21 Aug 2015
تفسير
قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا
مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ
التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (93)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {كلّ
الطّعام كان حلّا لبني إسرائيل إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن
تنزّل التّوراة قل فأتوا بالتّوراة فاتلوها إن كنتم صادقين}
موضع " ما " نصب، المعنى: إلا الطعام الذي حرّمه إسرائيل على نفسه.
ويروى: أنه وجد وجعا،
وقيل في التفسير: إن ذلك الوجع كان عرق النساء فنذر إن أبرأه اللّه أن
يترك أحبّ الطعام والشراب إليه وكان أحب الطعام والشراب إليه لحوم الإبل
وألبانها، فحرم اللّه ذلك عليهم بمعاصيهم كما قال: {فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات أحلّت لهم}.
وأعلم الله أن الذي
حرمه إسرائيل على نفسه كان من قبل أن تنزل التوراة، وفيه أعظم آية للنبي -
صلى الله عليه وسلم - لأنه أنبأهم بأنهم يدعون أن في كتابهم ما ليس فيه،
ودعاهم مع ذلك إلى أن يأتوا بكتابهم فيتلوه ليبين لهم كذبهم فأبوا.
فكان إباؤهم دليلا على علمهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صدق فيما أنبأهم به، ولو أتوا بها لم يكونوا يخلون من أحد أمرين:
1- إما أن يزيدوا فيها ما ليس فيها في ذلك الوقت فيعلم بعضهم أنه قد زيد
2-
أو ينزل اللّه بهم عقوبة تبين أمرهم، أو أن يأتوا بها على جملتها فيعلم
بطلان دعواهم منها. فقصتهم في هذه الآية كقصة النصارى في المباهلة). [معاني القرآن: 1/443-444]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: كلّ الطّعام الآية، إخبار بمغيب عن محمد صلى الله عليه وسلم وجميع
الأميين لا يعلمه إلا الله وعلماء أهل الكتاب، وذهب كثير من المفسرين إلى
أن معنى الآية: الرد على اليهود في قولهم في كل ما حرموه على أنفسهم من
الأشياء: إنها محرمة عليهم بأمر الله في التوراة، فأكذبهم الله بهذه الآية،
وأخبر أن جميع الطعام كان حلا لهم، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه خاصة، ولم
يرد به ولده، فلما استنوا هم به جاءت التوراة بتحريم ذلك عليهم، وليس من
التوراة شيء من الزوائد التي يدعون أن الله حرمها، وإلى هذا تنحو ألفاظ
السدي، وقال: إن الله تعالى حرم ذلك عليهم في التوراة عقوبة لاستنانهم في
تحريم شيء إنما فعله يعقوب خاصة لنفسه، قال: فذلك قوله تعالى: فبظلمٍ من
الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّباتٍ أحلّت لهم [النساء: 160] قال القاضي أبو
محمد رحمه الله: والظاهر في لفظة ظلم أنها مختصة بتحريم ونحوه، يدل على
ذلك أن العقوبة وقعت بذلك النوع، وذهب قوم من العلماء إلى أن معنى الآية:
الرد على قوم من اليهود قالوا: إن ما نحرمه الآن على أنفسنا من الأشياء
التي لم تذكر في التوراة كان علينا حراما في ملة أبينا إبراهيم، فأكذبهم
الله وأخبر أن الطعام كله كان حلالا لهم قبل التوراة إلّا ما حرّم إسرائيل
في خاصته، ثم جاءت التوراة بتحريم ما نصت عليه، وبقيت هذه الزوائد في حيز
افترائهم وكذبهم، وإلى هذا تنحو ألفاظ ابن عباس رضي الله عنه وترجم الطبري
في تفسير هذه الآية بتراجم، وأدخل تحتها أقوالا توافق تراجمه، وحمل ألفاظ
الضحاك أن الاستثناء منقطع وكأن المعنى: كل الطعام كان حلا لهم قبل نزول
التوراة وبعد نزولها. تفسير قوله تعالى: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)} تفسير قوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)} * للاستزادة ينظر: هنا
قال الفقيه الإمام
أبو محمد: فيرجع المعنى إلى القول الأول الذي حكيناه، وحمل الطبري قول
الضحاك إن معناه: لكن إسرائيل حرم على نفسه خاصة ولم يحرم الله على بني
إسرائيل في توراة ولا غيرها.
قال الفقيه الإمام:
وهذا تحميل يرد عليه قوله تعالى: حرّمنا عليهم [الأنعام: 146] وقوله صلى
الله عليه وسلم: حرمت عليهم الشحوم إلى غير ذلك من الشواهد، وقوله تعالى:
حلًّا معناه: حلالا، وإسرائيل هو يعقوب، وانتزع من هذه الآية أن للأنبياء
أن يحرموا باجتهادهم على أنفسهم ما اقتضاه النظر لمصلحة أو قربة أو زهد،
ومن هذا على جهة المصلحة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم جاريته، فعاتبه
الله تعالى في ذلك ولم يعاتب يعقوب، فقيل: إن ذلك لحق آدمي ترتب في نازلة
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: إن هذا تحريم تقرب وزهد، وتحريم
الجارية تحريم غضب ومصلحة نفوس، واختلف الناس في الشيء الذي حرمه يعقوب على
نفسه فقال يوسف بن ماهك: جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال له: إنه جعل امرأته
عليه حراما، فقال ابن عباس: إنها ليست عليك بحرام، فقال الأعرابي: ولم؟
والله تعالى يقول في
كتابه إلّا ما حرّم إسرائيل على نفسه فضحك ابن عباس وقال: وما يدريك ما حرم
إسرائيل؟ ثم أقبل على القوم يحدثهم، فقال: إن إسرائيل عرضت له الأنساء
فأضنته فجعل لله أن شفاه من ذلك أن لا يطعم عرقا، قال: فلذلك اليهود تنزع
العروق من اللحم، وقال بمثل هذا القول قتادة وأبو مجلز وغيرهم، وقال ابن
عباس والحسن بن أبي الحسن وعبد الله بن كثير ومجاهد أيضا: إن الذي حرم
إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها، ولم يختلف فيما علمت أن سبب التحريم هو
بمرض أصابه، فجعل تحريم ذلك شكرا لله تعالى إن شفي، وقيل: هو وجع عرق
النسا، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عصابة من بني إسرائيل
قالوا له: يا محمد ما الذي حرم إسرائيل على نفسه؟ فقال لهم: أنشدكم بالله
هل تعلمون أن يعقوب مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه فنذر لله نذرا إن عافاه
الله من سقمه ليحرمنّ أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحوم
الإبل وألبانها؟ قالوا: اللهم نعم، وظاهر الأحاديث والتفاسير في هذه الأمر
أن يعقوب عليه السلام حرم لحوم الإبل وألبانها، وهو يحبها، تقربا إلى الله
بذلك، إذ ترك الترفه والتنعم من القرب، وهذا هو الزهد في الدنيا، وإليه نحا
عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: إياكم وهذه المجازر فإن لها ضراوة
كضراوة الخمر ومن ذلك قول أبي حازم الزاهد، وقد مر بسوق الفاكهة فرأى
محاسنها فقال: موعدك الجنة إن شاء الله، وحرم يعقوب عليه السلام أيضا
العروق، لكن بغضة لها لما كان امتحن بها، وهذا شيء يعتري نفوس البشر في غير
ما شيء وليس في تحريم العروق قربة فيما يظهر، والله أعلم، وقد روي عن ابن
عباس: أن يعقوب حرم العروق ولحوم الإبل، وأمر الله نبيه محمدا صلى الله
عليه وسلم أن يأمرهم بالإتيان بالتوراة، حتى يبين منها كيف الأمر، المعنى:
فإنه أيها اليهود، كما أنزل الله عليّ لا كما تدعون أنتم، قال الزجّاج: وفي
هذا تعجيز لهم وإقامة الحجة عليهم، وهي كقصة المباهلة مع نصارى نجران). [المحرر الوجيز: 2/284-287]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({كلّ
الطّعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن
تنزل التّوراة قل فأتوا بالتّوراة فاتلوها إن كنتم صادقين (93) فمن افترى
على اللّه الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظّالمون (94) قل صدق اللّه
فاتّبعوا ملّة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين (95)}
قال الإمام أحمد:
حدّثنا هاشم بن القاسم، حدّثنا عبد الحميد، حدّثنا شهر قال: قال ابن عبّاسٍ
[رضي اللّه عنه] حضرت عصابةٌ من اليهود نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
فقالوا: حدّثنا عن خلالٍ نسألك عنهنّ لا يعلمهنّ إلّا نبيٌّ. قال: "سلوني
عمّا شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمّة اللّه، وما أخذ يعقوب على بنيه لئن أنا
حدّثتكم شيئًا فعرفتموه لتتابعنّي على الإسلام". قالوا: فذلك لك. قال:
"فسلوني عمّا شئتم " قالوا: أخبرنا عن أربع خلالٍ: أخبرنا أيّ الطّعام حرّم
إسرائيل على نفسه؟ وكيف ماء المرأة وماء الرّجل؟ كيف هذا النّبيّ الأمّيّ
في النّوم؟ ومن وليّه من الملائكة؟ فأخذ عليهم العهد لئن أخبرهم ليتابعنّه
وقال:"أنشدكم بالّذي أنزل التّوراة على موسى: هل تعلمون أنّ إسرائيل مرض
مرضًا شديدًا وطال سقمه، فنذر للّه نذرًا لئن شفاه اللّه من سقمه ليحرّمنّ
أحبّ الشّراب إليه وأحبّ الطّعام إليه، وكان أحبّ الطّعام إليه لحمان
الإبل، وأحبّ الشّراب إليه ألبانها" فقالوا: اللّهمّ نعم. قال: "اللّهمّ
اشهد عليهم". وقال: أنشدكم باللّه الّذي لا إله إلا هو، الّذي أنزل
التّوراة على موسى: هل تعلمون أنّ ماء الرّجل أبيض غليظٌ، وماء المرأة أصفر
رقيقٌ، فأيّهما علا كان له الولد والشّبه بإذن اللّه، إن علا ماء الرّجل
ماء المرأة كان ذكرًا بإذن اللّه وإن علا ماء المرأة ماء الرّجل كان أنثى
بإذن اللّه ". قالوا: نعم. قال: "اللّهمّ اشهد عليهم". وقال: "أنشدكم
بالّذي أنزل التّوراة على موسى: هل تعلمون أنّ هذا النّبيّ الأمّيّ تنام
عيناه ولا ينام قلبه". قالوا: اللّهمّ نعم. قال: "اللّهمّ اشهد ". قالوا:
وأنت الآن فحدّثنا من وليّك من الملائكة؟ فعندها نجامعك أو نفارقك قال:
"إنّ وليّي جبريل، ولم يبعث اللّه نبيًّا قطّ إلا وهو وليّه". قالوا:
فعندها نفارقك، ولو كان وليّك غيره لتابعناك، فعند ذلك قال اللّه تعالى:
{قل من كان عدوًّا لجبريل} الآية [البقرة: 97].
ورواه أحمد أيضًا، عن حسين بن محمّدٍ، عن عبد الحميد، به.
طريقٌ أخرى: قال
أحمد: حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ حدّثنا عبد اللّه بن الوليد العجليّ، عن
بكير بن شهابٍ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ قال: أقبلت يهود على رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالوا: يا أبا القاسم، نسألك عن خمسة أشياء،
فإن أنبأتنا بهنّ عرفنا أنّك نبيٌّ واتّبعناك، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل
على بنيه إذ قال: {اللّه على ما نقول وكيلٌ} [يوسف: 66]. قال: "هاتوا".
قالوا: أخبرنا عن علامة النّبيّ؟ قال: "تنام عيناه ولا ينام قلبه". قالوا:
أخبرنا كيف تؤنّث المرأة وكيف تذكر؟ قال: "يلتقي الماءان، فإذا علا ماء
الرّجل ماء المرأة أذكرت، وإذا علا ماء المرأة آنثت. قالوا: أخبرنا ما حرّم
إسرائيل على نفسه، قال: "كان يشتكي عرق النّسا، فلم يجد شيئًا يلائمه إلّا
ألبان كذا وكذا -قال أحمد: قال بعضهم: يعني الإبل -فحرّم لحومها". قالوا:
صدقت. قالوا: أخبرنا ما هذا الرّعد؟ قال: "ملكٌ من ملائكة الله موكلٌ
بالسّحاب بيده -أو في يده-مخراقٌ من نارٍ يزجر به السّحاب، يسوقه حيث أمره
الله عزّ وجلّ". قالوا: فما هذا الصّوت الّذي يسمع؟ قال: "صوته". قالوا:
صدقت، إنما بقيت واحدة، وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها، فإنّه ليس من
نبيٍّ إلّا له ملكٌ يأتيه بالخبر، فأخبرنا من صاحبك؟ قال: "جبريل عليه
السّلام". قالوا: جبريل ذاك ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدوّنا. لو قلت:
ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {قل
من كان عدوًّا لجبريل فإنّه نزله على قلبك بإذن اللّه مصدّقًا لما بين
يديه وهدًى وبشرى للمؤمنين} [البقرة: 97].
وقد رواه التّرمذيّ، والنّسائيّ، من حديث عبد اللّه بن الوليد العجلي، به نحوه، وقال الترمذي: حسن غريب.
وقال ابن جريج
والعوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: كان إسرائيل -وهو يعقوب عليه السّلام-يعتريه عرق
النّسا باللّيل، وكان يقلقه ويزعجه عن النّوم، ويقلع الوجع عنه بالنّهار،
فنذر للّه لئن عافاه اللّه لا يأكل عرقًا ولا يأكل ولد ما له عرق.
وهكذا قال الضّحّاك
والسّدّيّ. كذا حكاه ورواه ابن جريرٍ في تفسيره. قال: فاتّبعه بنوه في
تحريم ذلك استنانًا به واقتداءً بطريقه. قال: وقوله: {من قبل أن تنزل
التّوراة} أي: حرّم ذلك على نفسه من قبل أن تنزّل التّوراة.
قلت: ولهذا السّياق بعد ما تقدّم مناسبتان.
إحداهما: أن إسرائيل،
عليه السّلام، حرّم أحبّ الأشياء إليه وتركها للّه، وكان هذا سائغًا في
شريعتهم فله مناسبةٌ بعد قوله: {لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون}
فهذا هو المشروع عندنا وهو الإنفاق في طاعة اللّه ممّا يحبّه العبد
ويشتهيه، كما قال: {وآتى المال على حبّه} [البقرة:177] وقال {ويطعمون
الطّعام على حبّه} [الإنسان:8].
المناسبة الثّانية:
لمّا تقدّم السّياق في الرّدّ على النّصارى، واعتقادهم الباطل في المسيح
وتبيّن زيف ما ذهبوا إليه. وظهور الحقّ واليقين في أمر عيسى وأمّه، وكيف
خلقه اللّه بقدرته ومشيئته، وبعثه إلى بني إسرائيل يدعو إلى عبادة ربّه
تعالى -شرع في الرّدّ على اليهود، قبّحهم اللّه، وبيان أنّ النّسخ الّذي
أنكروا وقوعه وجوازه قد وقع، فإنّ اللّه، عزّ وجلّ، قد نصّ في كتابهم
التّوراة أنّ نوحًا، عليه السّلام، لمّا خرج من السّفينة أباح اللّه له
جميع دوابّ الأرض يأكل منها، ثمّ بعد هذا حرّم إسرائيل على نفسه لحمان
الإبل وألبانها، فاتّبعه بنوه في ذلك، وجاءت التّوراة بتحريم ذلك، وأشياء
أخر زيادةً على ذلك. وكان اللّه، عزّ وجلّ، قد أذن لآدم في تزويج بناته من
بنيه، وقد حرّم ذلك بعد ذلك. وكان التّسرّي على الزّوجة مباحًا في شريعة
إبراهيم، وقد فعله [الخليل] إبراهيم في هاجر لمّا تسرّى بها على سارّة، وقد
حرّم مثل هذا في التّوراة عليهم. وكذلك كان الجمع بين الأختين شائعًا وقد
فعله يعقوب، عليه السّلام، جمع بين الأختين، ثمّ حرّم ذلك عليهم في
التّوراة. وهذا كلّه منصوصٌ عليه في التّوراة عندهم، فهذا هو النّسخ بعينه،
فكذلك فليكن ما شرعه اللّه للمسيح، عليه السّلام، في إحلاله بعض ما حرّم
في التّوراة، فما بالهم لم يتبعوه؟ بل كذّبوه وخالفوه؟ وكذلك ما بعث اللّه
به محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم من الدّين القويم، والصّراط المستقيم،
وملّة أبيه إبراهيم فما بالهم لا يؤمنون؟ ولهذا قال [تعالى] {كلّ الطّعام
كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل
التّوراة} أي: كان حلا لهم جميع الأطعمة قبل نزول التّوراة إلّا ما حرّمه
إسرائيل، ثمّ قال: {قل فأتوا بالتّوراة فاتلوها إن كنتم صادقين}؛ فإنّها
ناطقةٌ بما قلناه). [تفسير القرآن العظيم: 2/74-76]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {فمن افترى على اللّه الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظّالمون} أي: من بعد ما ذكرنا من ظهور الحجة في افترائه: {فأولئك هم الظّالمون} ). [معاني القرآن: 1/444]
قوله: فمن افترى على
اللّه الكذب من بعد ذلك تحتمل الإشارة- بذلك- أن تكون إلى ثلاثة أشياء:
أحدها: أن تكون إلى التلاوة إذ مضمنها بيان المذهب وقيام الحجة، أي فمن كذب
منا على الله تعالى أو نسب إلى كتب الله ما ليس فيها فهو ظالم واضع الشيء
غير موضعه، والآخر: أن تكون الإشارة إلى استقرار التحريم في التوراة، لأن
معنى الآية: كلّ الطّعام كان حلًّا لبني إسرائيل إلّا ما حرّم إسرائيل على
نفسه [آل عمران: 93]، ثم حرمته التوراة عليهم عقوبة لهم، فمن افترى على
اللّه الكذب، وزاد في المحرمات فهو الظالم، والثالث: أن تكون الإشارة إلى
الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه، وقبل نزول التوراة، أي من تسنن بيعقوب
وشرع ذلك دون إذن من الله، ومن حرم شيئا ونسبه إلى ملة إبراهيم فهو الظالم،
ويؤيد هذا الاحتمال الأخير، قوله تعالى فبظلمٍ من الّذين هادوا حرّمنا
عليهم طيّباتٍ أحلّت لهم [النساء: 160] فنص على أنه كان لهم ظلم في معنى
التحليل والتحريم، وكانوا يشددون فشدد الله عليهم، كما فعلوا في أمر
البقرة، وبخلاف هذه السيرة جاء الإسلام في قوله صلى الله عليه وسلم: يسروا
ولا تعسروا، وقوله: دين الله يسر وقوله: بعثت بالحنيفية). [المحرر الوجيز: 2/287]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({فمن افترى على اللّه الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظّالمون}
أي: فمن كذب على
اللّه وادّعى أنّه شرع لهم السّبت والتّمسّك بالتّوراة دائمًا، وأنّه لم
يبعث نبيًّا آخر يدعو إلى اللّه بالبراهين والحجج بعد هذا الّذي بيّنّاه من
وقوع النّسخ وظهور ما ذكرناه {فأولئك هم الظّالمون} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/76-77]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ
قال تعالى: {قل صدق اللّه} أي: قل يا محمّد: صدق فيما أخبر به وفيما شرعه
في القرآن {فاتّبعوا ملّة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين} أي: اتّبعوا
ملّة إبراهيم الّتي شرعها اللّه في القرآن على لسان محمّدٍ صلّى اللّه
عليه وسلّم، فإنّه الحقّ الّذي لا شكّ فيه ولا مرية، وهي الطّريقة الّتي لم
يأت نبيٌّ بأكمل منها ولا أبين ولا أوضح ولا أتمّ، كما قال تعالى: {قل
إنّني هداني ربّي إلى صراطٍ مستقيمٍ دينًا قيمًا ملّة إبراهيم حنيفًا وما
كان من المشركين} [الأنعام:161] وقال تعالى: {ثمّ أوحينا إليك أن اتّبع
ملّة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين} [النّحل:123] ). [تفسير القرآن العظيم: 2/77]