21 Aug 2015
* للاستزادة ينظر: هنا
تفسير
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه حقّ تقاته ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون}أي: اتقوه فيما يحق عليكم أن تتقوه فيه.
قال بعضهم {حقّ تقاته}: أن يطاع فلا يعصي وأن يذكر فلا ينسى، ومعنى يذكر فلا ينسى: أن يذكر عند ما يجب من أمره فلا يتجاوز أمره.
وقال بعضهم: هذه الآية منسوخة نسخها قوله جلّ وعزّ: {فاتّقوا اللّه ما استطعتم}
وقوله جلّ وعزّ: {لا يكلّف اللّه نفسا إلّا وسعها}وتقاة أصلها:
وقاة وهي من وقيت إلا أن الواو لم تأت في هذا المثال على أصلها، ولم يقل
في هذا المثال شيء إلا والتاء فيه مبدلة من الواو وكذلك قالوا تخمة إنما هي
من الوخامة، وكذلك قالوا: في فعال نحو التراث والتجاه، وتجاه في معنى
المواجهة.
وهذا المثال فيه أوجه: إذا بنيت فعلة من وقيت
قلت تقاة وهو الذي يختاره النحويون، ولم يأت في اللغة على هذا المثال شيء
إلا وقد أبدلت التاء من واوه.
ويجوز أن يقال وقاة، وأقاه لأن الواو إذا انضمت
وكانت أولا فأنت في البدل منها بالخيار، إن شئت أبدلت منها همزة، وإن شئت
أقررتها على هيئتها، وإن شئت في هذا المثال خاصة أبدلت منها التاء.
وقوله جلّ وعزّ: {ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون}.
لفظ النهي واقع على الموت، والمعنى: واقع على الأمر بالإقامة على الإسلام.
المعنى: كونوا على الإسلام فإذا ورد عليكم الموت صادفكم على ذلك.
وإنما جاز هذا لأنه ليس في الكلام لبس، لأنه
يعلم منه أنهم لا ينهون عما لا يفعلون، ومثله في الكلام، "لا أرينك ههنا "
فالنهي واقع في اللفظ على المخاطبة، والمعنى: لا تكونن ههنا فإن من كان ههنا رأيته ولكن الكلام قصد به إلى الإيجاز والاختصار إذ لم يكن فيه نقص معنى). [معاني القرآن: 1/448-449]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه حقّ تقاته ولا تموتنّ إلاّ
وأنتم مسلمون (102) واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرّقوا
الخطاب بهذه الآية
يعم جميع المؤمنين، والمقصود به وقت نزولها الأوس والخزرج الذين شجر بينهم
بسعاية شاس بن قيس ما شجر، و «تقاة» مصدر وزنه فعلة، أصله تقية، وقد تقدم
قوله: إلا أن تتقوا منهم تقاة، ويصح أن تكون التقاة في هذه الآية جمع فاعل
وإن كان لم يتصرف منه فيكون كرماة ورام، أو يكون جمع تقي إذ فعيل وفاعل
بمنزلة، والمعنى على هذا: اتقوا الله كما يحق أن يكون متقوه المختصون به،
ولذلك أضيفوا إلى ضمير الله تعالى، واختلف العلماء في قوله: حقّ تقاته
فقالت فرقة: نزلت الآية على عموم لفظها، وألزمت الأمة أن تتقي الله غاية
التقوى حتى لا يقع إخلال في شيء من الأشياء، ثم إن الله نسخ ذلك عن الأمة
بقوله تعالى: فاتّقوا اللّه ما استطعتم [التغابن: 16] وبقوله: لا يكلّف
اللّه
نفساً إلّا وسعها
[البقرة: 286] قال
ذلك قتادة والسدي والربيع بن أنس وابن زيد وغيرهم، وقالت جماعة من أهل
العلم: لا نسخ في شيء من هذا، وهذه الآيات متفقات، فمعنى هذه: اتقوا الله
حقّ تقاته فيما استطعتم، وذلك أن حقّ تقاته هو بحسب أوامره ونواهيه، وقد
جعل تعالى الدين يسرا، وهذا هو القول الصحيح، وألا يعصي ابن آدم جملة لا في
صغيرة ولا في كبيرة، وألا يفتر في العبادة أمر متعذر في جبلة البشر، ولو
كلف الله هذا لكان تكليف ما لا يطاق، ولم يلتزم ذلك أحد في تأويل هذه
الآية، وإنما عبروا في تفسير هذه الآية بأن قال ابن مسعود رضي الله عنه:
حقّ تقاته: هو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، وكذلك
عبر الربيع بن خيثم وقتادة والحسن، وقال ابن عباس رضي الله عنهما:
معنى قوله، واتّقوا
اللّه حقّ تقاته: جاهدوا في الله حق جهاده ولا نسخ في الآية، وقال طاوس في
معنى قوله تعالى: اتّقوا اللّه حقّ تقاته: يقول تعالى، إن لم تتقوه ولم
تستطيعوا ذلك فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وقوله تعالى: ولا تموتنّ إلّا
وأنتم مسلمون معناه: دوموا على الإسلام حتى يوافيكم الموت وأنتم عليه. هكذا
هو وجه الأمر في المعنى، وجاءت العبارة على هذا النظم الرائق الوجيز،
ونظيره ما حكى سيبويه من قولهم: لا أرينك هاهنا، وإنما المراد: لا تكن
هاهنا فتكون رؤيتي لك، ومسلمون في هذه الآية، هو المعنى الجامع التصديق
والأعمال، وهو الدين عند الله وهو الذي بني على خمس). [المحرر الوجيز: 2/304-305]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا
أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه حقّ تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون
(102) واعتصموا بحبل اللّه جميعًا ولا تفرّقوا واذكروا نعمة اللّه عليكم إذ
كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا وكنتم على شفا حفرةٍ
من النّار فأنقذكم منها كذلك يبيّن اللّه لكم آياته لعلّكم تهتدون (103)}
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أحمد بن سنان، حدّثنا عبد الرّحمن، عن سفيان
وشعبة، عن زبيد الياميّ، عن مرّة، عن عبد اللّه -هو ابن مسعودٍ- {اتّقوا
اللّه حقّ تقاته} قال: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا
يكفر.
وهذا إسنادٌ صحيحٌ موقوفٌ، [وقد تابع مرّة عليه عمرو بن ميمونٍ عن ابن مسعودٍ].
وقد رواه ابن مردويه من حديث يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن سفيان
الثّوريّ، عن زبيد، عن مرّة، عن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم: " {اتّقوا اللّه حقّ تقاته} أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر،
ويذكر فلا ينسى".
وكذا رواه الحاكم في مستدركه، من حديث مسعر، عن زبيد، عن مرّة، عن ابن
مسعودٍ، مرفوعًا فذكره. ثمّ قال: صحيحٌ على شرط الشّيخين ولم يخرّجاه. كذا
قال. والأظهر أنّه موقوفٌ واللّه أعلم.
ثمّ قال ابن أبي حاتمٍ: وروي نحوه عن مرة الهمداني، والرّبيع بن خثيم،
وعمرو بن ميمون، وإبراهيم النّخعي، وطاووس، والحسن، وقتادة، وأبي سنان،
والسّدّي، نحو ذلك.
[وروي عن أنسٍ أنّه قال: لا يتّقي العبد اللّه حقّ تقاته حتّى يخزن من لسانه].
وقد ذهب سعيد بن جبير، وأبو العالية، والرّبيع بن أنسٍ، وقتادة، ومقاتل بن
حيّان، وزيد بن أسلم، والسّدّي وغيرهم إلى أنّ هذه الآية منسوخةٌ بقوله
تعالى: {فاتّقوا اللّه ما استطعتم} [التّغابن:16].
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {اتّقوا اللّه حقّ تقاته}
قال: لم تنسخ، ولكن {حقّ تقاته} أن يجاهدوا في سبيله حقّ جهاده، ولا تأخذهم
في اللّه لومة لائمٍ، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم.
وقوله: {ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون} أي: حافظوا على الإسلام في حال
صحّتكم وسلامتكم لتموتوا عليه، فإنّ الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنّه من
عاش على شيءٍ مات عليه، ومن مات على شيءٍ بعث عليه، فعياذًا باللّه من خلاف
ذلك.
قال الإمام أحمد: حدّثنا روح، حدّثنا شعبة قال: سمعت سليمان، عن مجاهدٍ،
أنّ النّاس كانوا يطوفون بالبيت، وابن عبّاسٍ جالسٌ معه محجن، فقال: قال
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: " {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه
حقّ تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون} ولو أنّ قطرةً من الزّقّوم قطرت
لأمرّت على أهل الأرض عيشتهم فكيف بمن ليس له طعامٌ إلّا الزّقّوم".
وهكذا رواه التّرمذيّ، والنّسائيّ، وابن ماجه، وابن حبّان في صحيحه،
والحاكم في مستدركه، من طرقٍ عن شعبة، به. وقال التّرمذيّ: حسنٌ صحيحٌ.
وقال الحاكم: على شرط الشّيخين، ولم يخرّجاه.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا وكيع، حدّثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد
الرّحمن بن عبد ربّ الكعبة، عن عبد اللّه بن عمرو قال: قال رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم: "من أحبّ أن يزحزح عن النّار ويدخل الجنّة، فلتدركه
منيّته، وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، ويأتي إلى النّاس ما يحبّ أن يؤتى
إليه ".
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن أبي سفيان،
عن جابرٍ قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول قبل موته بثلاثٍ:
"لا يموتنّ أحدكم إلّا وهو يحسن الظّنّ بالله عزّ وجلّ". ورواه مسلمٌ من
طريق الأعمش، به.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا حسن بن موسى، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثنا [أبو]
يونس، عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "إنّ
الله قال: أنا عند ظنّ عبدي بي، فإن ظنّ بي خيرًا فله، وإن ظنّ شرا فله ".
وأصل هذا الحديث ثابتٌ في الصّحيحين من وجهٍ آخر، عن أبي هريرة قال: قال
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "يقول الله [عزّ وجلّ] أنا عند ظنّ عبدي
بي".
وقال الحافظ أبو بكرٍ البزّار: حدّثنا محمّد بن عبد الملك القرشي، حدّثنا
جعفر بن سليمان، عن ثابتٍ -وأحسبه-عن أنسٍ قال: كان رجلٌ من الأنصار
مريضًا، فجاءه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يعوده، فوافقه في السّوق
فسلّم عليه، فقال له: "كيف أنت يا فلان؟ " قال بخيرٍ يا رسول اللّه، أرجو
الله أخاف ذنوبي. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا يجتمعان في
قلب عبدٍ في هذا الموطن إلّا أعطاه الله ما يرجو وآمنه ممّا يخاف".
ثمّ قال: لا نعلم رواه عن ثابتٍ غير جعفر بن سليمان. وهكذا رواه التّرمذيّ،
والنّسائيّ، وابن ماجه من حديثه، ثمّ قال التّرمذيّ: غريبٌ. وقد رواه
بعضهم عن ثابتٍ مرسلًا.
فأمّا الحديث الّذي رواه الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة،
عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن حكيم بن حزام قال: بايعت رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم على ألّا أخرّ إلّا قائمًا. ورواه النّسائيّ في سننه عن
إسماعيل بن مسعودٍ، عن خالد بن الحارث، عن شعبة، به، وترجم عليه فقال: (باب
كيف يخرّ للسّجود) ثمّ ساقه مثله فقيل: معناه: على ألّا أموت إلّا مسلمًا،
وقيل: معناه: [على] ألّا أقتل إلّا مقبلا غير مدبر، وهو يرجع إلى الأوّل).
[تفسير القرآن العظيم: 2/86-89]
تفسير
قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا
وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
(103)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ( (وقوله جلّ وعزّ: {واعتصموا
بحبل اللّه جميعا ولا تفرّقوا واذكروا نعمت اللّه عليكم إذ كنتم أعداء
فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النّار
فأنقذكم منها كذلك يبيّن اللّه لكم آياته لعلّكم تهتدون}
{جميعا} منصوب على الحال المعنى: كونوا مجتمعين على الاعتصام به.
وتفسير {واعتصموا بحبل اللّه}، أي: استمسكوا بعهد اللّه.
والحبل في لغة العرب: العهد.
قال الأعشى:
وإذا أجوز بها حبال قبيلة... أخذت من الأخرى إليك حبالها
ومعنى{ولا تفرّقو} أي: تناصروا على دين الله.
وأصل تفرقوا:
تتفرقوا إلا أن التاء حذفت لاجتماع حرفين من جنس واحد في كلمة، والمحذوفة
الثانية لأن الأولى دالة على الاستقبال فلا يجوز حذف الحرف الذي يدل على
الاستقبال وهو مجؤوم بالنهي، الأصل ولا تتفرقون فحذفت النون لتدل على
الجزم.
وقوله جلّ وعزّ: {واذكروا نعمت اللّه عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا}.
ذكّرهم اللّه بعظيم النعمة عليهم في الإسلام
لأنهم كانوا في جاهليتهم يقتل بعضهم بعضا، ويستبيح كل غالب منهم من غلبه
فحظر عليهم الإسلام الأنفس والأموال إلا بحقها، فعرفهم اللّه - عزّ وجلّ -
ما لهم من الحظ في العاجل في الدخول في الإسلام.
وقيل: نزلت في الأوس والخزرج لأنهم كانت بينهم
في الجاهلية حروب دائمة قد أتت عليها السنون الكثيرة، فأزال الإسلام تلك
الحروب وصاروا إخوانا في الإسلام متوادين على ذلك، وأصل الأخ في اللغة:
أن الأخ مقصده مقصد أخيه، وكذلك هوي الصداقة أن تكون إرادة كل واحد من
الأخوين موافقة لما يريد صاحبه والعرب تقول: فلان يتوخى مسار فلان أي يقصد
ما يسره.
وقوله جل وعلا: {وكنتم على شفا حفرة من النّار} أي" كنتم قد أشرفتم على النار وشفا الشيء، حرفه مقصور يكتب بالألف، وتثنيته شفوان، وقال - {فأنقذكم منها}، ولم يقل منه لأن المقصود في الخبر النار. أي فأنقذكم منها بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله جل وعلا - {كذلك يبيّن اللّه لكم آياته} الكاف في موضع نصب.
المعنى: مثل البيان الذي يتلى عليكم يبين الله لكم آياته.
ومعنى{لعلّكم تهتدون}أي: لتكونوا على رجاء هدايته). [معاني القرآن: 1/449-451]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله
تعالى: واعتصموا بحبل اللّه جميعاً معناه تمنعوا وتحصنوا به، فقد يكون
الاعتصام بالتمسك باليد، وبارتقاء القنن، وبغير ذلك مما هو منعة، ومنه
الأعصم في الجبل، ومنه عصمة النكاح، و «الحبل» في هذه الآية مستعار لما كان
السبب الذي يعتصم به، وصلة ممتدة بين العاصم والمعصوم، ونسبة بينهما، شبه
ذلك بالحبل الذي شأنه أن يصل شيئا بشيء، وتسمى العهود والمواثيق حبالا،
ومنه قول الأعشى:
وإذا تجوّزها حبال قبيلة = أخذت من الأدنى إليك حبالها
ومنه قول الآخر: [الكامل]
(إني بحبلك واصل حبلي) = ... ... ... ...
ومنه قول الله تعالى:
إلّا بحبلٍ من اللّه وحبلٍ من النّاس [آل عمران: 112] واختلفت عبارة
المفسرين في المراد في هذه الآية بحبل اللّه، فقال ابن مسعود: «حبل الله»
الجماعة، وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن بني
إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين
فرقة كلها في النار إلا واحدة قال فقيل يا رسول الله: وما هذه الواحدة؟ قال
فقبض يده وقال: الجماعة وقرأ، واعتصموا بحبل اللّه جميعاً، وقال ابن مسعود
في خطبة: عليكم جميعا بالطاعة والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به، وقال
قتادة رحمه الله: «حبل الله» الذي أمر بالاعتصام به هو القرآن، وقال السدي:
«حبل الله» كتاب الله، وقاله أيضا ابن مسعود والضحاك، وروى أبو سعيد
الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كتاب الله هو حبل الله
الممدود من السماء إلى الأرض، وقال أبو العالية: «حبل الله» في هذه الآية
هو الإخلاص في التوحيد وقال ابن زيد: «حبل الله» هو الإسلام.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: وقيل غير هذا مما هو كله قريب بعضه من بعض، وقوله تعالى: جميعاً
حال من الضمير في قوله، اعتصموا، فالمعنى: كونوا في اعتصامكم مجتمعين. ولا
تفرّقوا يريد التفرق الذي لا يتأتى معه الائتلاف على الجهاد وحماية الدين
وكلمة الله تعالى، وهذا هو الافتراق بالفتن والافتراق في العقائد، وأما
الافتراق في مسائل الفروع والفقه فليس يدخل في هذه الآية، بل ذلك، هو الذي
قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلاف أمتي رحمة، وقد اختلف الصحابة
في الفروع أشد اختلاف، وهم يد واحدة على كل كافر، وأما الفتنة على علي بن
أبي طالب رضي الله عنه فمن التفرق المنهي عنه، أما أن التأويل هو الذي أدخل
في ذلك أكثر من دخله من الصحابة رضي الله عن جميعهم.
قوله تعالى: ...
واذكروا نعمت اللّه عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته
إخواناً وكنتم على شفا حفرةٍ من النّار فأنقذكم منها كذلك يبيّن اللّه لكم
آياته لعلّكم تهتدون (103)
هذه الآية تدل على أن
الخطاب بهذه الآية إنما هو للأوس والخزرج، وذلك أن العرب وإن كان هذا
اللفظ يصلح في جميعها فإنها لم تكن في وقت نزول هذه الآية اجتمعت على
الإسلام ولا تألفت قلوبها، وإنما كانت في قصة شاس بن قيس في صدر الهجرة،
وحينئذ نزلت هذه الآية، فهي في الأوس والخزرج، كانت بينهم عداوة وحروب،
منها يوم بعاث وغيره، وكانت تلك الحروب والعداوة قد دامت بين الحيين مائة
وعشرين سنة، حتى رفعها الله بالإسلام، فجاء النفر الستة من الأنصار إلى مكة
حجاجا، فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه عليهم، وتلا عليهم القرآن،
كما كان يصنع مع قبائل العرب، فآمنوا به وأراد الخروج معهم، فقالوا يا
رسول الله: إن قدمت بلادنا على ما بيننا من العداوة والحرب، خفنا أن لا يتم
ما نريده منك، ولكن نمضي نحن ونشيع أمرك، ونداخل الناس، وموعدنا وإياك
العام القابل، فمضوا وفعلوا، وجاءت الأنصار في العام القابل، فكانت العقبة
الثانية وكانوا اثني عشر رجلا، فيهم خمسة من الستة الأولين، ثم جاؤوا من
العام الثالث، فكانت بيعة العقبة الكبرى، حضرها سبعون وفيهم اثنا عشر
نقيبا، ووصف هذه القصة مستوعب في سيرة ابن هشام، ويسر الله تعالى الأنصار
للإسلام بوجهين، أحدهما أن بني إسرائيل كانوا مجاورين لهم وكانوا يقولون
لمن يتوعدونه من العرب، يبعث لنا نبي الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما
رأى النفر من الأنصار محمدا صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم لبعض: هذا والله
النبي الذي تذكره بنو إسرائيل فلا تسبقن إليه، والوجه الآخر، الحرب التي
كانت ضرستهم وأفنت سراتهم، فرجوا أن يجمع الله به كلمتهم كالذي كان، فعدد
الله تعالى عليهم نعمته في تأليفهم بعد العداوة، وذكرهم بها، وقوله تعالى:
فأصبحتم عبارة عن الاستمرار وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت ما، وإنما خصت هذه
اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبدأ النهار، وفيها مبدأ الأعمال، فالحال
التي يحسها المرء من نفسه فيها هي حاله التي يستمر عليها يومه في الأغلب،
ومنه قول الربيع بن ضبع: [المنسرح]
أصبحت لا أحمل السلاح ولا = أملك رأس البعير إن نفرا
و «الإخوان» جمع أخ،
ويجمع إخوة، وهذان أشهر الجمع فيه، على أن سيبويه رحمه الله يرى أن إخوة
اسم جمع، وليس ببناء جمع لأن فعلا لا يجمع على فعلة، قال بعض الناس: الأخ
في الدين يجمع إخوانا، والأخ في النسب يجمع إخوة: هكذا كثر استعمالهم.
قال القاضي أبو محمد.
وفي كتاب الله تعالى: إنّما المؤمنون إخوةٌ الحجرات: 10] وفيه، أو بني
إخوانهنّ [النور: 31]، فالصحيح أنهما يقالان في النسب، ويقالان في الدين، و
«الشفا» حرف كل جرم له مهوى، كالحفرة والبئر والجرف والسقف والجدار ونحوه،
ويضاف في الاستعمال إلى الأعلى، كقوله شفا جرفٍ [التوبة: 109] وإلى الأسفل
كقوله شفا حفرةٍ، ويثنى شفوان، فشبه تعالى كفرهم الذي كانوا عليه وحربهم
المدنية من الموت بالشفا، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأبا، فأنقذهم الله
بالإسلام، والضمير في منها عائد على النار، أو على «الحفرة»، والعود على
الأقرب أحسن، وقال بعض الناس حكاه الطبري: إن الضمير عائد على «الشفا»،
وأنث الضمير من حيث كان الشفا مضافا إلى مؤنث، فالآية كقول جرير:
رأت مرّ السنين أخذن منّي = كما أخذ السّرار من الهلال
إلى غير ذلك من الأمثلة.
قال القاضي: وليس
الأمر كما ذكر، والآية لا يحتاج فيها إلى هذه الصناعة، إلا لو لم تجد معادا
للضمير إلا «الشفا»، وأما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه، ويعضده المعنى
المتكلم فيه، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة وقوله تعالى: كذلك يبيّن اللّه
لكم آياته إشارة إلى ما بين في هذه الآيات، أي فكذلك يبين لكم غيرها،
وقوله، لعلّكم ترجّ في حق البشر، أي من تأمل منكم الحال رجا الاهتداء). [المحرر الوجيز: 2/305-309]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله:
{واعتصموا بحبل اللّه جميعًا ولا تفرّقوا} قيل {بحبل اللّه} أي: بعهد
اللّه، كما قال في الآية بعدها: {ضربت عليهم الذّلّة أين ما ثقفوا إلا
بحبلٍ من اللّه وحبلٍ من النّاس} [آل عمران:112] أي بعهدٍ وذمّةٍ وقيل:
{بحبلٍ من اللّه} يعني: القرآن، كما في حديث الحارث الأعور، عن عليّ
مرفوعًا في صفة القرآن: "هو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم".
وقد ورد في ذلك حديثٌ خاصٌّ بهذا المعنى، فقال الإمام الحافظ أبو جعفرٍ
الطّبريّ: حدّثنا سعيد بن يحيى الأمويّ، حدّثنا أسباط بن محمّدٍ، عن عبد
الملك بن أبي سليمان العرزمي، عن عطيّة عن [أبي] سعيدٍ قال: قال رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم: "كتاب الله، هو حبل الله الممدود من السّماء إلى
الأرض".
وروى ابن مردويه من طريق إبراهيم بن مسلمٍ الهجريّ، عن أبي الأحوص، عن عبد
اللّه رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ هذا
القرآن هو حبل الله المتين، وهو النّور المبين وهو الشّفاء النّافع، عصمةٌ
لمن تمسّك به، ونجاةٌ لمن اتّبعه".
وروي من حديث حذيفة وزيد بن أرقم نحو ذلك. [وقال وكيع: حدّثنا الأعمش عن
أبي وائلٍ قال: قال عبد اللّه: إنّ هذا الصّراط محتضرٌ تحضره الشّياطين، يا
عبد اللّه، بهذا الطّريق هلمّ إلى الطّريق، فاعتصموا بحبل اللّه فإنّ حبل
اللّه القرآن].
وقوله: {ولا تفرّقوا} أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التّفرقة وقد وردت الأحاديث
المتعدّدة بالنّهي عن التّفرّق والأمر بالاجتماع والائتلاف كما في صحيح
مسلمٍ من حديث سهيل بن أبي صالحٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أنّ رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلم قال: "إنّ الله يرضى لكم ثلاثًا، ويسخط لكم ثلاثًا،
يرضى لكم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا
ولا تفرّقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم؛ ويسخط لكم ثلاثًا: قيل وقال،
وكثرة السّؤال، وإضاعة المال".
وقد ضمنت لهم العصمة، عند اتّفاقهم، من الخطأ، كما وردت بذلك الأحاديث
المتعدّدة أيضًا، وخيف عليهم الافتراق، والاختلاف، وقد وقع ذلك في هذه
الأمّة فافترقوا على ثلاثٍ وسبعين فرقةً، منها فرقةٌ ناجيةٌ إلى الجنّة
ومسلمة من عذاب النّار، وهم الّذين على ما كان عليه رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم وأصحابه.
وقوله: {واذكروا نعمة اللّه عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم
بنعمته إخوانًا [وكنتم على شفا حفرةٍ من النّار فأنقذكم منها]} إلى آخر
الآية، وهذا السّياق في شأن الأوس والخزرج، فإنّه كانت بينهم حروبٌ كثيرةٌ
في الجاهليّة، وعداوةٌ شديدةٌ وضغائن، وإحنٌ وذحول طال بسببها قتالهم
والوقائع بينهم، فلمّا جاء اللّه بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم، صاروا
إخوانًا متحابّين بجلال اللّه، متواصلين في ذات اللّه، متعاونين على البرّ
والتّقوى، قال اللّه تعالى: {هو الّذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين وألّف بين
قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألّفت بين قلوبهم ولكنّ اللّه ألّف
بينهم [إنّه عزيزٌ حكيمٌ]} [الأنفال:62] وكانوا على شفا حفرة من النّار
بسبب كفرهم، فأبعدهم اللّه منها: أن هداهم للإيمان. وقد امتنّ عليهم بذلك
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم قسم غنائم حنينٍ، فعتب من عتب منهم
لمّا فضّل عليهم في القسمة بما أراه اللّه، فخطبهم فقال: "يا معشر الأنصار،
ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرّقين فألّفكم الله بي، وعالةً
فأغناكم الله بي؟ " كلّما قال شيئًا قالوا: اللّه ورسوله أمنّ.
وقد ذكر محمّد بن إسحاق بن يسار وغيره: أنّ هذه الآية نزلت في شأن الأوس
والخزرج، وذلك أنّ رجلًا من اليهود مرّ بملأٍ من الأوس والخزرج، فساءه ما
هم عليه من الاتّفاق والألفة، فبعث رجلًا معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكّرهم
ما كان من حروبهم يوم بعاث وتلك الحروب، ففعل، فلم يزل ذلك دأبه حتّى حميت
نفوس القوم وغضب بعضهم على بعضٍ، وتثاوروا، ونادوا بشعارهم وطلبوا
أسلحتهم، وتواعدوا إلى الحرّة، فبلغ ذلك النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم
فأتاهم فجعل يسكّنهم ويقول: "أبدعوى الجاهليّة وأنا بين أظهركم؟ " وتلا
عليهم هذه الآية، فندموا على ما كان منهم، واصطلحوا وتعانقوا، وألقوا
السّلاح، رضي اللّه عنهم وذكر عكرمة أنّ ذلك نزل فيهم حين تثاوروا في قضيّة
الإفك. والله أعلم). [تفسير القرآن العظيم: 2/89-90]
تفسير
قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جل وعلا: {ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}
اللام مسكنة وأصلها الكسر، الأصل ولتكن منكم
ولكن الكسرة حذفت لأن الواو صارت مع الكلمة كحرف واحد وألزمت الحذف، وإن
قرئت ولتكن - بالكسر - فجيد على الأصل، ولكن التخفيف أجود وأكثر في كلام
العرب.
ومعنى - {ولتكن منكم أمّة}- واللّه أعلم - : ولتكونوا
كلكم أمّة تدعون إلى الخير وتأمرون بالمعروف، ولكن " من " تدخل ههنا لتخص
المخاطبين من سائر الأجناس وهي مؤكدة أن الأمر للمخاطبين ومثل هذا من كتاب
اللّه {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} ليس يأمرهم باجتناب بعض الأوثان، ولكن المعنى: اجتنبوا الأوثان فإنها رجس ومثله من الشعر قول الشاعر:
أخو رغاتب يعطيها ويسألها... يأبى الظلامة منه النوفل الزفر
أي: هو النوفل الزفر، لأنه قد وصفه بإعطاء الرغائب، والنوفل الكثير الإعطاء للنوافل، والزفر الذي يحمل الأثقال.
والدليل على أنهم أمروا كلهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوله جل وعلا: {كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}.
ويجوز أن تكون: أمرت منهم فرقة، لأن قوله {ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير} ذكر
الدعاة إلى الإيمان، والدعاة ينبغي أن يكونوا علماء بما يدعون إليه وليس
الخلق كلهم علماء والعلم ينوب فيه بعض الناس عن بعض، وكذلك الجهاد.
وقوله جل وعلا: {وأولئك هم المفلحون}أي: والذين ذكرناهم المفلحون، والمفلح الفائز بما يغتبط به.
و{هم} جائز أن يكون ابتداء و {المفلحون} خبر أولئك و {هم} فصل، وهو الذي يسميه الكوفيون العماد). [معاني القرآن: 1/451-453]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: ولتكن منكم أمّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر وأولئك هم المفلحون (104) ولا تكونوا كالّذين تفرّقوا واختلفوا من
بعد ما جاءهم البيّنات وأولئك لهم عذابٌ عظيمٌ (105)
قرأ الحسن والزهري
وأبو عبد الرحمن وعيسى بن عمر وأبو حيوة: «ولتكن» بكسر اللام على الأصل، إذ
أصلها الكسر، وكذلك قرؤوا لام الأمر في جميع القرآن، قال الضحاك والطبري
وغيرهما: أمر المؤمنون أن تكون منهم جماعة بهذه الصفة، فهم خاصة أصحاب
الرسول، وهم خاصة الرواة.
قال القاضي: فعلى هذا
القول «من» للتبعيض، وأمر الله الأمة بأن يكون منها علماء يفعلون هذه
الأفاعيل على وجوهها ويحفظون قوانينها على الكمال، ويكون سائر الأمة متبعين
لأولئك، إذ هذه الأفعال لا تكون إلا بعلم واسع، وقد علم تعالى أن الكل لا
يكون عالما، وذهب الزجّاج وغير واحد من المفسرين، إلى أن المعنى: ولتكونوا
كلكم أمة يدعون، «ومن» لبيان الجنس قال: ومثله من كتاب الله، فاجتنبوا
الرّجس من الأوثان [الحج: 30] ومثله من الشعر قول القائل: [البسيط]
أخو رغائب يعطيها ويسألها = يأبى الظّلامة منه النّوفل الزّفر
قال القاضي: وهذه
الآية على هذا التأويل إنما هي عندي بمنزلة قولك: ليكن منك رجل صالح، ففيها
المعنى الذي يسميه النحويون، التجريد، وانظر أن المعنى الذي هو ابتداء
الغاية يدخلها، وكذلك يدخل قوله تعالى: من الأوثان ذاتها ولا تجده يدخل قول
الشاعر: منه النوفل الزفر، ولا تجده يدخل في «من» التي هي صريح بيان
الجنس، كقولك ثوب من خز، وخاتم من فضة، بل هذه يعارضها معنى التبعيض، ومعنى
الآية على هذا التأويل: أمر الأمة بأن يكونوا يدعون جميع العالم إلى
الخير، الكفار إلى الإسلام، والعصاة إلى الطاعة، ويكون كل واحد من هذه
الأمور على منزلته من العلم والقدرة، قال أهل العلم: وفرض الله بهذه الآية،
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من فروض الكفاية إذا قام به قائم
سقط عن الغير، وللزوم الأمر بالمعروف شروط، منها أن يكون بمعروف لا بتخرق،
فقد قال صلى الله عليه وسلم: من كان آمرا بمعروف، فليكن أمره ذلك بمعروف،
ومنها أن لا يخاف الآمر أذى يصيبه، فإن فعل مع ذلك فهو أعظم لأجره، وقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم
يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».
قال القاضي: والناس
في تغيير المنكر والأمر بالمعروف على مراتب، ففرض العلماء فيه تنبيه الحكام
والولاة، وحملهم على جادة العلم، وفرض الولاة تغييره بقوتهم وسلطانهم،
ولهم هي اليد، وفرض سائر الناس رفعه إلى الحكام والولاة بعد النهي عنه
قولا، وهذا في المنكر الذي له دوام، وأما إن رأى أحد نازلة بديهة من
المنكر، كالسلب والزنى ونحوه، فيغيرها بنفسه بحسب الحال والقدرة، ويحسن لكل
مؤمن أن يحتمل في تغيير المنكر، وإن ناله بعض الأذى، ويؤيد هذا المنزع أن
في قراءة عثمان بن عفان وابن مسعود وابن الزبير «يأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر، ويستعينون بالله على ما أصابهم»، فهذا وإن كان لم يثبت في المصحف،
ففيه إشارة إلى التعرض لما يصيب عقب الأمر والنهي، كما هي في قوله تعالى:
وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، واصبر على ما أصابك [لقمان: 17] وقوله
تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا عليكم أنفسكم، لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم
[المائدة: 105] معناه إذا لم يقبل منكم ولم تقدروا على تغيير منكره، وقال
بعض العلماء: «المعروف» التوحيد، والمنكر الكفر، والآية نزلت في الجهاد.
قال القاضي أبو محمد
رحمه الله: ولا محالة أن التوحيد والكفر هما رأس الأمرين، ولكن ما نزل عن
قدر التوحيد والكفر، يدخل في الآية ولا بد، والمفلحون الظافرون ببغيتهم،
وهذا وعد كريم). [المحرر الوجيز: 2/309-311]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولتكن
منكم أمّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم
المفلحون (104) ولا تكونوا كالّذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم
البيّنات وأولئك لهم عذابٌ عظيمٌ (105) يوم تبيضّ وجوهٌ وتسودّ وجوهٌ فأمّا
الّذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون
(106) وأمّا الّذين ابيضّت وجوههم ففي رحمة اللّه هم فيها خالدون (107) تلك
آيات اللّه نتلوها عليك بالحقّ وما اللّه يريد ظلمًا للعالمين (108) وللّه
ما في السّماوات وما في الأرض وإلى اللّه ترجع الأمور (109)}
يقول تعالى: {ولتكن منكم أمّةٌ} أي: منتصبةٌ للقيام بأمر اللّه، في الدّعوة
إلى الخير، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر {وأولئك هم المفلحون} قال
الضّحّاك: هم خاصّة الصّحابة وخاصّة الرّواة، يعني: المجاهدين والعلماء.
وقال أبو جعفرٍ الباقر: قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {ولتكن منكم
أمّةٌ يدعون إلى الخير} ثمّ قال: "الخير اتّباع القرآن وسنّتي" رواه ابن
مردويه.
والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من الأمّة متصدّيةٌ لهذا الشّأن، وإن
كان ذلك واجبًا على كلّ فردٍ من الأمّة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلمٍ عن
أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من رأى منكم منكرًا
فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف
الإيمان". وفي روايةٍ: "وليس وراء ذلك من الإيمان حبّة خردلٍ".
وقال الإمام أحمد: حدّثنا سليمان الهاشميّ، أخبرنا إسماعيل بن جعفرٍ،
أخبرني عمرو بن أبي عمرٍو، عن عبد اللّه بن عبد الرّحمن الأشهليّ، عن حذيفة
بن اليمان، أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "والّذي نفسي بيده
لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم
عقابًا من عنده، ثمّ لتدعنّه فلا يستجيب لكم".
ورواه التّرمذيّ، وابن ماجه، من حديث عمرو بن أبي عمرٍو، به وقال
التّرمذيّ: حسنٌ والأحاديث في هذا الباب كثيرةٌ مع الآيات الكريمة كما
سيأتي تفسيرها في أماكنها). [تفسير القرآن العظيم: 2/91]