23 Jan 2015
تفسير قول الله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)}
تفسير قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ
إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {كيف يهدي اللّه قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أنّ الرّسول حقّ وجاءهم البيّنات واللّه لا يهدي القوم الظّالمين}
يقال إنها نزلت في قوم ارتدوا ثم أرادوا الرجوع إلى الإسلام ونيّتهم الكفر.
فأعلم اللّه أنّه لا جهة لهدايتهم لأنهم قد استحقوا أن يضلوا بكفرهم، لأنهم
قد كفروا بعد البينات التي هي دليل على صحة أمر النبي - صلى الله عليه
وسلم -، وقيل إنها نزلت في اليهود لأنهم كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم
- بعد أن كانوا - قبل مبعثه - مؤمنين.
وكانوا يشهدون بالنبوة له فلما بعث عليه السلام
- وجاءهم بالآيات المعجزات وأنبأهم بما في كتبهم مما لا يقدرون على دفعه،
وهو - أمّيّ - كفروا به بغيا وحسدا، فأعلم اللّه أن جزاءهم اللعنة، فقال: {أولئك جزاؤهم أنّ عليهم لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين}). [معاني القرآن: 1/439-440]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: كيف يهدي اللّه قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أنّ الرّسول حقٌّ
وجاءهم البيّنات واللّه لا يهدي القوم الظّالمين (86) أولئك جزاؤهم أنّ
عليهم لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين (87) خالدين فيها لا يخفّف عنهم
العذاب ولا هم ينظرون (88) إلاّ الّذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنّ
اللّه غفورٌ رحيمٌ (89)
قال ابن عباس رضي
الله عنهما: نزلت هذه الآيات من قوله: كيف يهدي اللّه نزلت في الحارث بن
سويد الأنصاري، كان مسلما ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم فأرسل إلى قومه أن
يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة؟
قال: فنزلت كيف يهدي
اللّه الآيات، إلى قوله إلّا الّذين تابوا فأرسل إليه قومه فأسلم، وقال
مجاهد: حمل الآيات إليه رجل من قومه فقرأها عليه، فقال له الحارث: إنك
والله لما علمت لصدوق، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك، وإن
الله لأصدق الثلاثة، قال: فرجع الحارث فأسلم وحسن إسلامه، وقال السدي: نسخ
الله تعالى، بقوله: إلّا الّذين تابوا قوله أولئك جزاؤهم أنّ عليهم لعنة
اللّه.
قال الفقيه أبو محمد:
وفي هذه العبارة تجوز كثير، وليس هذا بموضع نسخ، وقال عكرمة: نزلت هذه
الآية في أبي عامر الراهب والحارث بن سويد بن الصامت ووحوح بن الأسلت في
اثني عشر رجلا، رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهليهم هل لنا
من توبة؟ فنزلت هذه الآيات وقال ابن عباس أيضا والحسن بن أبي الحسن: إن هذه
الآيات نزلت في اليهود والنصارى، شهدوا بنعت الرسول صلى الله عليه وسلم
وآمنوا به، فلما جاء من العرب حسدوه، وكفروا به ورجح الطبري هذا القول،
وقال النقاش: نزلت هذه الآيات في طعيمة بن أبيرق.
وقال الفقيه القاضي: وكل من ذكر فألفاظ الآية تعممه.
وقوله تعالى: كيف
سؤال عن حال لكنه سؤال توقيف على جهة الاستبعاد للأمر كما قال عليه السلام:
كيف تفلح أمة أدمت وجه نبيها؟ فالمعنى أنهم لشدة هذه الجرائم يبعد أن
يهديهم الله تعالى، وقوله تعالى: وشهدوا عطف على كفروا بحكم اللفظ، والمعنى
مفهوم أن الشهادة قبل الكفر، والواو لا ترتب، وقال قوم: معنى قوله بعد
إيمانهم بعد أن آمنوا، فقوله وشهدوا عطف على هذا التقدير، وقوله تعالى
واللّه لا يهدي القوم الظّالمين عموم معناه الخصوص فيمن حتم كفره وموافاته
عليه، ويحتمل أن يريد الإخبار عن أن الظالم في ظلمه ليس على هدى من الله،
فتجيء الآية عامة تامة العموم). [المحرر الوجيز: 2/276-278]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (
{كيف يهدي اللّه قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أنّ الرّسول حقٌّ وجاءهم
البيّنات واللّه لا يهدي القوم الظّالمين (86) أولئك جزاؤهم أنّ عليهم لعنة
اللّه والملائكة والنّاس أجمعين (87) خالدين فيها لا يخفّف عنهم العذاب
ولا هم ينظرون (88) إلا الّذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنّ اللّه غفورٌ
رحيمٌ (89)}
قال ابن جريرٍ: حدّثني محمّد بن عبد اللّه بن بزيعٍ البصريّ، حدّثنا يزيد
بن زريع، حدّثنا داود بن أبي هندٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: كان رجلٌ
من الأنصار أسلم ثمّ ارتد ولحق بالشرك، ثمّ ندم، فأرسل إلى قومه: أن سلوا
لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: هل لي من توبةٍ؟ قال: فنزلت: {كيف
يهدي اللّه قومًا كفروا بعد إيمانهم} إلى قوله: {[إلا الّذين تابوا من بعد
ذلك وأصلحوا] فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ}.
وهكذا رواه النّسائيّ، وابن حبّان، والحاكم، من طريق داود بن أبي هندٍ، به. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرّجاه.
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا جعفر بن سليمان، حدّثنا حميد الأعرج، عن مجاهدٍ
قال: جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، ثمّ كفر
الحارث فرجع إلى قومه فأنزل اللّه فيه: {كيف يهدي اللّه قومًا كفروا بعد
إيمانهم} إلى قوله: {[إلا الّذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنّ اللّه]
غفورٌ رحيمٌ} قال: فحملها إليه رجلٌ من قومه فقرأها عليه. فقال الحارث:
إنّك واللّه ما علمت لصدوقٌ، وإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأصدق
منك، وإنّ اللّه لأصدق الثّلاثة. قال: فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه.
فقوله تعالى: {كيف يهدي اللّه قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أنّ الرّسول
حقٌّ وجاءهم البيّنات} أي: قامت عليهم الحجج والبراهين على صدق ما جاءهم به
الرسول، ووضح لهم الأمر، ثمّ ارتدّوا إلى ظلمة الشّرك، فكيف يستحقّ هؤلاء
الهداية بعد ما تلبّسوا به من العماية؛ ولهذا قال: {واللّه لا يهدي القوم
الظّالمين} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/70-71]
تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ({أولئك جزاؤهم أنّ عليهم لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين}
ومعنى لعن الناس {أجمعين}: لهم أن بعضهم يوم القيامة يلعن بعضا ومن خالفهم يلعنهم، وتأويل لعنة اللّه لهم: تبعيده إياهم من رحمته وثنائه عليهم بكفرهم). [معاني القرآن: 1/440]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (و
«اللعنة» الإبعاد وعدم الرحمة والعطف، وذلك مع قرينة الكفر زعيم بتخليدهم
في النار، ولعنة الملائكة قول، والنّاس: بنو آدم، ويظهر من كلام أبي علي
الفارسي في بعض تعاليقه، أن الجن يدخلون في لفظة الناس، وأنشد على ذلك:
[الوافر]
فقلت إلى الطّعام فقال منهم = أناس يحسد الأنس الطّعاما
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: والذي يظهر، أن لفظة النّاس إذا جاءت مطلقة، فإنما هي في كلام
العرب بنو آدم لا غير، فإذا جاءت مقيدة بالجن، فذلك على طريقة الاستعارة،
إذ هي جماعة كجماعة، وكذلك برجالٍ من الجنّ [الجن: 6] وكذلك نفرٌ من الجنّ
[الجن: 1]، ولفظة النفر أقرب إلى الاشتراك من رجال وناس، وقوله تعالى: من
الجنّة والنّاس [الناس: 6] قاض بتباين الصنفين، وقوله تعالى: والنّاس
أجمعين إما يكون لمعنى الخصوص في المؤمنين ويلعن بعضهم بعضا، فيجيء من هذا
في كل شخص منهم أن لعنة جميع الناس، وإما أن يريد أن هذه اللعنة تقع في
الدنيا من جميع الناس على من هذه صفته، وكل من هذه صفته- وقد أغواه
الشيطان- يلعن صاحب الصفات ولا يشعر من نفسه أنه متصف بها، فيجيء من هذا
أنهم يلعنهم جميع الناس في الدنيا حتى أنهم ليلعنون أنفسهم، لكن على غير
تعيين). [المحرر الوجيز: 2/278-279]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال: {أولئك جزاؤهم أنّ عليهم لعنة اللّه والملائكة والنّاس أجمعين} أي: يلعنهم اللّه ويلعنهم خلقه). [تفسير القرآن العظيم: 2/71]
تفسير قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ( {خالدين فيها لا يخفّف عنهم العذاب ولا هم ينظرون}
ومعنى{خالدين فيها أبدا}أي: فيما توجبه اللعنة أي في عذاب اللعنة {لا يخفّف عنهم العذاب ولا هم ينظرون}أي: لا يؤخرون عن الوقت). [معاني القرآن: 1/440]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والضمير
في قوله، خالدين فيها قال الطبري: يعود على عقوبة الله التي يتضمنها معنى
اللعنة، وقال قوم من المفسرين: الضمير عائد على اللعنة.
قال الفقيه الإمام
أبو محمد: وقرائن الآية تقتضي أن هذه اللعنة مخلدة لهم في جهنم، فالضمير
عائد على النار، وإن كان لم يجر لها ذكر، لأن المعنى يفهمها في هذا الموضع
كما يفهم قوله تعالى: كلّ من عليها فانٍ [الرحمن: 26] أنها الأرض، وقد قال
بعض الخراسانيين في قوله تعالى: إنّما أنت منذر من يخشاها [النازعات: 45]
إن الضمير عائد على النار وينظرون في هذه الآية، بمعنى يؤخرون، ولا راحة
إلا في التخفيف أو التأخير فهما مرتفعان عنهم، ولا يجوز أن يكون ينظرون هنا
من نظر العين إلا على توجيه غير فصيح لا يليق بكتاب الله تعالى). [المحرر الوجيز: 2/279]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {خالدين فيها} أي: في اللّعنة {لا يخفّف عنهم العذاب ولا هم ينظرون} أي: لا يفتّر عنهم العذاب ولا يخفّف عنهم ساعةً واحدةً). [تفسير القرآن العظيم: 2/71]
تفسير قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إلّا الّذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنّ اللّه غفور رحيم}أي: أظهروا أنهم كانوا على ضلال وأصلحوا ما كانوا أفسدوه وغرّوا به من اتبعهم ممن لا علم عنده {فإنّ اللّه غفور رحيم}
أعلم اللّه عزّ وجلّ أن من سعة رحمته وتفضله أن يغفو لمن اجترأ عليه هذا
الاجتراء لأن هذا ما لا غاية بعده، وهو أنه كفر بعد تبين الحق). [معاني القرآن: 1/440]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله
جل وعز إلّا الّذين تابوا استثناء متصل يبين ذلك قوله تعالى: من بعد ذلك
التوبة: الرجوع، والإصلاح عام في القول والعمل، وقوله تعالى: فإنّ اللّه
غفورٌ رحيمٌ وعد، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «والناس أجمعون»). [المحرر الوجيز: 2/279]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ
قال تعالى: {إلا الّذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ}
وهذا من لطفه وبرّه ورأفته ورحمته وعائدته على خلقه: أنّه من تاب إليه تاب
عليه). [تفسير القرآن العظيم: 2/71]
تفسير
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ
ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ
الضَّالُّونَ (90)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {إنّ الّذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضّالّون}
يقال في التفسير: أن هؤلاء هم النفر الذين
ارتدوا بعد إسلامهم ثم أظهروا أنهم يريدون الرجوع إلى الإسلام، فأظهر اللّه
أمرهم لأنهم كانوا يظهرون أنهم يرجعون إلى الإسلام وعندهم الكفر - والدليل
على ذلك - قوله - عزّ وجلّ: {وأولئك هم الضّالّون} لأنهم لو حققوا في التوبة لكانوا غير معتدين، ويدل على ذلك قوله عزّ وجلّ: {إنّ الّذين كفروا وماتوا وهم كفّار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين} لأن الكافر الذي يعتقد الكفر ويظهر الإيمان عند اللّه كمظهر الكفر لأن الإيمان هو التصديق والتصديق لا يكون إلا بالنية). [معاني القرآن: 1/440-441]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: إنّ الّذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم
وأولئك هم الضّالّون (90) إنّ الّذين كفروا وماتوا وهم كفّارٌ فلن يقبل من
أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به أولئك لهم عذابٌ أليمٌ وما لهم من
ناصرين (91)
اختلف المتأولون في
كيف يترتب كفر بعد إيمان، ثم زيادة كفر، فقال الحسن وقتادة وغيرهما: الآية
في اليهود كفروا بعيسى بعد الإيمان بموسى ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله
عليه وسلم.
قال الإمام أبو محمد:
وفي هذا القول اضطراب، لأن الذي كفر بعيسى بعد الإيمان بموسى ليس بالذي
كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فالآية على هذا التأويل تخلط الأسلاف
بالمخاطبين، وقال أبو العالية رفيع: الآية في اليهود، كفروا بمحمد صلى الله
عليه وسلم بعد إيمانهم بصفاته وإقرارهم أنها في التوراة، ثم ازدادوا كفرا
بالذنوب التي أصابوها في خلاف النبي صلى الله عليه وسلم، من الافتراء
والبهت والسعي على الإسلام وغير ذلك.
قال الإمام أبو محمد:
وعلى هذا الترتيب يدخل في الآية المرتدون اللاحقون بقريش وغيرهم، وقال
مجاهد: معنى قوله ثمّ ازدادوا كفراً أي تموا على كفرهم وبلغوا الموت به،
فيدخل في هذا القول اليهود والمرتدون، وقال السدي نحوه، ثم أخبر تعالى أن
توبة هؤلاء لن تقبل، وقد قررت الشريعة أن توبة كل كافر تقبل، سواء كفر بعد
إيمان وازداد كفرا، أو كان كافرا من أول أمره، فلا بد في هذه الآية من
تخصيص تحمل عليه ويصح به نفي قبول التوبة فقال الحسن وقتادة ومجاهد والسدي:
نفي قبول توبتهم مختص بوقت الحشرجة والغرغرة والمعاينة، فالمعنى لن تقبل
توبتهم عند المعاينة، وقال أبو العالية: معنى الآية: لن تقبل توبتهم من تلك
الذنوب التي أصابوها مع إقامتهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم،
فإنهم كانوا يقولون في بعض الأحيان: نحن نتوب من هذه الأفعال، وهم مقيمون
على كفرهم، فأخبر الله تعالى، أنه لا يقبل تلك التوبة.
قال الفقيه الإمام:
وتحتمل الآية عندي أن تكون إشارة إلى قوم بأعيانهم من المرتدين ختم الله
عليهم بالكفر، وجعل ذلك جزاء لجريمتهم ونكايتهم في الدين، وهم الذين أشار
إليهم بقوله كيف يهدي اللّه قوماً [آل عمران: 86] فأخبر عنهم أنهم لا تكون
لهم توبة فيتصور قبولها، فتجيء الآية بمنزلة قول الشاعر:
(على لا حب لا يهتدى بمناره) = ... ... ... ...
أي قد جعلهم الله من
سخطه في حيز من لا تقبل له توبة إذ ليست لهم، فهم لا محالة يموتون على
الكفر، ولذلك بيّن حكم الذين يموتون كفارا بعقب الآية، فبانت منزلة هؤلاء،
فكأنه أخبر عن هؤلاء المعينين، أنهم يموتون كفارا، ثم أخبر الناس عن حكم من
يموت كافرا والضّالّون المخطئون الطريق القويم في الأقوال والأفعال، وقرأ
عكرمة: «لن نقبل» بنون العظمة «توبتهم» بنصب التاء). [المحرر الوجيز: 2/280-281]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّ
الّذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفرًا لن تقبل توبتهم وأولئك هم
الضّالّون (90) إنّ الّذين كفروا وماتوا وهم كفّارٌ فلن يقبل من أحدهم ملء
الأرض ذهبًا ولو افتدى به أولئك لهم عذابٌ أليمٌ وما لهم من ناصرين (91)}
يقول تعالى متوعّدًا ومتهدّدًا لمن كفر بعد إيمانه ثمّ ازداد كفرًا، أي:
استمرّ عليه إلى الممات، ومخبرًا بأنّه لا يقبل لهم توبةً عند مماتهم، كما
قال [تعالى] {وليست التّوبة للّذين يعملون السّيّئات حتّى إذا حضر أحدهم
الموت [قال إنّي تبت الآن ولا الّذين يموتون وهم كفّارٌ أولئك أعتدنا لهم
عذابًا أليمًا]} [النساء:18].
ولهذا قال هاهنا: {لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضّالّون} أي: الخارجون عن المنهج الحقّ إلى طريق الغيّ.
قال الحافظ أبو بكرٍ البزّار: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن بزيع، حدّثنا
يزيد بن زريع، حدّثنا ابن أبي هندٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ؛ أنّ قومًا
أسلموا ثمّ ارتدّوا، ثمّ أسلموا ثمّ ارتدّوا، فأرسلوا إلى قومهم يسألون
لهم، فذكروا ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية: {إنّ
الّذين كفروا بعد إيمانهم ثمّ ازدادوا كفرًا لن تقبل توبتهم} هكذا رواه،
وإسناده جيّدٌ). [تفسير القرآن العظيم: 2/71-72]
* للاستزادة ينظر: هنا