتم له [طه: 71] [الشعراء: 49]
وقوله يؤمن باللّه ويؤمن للمؤمنين [التوبة: 61] واحد، إنما دخل في هذا
الكلام بسبب النفي الواقع في أوله، قوله: لا تؤمنوا كما دخلت- من- في قوله
ما يودّ الّذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزّل عليكم من خيرٍ
من ربّكم [البقرة: 105] فكما دخلت- من- في صلة أن ينزل، لأنه مفعول النفي
اللاحق لأول الكلام، فكذلك دخل أحدٌ في صلة- أن- في قوله أن يؤتى أحدٌ
لدخول النفي في أول الكلام.
قال القاضي: وهذا لأن
أحدا الذي فيه الشياع، لا يجيء في واجب من الكلام، لأنه لا يفيد معنى،
وقرأ ابن كثير وحده بين السبعة «آن يؤتى» بالمد على جهة الاستفهام الذي هو
تقرير، وفسر أبو علي قراءة ابن كثير على أن الكلام كله من قول الطائفة، إلا
الاعتراض الذي هو: قل إنّ الهدى هدى اللّه فإنه لا يختلف أنه من قول الله
تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم قال: فلا يجوز مع الاستفهام أن يحمل أن
يؤتى على ما قبله من الفعل، لأن الاستفهام قاطع، فيجوز أن تكون- أن- في
موضع رفع بالابتداء وخبره محذوف تقديره تصدقون به أو تعترفون، أو تذكرونه
لغيركم، ونحو هذا مما يدل عليه الكلام ويكون يحاجّوكم على هذا معطوفا على
أن يؤتى قال أبو علي: ويجوز أن يكون موضع- أن- منصوبا، فيكون المعنى:
أتشيعون أو أتذكرون أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم؟ ويكون ذلك بمعنى قوله
تعالى عنهم أتحدّثونهم بما فتح اللّه عليكم [البقرة: 76] فعلى كلا الوجهين
معنى الآية، توبيخ من الأحبار للأتباع على تصديقهم بأن محمدا نبي مبعوث،
ويكون قوله تعالى: أو يحاجّوكم في تأويل نصب أن أي أو تريدون أن يحاجوكم.
قال أبو علي: وأحدٌ على قراءة ابن كثير هو الذي يدل على الكثرة، وقد منع
الاستفهام القاطع من أن يشفع لدخوله النفي الذي في أول الكلام، فلم يبق إلا
أن يقدر أن أحدا الذي في قولك، أحد وعشرون وهو يقع في الإيجاب لأنه بمعنى
واحد، وجمع ضميره في قوله أو يحاجّوكم حملا على المعنى، إذ لأحد المراد
بمثل النبوة اتباع، فهو في معنى الكثرة، قال أبو علي: وهذا موضع
ينبغي أن ترجح فيه قراءة غير ابن كثير على قراءة ابن كثير، لأن الأسماء المفردة ليس بالمستمر أن تدل على الكثرة.
قال القاضي: إلا أن
أحدا في مثل النبوة يدل عليها من حيث يقتضي الاتباع، وقرأ الأعمش، وشعيب بن
أبي حمزة- «إن يؤتى» - بكسر الهمزة بمعنى، لم يعط أحد مثل ما أعطيتم من
الكرامة وهذه القراءة يحتمل بمعنى فليحاجوكم، وهذا على التصميم على أنه لا
يؤتى أحد مثل ما أوتي، ويحتمل أن تكون بمعنى، إلا أن يحاجوكم، وهذا على
تجويز أن تؤتى أحد ذلك إذا قامت الحجة له، فهذا ترتيب التفسير والقراءات
على قول من قال: الكلام كله من قول الطائفة.
وقال السدي وغيره:
الكلام كله من قوله قل إنّ الهدى هدى اللّه، إلى آخر الآية هو مما أمر به
محمد عليه السلام أن يقوله لأمته، وحكى الزجّاج وغيره أن المعنى: قل إن
الهدى هو هذا الهدى، لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، وحكي عن بعض النحويين أن
المعنى: أن لا يؤتي أحدا، وحذفت- لا- لأن في الكلام دليلا عليها، كما في
قوله تعالى: يبيّن اللّه لكم أن تضلّوا [النساء: 176] أي أن لا تضلوا، وحكي
عن أبي العباس المبرد: لا تحذف لا، وإنما المعنى كراهة أن تضلوا، وكذلك
هنا كراهة «أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم»، أي ممن خالف دين الإسلام، لأن الله
لا يهدي من هو كاذب كفار، فهدى الله بعيد من غير المؤمنين.
قال القاضي أبو محمد
عبد الحق: وتبعد من هذا القول قراءة ابن كثير بالاستفهام والمد، وتحمل عليه
قراءة الأعمش وابن أبي حمزة- «إن يؤتى» - بكسر الألف، كأنه عليه السلام
يخبر أمته أن الله لا يعطي أحدا ولا أعطى فيما سلف مثل ما أعطى أمة محمد
عليه السلام لكونها وسطا ويكون قوله تعالى: أو يحاجّوكم على هذه المعاني
التي ترتبت في قول السدي، تحتمل معنيين أحدهما «أو فليحاجوكم عند ربكم»،
يعني اليهود، فالمعنى لم يعط أحد مثل حظكم وإلا فليحاجوكم من ادعى سوى ذلك،
والمعنى الثاني: أن يكون قوله، أو يحاجّوكم بمعنى التقرير والإزراء
باليهود، كأنه قال: أو هل لهم أن يحاجوكم أو يخاصموكم فيما وهبكم الله
وفضلكم به؟ وقوله: هدى اللّه على جميع ما تقدم خبران.
وقال قتادة والربيع:
الكلام من قوله قل إنّ الهدى هدى اللّه إلى آخر الآية، هو مما أمر به محمد
عليه السلام أن يقوله للطائفة التي قالت ولا تؤمنوا إلّا لمن تبع دينكم
وتتفق مع هذا القول قراءة ابن كثير بالاستفهام والمد، وتقدير الخبر المحذوف
أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم، حسدتم وكفرتم، ويكون قوله أو يحاجّوكم محمولا
على المعنى، كأنه قال: أتحسدون أو تكفرون لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؟
أو يحاجّوكم على ما
أوتوه فإنه يغلبونكم بالحجة، وأما على قراءة غير ابن كثير بغير المد،
فيحتمل أن يكون بمعنى التقرير بغير حرف استفهام، وذلك هو الظاهر من لفظ
قتادة فإنه قال: يقول لما أنزل الله كتابا مثل كتابكم وبعث نبيا مثل نبيكم
حسدتموهم على ذلك، ويحتمل أن يكون قوله: أن يؤتى بدلا من قوله هدى اللّه
ويكون المعنى: قل إن الهدى هدى الله، وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن،
ويكون قوله أو يحاجّوكم بمعنى، أو فليحاجوكم، فإنه يغلبونكم، ويحتمل قوله،
أن يؤتى خبر- «إن» ويكون قوله هدى اللّه بدلا من الهدى، وهذا في المعنى
قريب من الذي قبله، وقال ابن جريج: قوله تعالى: أن يؤتى هو من قول محمد صلى
الله عليه وسلم لليهود، وتم الكلام في قوله أوتيتم وقوله تعالى: أو
يحاجّوكم متصل بقول الطائفة ولا تؤمنوا إلّا لمن تبع دينكم ومنه، وهذا
القول يفسر معانيه ما تقدم في قول غيره من التقسيم والله المستعان.
وقرأ ابن مسعود: «أن
يحاجوكم» بدل أو، وهذه القراءة تلتئم مع بعض المعاني التي تقدمت ولا تلتئم
مع بعضها، وقوله عند ربّكم يجيء في بعض المعاني على معنى عند ربكم في
الآخرة، ويجيء في بعضها على معنى عند كتب ربكم، والعلم الذي جعل في العباد،
فأضاف ذلك إلى الرب تشريفا، وكأن المعنى أو يحاجوكم عند الحق، وقرأ الحسن
«إن يؤتى» أحد بكسر الهمزة والتاء، على إسناد الفعل إلى أحدٌ، والمعنى: أن
إنعام الله لا يشبهه إنعام أحد من خلقه، وأظهر ما في القراءة أن يكون خطابا
من محمد عليه السلام لأمته، والمفعول محذوف تقديره إن يؤتي أحد أحدا.
في قوله تعالى: قل
إنّ الفضل بيد اللّه إلى قوله العظيم، تكذيب لليهود في قولهم: نبوءة موسى
مؤبدة، ولن يؤتي الله أحدا مثل ما آتى بني إسرائيل من النبوة والشرف، وسائر
ما في الآية من لفظة واسعٌ وغير ذلك قد تقدم نظيره). [المحرر الوجيز: 2/254-259]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله:
{ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم} أي: لا تطمئنّوا وتظهروا سركم وما عندكم
إلا لمن اتبع دينكم ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين، فيؤمنوا به
ويحتجّوا به عليكم؛ قال اللّه تعالى: {قل إنّ الهدى هدى اللّه}
أي هو الّذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتمّ الإيمان، بما ينزّله على عبده
ورسوله محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم من الآيات البيّنات، والدّلائل
القاطعات، والحجج الواضحات، وإن كتمتم -أيّها اليهود-ما بأيديكم من صفة
محمّدٍ في كتبكم الّتي نقلتموها عن الأنبياء الأقدمين.
وقوله {أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم أو يحاجّوكم عند ربّكم} يقولون: لا
تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين، فيتعلّموه منكم، ويساووكم فيه،
ويمتازوا به عليكم لشدّة الإيمان به، أو يحاجّوكم به عند اللّه، أي:
يتّخذوه حجّةً عليكم ممّا بأيديكم، فتقوم به عليكم الدّلالة وتتركّب الحجة
في الدّنيا والآخرة. قال اللّه تعالى: {قل إنّ الفضل بيد اللّه يؤتيه من
يشاء} أي: الأمور كلّها تحت تصريفه، وهو المعطي المانع، يمنّ على من يشاء
بالإيمان والعلم والتّصوّر التّامّ، ويضلّ من يشاء ويعمي بصره وبصيرته،
ويختم على سمعه وقلبه، ويجعل على بصره غشاوةً، وله الحجّة والحكمة. {واللّه
واسعٌ عليمٌ} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/59-60]
تفسير قوله تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (
{يختصّ برحمته من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم} أي: اختصّكم -أيّها
المؤمنون-من الفضل بما لا يحد ولا يوصف، بما شرّف به نبيّكم محمّدًا صلّى
اللّه عليه وسلّم على سائر الأنبياء وهداكم به لأحمد الشّرائع). [تفسير القرآن العظيم: 2/60]
* للاستزادة ينظر: هنا