21 Aug 2015
* للاستزادة ينظر: هنا
تفسير قوله
تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ
أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ
الْغُرُورِ (185)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {كلّ
نفس ذائقة الموت وإنّما توفّون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النّار
وأدخل الجنّة فقد فاز وما الحياة الدّنيا إلّا متاع الغرور}
{وإنّما توفّون أجوركم يوم القيامة}
ولا يجوز "أجوركم" على رفع الأجور وجعل ما في معنى الذي، لأن يوم القيامة يصير من صلة {توفون}، وتوفون من صلة (ما) فلا يأتي (ما) في الصلة بعد {أجوركم} و {أجوركم} خبر.
وقوله عزّ وجلّ ": {فمن زحزح عن النّار}أي: نحّي وأزيل {فقد فاز} يقال لكل من نجا من هلكة وكل من لقي ما يغبط به: قد فاز، وتأويله تباعد من المكروه ولقي ما يحب.
ومعنى قول الناس مفازة إنما هي من مهلكة، ولكنهم تفاءلوا بأن سموا المهلكة مفازة.
والمفازة المنجاة، كما تفاءلوا بأن سمّوا اللديغ السليم، وكما سمّوا الأعمى بالبصير). [معاني القرآن: 1/495]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: كلّ نفسٍ ذائقة الموت وإنّما توفّون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح
عن النّار وأدخل الجنّة فقد فاز وما الحياة الدّنيا إلاّ متاع الغرور (185)
والمعنى: كل نفس مخلوقة حية،
والذوق هنا: استعارة وإنّما حاصرة على التوفية التي هي على الكمال، لأن من
قضي له بالجنة فهو ما لم يدخلها غير موفى، وخص تعالى ذكر «الأجور» لشرفها
وإشارة مغفرته لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته، ولا محالة أن المعنى: أن
يوم القيامة تقع توفية الأجور وتوفية العقاب، وزحزح معناه: أبعد، والمكان
الزحزح: البعيد، وفاز معناه: نجا من خطره وخوفه، والغرور، الخدع والترجية
بالباطل، والحياة الدنيا وكل ما فيها من الأموال فهي متاع قليل تخدع المرء
وتمنيه الأباطيل وعلى هذا فسر الآية جمهور من المفسرين، قال عبد الرحمن بن
سابط: متاع الغرور كزاد الراعي يزود الكف من التمر أو الشيء من الدقيق يشرب
عليه اللبن، قال الطبري: ذهب إلى أن متاع الدنيا قليل لا يكفي من تمتع به
ولا يبلغه سفره.
قال القاضي: والغرور في هذا
المعنى مستعمل في كلام العرب، ومنه قولهم في المثل: غش ولا تغتر، أي لا
تجتز بما لا يكفيك، وقال عكرمة: متاع الغرور، القوارير أي لا بد لها من
الانكسار والفساد، فكذلك أمر الحياة الدنيا كله، وهذا تشبيه من عكرمة، وقرأ
عبد الله بن عمر «الغرور» بفتح الغين، وقرأ أبو حيوة والأعمش: ذائقة
بالتنوين الموت بالنصب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم، لموضع سوط أحدكم في
الجنة خير من الدنيا وما فيها، ثم تلا هذه الآية). [المحرر الوجيز: 2/436-437]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (
{كلّ نفسٍ ذائقة الموت وإنّما توفّون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن
النّار وأدخل الجنّة فقد فاز وما الحياة الدّنيا إلا متاع الغرور (185)
لتبلونّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعنّ من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن
الّذين أشركوا أذًى كثيرًا وإن تصبروا وتتّقوا فإنّ ذلك من عزم الأمور
(186)}
يخبر تعالى إخبارًا عامًّا يعمّ جميع الخليقة بأنّ كلّ نفسٍ ذائقة الموت،
كقوله: {كلّ من عليها فانٍ. ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام} فهو تعالى
وحده هو الحيّ الّذي لا يموت والإنس والجنّ يموتون، وكذلك الملائكة وحملة
العرش، وينفرد الواحد الأحد القهّار بالدّيمومة والبقاء، فيكون آخرًا كما
كان أوّلًا.
وهذه الآية فيها تعزيةٌ لجميع النّاس، فإنّه لا يبقى أحدٌ على وجه الأرض
حتّى يموت، فإذا انقضت المدّة وفرغت النّطفة الّتي قدّر اللّه وجودها من
صلب آدم وانتهت البريّة -أقام اللّه القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها
وحقيرها، كثيرها وقليلها، كبيرها وصغيرها، فلا يظلم أحدًا مثقال ذرّةٍ؛
ولهذا قال: {وإنّما توفّون أجوركم يوم القيامة}
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عبد العزيز الأويسيّ، حدّثنا عليّ
بن أبي عليٍّ اللّهبيّ عن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين، عن أبيه، عن
عليّ بن أبي طالبٍ، رضي اللّه عنه، قال: لمّا توفي النّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم وجاءت التّعزية، جاءهم آتٍ يسمعون حسّه ولا يرون شخصه فقال: السّلام
عليكم أهل البيت ورحمة اللّه وبركاته {كلّ نفسٍ ذائقة الموت وإنّما توفّون
أجوركم يوم القيامة} إن في اللّه عزاءً من كلّ مصيبة، وخلفًا من كلّ
هالكٍ، ودركًا من كلّ فائتٍ، فباللّه فثقوا، وإيّاه فارجوا، فإنّ المصاب من
حرم الثّواب، والسّلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته. قال جعفر بن محمّدٍ:
فأخبرني أبي أنّ عليّ بن أبي طالبٍ قال: أتدرون من هذا؟ هذا الخضر، عليه
السّلام.
وقوله: {فمن زحزح عن النّار وأدخل الجنّة فقد فاز} أي: من جنّب النّار ونجا منها وأدخل الجنّة، فقد فاز كلّ الفوز.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا محمّد بن عبد اللّه الأنصاريّ،
حدّثنا محمّد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة [رضي اللّه عنه]
قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "موضع سوطٍ في الجنّة خيرٌ من
الدّنيا وما فيها، اقرؤوا إن شئم: {فمن زحزح عن النّار وأدخل الجنّة فقد
فاز}.
هذا حديثٌ ثابتٌ في الصّحيحين من غير هذا الوجه بدون هذه الزّيادة، وقد
رواه بدون هذه الزّيادة أبو حاتمٍ، وابن حبّان في صحيحه، والحاكم في
مستدركه، من حديث محمّد بن عمرٍو هذا. ورواه ابن مردويه [أيضًا] من وجهٍ
آخر فقال: حدّثنا محمّد بن أحمد بن إبراهيم، حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأنا
حميد بن مسعدة، أنبأنا عمرو بن عليٍّ، عن أبي حازمٍ، عن سهل بن سعدٍ قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لموضع سوط أحدكم في الجنّة خيرٌ من
الدّنيا وما فيها". قال: ثمّ تلا هذه الآية: {فمن زحزح عن النّار وأدخل
الجنّة فقد فاز}
وتقدّم عند قوله تعالى: {ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون} ما رواه الإمام
أحمد، عن وكيع عن الأعمش، عن زيد بن وهبٍ، عن عبد الرّحمن بن عبد ربّ
الكعبة، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم: "من أحبّ أن يزحزح عن النّار وأن يدخل الجنّة، فلتدركه منيّته
وهو يؤمن باللّه واليوم الآخر، وليأت إلى النّاس ما يحبّ أن يؤتى إليه".
وقوله: {وما الحياة الدّنيا إلا متاع الغرور} تصغيرًا لشأن الدّنيا،
وتحقيرًا لأمرها، وأنها دنيئةٌ فانيةٌ قليلةٌ زائلةٌ، كما قال تعالى: {بل
تؤثرون الحياة الدّنيا. والآخرة خيرٌ وأبقى} [الأعلى:16، 17] [وقال تعالى:
{وما الحياة الدّنيا في الآخرة إلا متاعٌ} [الرّعد:26] وقال تعالى: {ما
عندكم ينفد وما عند اللّه باقٍ]} [النّحل:96]. وقال تعالى: {وما أوتيتم من
شيءٍ فمتاع الحياة الدّنيا وزينتها وما عند اللّه خيرٌ وأبقى} [القصص:60]
وفي الحديث: "والله ما الدّنيا في الآخرة إلّا كما يغمس أحدكم إصبعه في
اليمّ، فلينظر بم ترجع إليه؟ ".
وقال قتادة في قوله: {وما الحياة الدّنيا إلا متاع الغرور} هي متاعٌ، هي
متاعٌ، متروكةٌ، أوشكت -واللّه الّذي لا إله إلّا هو-أن تضمحلّ عن أهلها،
فخذوا من هذا المتاع طاعة اللّه إن استطعتم، ولا قوّة إلّا باللّه). [تفسير القرآن العظيم: 2/177-179]
تفسير قوله
تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ
مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {لتبلونّ
في أموالكم وأنفسكم ولتسمعنّ من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الّذين
أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتّقوا فإنّ ذلك من عزم الأمور} معناه: لتختبرن، أي:
تقع عليكم المحن، فيعلم المؤمن من غيره، وهذه النون دخلت مؤكدة مع لام
القسم وضمّت الواو لسكونها وسكون النون. ويقال للواحد من المذكرين: لتبلين
يا رجل، وللاثنين لتبليان يا رجلان، ولجماعة الرجال: لتبلونّ.
وتفتح الياء من لتبلين في قول سيبويه لسكونها وسكون النون.
وفي قول غيره
تبنى على الفتح لضم النون إليها كما يبنى ما قبل هاء التأنيث، ويقال للمرأة
تبلين يا امرأة، وللمرأتين لتبليان يا امرأتان ولجماعة النساء لتبلينانّ
يا نسوة، زيدت الألف لاجتماع النونات.
وقوله عزّ وجلّ: {ولتسمعنّ من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الّذين أشركوا أذى كثيرا}
روي أن أبا بكر
الصديق - رضي الله عنه - سمع رجلا من اليهود يقول: " إن الله فقير ونحن
أغنياء " فلطمه أبو بكر - رضي الله عنه - فشكا اليهودي ذلك إلى النبي - صلى
الله عليه وسلم - فسأله النبي: ((ما أراد بلطمك؟))، فقال أبو بكر: سمعت منه كلمة ما ملكت نفسي معها أن لطمته، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {ولتسمعنّ من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الّذين أشركوا أذى كثيرا}
وأذى: مقصور يكتب بالياء يقال قد أذي فلان يأذى أذى. إذا سمع ما يسوءه). [معاني القرآن: 1/495-496]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: لتبلونّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعنّ من الّذين أوتوا الكتاب من
قبلكم ومن الّذين أشركوا أذىً كثيراً وإن تصبروا وتتّقوا فإنّ ذلك من عزم
الأمور (186) وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس
ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون
(187)
هذا الخطاب للنبي عليه
السلام وأمته، والمعنى: لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء،
وبالإنفاق في سبيل الله، وفي سائر تكاليف الشرع، والابتلاء في الأنفس
بالموت والأمراض، وفقد الأحبة بالموت، واختلف المفسرون في سبب قوله تعالى:
ولتسمعنّ من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم فقال عكرمة وغيره: السبب في ذلك
قول فنحاص: إن الله فقير ونحن أغنياء، وقوله: يد الله مغلولة
إلى غير ذلك، وقال الزهري
وغيره: نزلت هذه الآية بسبب كعب بن الأشرف، فإنه كان يهجو النبي صلى الله
عليه وسلم، وأصحابه ويشبب بنساء المسلمين، حتى بعث إليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم من قتله القتلة المشهورة في السيرة، و «الأذى»: اسم جامع في
معنى الضرر وهو هنا يشمل أقوالهم فيما يخص النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه من سبهم وأقوالهم في جهة الله تعالى وأنبيائه، وندب الله تعالى
عباده إلى الصبر والتقوى، وأخبر أنه من عزم الأمور، أي من أشدها وأحسنها، و
«العزم»: إمضاء الأمر المروي المنقح، وليس ركوب الأمر دون روية عزما إلا
على مقطع المشيخين من فتاك العرب كما قال:
إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه = ونكّب عن ذكر الحوادث جانبا
وقال النقاش: العزم والحزم بمعنى واحد، الحاء مبدلة من العين.
قال القاضي: وهذا خطأ، والحزم: جودة النظر في الأمور وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه، و «العزم»:
قصد الإمضاء، والله تعالى
يقول: وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت [آل عمران: 159] فالمشاورة وما كان في
معناها هو الحزم، والعرب تقول: قد أحزم لو أعزم). [المحرر الوجيز: 2/438-439]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله:
{لتبلونّ في أموالكم وأنفسكم} كقوله {ولنبلونّكم بشيءٍ من الخوف والجوع
ونقصٍ من الأموال والأنفس والثّمرات [وبشّر الصّابرين الّذين إذا أصابتهم
مصيبةٌ قالوا إنّا للّه وإنّا إليه راجعون]} [البقرة:155، 156] أي: لا بدّ
أن يبتلى المؤمن في شيءٍ من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله، ويبتلى المؤمن
على قدر دينه، إن كان في دينه صلابةٌ زيد في البلاء {ولتسمعنّ من الّذين
أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الّذين أشركوا أذًى كثيرًا} يقول تعالى للمؤمنين
عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدرٍ، مسلّيًا لهم عمّا نالهم من الأذى من
أهل الكتاب والمشركين، وآمرًا لهم بالصّبر والصّفح والعفو حتّى يفرّج
اللّه، فقال: {وإن تصبروا وتتّقوا فإنّ ذلك من عزم الأمور}
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب بن أبي
حمزة، عن الزّهريّ، أخبرني عروة بن الزّبير: أنّ أسامة بن زيدٍ أخبره قال:
كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب
كما أمرهم اللّه، ويصبرون على الأذى، قال اللّه: {ولتسمعنّ من الّذين أوتوا
الكتاب من قبلكم ومن الّذين أشركوا أذًى كثيرًا} قال: وكان رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم يتأوّل في العفو ما أمره اللّه به، حتّى أذن اللّه
فيهم.
هكذا رواه مختصرًا، وقد ذكره البخاريّ عند تفسير هذه الآية مطوّلًا فقال:
حدّثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيبٌ، عن الزّهريّ أخبرني عروة بن الزّبير؛ أنّ
أسامة بن زيدٍ أخبره أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ركب على حمار،
عليه قطيفةٌ فدكيّة وأردف أسامة بن زيدٍ وراءه، يعود سعد بن عبادة في بني
الحارث بن الخزرج، قبل وقعة بدر، قال: حتّى مرّ بمجلسٍ فيه عبد اللّه بن
أبيٍّ بن سلول، وذلك قبل أن يسلم عبد اللّه بن أبيٍّ، فإذا في المجلس
أخلاطٌ من المسلمين والمشركين، عبدة الأوثان واليهود والمسلمين، وفي المجلس
عبد اللّه بن رواحة، فلمّا غشيت المجلس عجاجة الدّابّة خمّر عبد اللّه بن
أبيٍّ أنفه بردائه وقال: "لا تغبروا علينا. فسلّم رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم ثمّ وقف، فنزل فدعاهم إلى اللّه عزّ وجل، وقرأ عليهم القرآن،
فقال عبد اللّه بن أبي: أيّها المرء، إنّه لا أحسن ممّا تقول، إن كان حقًّا
فلا تؤذنا به في مجالسنا، ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه. فقال عبد
اللّه بن رواحة: بلى يا رسول اللّه، فاغشنا به في مجالسنا فإنّا نحب ذلك.
فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتّى كادوا يتثاورون فلم يزل النّبيّ
صلّى اللّه عليه وسلّم يخفضهم حتّى سكتوا، ثمّ ركب النّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم دابته، فسار حتّى دخل على سعد بن عبادة، فقال له النّبيّ صلّى اللّه
عليه وسلّم: "يا سعد، ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب -يريد عبد اللّه بن
أبيٍّ-قال كذا وكذا". فقال سعدٌ: يا رسول اللّه، اعف عنه واصفح فوالله
الّذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء اللّه بالحقّ الّذي أنزل عليك، ولقد اصطلح
أهل هذه البحيرة على أن يتوّجوه ويعصّبوه بالعصابة، فلمّا أبى اللّه ذلك
بالحقّ الّذي أعطاك اللّه شرق بذلك، فذلك الّذي فعل به ما رأيت، فعفا عنه
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم اللّه، ويصبرون على
الأذى، قال اللّه تعالى: {ولتسمعنّ من الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن
الّذين أشركوا أذًى كثيرًا [وإن تصبروا وتتّقوا فإنّ ذلك من عزم الأمور]}
وقال تعالى: {ودّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّارًا
حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحقّ فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي
اللّه بأمره} الآية [البقرة:109]، وكان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم
يتأوّل في العفو ما أمره اللّه به، حتّى أذن اللّه فيهم، فلمّا غزا رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بدرًا، فقتل اللّه به صناديد كفّار قريشٍ، قال
عبد اللّه بن أبيّ ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمرٌ
قد توجّه، فبايعوا الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم على الإسلام وأسلموا .
فكان من قام بحقٍّ، أو أمر بمعروفٍ، أو نهى عن منكرٍ، فلا بدّ أن يؤذى، فما
له دواءٌ إلّا الصّبر في اللّه، والاستعانة باللّه، والرّجوع إلى اللّه،
عزّ وجل). [تفسير القرآن العظيم: 2/179-180]