الدروس
course cover
تفسير سورة آل عمران[من الآية (110) إلى الآية (112) ]
21 Aug 2015
21 Aug 2015

4132

0

0

course cover
تفسير سورة آل عمران

القسم السابع

تفسير سورة آل عمران[من الآية (110) إلى الآية (112) ]
21 Aug 2015
21 Aug 2015

21 Aug 2015

4132

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)}



تفسير قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جل وعلا: {كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} يعني به: أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقيل في معنى{كنتم خير أمّة أخرجت} كنتم عند الله في اللوح المحفوظ - وقيل كنتم منذ آمنتم خير أمة.
وقال بعضهم
معنى {كنتم خير أمة}:هذا الخطاب أصله إنّه خوطب به أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يعم سائر أمّة محمد، والشريطة في الخيرية ما هو في الكلام وهو قوله عزّ وجلّ:
{تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه}أي: توحدون اللّه بالإيمان برسوله لأن من كفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوحد اللّه، وذلك أنه يزعم أن الآيات المعجزات التي أتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذات نفسه فجعل غير الله يفعل فعل اللّه وآيات الأنبياء، لا يقدر عليها إلا اللّه عزّ وجلّ.
ويدل على أن قوله: {وتؤمنون باللّه}: تقرون أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - نبي اللّه.
قوله عزّ وجلّ: {ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم} فأهل الكتاب كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فصاروا كفارا باللّه فأعلم اللّه أن بعضهم وهو القليل منهم آمن باللّه فقال:
{منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون}والفاسق: الذي خرج عن أمر اللّه). [معاني القرآن: 1/456]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (واختلف المتأولون في معنى قوله: كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس فقال عمر بن الخطاب: هذه لأولنا، ولا تكون لآخرنا وقال عكرمة: نزلت في ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: يريد ومن شاكلهم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
قال القاضي: فهذا كله قول واحد، مقتضاه أن الآية نزلت في الصحابة، قيل لهم كنتم خير أمّةٍ، فالإشارة بقوله أمّةٍ إلى أمة محمد معينة، فإن هؤلاء هم خيرها، وقال الحسن بن أبي الحسن وجماعة من أهل العلم: معنى الآية، خطاب الأمة بأنهم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس، فلفظ أمّةٍ، على هذا التأويل اسم جنس كأنه قيل لهم كنتم خير الأمم، ويؤيد هذا التأويل كونهم شهداء على الناس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: نحن الآخرون السابقون الحديث. وروى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما وهو مسند ظهره إلى الكعبة، نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرها قال مجاهد: معنى الآية «كنتم خير الناس» - وقال الحسن: نحن آخرها وأكرمها على الله تعالى، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: معنى الآية كنتم للناس خير الناس.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فأمّه على هذا التأويل، اسم جنس، قال أبو هريرة: يجيئون بالكفار في السلاسل فيدخلونهم في الإسلام.
قال القاضي: ولم يبعث نبي إلى الأمم كافة إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو وأمته يدعون إلى الإيمان ويقاتلون العالم عليه، فهم خير الناس للناس، وليس يلزم على هذا التأويل أنها أفضل الأمم من نفس لفظ الآية، لكن يعلم هذا من لفظ آخر، وهي كقوله صلى الله عليه وسلم: أرأف أمتي بأمتي أبوبكر، فليس يقتضي هذا اللفظ أن أبابكر أرأف الناس على الإطلاق، في مؤمن وكافر.
قال القاضي: والرأفة على الإطلاق ليست بجارية مع الشرع كما يجب، وأما قوله، كنتم على صيغة المضي، فإنها التي بمعنى الدوام، كما قال: وكان اللّه غفوراً رحيماً [النساء: 96- 99- 100- 152، الفرقان: 70، الأحزاب: 5- 50- 59- 73، الفتح: 14]، إلى غير هذا من الأمثلة، وقال قوم: المعنى كنتم في علم الله، وقيل: في اللوح المحفوظ، وقيل فيما أخبر به الأمم قديما عنكم وخير على هذه الأقوال كلها خبر كان، ويحتمل أن تكون كان التامة، ويكون خير أمّةٍ نصبا على الحال، وهذا يتجه على بعض التأويلات التي ذكرناها دون بعض.
قال القاضي: وهذه الخيرية التي فرضها الله لهذه الأمة إنما يأخذ بحظه منها من عمل هذه الشروط من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله، وقوله: تأمرون بالمعروف وما بعده، أحوال في موضع نصب، ثم أخبر تعالى عن أهل الكتاب على جهة التوبيخ المقرون بالنصح، أنهم لو آمنوا لنجّوا أنفسهم من عذاب الله، وجاءت لفظة خير في هذه الآية وهي صيغة تفضيل، ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخير، وإنما جاز ذلك لما في لفظة خير من الشياع وتشعب الوجوه، وكذلك هي لفظة أفضل وأحب وما جرى مجراها، وقد بيّن هذا المعنى في غير هذا الموضع بأوعب من هذا، وقوله تعالى: منهم المؤمنون تنبيه على حال عبد الله بن سلام وأخيه وثعلبة بن سعية وغيرهم ممن آمن، ثم حكم الله على أكثرهم بالفسق في كفره لأنهم حرفوا وبدلوا وعاندوا بعد معرفتهم بحقيقة أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فهم كفار فسقة في الكفر قد جمعوا المذمتين). [المحرر الوجيز: 2/316-319]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرًا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110) لن يضرّوكم إلا أذًى وإن يقاتلوكم يولّوكم الأدبار ثمّ لا ينصرون (111) ضربت عليهم الذّلّة أين ما ثقفوا إلا بحبلٍ من اللّه وحبلٍ من النّاس وباءوا بغضبٍ من اللّه وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون الأنبياء بغير حقٍّ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (112)}
يخبر تعالى عن هذه الأمّة المحمّديّة بأنّهم خير الأمم فقال: {كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس}.
قال البخاريّ: حدّثنا محمّد بن يوسف، عن سفيان، عن ميسرة، عن أبي حازمٍ، عن أبي هريرة: {كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس} قال: خير النّاس للنّاس، تأتون بهم في السّلاسل في أعناقهم حتّى يدخلوا في الإسلام.
وهكذا قال ابن عبّاسٍ، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، والرّبيع بن أنسٍ، وعطيّة العوفيّ: {كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس} يعني: خير النّاس للنّاس.
والمعنى: أنّهم خير الأمم وأنفع النّاس للنّاس؛ ولهذا قال: {تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه}
قال الإمام أحمد: حدّثنا أحمد بن عبد الملك، حدّثنا شريكٌ، عن سماك، عن عبد اللّه بن عميرة عن زوج [ذرّة] بنت أبي لهب، [عن درّة بنت أبي لهبٍ] قالت: قام رجلٌ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وهو على المنبر، فقال: يا رسول اللّه، أيّ النّاس خيرٌ؟ فقال: "خير النّاس أقرؤهم وأتقاهم لله، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأوصلهم للرّحم".
ورواه أحمد في مسنده، والنّسائيّ في سننه، والحاكم في مستدركه، من حديث سماكٍ، عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاسٍ في قوله: {كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس} قال: هم الّذين هاجروا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من مكة إلى المدينة.
والصّحيح أنّ هذه الآية عامةٌ في جميع الأمّة، كلّ قرن بحسبه، وخير قرونهم الّذين بعث فيهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ الّذين يلونهم، كما قال في الآية الأخرى: {وكذلك جعلناكم أمّةً وسطًا} أي: خيارًا {لتكونوا شهداء على النّاس [ويكون الرّسول عليكم شهيدًا]} الآية.
وفي مسند الإمام أحمد، وجامع التّرمذيّ، وسنن ابن ماجه، ومستدرك الحاكم، من رواية حكيم بن معاوية بن حيدة، عن أبيه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أنتم توفون سبعين أمّةً، أنتم خيرها، وأنتم أكرم على الله عزّ وجلّ".
وهو حديثٌ مشهورٌ، وقد حسّنه التّرمذيّ. ويروى من حديث معاذ بن جبلٍ، وأبي سعيدٍ [الخدريّ] نحوه.
وإنّما حازت هذه الأمّة قصب السّبق إلى الخيرات بنبيّها محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم فإنّه أشرف خلق اللّه أكرم الرّسل على اللّه، وبعثه اللّه بشرعٍ كاملٍ عظيمٍ لم يعطه نبيًّا قبله ولا رسولًا من الرّسل. فالعمل [على] منهاجه وسبيله، يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه، كما قال الإمام أحمد:
حدّثنا عبد الرّحمن، حدّثنا ابن زهير، عن عبد اللّه -يعني ابن محمّد بن عقيلٍ-عن محمّد بن عليٍّ، وهو ابن الحنفيّة، أنّه سمع عليّ بن أبي طالبٍ، رضي اللّه عنه، يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أعطيت ما لم يعط أحدٌ من الأنبياء". فقلنا: يا رسول اللّه، ما هو؟ قال: " نصرت بالرّعب وأعطيت مفاتيح الأرض، وسمّيت أحمد، وجعل التّراب لي طهورًا، وجعلت أمّتي خير الأمم". تفرّد به أحمد من هذا الوجه، وإسناده حسنٌ.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا أبو العلاء الحسن بن سوّار، حدّثنا ليث، عن معاوية عن بن أبي حليس يزيد بن ميسرة قال: سمعت أمّ الدّرداء، رضي اللّه عنها، تقول: سمعت أبا الدّرداء يقول: سمعت أبا القاسم صلّى اللّه عليه وسلّم، وما سمعته يكنّيه قبلها ولا بعدها، يقول إنّ الله تعالى يقول: يا عيسى، إنّي باعثٌ بعدك أمّةً، إن أصابهم ما يحبّون حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم". قال: يا ربّ، كيف هذا لهم، ولا حلم ولا علم؟. قال: "أعطيهم من حلمي وعلمي".
وقد وردت أحاديث يناسب ذكرها هاهنا:
قال الإمام أحمد: حدّثنا هاشم بن القاسم، حدّثنا المسعوديّ، حدّثنا بكير بن الأخنس، عن رجلٍ، عن أبي بكرٍ الصّدّيق، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أعطيت سبعين ألفًا يدخلون الجنّة بغير حسابٍ، وجوههم كالقمر ليلة البدر، قلوبهم على قلب رجلٍ واحدٍ، فاستزدت ربّي، عزّ وجلّ، فزادني مع كل واحدٍ سبعين ألفًا". فقال أبو بكرٍ، رضي اللّه عنه: فرأيت أنّ ذلك آتٍ على أهل القرى، ومصيبٌ من حافات البوادي.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد اللّه بن بكرٍ السّهميّ، حدّثنا هشام بن حسّان، عن القاسم بن مهران، عن موسى بن عبيدٍ، عن ميمون بن مهران، عن عبد الرّحمن بن أبي بكرٍ؛ أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم قال: "إنّ ربّي أعطاني سبعين ألفًا يدخلون الجنّة، بغير حسابٍ". فقال عمر: يا رسول اللّه، فهلّا استزدته؟ فقال: "استزدته فأعطاني مع كلّ رجلٍ سبعين ألفًا ". قال عمر: فهلّا استزدته؟ قال: "قد استزدته فأعطاني هكذا". وفرّج عبد اللّه بن بكرٍ بين يديه، وقال عبد اللّه: وبسط باعيه، وحثا عبد اللّه، قال هشامٌ: وهذا من اللّه لا يدرى ما عدده.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو اليمان، حدّثنا إسماعيل بن عيّاش، عن ضمضم بن زرعة قال: قال شريح بن عبيدٍ: مرض ثوبان بحمص، وعليها عبد اللّه بن قرط الأزدي، فلم يعده، فدخل على ثوبان رجلٌ من الكلاعيين عائدًا، فقال له ثوبان: [أتكتب؟ قال: نعم: فقال: اكتب، فكتب للأمير عبد اللّه بن قرطٍ، "من ثوبان] مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، أمّا بعد: فإنّه لو كان لموسى وعيسى، عليهما السّلام، بحضرتك خادم لعدته" ثمّ طوى الكتاب وقال له: أتبلغه إيّاه؟ فقال: نعم. فانطلق الرجل بكتابه فدفعه إلى ابن قرطٍ، فلمّا رآه قام فزعا، فقال النّاس: ما شأنه؟ أحدث أمرٌ؟ فأتى ثوبان حتّى دخل عليه فعاده، وجلس عنده ساعةً ثمّ قام، فأخذ ثوبان بردائه وقال: اجلس حتّى أحدّثك حديثًا سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سمعته يقول: "ليدخلنّ الجنّة من أمّتي سبعون ألفًا، لا حساب عليهم ولا عذاب، مع كلّ ألفٍ سبعون ألفًا".
تفرّد به أحمد من هذا الوجه، وإسناد رجاله كلّهم ثقاتٌ شاميّون حمصيّون فهو حديثٌ صحيحٌ وللّه الحمد.
طريقٌ أخرى: قال الطّبرانيّ: حدّثنا عمرو بن إسحاق بن زبريق الحمصي، حدثنا محمد بن إسماعيل -يعني ابن عيّاش-حدّثنا أبي، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيدٍ، عن أبي أسماء الرحبيّ، عن ثوبان قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: "إنّ ربّي، عزّ وجلّ، وعدني من أمّتي سبعين ألفًا لا يحاسبون، مع كلّ ألفٍ سبعون ألفًا". هذا لعلّه هو المحفوظ بزيادة أبي أسماء الرّحبيّ، بين شريحٍ وبين ثوبان واللّه أعلم.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّزّاق، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصين، عن ابن مسعودٍ قال: أكثرنا الحديث عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذات ليلةٍ، ثمّ غدونا إليه فقال: "عرضت عليّ الأنبياء اللّيلة بأممها، فجعل النّبيّ يمرّ ومعه الثّلاثة، والنّبيّ ومعه العصابة، والنّبيّ ومعه النّفر، والنّبيّ ليس معه أحدٌ، حتّى مرّ عليّ موسى، عليه السّلام، ومعه كبكبةٌ من بني إسرائيل، فأعجبوني، فقلت: من هؤلاء؟ فقيل لي: هذا أخوك موسى، معه بنو إسرائيل". قال: "قلت: فأين أمّتي؟ فقيل: انظر عن يمينك. فنظرت فإذا الظّراب قد سدّ بوجوه الرّجال ثمّ قيل لي انظر عن يسارك فنظرت فإذا الأفق قد سدّ بوجوه الرّجال فقيل لي: قد رضيت؟ فقلت "رضيت يا ربّ، [رضيت يا ربّ] " قال: "فقيل لي: إنّ مع هؤلاء سبعين ألفًا يدخلون الجنّة بغير حسابٍ". فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "فداكم أبي وأمّي إن استطعتم أن تكونوا من السّبعين ألفًا فافعلوا فإن قصّرتم فكونوا من أهل الظّراب فإن قصّرتم فكونوا من أهل الأفق، فإنّي قد رأيت ثمّ أناسًا يتهاوشون". فقام عكاشة بن محصنٍ فقال: ادع اللّه يا رسول اللّه أن يجعلني منهم. أي من السّبعين، فدعا له. فقام رجلٌ آخر فقال: ادع اللّه يا رسول اللّه أن يجعلني منهم فقال: "قد سبقك بها عكاشة". قال: ثمّ تحدّثنا فقلنا: لمن ترون هؤلاء السّبعين الألف؟ قومٌ ولدوا في الإسلام لم يشركوا باللّه شيئًا حتّى ماتوا. فبلغ ذلك النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "هم الّذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيّرون، وعلى ربّهم يتوكّلون".
هكذا رواه أحمد بهذا السّند وهذا السّياق، ورواه أيضًا عن عبد الصّمد، عن هشامٍ، عن قتادة، بإسناده مثله، وزاد بعد قوله: "رضيت يا ربّ رضيت يا ربّ" قال رضيت؟ قلت: "نعم". قال: انظر عن يسارك قال: "فنظرت فإذا الأفق قد سدّ بوجوه الرّجال ". فقال: رضيت؟ قلت: "رضيت". وهذا إسنادٌ صحيحٌ من هذا الوجه، تفرّد به أحمد ولم يخرّجوه.
حديثٌ آخر: قال أحمد بن منيع: حدّثنا عبد الملك بن عبد العزيز، حدّثنا حمّاد، عن عاصم، عن زرٍّ، عن ابن مسعودٍ قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "عرضت عليّ الأمم بالموسم فراثت عليّ أمّتي، ثمّ رأيتهم فأعجبتني كثرتهم وهيئاتهم، قد ملؤوا السّهل والجبل"، فقال: أرضيت يا محمّد؟ فقلت: "نعم". قال: فإنّ مع هؤلاء سبعين ألفًا يدخلون الجنّة بغير حسابٍ، وهم الّذين لا يسترقون ولا يكتوون، وعلى ربّهم يتوكّلون ". فقام عكاشة فقال: يا رسول اللّه، ادع اللّه أن يجعلني منهم فقال:"أنت منهم" فقام رجلٌ آخر فقال: [ادع اللّه أن يجعلني منهم فقال] سبقك بها عكاشة". رواه الحافظ الضّياء المقدسيّ، قال: هذا عندي على شرط مسلمٍ.
حديثٌ آخر: قال الطّبرانيّ: حدّثنا محمّد بن محمّدٍ الجذوعيّ القاضي، حدّثنا عقبة بن مكرم. حدّثنا محمّد بن أبي عديّ عن هشام بن حسّان عن محمّد بن سيرين، عن عمران بن حصين قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "يدخل الجنّة من أمّتي سبعون ألفًا بغير حساب ولا عذابٍ". قيل: من هم؟ قال: "هم الّذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيّرون، وعلى ربّهم يتوكّلون". رواه مسلمٌ من طريق هشام بن حسّان، وعنده ذكر عكّاشة.
حديثٌ آخر: ثبت في الصّحيحين من رواية الزّهري، عن سعيد بن المسيّب، أنّ أبا هريرة حدّثه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "يدخل الجنّة من أمّتي زمرةٌ وهم سبعون ألفًا، تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر". فقال أبو هريرة: فقام عكاشة بن محصن الأسديّ يرفع،نمرةً عليه فقال: يا رسول اللّه، ادع اللّه أن يجعلني منهم. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "اللّهمّ اجعله منهم". ثمّ قام رجلٌ من الأنصار فقال: يا رسول اللّه، ادع اللّه أن يجعلني منهم فقال: "سبقك بها عكاشة".
حديثٌ آخر: قال أبو القاسم الطّبرانيّ: حدّثنا يحيى بن عثمان، حدّثنا سعيد بن أبي مريم، حدّثنا أبو غسّان، عن أبي حازمٍ، عن سهل بن سعد؛ أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "ليدخلنّ من أمّتي سبعون ألفًا -أو سبعمائة ألفٍ-آخذٌ بعضهم ببعضٍ، حتّى يدخل أوّلهم وآخرهم الجنّة، ووجوههم على صورة القمر ليلة البدر".
أخرجه البخاريّ ومسلمٌ جميعًا، عن قتيبة عن عبد العزيز بن أبي حازمٍ، عن أبيه، عن سهل به.
حديثٌ آخر: قال مسلم بن الحجّاج في صحيحه: حدّثنا سعيد بن منصورٍ، حدّثنا هشيم، أخبرنا حصين بن عبد الرّحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيّكم رأى الكوكب الّذي انقضّ البارحة؟ قلت: أنا. ثمّ قلت: أما إنّي لم أكن في صلاةٍ، ولكنّي لدغت: قال: فما صنعت؟ قلت: استرقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديثٌ حدّثناه الشّعبيّ. قال: وما حدّثكم الشّعبيّ؟ قلت: حدّثنا عن بريدة بن الحصيب الأسلميّ أنّه قال: لا رقية إلّا من عينٍ أو حمّة. فقال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدّثنا ابن عبّاسٍ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "عرضت عليّ الأمم، فرأيت النّبيّ ومعه الرّهيط والنّبيّ ومعه الرّجل والرّجلان والنّبيّ وليس معه أحدٌ، إذ رفع لي سوادٌ عظيمٌ، فظننت أنّهم أمّتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق. فنظرت، فإذا سوادٌ عظيمٌ، فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سوادٌ عظيمٌ، فقيل لي: هذه أمّتك ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنّة بغير حسابٍ، ولا عذابٍ". ثمّ نهض فدخل منزله، فخاض النّاس في أولئك الّذين يدخلون الجنّة بغير حسابٍ ولا عذابٍ، فقال بعضهم: فلعلّهم الّذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلّهم الّذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا باللّه شيئًا، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "ما الّذي تخوضون فيه؟ " فأخبروه، فقال: "هم الّذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربّهم يتوكّلون". فقام عكّاشة بن محصن فقال: ادع اللّه أن يجعلني منهم قال: "أنت منهم". ثمّ قام رجلٌ آخر فقال: ادع اللّه أن يجعلني منهم. قال: "سبقك بها عكاشة".
وأخرجه البخاريّ عن أسيد بن زيدٍ، عن هشيم وليس عنده، "لا يرقون".
حديثٌ آخر: قال أحمد: حدّثنا روح بن عبادة. حدّثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزّبير، أنّه سمع جابر بن عبد اللّه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فذكر حديثًا، وفيه: "فتنجو أوّل زمرةٍ وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفًا، لا يحاسبون ثمّ الّذين يلونهم، كأضوإ نجمٍ في السّماء ثمّ كذلك". وذكر بقيّته، رواه مسلمٌ من حديث روح، غير أنّه لم يذكر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم.
حديثٌ آخر: قال الحافظ أبو بكر بن أبي عاصمٍ في كتاب السّنن له: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا إسماعيل بن عيّاش، عن محمّد بن زيادٍ، سمعت أبا أمامة الباهليّ يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "وعدني ربّي أن يدخل الجنّة من أمّتي سبعين ألفًا، مع كلّ ألفٍ سبعون ألفًا، لا حساب عليهم ولا عذاب. وثلاث حثياتٍ من حثيات ربّي عزّ وجلّ".
وكذا رواه الطّبرانيّ من طريق هشام بن عمّارٍ، عن إسماعيل بن عيّاشٍ، به، وهذا إسنادٌ جيّدٌ.
طريقٌ أخرى عن أبي أمامة: قال ابن أبي عاصمٍ: حدّثنا دحيم، حدّثنا الوليد بن مسلم، حدثنا صفوان بن عمرو، عن سليم بن عامرٍ، عن أبي اليمان الهوزني -واسمه عامر بن عبد اللّه بن لحيّ، عن أبي أمامة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إنّ الله وعدني أن يدخل الجنة من أمّتي سبعين ألفًا بغير حسابٍ". قال يزيد بن الأخنس: واللّه ما أولئك في أمّتك يا رسول اللّه إلّا مثل الذّباب الأصهب في الذّباب. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "فإنّ الله وعدني سبعين ألفًا، مع كلّ ألفٍ سبعون ألفًا، وزادني ثلاث حثياتٍ". وهذا أيضًا إسنادٌ حسنٌ.
حديثٌ آخر: قال أبو القاسم الطّبرانيّ: حدّثنا أحمد بن خليد، حدّثنا أبو توبة، حدّثنا معاوية بن سلّامٍ، عن زيد بن سلّامٍ أنّه سمع أبا سلّامٍ يقول: حدّثني عامر بن زيدٍ البكالي أنّه سمع عتبة بن عبد السّلميّ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ ربّي عزّ وجلّ وعدني أن يدخل الجنّة من أمّتي سبعين ألفًا بغير حسابٍ، ثمّ يشفع كلّ ألفٍ لسبعين ألفًا، ثمّ يحثي ربّي، عزّ وجلّ، بكفيه ثلاث حثيات". فكبّر عمر وقال: إنّ السّبعين الأول يشفعهم اللّه في آبائهم وأبنائهم وعشائرهم، وأرجو أن يجعلني اللّه في إحدى الحثيات الأواخر.
قال الحافظ الضّياء المقدسيّ في كتابه صفة الجنّة: لا أعلم لهذا الإسناد علّةً. واللّه أعلم.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، حدّثنا هشامٌ -يعني الدّستوائي-حدّثنا يحيى بن أبي كثيرٍ، عن هلال بن أبي ميمونة، حدّثنا عطاء بن يسار أنّ رفاعة الجهنيّ حدّثه قال: أقبلنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى إذا كنّا بالكديد -أو قال بقديد-فذكر حديثًا، وفيه: ثمّ قال: وعدني ربّي، عزّ وجلّ، أن يدخل الجنة من أمّتي سبعين ألفًا بغير حسابٍ، وإنّي لأرجو ألا يدخلوها حتّى تبوؤوا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرّيّاتكم مساكن في الجنّة".
قال الضّياء [المقدسيّ] وهذا عندي على شرط مسلمٍ.
حديثٌ آخر: قال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن النّضر بن أنسٍ، عن أنسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ الله وعدني أن يدخل الجنّة من أمّتي أربعمائة ألفٍ". قال أبو بكرٍ: زدنا يا رسول اللّه. قال: واللّه هكذا فقال عمر: حسبك يا أبا بكرٍ. فقال أبو بكرٍ: دعني، وما عليك أن يدخلنا اللّه الجنّة كلّنا فقال عمر: إن شاء اللّه أدخل خلقه الجنّة بكفٍّ واحدٍ. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "صدق عمر".
هذا الحديث بهذا الإسناد انفرد به عبد الرّزّاق قاله الضّياء. وقد رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهانيّ:
حدّثنا محمّد بن أحمد بن مخلد، حدّثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي، حدّثنا سليمان بن حرب، حدّثنا أبو هلالٍ، عن قتادة، عن أنسٍ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "وعدني ربّي أن يدخل الجنّة من أمّتي مائة ألف". فقال أبو بكرٍ: يا رسول اللّه، زدنا قال: "وهكذا" -وأشار سليمان بن حربٍ بيده كذلك-قلت يا رسول اللّه، زدنا. فقال عمر: إنّ اللّه قادرٌ أن يدخل النّاس الجنّة بحفنةٍ واحدةٍ. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "صدق عمر". هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه وأبو هلالٍ اسمه: محمّد بن سليم الرّاسبيّ، بصريٌّ.
طريقٌ أخرى عن أنسٍ: قال الحافظ أبو يعلى: حدّثنا محمّد بن أبي بكرٍ، حدّثنا عبد القاهر بن السّرّي السّلميّ، حدّثنا حميد، عن أنسٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "يدخل الجنّة من أمّتي سبعون ألفًا". قالوا: زدنا يا رسول اللّه. قال: "لكلّ رجلٍ سبعون ألفًا" قالوا: زدنا -وكان على كثيبٍ -فقال: هكذا، وحثا بيده. قالوا: يا رسول اللّه، أبعد اللّه من دخل النّار بعد هذا، وهذا إسنادٌ جيّدٌ، رجاله ثقاتٌ، ما عدا عبد القاهر بن السّريّ، وقد سئل عنه ابن معينٍ، فقال: صالحٌ.
حديثٌ آخر: روى الطّبرانيّ من حديث قتادة، عن أبي بكر بن أنسٍ، عن أبي بكر بن عمير عن أبيه؛ أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إنّ الله وعدني أن يدخل من أمّتي ثلاثمائة ألفٍ الجنّة". فقال عميرٌ: يا رسول اللّه، زدنا. فقال هكذا بيده. فقال عميرٌ يا رسول اللّه، زدنا. فقال عمر: حسبك، إنّ اللّه إن شاء أدخل النّاس الجنّة بحفنةٍ -أو بحثيةٍ-واحدةٍ. فقال نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "صدق عمر".
حديثٌ آخر: قال الطّبرانيّ: حدّثنا أحمد بن خليد، حدّثنا أبو توبة، حدّثنا معاوية بن سلّامٍ، عن زيد بن سلّامٍ أنّه سمع أبا سلّامٍ يقول: حدّثني عبد اللّه بن عامرٍ، أنّ قيسًا الكنديّ حدّث أنّ أبا سعيدٍ الأنماريّ حدّثه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إنّ ربّي عزّ وجلّ وعدني أن يدخل الجنّة من أمّتي سبعين ألفًا بغير حسابٍ، ويشفع كلّ ألفٍ لسبعين ألفًا، ثمّ يحثي ربّي ثلاث حثياتٍ بكفّيه". كذا قال قيسٌ، فقلت لأبي سعيدٍ: أنت سمعت هذا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟ قال: نعم، بأذني، ووعاه قلبي. قال أبو سعيدٍ: فقال -يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم-: "وذلك إن شاء الله، عزّ وجلّ، يستوعب مهاجري أمّتي، ويوفّي اللّه بقيّته من أعرابنا".
وقد روى هذا الحديث محمّد بن سهل بن عسكرٍ، عن أبي توبة الرّبيع بن نافعٍ بإسناده، مثله.
وزاد: قال أبو سعيدٍ: فحسب ذلك عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فبلغ أربعمائة ألف ألفٍ وتسعين ألف ألف.
حديثٌ آخر: قال أبو القاسم الطّبرانيّ: حدّثنا هاشم بن مرثد الطّبرانيّ، حدّثنا محمّد بن إسماعيل بن عيّاش، حدّثني أبي، حدّثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيدٍ، عن أبي مالكٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أما والّذي نفس محمّد بيده ليبعثنّ منكم يوم القيامة إلى الجنّة مثل اللّيل الأسود، زمرةٌ جميعها يخبطون الأرض، تقول الملائكة: لم جاء مع محمّدٍ أكثر ممّا جاء مع الأنبياء؟ ". وهذا إسنادٌ حسنٌ.
نوعٌ آخر من الأحاديث الدّالّة على فضيلة هذه الأمّة وشرفها بكرامتها على اللّه، وأنّها خير الأمم في الدّنيا والآخرة.
قال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، حدّثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزّبير، عن جابرٍ أنّه سمع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "إنّي لأرجو أن يكون من يتّبعني من أمّتي يوم القيامة ربع الجنّة". قال: فكبّرنا. ثمّ قال: "أرجو أن يكونوا ثلث النّاس". قال: فكبّرنا. ثمّ قال: "أرجو أن تكونوا الشّطر". وهكذا رواه عن روح، عن ابن جريج، به. وهو على شرط مسلمٍ.
وثبت في الصّحيحين من حديث أبي إسحاق السّبيعي، عن عمرو بن ميمونٍ، عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال: قال لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنّة؟ " فكبّرنا. ثمّ قال: "أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنّة؟ " فكبّرنا. ثمّ قال: "إنّي لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنّة".
طريقٌ أخرى عن ابن مسعودٍ: قال الطّبرانيّ: حدّثنا أحمد بن القاسم بن مساور، حدّثنا عفّان بن مسلمٍ، حدّثنا عبد الواحد بن زيادٍ حدّثني الحارث بن حصيرة، حدّثني القاسم بن عبد الرّحمن، عن أبيه، عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "كيف أنتم وربع الجنّة لكم ولسائر النّاس ثلاثة أرباعها؟ " قالوا: اللّه ورسوله أعلم. قال: "كيف أنتم وثلثها؟ " قالوا: ذاك أكثر. قال: "كيف أنتم والشّطر لكم؟ " قالوا: ذاك أكثر. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أهل الجنّة عشرون ومائة صفٍّ، لكم منها ثمانون صفًا".
قال الطّبرانيّ: تفرّد به الحارث بن حصيرة.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الصّمد، حدّثنا عبد العزيز بن مسلمٍ، حدّثنا ضرار بن مرّة أبو سنان الشّيبانيّ، عن محارب بن دثار، عن ابن بريدة، عن أبيه أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "أهل الجنّة عشرون ومائة صفٍّ، هذه الأمّة من ذلك ثمانون صفا".
وكذلك رواه عن عفّان، عن عبد العزيز، به. وأخرجه التّرمذيّ من حديث أبي سنانٍ، به وقال: هذا حديثٌ حسنٌ. ورواه ابن ماجه من حديث سفيان الثّوريّ، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، به.
حديثٌ آخر: روى الطّبرانيّ من حديث سليمان بن عبد الرّحمن الدّمشقيّ، حدّثنا خالد بن يزيد البجلي، حدّثنا سليمان بن عليّ بن عبد اللّه بن عبّاسٍ، عن أبيه، عن جدّه، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "أهل الجنّة عشرون ومائة صفٍّ، ثمانون منها من أمّتي".
تفرّد به خالد بن يزيد البجلي، وقد تكلّم فيه ابن عديّ.
حديثٌ آخر: قال الطّبرانيّ: حدّثنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبلٍ، حدّثنا موسى بن غيلان، حدّثنا هاشم بن مخلد، حدّثنا عبد اللّه بن المبارك، عن سفيان، عن أبي عمرٍو، عن أبيه عن أبي هريرة قال: لمّا نزلت {ثلّةٌ من الأوّلين. وثلّةٌ من الآخرين [الواقعة: 38، 39]} قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أنتم ربع أهل الجنّة، أنتم ثلث أهل الجنّة، أنتم نصف أهل الجنّة، أنتم ثلثا أهل الجنّة".
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "نحن الآخرون الأوّلون يوم القيامة، نحن أوّل النّاس دخولا الجنّة، بيد أنّهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهدانا اللّه لما اختلفوا فيه من الحقّ، فهذا اليوم الّذي اختلفوا فيه، النّاس لنا فيه تبعٌ غدًا لليهود [و] للنّصارى بعد غدٍ".
رواه البخاريّ ومسلمٌ من حديث عبد اللّه بن طاوسٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم مرفوعًا بنحوه ورواه مسلمٌ أيضًا عن طريق الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "نحن الآخرون الأوّلون يوم القيامة، ونحن أوّل من يدخل الجنّة". وذكر تمام الحديث.
حديثٌ آخر: روى الدّارقطنيّ في الأفراد من حديث عبد اللّه بن محمّد بن عقيلٍ، عن الزهري، عن سعيد بن المسيّب، عن عمر بن الخطّاب، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إنّ الجنّة حرّمت على الأنبياء كلّهم حتّى أدخلها، وحرّمت على الأمم حتّى تدخلها أمتي".
ثمّ قال: تفرّد به ابن عقيلٍ، عن الزّهريّ، ولم يرو عنه سواه. وتفرّد به زهير بن محمّدٍ، عن ابن عقيلٍ، وتفرّد به عمرو بن أبي سلمة، عن زهيرٍ.
وقد رواه أبو أحمد بن عديّ الحافظ فقال: حدّثنا أحمد بن الحسين بن إسحاق، حدّثنا أبو بكرٍ الأعين محمّد بن أبي عتّاب، حدّثنا أبو حفصٍ التّنيسي -يعني عمرو بن أبي سلمة-حدّثنا صدقة الدّمشقيّ. عن زهير بن محمّدٍ، عن عبد اللّه بن محمّد بن عقيلٍ، عن الزّهريّ.
ورواه الثّعلبي: حدّثنا أبو عبّاسٍ المخلدي، أخبرنا أبو نعم عبد الملك بن محمّدٍ، أخبرنا أحمد بن عيسى التّنّيسيّ، حدّثنا عمرو بن أبي سلمة، حدّثنا صدقة بن عبد اللّه، عن زهير بن محمّدٍ، عن ابن عقيلٍ، به.
فهذه الأحاديث في معنى قوله تعالى: {كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللّه} فمن اتّصف من هذه الأمّة بهذه الصّفات دخل معهم في هذا الثّناء عليهم والمدح لهم، كما قال قتادة: بلغنا أنّ عمر بن الخطّاب [رضي اللّه عنه] في حجّةٍ حجّها رأى من النّاس سرعة فقرأ هذه الآية: {كنتم خير أمّةٍ أخرجت للنّاس} ثمّ قال: من سرّه أن يكون من تلك الأمّة فليؤدّ شرط اللّه فيها. رواه ابن جريرٍ.
ومن لم يتّصف بذلك أشبه أهل الكتاب الّذين ذمّهم اللّه بقوله: {كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه [لبئس ما كانوا يفعلون] [المائدة:79]} ولهذا لمّا مدح [اللّه] تعالى هذه الأمّة على هذه الصّفات شرع في ذمّ أهل الكتاب وتأنيبهم، فقال: {ولو آمن أهل الكتاب} أي: بما أنزل على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم {لكان خيرًا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون} أي: قليلٌ منهم من يؤمن باللّه وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم، وأكثرهم على الضّلالة والكفر والفسق والعصيان).
[تفسير القرآن العظيم: 2/94-103]

تفسير قوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (ووعد اللّه النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين في أهل الكتاب أنهم منصورون عليهم، وأنه لا ينالهم من أهل الكتاب اصطلام ولا غلبة فقال: {لن يضرّوكم إلّا أذى وإن يقاتلوكم يولّوكم الأدبار ثمّ لا ينصرون}أي: يؤذونكم بالبهت والتحريف، فأمّا العاقبة فتكون للمؤمنين.
قال اللّه - عزّ وجلّ -: {ولئن نصروهم ليولّنّ الأدبار ثمّ لا ينصرون}يعني به: أهل الكتاب؛ وأعلمهم في هذه الآية أنهم إن قاتلوهم ولوهم الأدبار وسلبوا النصر وكذلك كان أمر اليهود). [معاني القرآن: 1/457]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: لن يضرّوكم إلاّ أذىً وإن يقاتلوكم يولّوكم الأدبار ثمّ لا ينصرون (111) ضربت عليهم الذّلّة أين ما ثقفوا إلاّ بحبلٍ من اللّه وحبلٍ من النّاس وباؤ بغضبٍ من اللّه وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون الأنبياء بغير حقٍّ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (112)
قوله تعالى: لن يضرّوكم إلّا أذىً معناه: لن يصيبكم منهم ضرر في الأبدان ولا في الأموال، وإنما هو أذى بالألسنة، فالاستثناء متصل، وقال الحسن، وقتادة وغيرهما: «الأذى» هو تحريفهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم إياه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وتنقصهم المؤمنين وطعنهم عليهم جملة وأفرادا، وهذا كله عظيم مقلق وبسببه استحقوا القتل والإجلاء، وضرب الجزية، لكن أراد الله تعالى بهذه الآية أن يلحظهم المؤمنون بعين الاحتقار حتى لا يصدوا أحدا عن دينه ولا يشغلوه عن عبادة ربه، وهكذا هي فصاحة العرب، ومن هذا المعنى في التحقير قول ثمامة بن أثال: يا محمد إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن شئت المال فاسأل منه ما شئت، فقوله: ذا دم، روي بالذال منقوطة، وبالدال غير منقوطة، فذم بفتح الذال وبكسرها أراد بها الذمام، وأما الدال غير منقوطة، فيحتمل أنه أراد التعظيم لأمر نفسه، وذلك بأحد وجهين: إما أن يريد الوعيد، أي تقتل ذا دم مطلوب بثأره له حماة فاحذر عاقبة ذلك، وإما أن يريد تقتل ملكا يستشفى بدمه، كما كانت العرب تعتقد في دماء الملوك، فهذا استعطاف لا وعيد، أي لا ينبغي ذلك أن تفسد مثلي، وهذا كما استعطف الأشعث بن قيس أبا بكر رضي الله عنه بهذا المعنى، ويحتمل كلام ثمامة، أنه أراد تحقير أمر نفسه وليذهب عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم المسرة بنيل مثل هذا الأمر العظيم، ويجري ذلك مجرى قول أبي جهل لعبد الله بن مسعود: وهل أعمد من رجل قتلتموه؟ ومثله قول الأسير لعمر بن عبد العزيز، حين قال له: لأقتلنك، قال: إن ذلك لا ينقص من عدد الخزر شيئا فكأن ثمامة أراد: إن تقتلني تقتل حيوانا حقيرا شأنه، كما يقتل كل ذي دم فما بالك تفعل ذلك وتدع الإنعام عليّ؟ فالآية تنظر إلى هذا المعنى من جهة أنه حقر عند المؤمنين ما هو عظيم في نفسه تنبيها لهم، وأخبر الله تعالى في قوله: وإن يقاتلوكم الآية، بخبر غيب صححه الوجود، فهي من آيات محمد صلى الله عليه وسلم، وفائدة الخبر هي في قوله: ثمّ لا ينصرون أي لا تكون حربهم معكم سجالا وخص الأدبار بالذكر دون الظهر تخسيسا للفارّ، وهكذا هو حيث تصرف). [المحرر الوجيز: 2/319-320]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال تعالى مخبرًا عباده المؤمنين ومبشّرًا لهم أنّ النّصر والظّفر لهم على أهل الكتاب الكفرة الملحدين، فقال: {لن يضرّوكم إلا أذًى وإن يقاتلوكم يولّوكم الأدبار ثمّ لا ينصرون} وهكذا وقع، فإنّهم يوم خيبر أذلّهم اللّه وأرغم آنافهم وكذلك من قبلهم من يهود المدينة بني قينقاع وبني النّضير وبني قريظة كلّهم أذلّهم اللّه، وكذلك النّصارى بالشّام كسرهم الصّحابة في غير ما موطنٍ، وسلبوهم ملك الشّام أبد الآبدين ودهر الدّاهرين، ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم [عليه السّلام] وهم كذلك، ويحكم، عليه السّلام بشرع محمّدٍ عليه أفضل الصّلاة والسّلام فيكسر الصّليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ولا يقبل إلّا الإسلام). [تفسير القرآن العظيم: 2/103-104]

تفسير قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جل وعلا: {ضربت عليهم الذّلّة أين ما ثقفوا إلّا بحبل من اللّه وحبل من النّاس وباءوا بغضب من اللّه وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون الأنبياء بغير حقّ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}
والحبل: العهد.
فأعلم اللّه أنهم بعد عزّ كانوا فيه يبلغون في الذلة ما لا يبلغه أهل مكة، وكانوا ذوي منعة ويسار، فأعلم اللّه أنهم يذلون أبدا إلا أن يعزوا بالذمة التي يعطونها في الإسلام. وما بعد الاستثناء، ليس من الأول أنهم أذلاء إلا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه.

وأعلم اللّه أنهم جعلت عقوبتهم هذه العقوبة الغليظة في الدنيا والآخرة لتغليظ ما ركبوه فقال - جل وعلا: {ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون الأنبياء بغير حقّ}.
وضع ذلك رفع بالابتداء المعنى أمرهم ذلك وحقهم ذلك بكفرهم.
وقتلهم الأنبياء وأعاد ذكر ذلك ثانية فقال: {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}.
الاعتداء المجاوزة في كل شيء - مجاوزة القدر - المعنى حقها بكفرهم - فأعلم الله أنهم غير متساوين فقال:
{ليسوا سواء من أهل الكتاب أمّة قائمة يتلون آيات اللّه آناء اللّيل وهم يسجدون}). [معاني القرآن: 1/457-458]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله: ضربت معناه: أثبتت بشدة والتزام مؤكد، وهذا وصف حال تقررت على اليهود في أقطار الأرض قبل مجيء الإسلام، قال الحسن: جاء الإسلام وإن المجوس لتجبيهم الجزية، وما كانت لهم عزة ومنعة إلا بيثرب وخيبر وتلك الأرض فأزالها الله بالإسلام، ولم تبق لهم راية أصلا في الأرض، والذّلّة فعلة من الذل ثقفوا معناه أخذوا وهم بحال المذنب المستحق الإهلاك، ومنه قوله تعالى: فإمّا تثقفنّهم في الحرب [الأنفال: 57] فاقتلوا المشركين حيث ثقفتموهم [التوبة: 5] واللفظة مأخوذة من الثقاف، ومنه قول الشاعر:
تدعو ثقيفا وقد عضّ الحديد بها = عضّ الثّقاف على صمّ الأنابيب
وقوله تعالى: إلّا بحبلٍ استثناء منقطع، وهو نظير قوله تعالى: وما كان لمؤمنٍ أن يقتل مؤمناً إلّا خطأً [النساء: 92] لأن بادي الرأي يعطي أن له أن يقتل خطئا، وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة، وليس الأمر كذلك، وإنما الكلام محذوف، يدركه فهم السامع الناظر في الأمر، وتقديره في آياتنا فلا نجاة من الموت إلّا بحبلٍ، وقوله تعالى: ضربت عليهم الذّلّة أين ما ثقفوا كأنه بالمعنى هلكوا واستؤصلوا، فلذلك حسن أن يجيء بعده إلّا بحبلٍ، وقرب فهم ذلك للسامع، قال الزجّاج: المعنى ضربت عليهم الذلة إلا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه، و «الحبل» العهد، شبه به لأنه يصل قوما بقوم كما يفعل الحبل في الأجرام، وباؤ معناه مضوا متحملين لهذا الحكم، و «غضب الله عليهم»، بما دلت عليه هذه الأمور التي أوقع بهم، وأفعال بني إسرائيل على وجه الدهر من التعنت والعصيان توجب الغضب، فلذلك خصوا به، والنصارى إنما ضلوا فقط، والمسكنة التذلل والضعة، وهي حالة الطواف الملتمس للقمة واللقمتين المضارع المفارق لحالة التعفف والتعزز به، فليس أحد من اليهود وإن كان غنيا إلا وهو بهذه الحال، وقوله تعالى: ذلك إشارة إلى الغضب وضرب الذلة والمسكنة، فعاقبهم الله على كفرهم وقتلهم الأنبياء بذلك، و «آيات الله»: يحتمل أن يراد بها المتلوة، ويحتمل أن يريد العبر التي عرضت عليهم، وقوله: بغير حقٍّ تأكيد ومبالغة وقطع لما عسى أن يكون في وهم إنسان ممكنا بوجه ما، وقوله تعالى: ذلك بما عصوا حمله المفسرون على أن الإشارة بذلك إلى الشيء الذي أشير إليه بذلك الأول، قاله الطبري والزجّاج وغيرهما. والذي أقول: إن الإشارة ب ذلك الأخير إنما هي إلى كفرهم وقتلهم، وذلك أن الله تعالى، استدرجهم فعاقبهم على العصيان والاعتداء بالمصير إلى الكفر وقتل الأنبياء، وهو الذي يقول أهل العلم: إن الله تعالى يعاقب على المعصية بالإيقاع في معصية، ويجازي على الطاعة بالتوفيق إلى طاعة، وذلك موجود في الناس إذا تؤمل، وعصيان بني إسرائيل واعتداؤهم في السبت وغيره متقرر في غير ما موضع من كتاب الله، وقال قتادة رحمه الله عند ما فسر هذه الآية: اجتنبوا المعصية والعدوان فإن بها أهلك من كان قبلكم من الناس). [المحرر الوجيز: 2/320-322]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال تعالى: {ضربت عليهم الذّلّة أين ما ثقفوا إلا بحبلٍ من اللّه وحبلٍ من النّاس} أي: ألزمهم اللّه الذّلّة والصّغار أينما كانوا فلا يأمنون {إلا بحبلٍ من اللّه} أي: بذمّةٍ من اللّه، وهو عقد الذّمّة لهم وضرب الجزية عليهم، وإلزامهم أحكام الملّة {وحبلٍ من النّاس} أي: أمانٌ منهم ولهم، كما في المهادن والمعاهد والأسير إذا أمّنه واحدٌ من المسلمين ولو امرأةٌ، وكذا عبد، على أحد قولي العلماء.
قال ابن عبّاسٍ: {إلا بحبلٍ من اللّه وحبلٍ من النّاس} أي: بعهدٍ من اللّه وعهدٍ من النّاس، [و] هكذا قال مجاهد، وعكرمة، وعطاء، والضّحّاك، والحسن، وقتادة، والسّدّي، والرّبيع بن أنسٍ.
وقوله: {وباءوا بغضبٍ من اللّه} أي: ألزموا فالتزموا بغضبٍ من اللّه، وهم يستحقّونه {وضربت عليهم} أي: ألزموها قدرًا وشرعًا. ولهذا قال: {ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بآيات اللّه ويقتلون الأنبياء بغير حقٍّ} أي: وإنّما حملهم على ذلك الكبر والبغي والحسد، فأعقبهم ذلك الذّلة والصّغار والمسكنة أبدًا، متّصلًا بذلّة الآخرة، ثمّ قال تعالى: {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} أي: إنّما حملهم على الكفر بآيات اللّه وقتل رسل اللّه وقيّضوا لذلك أنّهم كانوا يكثرون العصيان لأوامر اللّه، عزّ وجلّ، والغشيان لمعاصي اللّه، والاعتداء في شرع اللّه، فعياذًا باللّه من ذلك، واللّه المستعان.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا يونس بن حبيب حدّثنا أبو داود الطّيالسيّ، حدّثنا شعبة، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر الأزديّ، عن عبد اللّه بن مسعودٍ، رضي اللّه عنه، قال: كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم ثلاثمائة نبيٍّ، ثمّ يقوم سوق بقلهم في آخر النهار).
[تفسير القرآن العظيم: 2/104]


* للاستزادة ينظر: هنا