21 Aug 2015
* للاستزادة ينظر: هنا
تفسير قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ - {إنّ أوّل بيت وضع للنّاس للّذي ببكّة مباركا وهدى للعالمين}
قيل: إنه أول مسجد وضع للناس.
وقيل: إنه أول بيت وضع للحج.
ويقال: إنه البيت المعمور وأن الملائكة كانت تحجه من قبل آدم، وإنه البيت العتيق. فأما بناؤه فلا شك أن إبراهيم بناه.
قال اللّه تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربّنا تقبّل منّا} أي يقولان: ربّنا تقبّل منّا.
فأما المقدس فسليمان بناه.
وخبر (إنّ) هو {للّذي ببكّة} وهذه لام التوكيد، وقيل: إن بكة موضع البيت وسائر ما حوله مكة.
والإجماع أن: بكة ومكة الموضع الذي يحج الناس إليه، وهي البلدة، قال اللّه - عزّ وجلّ: {ببطن مكة} وقال: {للّذي ببكّة مباركا}.
فأما اشتقاقه في اللغة:
1-فيصلح أن يكون الاسم اشتق من البكّ، وهو بكّ الناس بعضهم بعضا في الطواف، أي: دفع بعضهم بعضا.
2- وقيل: إنما سميت ببكة لأنها تبك أعناق الجبابرة.
ونصب {مباركا} على الحال.
المعنى: الذي بمكة في حال بركته.
{وهدى للعالمين} يجوز أن يكون {هدى للعالمين}: في موضع رفع.
المعنى: وهو هدى للعالمين.
فأما مكة - بالميم فتصلح أن يكون اشتقاقها
كاشتقاق بكة والميم تبدل من الباء، يقال: ضربة لازب ولازم، ويصلح أن يكون
الاشتقاق من قولهم: " أمتك الفصيل " ما في ضرع الناقة إذا مص مصا شديدا حتى
لا يبقي فيه شيئا. فتكون سميت بذلك لشدة الازدحام فيها -
والقول الأول: أعني البدل أحسن.
ومعنى{أوّل}في اللغة:
على الحقيقة ابتداء الشيء فجائز أن يكون المبتدأ له آخر، وجائز أن لا يكون
له آخر فالواحد أول العدد والعدد غير متناه، ونعيم الجنة أول وهو غير
منقطع، وقولك: هذا أول مال كسبته جائز ألا يكون بعده كسب، ولكن إرادتك:
(هذا ابتداء كسبي).
ولو قال قائل: أول عبد أملكه فهو حرّ، فملك عبدا أعتق ذلك العبد، لأنه قد ابتدأ الملك فجائز أن يكون {أوّل بيت} هو البيت الذي لم يكن الحج إلى غيره). [معاني القرآن: 1/444-446]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقرأ
جمهور الناس: «وضع» على بناء الفعل للمفعول على معنى وضعه الله، فالآية
على هذا ابتداء معنى منقطع من الكلام الأول، وقرأ عكرمة، «وضع» بفتح الواو
والضاد، فيحتمل أن يريد: وضع الله، فيكون المعنى منقطعا كما هو في قراءة
الجمهور، ويحتمل أن يريد وضع إبراهيم عليه السلام، فيكون المعنى متصلا
بالذي قبله، وتكون هذه الآية استدعاء لهم إلى ملته، في الحج وغيره على ما
روى عكرمة: أنه لما نزلت ومن يبتغ غير الإسلام ديناً الآية، قال اليهود:
نحن على الإسلام فقرئت، وللّه على النّاس حجّ البيت [آل عمران: 97] قيل له:
أحجهم يا محمد، إن كانوا على ملة إبراهيم التي هي الإسلام.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: ويؤيد هذا التأويل ما قال أبو ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول
الله أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت ثم أي؟ قال: المسجد
الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال أربعون سنة، فيظهر من هذا أنهما من وضع
إبراهيم جميعا، ويضعف ما قال الزجّاج: من أن بيت المقدس من بناء سليمان بن
داود، اللهم إلا أن يكون جدده، وأين مدة سليمان من مدة إبراهيم؟ ولا مرية
في أن إبراهيم وضع بيت مكة، وإنما الخلاف هل وضع بدأة أو وضع تجديد؟ واختلف
المفسرون في معنى هذه الأولية التي في قوله: إنّ أوّل فقال علي بن أبي
طالب رضي الله عنه: معنى الآية أن أول بيت وضع مباركا وهدى هذا البيت الذي
ببكة وقد كانت قبله بيوت لم توضع وضعه من البركة والهدى، وقال قوم: بل هو
أول بيت خلق الله تعالى ومن تحته دحيت الأرض.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: ورويت في هذا أقاصيص من نزول آدم به من الجنة ومن تحديد ما بين
خلقه ودحو الأرض، ونحو ما قال الزجّاج: من أنه البيت المعمور أسانيدها ضعاف
فلذلك تركتها، وعلى هذا القول يجيء رفع إبراهيم القواعد تجديدا، قال
قتادة: ذكر لنا أن البيت أهبط مع آدم ورفع وقت الطوفان، واختلف الناس في
«بكة»، فقال الضحاك وجماعة من العلماء: «بكة» هي مكة، فكأن هذا من إبدال
الباء بالميم، على لغة مازن وغيرهم، وقال ابن جبير وابن شهاب وجماعة كثيرة
من العلماء مكة الحرم كله، و «بكة» مزدحم الناس حيث يتباكون، وهو المسجد
وما حول البيت، وقال مالك في سماع ابن القاسم من العتبية: «بكة» موضع
البيت، ومكة غيره من المواضع، قال ابن القاسم: يريد القرية، قال الطبري: ما
خرج عن موضع الطواف فهو مكة لا بكة، وقال قوم: «بكة»، ما بين الجبلين
ومكة، الحرم كله، ومباركاً نصب على الحال، والعامل فيه على قول علي بن أبي
طالب إنه أول بيت وضع بهذه الحال، قوله: وضع والعامل فيه على القول الآخر
الفعل الذي تتعلق به باء الجر في قوله ببكّة تقديره: استقر ببكة مباركا،
وفي وصف البيت ب هدىً مجازية بليغة، لأنه مقوم مصلح، فهو مرشد، وفيه إرشاد،
فجاء قوله، وهدىً بمعنى وذا هدى، ويحتمل أن يكون هدىً في هذه الآية، بمعنى
الدعاء، أي من حيث دعي العالمون إليه). [المحرر الوجيز: 2/288-289]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّ
أوّل بيتٍ وضع للنّاس للّذي ببكّة مباركًا وهدًى للعالمين (96) فيه آياتٌ
بيّناتٌ مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنًا وللّه على النّاس حجّ البيت من
استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإنّ اللّه غنيٌّ عن العالمين (97)}
يخبر تعالى أنّ أوّل بيتٍ وضع للنّاس، أي: لعموم النّاس، لعبادتهم ونسكهم،
يطوفون به ويصلّون إليه ويعتكفون عنده {للّذي ببكّة} يعني: الكعبة الّتي
بناها إبراهيم الخليل [عليه السّلام] الّذي يزعم كلٌّ من طائفتي النّصارى
واليهود أنّهم على دينه ومنهجه، ولا يحجّون إلى البيت الّذي بناه عن أمر
اللّه له في ذلك ونادى النّاس إلى حجّه. ولهذا قال: {مباركًا} أي وضع
مباركًا {وهدًى للعالمين}
وقد قال الإمام أحمد: حدّثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التّيميّ، عن
أبيه، عن أبي ذر، رضي اللّه عنه، قال قلت: يا رسول اللّه، أيّ مسجد وضع في
الأرض أوّل؟ قال: "المسجد الحرام". قلت: ثمّ أيّ؟ قال: "المسجد الأقصى".
قلت: كم بينهما؟ قال: "أربعون سنةً". قلت: ثمّ أيّ؟ قال: ثم حيث أدركت
الصلاة فصلّ، فكلّها مسجدٌ".
وأخرجه البخاريّ، ومسلمٌ، من حديث الأعمش، به.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا الحسن بن محمّد بن الصّبّاح، حدّثنا سعيد بن
سليمان، حدّثنا شريك عن مجالد، عن الشّعبيّ عن عليّ في قوله تعالى: {إنّ
أوّل بيتٍ وضع للنّاس للّذي ببكّة مباركًا} قال: كانت البيوت قبلةً، ولكنّه
كان أوّل بيتٍ وضع لعبادة اللّه [تعالى].
[قال] وحدّثنا أبي، حدّثنا الحسن بن الرّبيع، حدّثنا أبو الأحوص، عن سماك،
عن خالد ابن عرعرة قال: قام رجلٌ إلى عليّ فقال: ألا تحدّثني عن البيت: أهو
أول بيتٍ وضع في الأرض؟ قال لا ولكنّه أوّل بيتٍ وضع فيه البركة مقام
إبراهيم، ومن دخله كان آمنًا. وذكر تمام الخبر في كيفيّة بناء إبراهيم
البيت، وقد ذكرنا ذلك مستقصًى في سورة البقرة فأغنى عن إعادته.
وزعم السّدّي أنّه أول بيتٍ وضع على وجه الأرض مطلقًا. والصحيح قول عليّ
[رضي اللّه عنه] فأمّا الحديث الّذي رواه البيهقيّ في بناء الكعبة في كتابه
دلائل النّبوّة، من طريق ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير،
عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص مرفوعًا: "بعث الله جبريل إلى آدم وحوّاء،
فأمرهما ببناء الكعبة، فبناه آدم، ثمّ أمر بالطّواف به، وقيل له: أنت أوّل
النّاس، وهذا أوّل بيتٍ وضع للنّاس" فإنّه كما ترى من مفردات ابن لهيعة،
وهو ضعيفٌ. والأشبه، واللّه أعلم، أن يكون هذا موقوفا على عبد اللّه بن
عمرو. ويكون من الزّاملتين اللّتين أصابهما يوم اليرموك، من كلام أهل
الكتاب.
وقوله تعالى: {للّذي ببكّة} بكّة: من أسماء مكّة على المشهور، قيل سمّيت
بذلك لأنّها تبكّ أعناق الظّلمة والجبابرة، بمعنى: يبكون بها ويخضعون
عندها. وقيل: لأنّ النّاس يتباكّون فيها، أي: يزدحمون.
قال قتادة: إنّ اللّه بكّ به النّاس جميعًا، فيصلّي النّساء أمام الرّجال، ولا يفعل ذلك ببلدٍ غيرها.
وكذا روي عن مجاهدٍ، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ، وعمرو بن شعيب، ومقاتل بن حيّان.
وذكر حمّاد بن سلمة، عن عطاء بن السّائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس
قال: مكّة من الفجّ إلى التّنعيم، وبكّة من البيت إلى البطحاء.
وقال شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم: بكّة: البيت والمسجد. وكذا قال الزّهريّ.
وقال عكرمة في روايةٍ، وميمون بن مهران: البيت وما حوله بكّة، وما وراء ذلك مكّة.
وقال أبو صالحٍ، وإبراهيم النّخعي، وعطيّة [العوفي] ومقاتل بن حيّان: بكّة موضع البيت، وما سوى ذلك مكّة.
وقد ذكروا لمكّة أسماءً كثيرةً: مكّة، وبكّة، والبيت العتيق، والبيت
الحرام، والبلد الأمين، والمأمون، وأمّ رحم، وأمّ القّرى، وصلاح، والعرش
على وزن بدرٍ، والقادس؛ لأنّها تطهّر من الذّنوب، والمقدّسة، والنّاسّة:
بالنّون، وبالباء أيضًا، والحاطمة، والنسّاسة والرّأس، وكوثى، والبلدة،
والبنيّة، والكعبة). [تفسير القرآن العظيم: 2/77-78]
تفسير
قوله تعالى: {فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ
دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ
الْعَالَمِينَ (97)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فيه
آيات بيّنات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا وللّه على النّاس حجّ البيت
من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإنّ اللّه غنيّ عن العالمين}
قد رويت عن ابن عباس أنّه قرأ "آية بينة مقام إبراهيم" جعل مقام إبراهيم هو الآية، والذي عليه الناس: {فيه آيات بيّنات}والمعنى: فيه آيات بينات، تلك الآيات:
1- مقام إبراهيم.
2- ومن الآيات أيضا: أمن من دخله، لأن معنى {ومن دخله كان آمنا} يدل على أن الأمن فيه.
فأما رفع {مقام إبراهيم} فعلى أن يكون على إضمار هي مقام إبراهيم.
قال النحويون، المعنى: فيها مقام إبراهيم وهذا كما شرحنا، ومعنى: أمن من دخله: أن إبراهيم عليه السلام سأل اللّه أن يؤمّن سكان مكة فقال: {رب اجعل هذا بلدا آمنا}.. فجعل اللّه عزّ وجلّ أمن مكة آية لإبراهيم وكان الناس يتخطفون حول مكة، قال اللّه: {أولم يروا أنّا جعلنا حرما آمنا ويتخطّف النّاس من حولهم} فكان الجبار إدا أراد مكة قصمه اللّه.
قال اللّه عزّ وجلّ: {ألم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل}
وكانت فارس قد سبت أهل بيت المقدس فأمّا أهل مكة فلم يطمع فيهم جبار.
ويقال: قد أمن الرجل يأمن أمنا وأمانا.
وقد رويت إمنا، والأكثر الأفصح: (أمن) بفتح الألف قال اللّه عزّ وجلّ {وليبدّلنّهم من بعد خوفهم أمنا}.
وقوله عزّ وجلّ: {وللّه على النّاس حجّ البيت}.
يقرأ بفتح الحاء وكسر الحاء والأصل الفتح: يقال: حججت الشيء أحجه حجا إذا قصدته..
والحج اسم العمل - بكسر الحاء.
وقوله عزّ وجلّ: {من استطاع إليه سبيلا}.
موضع من خفض على البدل من " الناس " المعنى: وللّه على من استطاع من الناس حج البيت أن يحج.
وقوله جلّ وعزّ: {ومن كفر فإنّ اللّه غنيّ عن العالمين}.
قيل فيه غير قول:
1- قال بعضهم من كفر: من قال إن الحج غير مفترض.
2- وقال بعضهم: من أمكنه الحج فأخره إلى أن يموت، وهو قادر عليه فقد كفر.
3- وقيل: إنها إنما قيلت لليهود لأنهم قالوا: أن القصد إلى مكة غير واجب في حج أو صلاة.
فأما الأول: فمجمع عليه. ليس بين الأمة اختلاف في أن من قال: إن الحج غير واجب على من قدر عليه كافر). [معاني القرآن: 1/446-447]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: فيه آياتٌ بيّناتٌ مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً وللّه على
النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإنّ اللّه غنيٌّ عن
العالمين (97)
الضمير في قوله: فيه
عائد على البيت، وساغ ذلك مع كون «الآيات» خارجة عنه لأن البيت إنما وضع
بحرمه وجميع فضائله، فهي فيه وإن لم تكن داخل جدرانه، وقرأ جمهور الناس:
«آيات بينات» بالجمع، وقرأ أبي بن كعب وعمرو ابن عباس: «آية بينة» على
الإفراد، قال الطبري: يريد علامة واحدة المقام وحده، وحكي ذلك عن مجاهد.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: ويحتمل أن يراد بالآية اسم الجنس فيقرب من معنى القراءة الأولى،
واختلف عبارة المفسرين عن «الآيات البينات» فقال ابن عباس: من الآيات
المقام، يريد الحجر المعروف والمشعر وغير ذلك.
قال القاضي أبو محمد
رضي الله عنه: وهذا يدل على أن قراءته «آية» بالإفراد إنما يراد بها اسم
الجنس، وقال الحسن بن أبي الحسن: «الآيات البينات» مقام إبراهيم، وإن من
دخله كان آمنا، وقال مجاهد: المقام الآية، وقوله: ومن دخله كان آمناً كلام
آخر.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: فرفع مقام على قول الحسن ومجاهد على البدل من آياتٌ، أو على خبر
ابتداء تقديره هن مقام إبراهيم، وعلى قول ابن عباس ومن نحا نحوه: هو مرتفع
بالابتداء وخبره محذوف مقدم تقديره: منهن مقام إبراهيم.
قال القاضي: والمترجح
عندي أن المقام وأمن الداخل جعلا مثالا مما في حرم الله من الآيات، وخصا
بالذكر لعظمهما، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار، إذ هم مدركون لهاتين
الآيتين بحواسهم، ومن آيات الحرم والبيت التي تقوم بها الحجة على الكفار
أمر الفيل، ورمي طير الله عنه بحجارة السجيل، وذلك أمر لم تختلف كافة العرب
في نقله وصحته إلى أن أنزله الله في كتابه، ومن آياته كف الجبابرة عنه على
وجه الدهر، ومن آياته الحجر الأسود، وما روي فيه أنه من الجنة وما أشربت
قلوب العالم من تعظيمه قبل الإسلام، ومن آياته حجر المقام، وذلك أنه قام
عليه إبراهيم عليه السلام، وقت رفعه القواعد من البيت، لما طال له البناء
فكلما علا الجدار، ارتفع الحجر به في الهواء، فما زال يبني وهو قائم عليه
وإسماعيل يناوله الحجارة والطين حتى أكمل الجدار، ثم إن الله تعالى، لما
أراد إبقاء ذلك آية للعالمين لين الحجر، فغرقت فيه قدما إبراهيم عليه
السلام كأنها في طين، فذلك الأثر العظيم باق في الحجر إلى اليوم، وقد نقلت
كافة العرب ذلك في الجاهلية على مرور الأعصار، وقال أبو طالب: [الطويل]
وموطئ إبراهيم في الصّخر رطبة = على قدميه حافيا غير ناعل
فما حفظ أن أحدا من
الناس نازع في هذا القول، ومن آياته البينات زمزم في نبعها لهاجر بهمز
جبريل عليه السلام الأرض بعقبه، وفي حفر عبد المطلب لها آخرا بعد دثورها
بتلك الرؤيا المشهورة، وبما نبع من الماء تحت خف ناقته في سفره، إلى منافرة
قريش ومخاصمتها في أمر زمزم، ذكر ذلك ابن إسحاق مستوعبا، ومن آيات البيت
نفع ماء زمزم لما شرب له، وأنه يعظم ماؤها في الموسم، ويكثر كثرة خارقة
للعادة في الآبار، ومن آياته، الأمنة الثابتة فيه على قديم الدهر، وأن
العرب كانت تغير بعضها على بعض ويتخطف الناس بالقتل، وأخذ الأموال وأنواع
الظلم إلا في الحرم، وتركب على هذا أمن الحيوان فيه، وسلامة الشجر، وذلك
كله للبركة التي خصه الله بها، والدعوة من الخليل عليه السلام في قوله،
اجعل هذا بلدا آمنا، وإذعان نفوس العرب وغيرهم قاطبة لتوقير هذه البقعة دون
ناه، ولا زاجر، آية عظمى تقوم بها الحجة، وهي التي فسرت بقوله تعالى: ومن
دخله كان آمناً ومن آياته كونه بواد غير ذي زرع، والأرزاق من كل قطر تجيء
إليه عن قرب وعن بعد، ومن آياته، ما ذكر ابن القاسم العتقي رحمه الله، قال
في النوادر وغيرها: سمعت أن الحرم يعرف بأن لا يجيء سيل من الحل فيدخل
الحرم.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: هذا والله أعلم، لأن الله تعالى جعله ربوة أو في حكمها ليكون
أصون له، والحرم فيما حكى ابن أبي زيد في الحج الثاني من النوادر. مما يلي
المدينة نحو من أربعة أميال إلى منتهى التنعيم، ومما يلي العراق نحو من
ثمانية أميال إلى مكان يقال له المقطع، ومما يلي عرفة تسعة أميال، ومما يلي
طريق اليمن سبعة أميال، إلى موضع يقال له أضاة، ومما يلي جدة عشرة أميال
إلى منتهى الحديبية، قال مالك في العتبية: والحديبية في الحرم، ومن آياته
فيما ذكر مكي وغيره، أن الطير لا تعلوه، وإن علاه طائر فإنما ذلك لمرض به،
فهو يستشفي بالبيت، وهذا كله عندي ضعيف، والطير تعاين تعلوه، وقد علته
العقاب التي أخذت الحية المشرفة على جداره، وتلك كانت من آياته ومن آياته
فيما ذكر الناس قديما وحديثا، أنه إذا عمه المطر من جوانبه الأربعة في
العام الواحد، أخصبت آفاق الأرض، وإن لم يصب جانبا منه لم يخصب ذلك الأفق
الذي يليه ذلك العام، واختلف الناس في مقام إبراهيم، فقال الجمهور: هو
الحجر المعروف، وقال قوم: البيت كله مقام إبراهيم لأنه بناه وقام في جميع
أقطاره، وقال قوم من العلماء مكة كلها مقام إبراهيم، وقال قوم: الحرم كله
مقام إبراهيم، والضمير في قوله، ومن دخله عائد على الحرم في قول من قال:
مقام إبراهيم هو الحرم، وعائد على البيت في قول الجمهور، إذ لم يتقدم ذكر
لغيره، إلا أن المعنى يفهم منه أن من دخل الحرم فهو في الأمن، إذ الحرم جزء
من البيت، إذ هو بسببه ولحرمته.
واختلف الناس في معنى
قوله كان آمناً فقال الحسن وقتادة وعطاء ومجاهد وغيرهم: هذه وصف حال كانت
في الجاهلية أن الذي يجر جريرة ثم يدخل الحرم، فإنه كان لا يتناول ولا يطلب
فأما في الإسلام وأمن جميع الأقطار، فإن الحرم لا يمنع من حد من حدود
الله، من سرق فيه قطع، ومن زنى رجم، ومن قتل قتل، واستحسن كثير ممن قال هذا
القول أن يخرج من وجب عليه القتل إلى الحل فيقتل هنالك، وقال ابن عباس رضي
الله عنهما: من أحدث حدثا ثم استجار بالبيت فهو آمن، وإن الأمن في الإسلام
كما كان في الجاهلية، والإسلام زاد البيت شرفا وتوقيرا، فلا يعرض أحد بمكة
لقاتل وليه، إلا أنه يجب على المسلمين ألا يبايعوا ذلك الجاني ولا يكلموه
ولا يؤوه حتى يتبرم فيخرج من الحرم فيقام عليه الحد، وقال بمثل هذا عبيد بن
عمير والشعبي وعطاء بن أبي رباح والسدي وغيرهم، إلا أن أكثرهم قالوا هذا
فيمن يقتل خارج الحرم ثم يعوذ بالحرم، فأما من يقتل في الحرم، فإنه يقام
عليه الحد في الحرم.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: وإذا تؤمل أمر هذا الذي لا يكلم ولا يبايع، فليس بآمن، وقال
يحيى بن جعدة: معنى الآية ومن دخل البيت كان آمنا من النار، وحكى النقاش عن
بعض العباد قال: كنت أطوف حول الكعبة ليلا فقلت: يا رب إنك قلت: ومن دخله
كان آمناً، فمن ماذا هو آمن يا رب؟ فسمعت مكلما يكلمني وهو يقول: من النار،
فنظرت وتأملت فما كان في المكان أحد.
وقوله تعالى: وللّه
على النّاس حجّ البيت الآية، هو فرض الحج في كتاب الله بإجماع، وقال مالك
رحمه الله: الحج كله في كتاب الله، فأما الصلاة والزكاة فهي من جملة الذي
فسره النبي عليه السلام، والحج من دعائم الإسلام التي بني عليها حسب
الحديث، وشروط وجوبه خمسة، البلوغ، والعقل، والحرية، والإسلام، واستطاعة
السبيل، والحج في اللغة: القصد لكنه في بيت الله مخصص بأعمال وأقوال، وقرأ
حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: «حج البيت» بكسر الحاء، وقرأ الباقون: «حج
البيت» بفتحها، قال سيبويه: حج حجا مثل ذكر ذكرا، قال أبو علي: فحج على هذا
مصدر، وقال سيبويه أيضا: قالوا غزاة فأرادوا عمل وجه واحد، كما قيل حجة.
قال القاضي: بكسر
الحاء يريدون عمل سنة واحدة، ولم يجيئوا به على الأصل لكنه اسم له، قال أبو
علي: قوله لم يجيئوا به على الأصل يريد على الفتح الذي هو الدفعة من
الفعل، ولكن كسروه فجعلوه اسما لهذا المعنى، كما أن غزاة كذلك، ولم تجئ فيه
الغزوة وكان القياس.
قال القاضي: وأكثر ما
التزم كسر الحاء في قولهم ذو الحجة، وأما قولهم حجة الوداع ونحوه فإنها
على الأصل، وقال الزجّاج وغيره، «الحج»: بفتح الحاء المصدر، وبكسرها اسم
العمل، وقال الطبري: هما لغتان الكسر لغة نجد، والفتح لغة أهل العالية.
وقوله تعالى: من
استطاع إليه سبيلًا، من في موضع خفض بدل من النّاس، وهو بدل البعض من الكل
وقال الكسائي وغيره: هي شرط في موضع رفع بالابتداء، والجواب محذوف تقديره:
من استطاع فعليه الحج، ويدل عليه عطف الشرط الآخر بعده في قوله: ومن كفر،
وقال بعض البصريين: من رفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو حجّ البيت ويكون
المصدر مضافا إلى المفعول، واختلف الناس في حال مستطيع السبيل كيف هي؟ فقال
عمر بن الخطاب وابن عباس وعطاء وسعيد بن جبير: هي حال الذي يجد زادا
وراحلة، وروى الطبري عن الحسن من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال له رجل: يا رسول الله ما السبيل؟
قال: الزاد والراحلة، وأسند الطبري إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ملك زادا وراحلة فلم يحج فلا
عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا، وروى عبد الرزاق وسفيان عن إبراهيم بن
يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر قال: قام رجل إلى النبي
عليه السلام، فقال: ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة.
قال القاضي: وضعّف
قوم هذا الحديث، لأن إبراهيم بن يزيد الخوزي تكلم فيه ابن معين وغيره،
والحديث مستغن عن طريق إبراهيم، وقال بعض البغداديين: هذا الحديث مشير إلى
أن الحج لا يجب مشيا.
قال القاضي: والذي
أقول: إن هذا الحديث إنما خرج على الغالب من أحوال الناس وهو البعد عن مكة
واستصعاب المشي على القدم كثيرا، فأما القريب الدار فلا يدخل في الحديث،
لأن القرب أغناه عن زاد وراحلة، وأما الذي يستطيع المشي من الأقطار
البعيدة، فالراحلة عنده بالمعنى والقوة التي وهب، وقد ذكره الله تعالى في
قوله: يأتوك رجالًا [الحج: 27] وكذلك أيضا معنى الحديث: الزاد والراحلة لمن
لم يكن له عذر في بدنه، من مرض أو خوف على أقسامه أو استحقاق بأجرة أو دين
وهو يحاول الأداء ويطمع فيه بتصرفه في مال بين يديه، وأما العديم فله أن
يحج إذا تكلف واستطاع، فمقصد الحديث: أن يتحدد موضع الوجوب على البعيد
الدار، وأما المشاة وأصحاب الأعذار فكثير منهم من يتكلف السفر، وإن كان
الحج غير واجب عليه، ثم يؤديه ذلك التكلف إلى موضع يجب فيه الحج عليه، وهذه
مبالغة في طلب الأجر ونيله إن شاء الله تعالى، وذهبت فرقة من العلماء إلى
قوله تعالى: من استطاع إليه سبيلًا كلام عام لا يتفسر بزاد وراحلة ولا غير
ذلك، بل إذا كان مستطيعا غير شاق على نفسه فقد وجب عليه الحج، قال ذلك ابن
الزبير والضحاك، وقال الحسن: من وجد شيئا يبلغه فقد استطاع إليه سبيلا،
وقال عكرمة:
استطاعة السبيل
الصحة، وقال ابن عباس: من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل إليه، وقال مالك بن
أنس رضي الله عنه، في سماع أشهب من العتبية، وفي كتاب محمد، وقد قيل له:
أتقول إن السبيل الزاد والراحلة؟ فقال: لا والله، قد يجد زادا وراحلة ولا
يقدر على مسير، وآخر يقدر أن يمشي راجلا، وربّ صغير أجلد من كبير فلا صفة
في هذا أبين مما قال الله تعالى.
قال القاضي: وهذا
أنبل كلام، وجميع ما حكي عن العلماء لا يخالف بعضه بعضا، الزاد والراحلة
على الأغلب من أمر الناس في البعد، وأنهم أصحاء غير مستطيعين للمشي على
الأقدام، والاستطاعة- متى تحصلت- عامة في ذلك وغيره، فإذا فرضنا رجلا
مستطيعا للسفر ماشيا معتادا لذلك، وهو ممن يسأل الناس في إقامته ويعيش من
خدمتهم وسؤالهم ووجد صحابة، فالحج عليه واجب دون زاد ولا راحلة، وهذه من
الأمور التي يتصرف فيها فقه الحال، وكان الشافعي يقول: الاستطاعة على
وجهين: بنفسه أولا، فمن منعه مرض أو عذر وله مال فعليه أن يجعل من يحج عنه
وهو مستطيع لذلك.
واختلف الناس هل وجوب
الحج على الفور أو على التراخي؟ على قولين، ولمالك رحمه الله مسائل تقتضي
القولين، قال في المجموعة فيمن أراد الحج ومنعه أبواه: لا يعجل عليهما في
حجة الفريضة وليستأذنهما العام والعامين، فهذا على التراخي، وقال في كتاب
ابن المواز: لا يحج أحد إلا بإذن أبويه إلا الفريضة، فليخرج وليدعهما، فهذا
على الفور، وقال مالك في المرأة يموت عنها زوجها فتريد الخروج إلى الحج:
لا تخرج في أيام عدتها، قال الشيخ أبو الحسن اللخمي: فجعله على التراخي.
قال القاضي: وهذا
استقراء فيه نظر، واختلف قول مالك رحمه الله فيمن يخرج إلى الحج على أن
يسأل الناس جائيا وذاهبا ممن ليست تلك عادته في إقامته، فروى عنه ابن وهب
أنه قال: لا بأس بذلك، قيل له فإن مات في الطريق قال: حسابه على الله، وروى
عنه ابن القاسم أنه قال: لا أرى للذين لا يجدون ما ينفقون أن يخرجوا إلى
الحج والغزو، ويسألوا وإني لأكره ذلك، لقول الله سبحانه، ولا على الّذين لا
يجدون ما ينفقون حرجٌ [التوبة: 91] قال ابن القاسم: وكره مالك أن يحج
النساء في البحر لأنها كشفة، وكره أن يحج أحد في البحر إلا مثل أهل الأندلس
الذين لا يجدون منه بدا، وقال في كتاب محمد وغيره:
قال الله تعالى: وأذّن في النّاس بالحجّ يأتوك رجالًا وعلى كلّ ضامرٍ يأتين من كلّ فجٍّ عميقٍ [الحج: 27] وما أسمع للبحر ذكرا.
قال الفقيه القاضي:
وهذا تأنيس من مالك رحمه الله لسقوط لفظة البحر، وليس تقتضي الآية سقوط
البحر، وسيأتي تفسير ذلك في موضعه إن شاء الله، وقد قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ناس من أمتي عرضوا عليّ ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على
الأسرة، يركبون ثبج هذا البحر الأخضر غزاة في سبيل الله.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: ولا فرق بين الغزو والحج، واختلف في حج النساء ماشيات مع القدرة
على ذلك، فقال في المدونة في المرأة تنذر مشيا فتمشي وتعجز في بعض الطريق:
إنها تعود ثانية، قال: والرجال والنساء في ذلك سواء، فعلى هذا، يجب الحج
إذا كانت قادرة على المشي لأن حجة الفريضة آكد من النذر، وقال في كتاب
محمد: لا أرى على المرأة الحج ماشية وإن قويت عليه، لأن مشيهن عورة، إلا أن
يكون المكان القريب من مكة.
قال القاضي: وهذا
ينظر بفقه الحال من رائعة ومتجالة، ولا حج على المرأة إلا إذا كان معها ذو
محرم، واختلف إذا عدمته، هل يجب الحج بما هو في معناه من نساء ثقات يصطحبن
في القافلة أو رجال ثقات؟ فقال الحسن البصري وإبراهيم النخعي وابن حنبل
وإسحاق بن راهويه وأبو حنيفة وأصحابه: المحرم من السبيل، ولا حج عليها إلا
مع ذي محرم.
قال القاضي: وهذا
وقوف مع لفظ الحديث، وقال مالك: تخرج مع جماعة نساء، وقال الشافعي: تخرج مع
حرة ثقة مسلمة، وقال ابن سيرين: تخرج مع رجل ثقة من المسلمين، وقال
الأوزاعي: تخرج مع قوم عدول وتتخذ سلما تصعد عليه وتنزل ولا يقربها رجل.
قال القاضي: وهذه
الأقوال راعت معنى الحديث، وجمهور الأمة على أن للمرأة أن تحج الفريضة وإن
كره زوجها وليس له منعها، واضطرب قول الشافعي في ذلك، واختلف الناس في وجوب
الحج مع وجود المكوس والغرامة، فقال سفيان الثوري: إذا كان المكس ولو
درهما سقط فرض الحج عن الناس، وقال عبد الوهاب: إذا كانت الغرامة كثيرة
مجحفة سقط الفرض، فظاهر هذا أنها إذا كانت كثيرة غير مجحفة لسعة الحال أن
الفرض لا يسقط، وعلى هذا المنزع جماعة أهل العلم وعليه مضت الأعصار، وهذه
نبذة من فقه الاستطاعة، وليس هذا الجمع بموضع لتقصي ذلك والله المستعان.
والسبيل- تذكر وتؤنث،
والأغلب والأفصح التأنيث، قال الله تعالى: تبغونها عوجاً [آل عمران: 99]
وقال: قل هذه سبيلي [يوسف: 108] ومن التذكير قول كعب بن مالك.
قضى يوم بدر أن تلاقي معشرا = بغوا وسبيل البغي بالناس جائز
والضمير في إليه،
عائد على البيت، ويحتلم أن يعود على الحج، وقوله تعالى: ومن كفر فإنّ اللّه
غنيٌّ عن العالمين قال ابن عباس: المعنى، من زعم أن الحج ليس بفرض عليه،
وقال مثله الضحاك وعطاء وعمران القطان والحسن ومجاهد، وروي عن النبي عليه
السلام أنه قرأ الآية، فقال له رجل من هذيل: يا رسول الله من تركه كفر،
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم من تركه لا يخاف عقوبته، ومن حجه لا يرجو
ثوابه فهو ذلك وقال بمعنى هذا الحديث ابن عباس ومجاهد أيضا، وهذا والذي
قبله يرجع إلى كفر الجحد والخروج عن الملة، وقال ابن عمر وجماعة من العلماء
معنى الآية، من كفر بالله واليوم الآخر وهذا قريب من الأول، وقال ابن زيد:
معنى الآية من كفر بهذه الآيات التي في البيت، وقال السدي وجماعة من أهل
العلم: معنى الآية: ومن كفر بأن وجد ما يحج به ثم لم يحج، قال السدي: من
كان بهذه الحال فهو كافر.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: فهذا كفر معصية، كقوله عليه السلام: من ترك الصلاة فقد كفر
وقوله: لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض، على أظهر محتملات هذا
الحديث. وبيّن أن من أنعم الله عليه بمال وصحة ولم يحج فقد كفر النعمة،
ومعنى قوله تعالى: غنيٌّ عن العالمين الوعيد لمن كفر، والقصد بالكلام، فإن
الله غني عنهم، ولكن عمم اللفظ ليبرع المعنى، وينتبه الفكر على قدرة الله
وسلطانه واستغنائه من جميع الوجوه حتى ليس به افتقار إلى شيء، لا ربّ
سواه). [المحرر الوجيز: 2/289-300]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {فيه آياتٌ بيّناتٌ} أي: دلالاتٌ ظاهرةٌ أنّه من بناء إبراهيم، وأنّ اللّه تعالى عظّمه وشرّفه.
ثمّ قال تعالى: {مّقام إبراهيم} يعني: الّذي لمّا ارتفع البناء استعان به
على رفع القواعد منه والجدران، حيث كان يقف عليه ويناوله ولده إسماعيل، وقد
كان ملتصقًا بجدار البيت، حتّى أخّره عمر بن الخطّاب، رضي اللّه عنه، في
إمارته إلى ناحية الشّرق بحيث يتمكّن الطّوّاف، ولا يشوّشون على المصلّين
عنده بعد الطّواف؛ لأنّ اللّه تعالى قد أمرنا بالصّلاة عنده حيث قال:
{واتّخذوا من مّقام إبراهيم مصلًّى} [البقرة:125] وقد قدّمنا الأحاديث في
ذلك، فأغنى عن إعادته هاهنا، وللّه الحمد والمنّة.
وقال العوفي عن ابن عبّاسٍ في قوله: {فيه آياتٌ بيّناتٌ مّقام إبراهيم} أي: فمنهنّ مقام إبراهيم والمشعر.
وقال مجاهدٌ: أثر قدميه في المقام آيةٌ بيّنةٌ. وكذا روي عن عمر بن عبد العزيز، والحسن، وقتادة، والسّدّي، ومقاتل بن حيّان، وغيرهم.
وقال أبو طالبٍ في قصيدته:
وموطئ إبراهيم في الصّخر رطبةٌ = على قدميه حافيًا غير ناعل
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ وعمرو الأودي قالا حدّثنا وكيع،
حدّثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاءٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {مقام
إبراهيم} قال: الحرم كلّه مقام إبراهيم. ولفظ عمرٍو: الحجر كلّه مقام
إبراهيم.
وروي عن سعيد بن جبيرٍ أنّه قال: الحجّ مقام إبراهيم. هكذا رأيت في النّسخة، ولعلّه الحجر كلّه مقام إبراهيم، وقد صرّح بذلك مجاهدٌ.
وقوله: {ومن دخله كان آمنًا} يعني: حرم مكّة إذا دخله الخائف يأمن من كلّ
سوءٍ، وكذلك كان الأمر في حال الجاهليّة، كما قال الحسن البصريّ وغيره: كان
الرّجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول فلا يهيّجه
حتّى يخرج.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا أبو يحيى التّيميّ،
عن عطاءٍ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ومن دخله كان آمنًا}
قال: من عاذ بالبيت أعاذه البيت، ولكن لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى، فإذا خرج
أخذ بذنبه.
وقال اللّه تعالى: {أولم يروا أنّا جعلنا حرمًا آمنًا ويتخطّف النّاس من
حولهم} [العنكبوت:67] وقال تعالى: {فليعبدوا ربّ هذا البيت. الّذي أطعمهم
من جوعٍ وآمنهم من خوفٍ} [قريشٍ:3، 4] وحتّى إنّه من جملة تحريمها حرمة
اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره، وحرمة قطع أشجارها وقلع ثمارها حشيشها،
كما ثبتت الأحاديث والآثار في ذلك عن جماعةٍ من الصّحابة مرفوعًا وموقوفًا.
ففي الصّحيحين، واللّفظ لمسلمٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم يوم الفتح فتح مكّة: "لا هجرة ولكن جهادٌ ونيّةٌ، وإذا
استنفرتم فانفروا"، وقال يوم الفتح فتح مكّة: "إنّ هذا البلد حرّمه الله
يوم خلق السّموات والأرض، فهو حرامٌ بحرمة اللّه إلى يوم القيامة، وإنّه لم
يحلّ القتال فيه لأحدٍ قبلي، ولم يحلّ لي إلّا في ساعةٍ من نهارٍ، فهو
حرامٌ بحرمة اللّه إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفّر صيده، ولا
يلتقط لقطته إلّا من عرّفها، ولا يختلى خلاها فقال العباس: يا رسول الله،
إلا الإذخر، فإنّه لقينهم ولبيوتهم، فقال: "إلّا الإذخر".
ولهما عن أبي هريرة، مثله أو نحوه ولهما واللّفظ لمسلمٍ أيضًا عن أبي شريح
العدوي أنّه قال لعمرو بن سعيدٍ، وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيّها
الأمير أن أحدّثك قولا قام به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الغد من
يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلّم به، إنّه حمد
اللّه وأثنى عليه ثمّ قال: "إنّ مكّة حرّمها الله ولم يحرّمها النّاس، فلا
يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرةً،
فإن أحد ترخّص بقتال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم فيها فقولوا له: إنّ
الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنّما أذن لي فيها ساعةً من نهارٍ، وقد
عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلّغ الشّاهد الغائب" فقيل لأبي شريح:
ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريحٍ، إنّ الحرم لا يعيذ
عاصيًا ولا فارا بدمٍ ولا فارًّا بخزية .
وعن جابرٍ قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: "لا يحلّ لأحدكم أن يحمل بمكّة السّلاح" رواه مسلمٌ.
وعن عبد اللّه بن عديّ بن الحمراء الزّهريّ أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم يقول، وهو واقفٌ بالحزورة في سوق مكّة: "والله إنّك لخير أرض
الله، وأحبّ أرض الله إلى الله، ولولا أنّي أخرجت منك ما خرجت".
رواه الإمام أحمد، وهذا لفظه، والتّرمذيّ، والنّسائيّ، وابن ماجه. وقال
التّرمذيّ: حسنٌ صحيحٌ وكذا صحّح من حديث ابن عبّاسٍ نحوه وروى أحمد عن أبي
هريرة، نحوه.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا بشر بن آدم ابن بنت أزهر السّمّان
حدّثنا أبو عاصمٍ، عن زريق بن مسلمٍ الأعمى مولى بني مخزومٍ، حدّثني زياد
بن أبي عيّاشٍ، عن يحيى بن جعدة بن هبيرة، في قوله تعالى: {ومن دخله كان
آمنًا} قال: آمنًا من النّار.
وفي معنى هذا القول الحديث الّذي رواه البيهقيّ: أخبرنا أبو الحسن عليّ بن
أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيدٍ، حدّثنا محمّد بن سليمان الواسطيّ،
حدّثنا سعيد بن سليمان، حدّثنا ابن المؤمّل، عن ابن محيصن، عن عطاءٍ، عن
عبد اللّه بن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: "من دخل
البيت دخل في حسنةٍ وخرج من سيّئةٍ، وخرج مغفورًا له": ثمّ قال: تفرّد به
عبد اللّه بن المؤمّل، وليس بقويٍّ.
وقوله: {وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا} هذه آية وجوب
الحجّ عند الجمهور. وقيل: بل هي قوله: {وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه}
[البقرة:196] والأوّل أظهر.
وقد وردت الأحاديث المتعدّدة بأنّه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده،
وأجمع المسلمون على ذلك إجماعًا ضروريًّا، وإنّما يجب على المكلّف في العمر
مرّة واحدةً بالنّصّ والإجماع.
قال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد بن هارون، أخبرنا الرّبيع بن مسلمٍ القرشيّ،
عن محمّد بن زيادٍ، عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم فقال: " أيّها النّاس، قد فرض عليكم الحجّ فحجّوا". فقال رجلٌ: أكلّ
عامٍ يا رسول اللّه؟ فسكت، حتّى قالها ثلاثًا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم: "لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم ". ثمّ قال: "ذروني ما
تركتكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم،
وإذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيءٍ فدعوه".
ورواه مسلمٌ، عن زهير بن حربٍ، عن يزيد بن هارون، به نحوه.
وقد روى سفيان بن حسينٍ، وسليمان بن كثيرٍ، وعبد الجليل بن حميد، ومحمّد بن
أبي حفصة، عن الزّهريّ، عن أبي سنان الدّؤليّ -واسمه يزيد بن أمّيّة-عن
ابن عبّاسٍ قال: خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "يأيّها
النّاس، إنّ الله كتب عليكم الحجّ". فقام الأقرع بن حابسٍ فقال: يا رسول
اللّه، أفي كلّ عامٍ؟ قال: "لو قلتها، لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها، ولم
تستطيعوا أن تعملوا بها؛ الحجّ مرّةً، فمن زاد فهو تطوّعٌ".
رواه أحمد، وأبو داود، والنّسائيّ، وابن ماجه، والحاكم من حديث الزّهريّ،
به. ورواه شريكٌ، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، بنحوه. وروي من حديث
أسامة يزيد.
[و] قال الإمام أحمد: حدّثنا منصور بن وردان، عن عليّ بن عبد الأعلى، عن
أبيه، عن أبي البختريّ، عن عليّ قال: لمّا نزلت: {وللّه على النّاس حجّ
البيت من استطاع إليه سبيلا} قالوا: يا رسول اللّه، في كلّ عامٍ؟ فسكت،
قالوا: يا رسول اللّه، في كلّ عامٍ؟ قال: "لا ولو قلت: نعم، لوجبت". فأنزل
اللّه تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}
[المائدة:101].
وكذا رواه التّرمذيّ، وابن ماجه، والحاكم، من حديث منصور بن وردان، به: ثمّ
قال التّرمذيّ: حسنٌ غريبٌ. وفيما قال نظرٌ؛ لأنّ البخاريّ قال: لم يسمع
أبو البختريّ من عليٍّ.
وقال ابن ماجه: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن نمير، حدّثنا محمّد بن أبي
عبيدة، عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس بن مالكٍ قال: قالوا: يا
رسول اللّه، الحجّ في كلّ عامٍ؟ قال: "لو قلت: نعم، لوجبت، ولو وجبت لم
تقوموا بها، ولو لم تقوموا بها لعذّبتم".
وفي الصّحيحين من حديث ابن جريج، عن عطاءٍ، عن جابرٍ، عن سراقة بن مالكٍ
قال: يا رسول اللّه، متعتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد؟ قال: "لا بل للأبد".
وفي روايةٍ: "بل لأبد أبدٍ".
وفي مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، من حديث واقد بن أبي واقدٍ اللّيثيّ،
عن أبيه؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لنسائه في حجّته: "هذه
ثمّ ظهور الحصر" يعني: ثمّ الزمن ظهور الحصر، ولا تخرجن من البيوت.
وأمّا الاستطاعة فأقسامٌ: تارةً يكون الشّخص مستطيعًا بنفسه، وتارةً بغيره، كما هو مقرّرٌ في كتب الأحكام.
قال أبو عيسى التّرمذيّ: حدّثنا عبد بن حميدٍ، أخبرنا عبد الرّزّاق، أخبرنا
إبراهيم بن يزيد قال: سمعت محمّد بن عبّاد بن جعفرٍ يحدّث عن ابن عمر قال:
قام رجلٌ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال: من الحاجّ يا رسول
اللّه؟ قال: "الشّعث التّفل" فقام آخر فقال: أيّ الحجّ أفضل يا رسول اللّه؟
قال: "العجّ والثّجّ"، فقام آخر فقال: ما السّبيل يا رسول الله ؟ قال:
"الزّاد والرّاحلة".
وهكذا رواه ابن ماجه من حديث إبراهيم بن يزيد وهو الخوزي. قال التّرمذيّ:
ولا نعرفه إلّا من حديثه، وقد تكلّم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. كذا
قال هاهنا. وقال في كتاب الحجّ: هذا حديثٌ حسنٌ.
[و] لا يشكّ أنّ هذا الإسناد رجاله كلّهم ثقاتٌ سوى الخوزيّ هذا، وقد تكلّموا فيه من أجل هذا الحديث.
لكن قد تابعه غيره، فقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عبد العزيز بن
عبد اللّه العامريّ، حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن عبيد بن عميرٍ اللّيثيّ،
عن محمّد بن عبّاد بن جعفرٍ قال: جلست إلى عبد اللّه بن عمر قال: جاء رجلٌ
إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال له: ما السّبيل؟ قال: "الزّاد
والرّحلة". وكذا رواه ابن مردويه من رواية محمّد بن عبد اللّه بن عبيد بن
عمير، به.
ثمّ قال ابن أبي حاتمٍ: وقد روي عن ابن عبّاسٍ، وأنسٍ، والحسن، ومجاهدٍ، وعطاءٍ، وسعيد بن جبيرٍ، والرّبيع بن أنسٍ، وقتادة -نحو ذلك.
وقد روي هذا الحديث من طرق أخر من حديث أنسٍ، وعبد اللّه بن عبّاسٍ، وابن
مسعودٍ، وعائشة كلها مرفوعةٌ، ولكن في أسانيدها مقالٌ كما هو مقرّرٌ في
كتاب الأحكام، واللّه أعلم.
وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا الحديث. ورواه الحاكم من
حديث قتادة عن حمّاد بن سلمة، عن قتادة، عن أنسٍ؛ أنّ رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم سئل عن قول اللّه: {من استطاع إليه سبيلا} فقيل ما
السّبيل ؟ قال: "الزّاد والرّاحلة". ثمّ قال: صحيحٌ على شرط مسلمٍ، ولم
يخرّجاه.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني يعقوب، حدّثنا ابن عليّة، عن يونس، عن الحسن قال:
قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {وللّه على النّاس حجّ البيت من
استطاع إليه سبيلا} قالوا: يا رسول اللّه، ما السّبيل؟ قال: "الزّاد
والرّاحلة ".
ورواه وكيع في تفسيره، عن سفيان، عن يونس، به.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّزّاق، أنبأنا الثّوريّ، عن إسماعيل -وهو
أبو إسرائيل الملائيّ-عن فضيل -يعني ابن عمرٍو-عن سعيد بن جبير، عن ابن
عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "تعجّلوا إلى الحجّ
-يعني الفريضة-فإنّ أحدكم لا يدري ما يعرض له ".
وقال أحمد أيضًا: حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الحسن بن عمرٍو الفقيمي، عن
مهران بن أبي صفوان عن ابن عبّاسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم: "من أراد الحجّ فليتعجّل".
ورواه أبو داود، عن مسدّدٍ، عن أبي معاوية الضّرير، به.
وقد روى ابن جبير، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {من استطاع إليه سبيلا} قال: من ملك ثلاثمائة درهم فقد استطاع إليه سبيلًا.
وعن عكرمة مولاه أنّه قال: السّبيل الصّحّة.
وروى وكيع بن الجرّاح، عن أبي جناب -يعني الكلبيّ-عن الضّحّاك بن مزاحم، عن
ابن عبّاسٍ قال: {من استطاع إليه سبيلا} قال: الزّاد والبعير.
وقوله: {ومن كفر فإنّ اللّه غنيٌّ عن العالمين} قال ابن عبّاسٍ ومجاهدٌ
وغير واحدٍ: أي ومن جحد فريضة الحجّ فقد كفر، واللّه غنيٌّ عنه.
وقال سعيد بن منصورٍ، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة قال: لمّا نزلت:
{ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه} قالت اليهود: فنحن مسلمون. قال
اللّه، عزّ وجلّ فاخصمهم فحجّهم -يعني فقال لهم النّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم: "إنّ الله فرض على المسلمين حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا"
فقالوا: لم يكتب علينا، وأبوا أن يحجّوا. قال اللّه: {ومن كفر فإنّ اللّه
غنيٌّ عن العالمين}.
وروى ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ، نحوه.
وقال أبو بكر بن مردويه: حدّثنا عبد اللّه بن جعفرٍ، أخبرنا إسماعيل بن عبد
اللّه بن مسعودٍ، أخبرنا مسلم بن إبراهيم وشاذ بن فيّاضٍ قالا أخبرنا
هلالٌ أبو هاشمٍ الخراساني، أخبرنا أبو إسحاق الهمدانيّ، عن الحارث، عن
عليٍّ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من ملك
زادًا وراحلةً ولم يحجّ بيت الله، فلا يضرّه مات يهوديّا أو نصرانيّا، ذلك
بأنّ الله قال: {وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر
فإنّ اللّه غنيٌّ عن العالمين}.
ورواه ابن جريرٍ من حديث مسلم بن إبراهيم، به.
وهكذا رواه ابن أبي حاتمٍ عن أبي زرعة الرّازيّ: حدّثنا هلال بن فياض،
حدثنا هلال أبو هاشم الخراسانيّ، فذكره بإسناده مثله. ورواه التّرمذيّ عن
محمّد بن يحيى القطعي، عن مسلم بن إبراهيم، عن هلال بن عبد اللّه مولى
ربيعة بن عمرو بن مسلمٍ الباهليّ، به، وقال: [هذا] حديثٌ غريبٌ لا نعرفه
إلّا من هذا الوجه، وفي إسناده مقالٌ، وهلالٌ مجهولٌ، والحارث يضعّف في
الحديث.
وقال البخاريّ: هلالٌ هذا منكر الحديث. وقال ابن عديّ: هذا الحديث ليس بمحفوظٍ.
وقد روى أبو بكرٍ الإسماعيليّ الحافظ من حديث [أبي] عمرٍو الأوزاعيّ،
حدّثني إسماعيل بن عبيد اللّه بن أبي المهاجر، حدّثني عبد الرّحمن بن غنم
أنّه سمع عمر بن الخطّاب يقول: من أطاق الحجّ فلم يحجّ، فسواءٌ عليه
يهوديًّا مات أو نصرانيًّا.
وهذا إسنادٌ صحيحٌ إلى عمر رضي اللّه عنه، وروى سعيد بن منصورٍ في سننه عن
الحسن البصريّ قال: قال عمر بن الخطّاب: لقد هممت أنّ أبعث رجالًا إلى هذه
الأمصار فينظروا كلّ من كان له جدةٌ فلم يحجّ، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم
بمسلمين. ما هم بمسلمين). [تفسير القرآن العظيم: 2/79-85]