الدرس الرابع: بيان مراحل بحث المسألة التفسيرية
عناصر الدرس:
1. فوائد معرفة مراحل بحث المسألة التفسيرية
2. الفرق بين تلخيص مسائل التفسير وبين بحث المسائل التفسيرية ودراستها
3. إيجاز بيان مراحل بحث المسألة التفسيرية
4. المرحلة الأولى: استخلاص المسألة
5. المرحلة الثانية: تصنيف المسألة وتعيين مراجع البحث
6. المرحلة الثالثة: جمع كلام أهل العلم وترتيبه
7. المرحلة الرابعة: استخلاص الأقوال في التفسير وتصنيفها.
8. المرحلة الخامسة: تخريج أقوال المفسرين
9. المرحلة السادسة: التحقق من صحّة نسبة الأقوال في التفسير
10. المرحلة السابعة: توجيه أقوال المفسرين
11. المرحلة الثامنة: تحرير المسألة.
12. المرحلة التاسعة: الأسلوب والصياغة.
13. المرحلة العاشرة: المراجعة والتهذيب والعرض.
1. فوائد معرفة مراحل بحث المسألة التفسيرية
معرفة طالب علم التفسير
بمراحل بحث المسألة التفسيرية بدءاً من استخلاصها إلى الانتهاء من عرضها
من الأمور المهمّة التي يستفيد بها وضوح خطّة دراسة المسألة، وما تتطلّبه
كلّ مرحلة من عمل ومهارات.
وسنعرض في هذه الدرس شرحاً موجزاً لمراحل بحث
المسألة التفسيرية ليكون الطالب على بيّنة منها، ونؤجل الشرح المفصّل
والأمثلة والتطبيقات لما تتطلّبه هذه المراحل من مهارات إلى الدروس القادمة
بعون الله تعالى.
وهذه المراحل قد تبدو للناظر فيها – أوّل
الأمر - كثيرة أو صعبة التحقيق، لكنه إذا خاض غمار البحوث التفسيرية،
واتّبع ما أَرشد إليه أهل العلم تبيّن له أنَّ أكثر تلك المراحل مما تذهبُ
صعوبته بتحصيل الخبرة وحسن المعرفة والدربة الحسنة على إتقان دراسة مسائل
التفسير؛ فيحمله ذلك على أن يأخذ لكل مرحلة عدّتها من المعارف والمهارات،
وأن يجتنب الأخطاء القادحة في صحّة البحث وجودته، حتى يكون أداؤه للبحث
متقناً محرراً مكتملاً، ويختصر على نفسه كثيراً من الجهد والوقت بإذن الله
تعالى.
ولذلك أوصي من يدرس هذه الدروس بالمداومة على
بحث مسائل التفسير والاستكثار من الأمثلة والتطبيقات على كلّ مهارة من
مهارات التفسير التي يتعلمها حتى يكتسب الخبرة الكافية بالمسائل وأنواعها
وما يعترض الباحث من الصعوبات وطرق تذليلها.
2. الفرق بين تلخيص مسائل التفسير وبين بحث المسائل التفسيرية ودراستها
وقبل البدء بشرح مراحل بحث المسألة التفسيرية
أودّ أن أنبّه إلى الفرق الكبير بين تلخيص المسائل من تفاسير معدودة وبين
بحث المسألة التفسيرية وتحرير القول فيها؛ فالتلخيص
يكفي فيه أن يفهم الطالب ما يقرأ في التفاسير التي يريد التلخيص منها،
وأن يتعرف على الأقوال وأدلتها ونسبتها إلى قائليها من تلك التفاسير، وهو
ما سبق شرحه في دورة "تلخيص دروس التفسير" ودورة "المهارات الأساسية في
التفسير".
وهذا هو القدر الممكن للمبتدئين في علم التفسير.
وأما دراسة المسألة التفسيرية وبحثها على
طريقة المتقدّمين؛ فتستدعي أمراً أكبر من ذلك على ما سيفصّل بعون الله
تعالى في هذه الدورة ببيان مراحله وخطواته وأمثلته وتطبيقاته.
3. إيجاز بيان مراحل بحث المسألة التفسيرية
يمكن إيجاز مراحل بحث المسألة التفسيرية في عشر مراحل وهي:
المرحلة الأولى: استخلاص المسألة
المرحلة الثانية: تصنيف المسألة وتعيين مراجع البحث
المرحلة الثالثة: جمع كلام أهل العلم وترتيبه
المرحلة الرابعة: استخلاص الأقوال في التفسير وتصنيفها
المرحلة الخامسة: تخريج أقوال المفسرين
المرحلة السادسة: التحقق من صحّة نسبة الأقوال في التفسير
المرحلة السابعة: توجيه أقوال المفسرين
المرحلة الثامنة: تحرير المسألة.
المرحلة التاسعة: الأسلوب والصياغة.
المرحلة العاشرة: المراجعة والتهذيب والعرض.
وهذه المراحل تكاد تكون عامّة في جميع المسائل التي
يبحثها الباحث الماهر في مسائل التفسير، ومنها مراحل يمتلك كثير من
الباحثين أدوات علمية لاختصار الجهد والوقت فيها، اكتسبوها بالخبرة وكثرة
ممارسة البحث والتمهّر فيه.
والمقصود
في هذا الدرس التعريف بمراحل دراسة المسألة التفسيرية بما يحصل به التصوّر
الأوّلي لهذه المراحل، وأما شرح ما تتطلّبه كلّ مرحلة من معارف ومهارات
فسنتناوله بإذن الله تعالى في الدروس القادمة.
المرحلة الأولى: استخلاص المسألة:
هذه المرحلة هي الأساس الذي يكون منه الانطلاق في بحث المسألة، والتعرف على المسائل التفسيرية له طريقتان:
إحداهما: أن يختار
الباحث عدداً من التفاسير المعروفة بالعناية بوفرة المسائل التفسيرية
ويستخلص تلك المسائل منها، وهذا هو موضوع الدرس الثاني من دروس دورة
مهارات التفسير، وهو استخلاص المسائل التفسيرية من كتب التفسير.
والأخرى: أن يستخرج
مسائلَ التفسير من الآية مباشرة؛ باستعمال الأدوات العلمية، وهذا هو
موضوع الدرس الثالث من دروس دورة "مهارات التفسير"، وهو استخراج المسائل
التفسيرية من الآيات القرآنية.
وإذا استخرج الباحث المسائل التفسيرية؛ فسيجد
كثيراً منها ظاهراً بيّناً بإذن الله، يكفي فيه بيان يسير؛ يمكنه أداؤه
بالاستعانة بعدد محدود من التفاسير.
وقد يكون منها مسائل يحتاج فيها إلى دراسة
وبحث، إمّا لصعوبة المسألة أو كثرة الأقوال فيها، أو شهرة الاختلاف فيها،
وهذا هو موضوع هذه الدورة في الأصل.
المرحلة الثانية: تصنيف المسألة وتعيين مراجع البحث
مما
ينبغي أن يُعلم أنّ كثيراً من مسائل التفسير لها تعلّق بعلوم أخرى من علوم
القرآن أو علوم الحديث أو الاعتقاد أو السيرة النبوية أو العلوم اللغوية
من الغريب والإعراب والصرف والاشتقاق والبلاغة ومعاني الحروف وغيرها.
وبعض المسائل لها تعلّقٌ ما ببعض علوم القرآن
كعلم القراءات وعلم نزول القرآن والوقف والابتداء وعدّ الآي ورسم المصاحف
والمبهمات، وغيرها.
وإحسانُ
الباحثِ تصنيفَ المسألة ومعرفتُه بتعلقّها بتلك العلوم يعينه على تعيين
المراجع الأصلية لبحث تلك المسألة، ويُظهر له تفاوت التفاسير في أوجه
العناية بمسائل التفسير.
فوائد المداومة على تصنيف المسائل العلمية:
والمداومة على تصنيف المسائل العلمية تنمّي
القدرة الذهنية لدى طالب العلم، وتُوسّع مداركه، وتبصّره بالمراجع الأصلية
لبحث كل نوع من أنواع تلك المسائل حتى يكتسب الخبرة الحسنة بمراجع البحث.
وهذه الملكة من أهمّ الملكات العلمية لدى
الباحثين وطلاب العلم، ومن أسباب تحصيل سعة الاطلاع، وتجويد البحث، واختصار
كثير من الجهد والوقت.
وكم من باحث أجهد نفسه في البحث واعترضته
صعوبات كبيرة بسبب جهله ببعض المراجع المهمّة مع تيسّرها لكنّه لما قَصَر
نفسه على بعض التفاسير المشتهرة، ولم يتفطّن لتعلّق المسألة التي يبحثها
بعلوم أخرى، ولم يكلّف نفسه التعرّف على مصادر تلك العلوم، ولم يتعلّم
البحث فيها فاته علم كثير.
أمثلة على تصنيف المسائل:
1. المراد بشرح الصدر في قول الله تعالى: {ألم
نشرح لك صدرك} ؛ هذه المسألة لها تعلّق بكتب التفسير، ولا سيّما أقوال
السلف في هذه المسألة، ولها تعلّق بكتب السيرة، وما روي من حوادث شرح صدر
النبي صلى الله عليه وسلم.
2. المراد بالكرسي في قول الله تعالى: {وسع
كرسيّه السموات والأرض} ؛ هذه المسألة لها تعلّق بكتب التفسير، ولها تعلّق
بكتب الاعتقاد.
3. المراد ببلوغ الكتاب أجله في قول الله
تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} ؛ هذه المسألة لها
تعلّق بكتب التفسير، وكتب الفقه.
4. الوقف على قوله تعالى: {وما يعلم تأويله
إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلّ من عند ربّنا} ؛ هذه
المسألة لها تعلّق بكتب التفسير، وكتب الوقف والابتداء.
5. أمد منع إتيان الحائض في قوله تعالى: {ولا
تقربوهن حتى يطهرن} ؛ هذه المسألة لها تعلّق بكتب التفسير وكتب الفقه وكتب
توجيه القراءات لأجل القراءتين الواردتين فيها {حتى يَطْهُرْن} و {حتى
يَطَّهَّرْن}.
6. المراد ببطن مكة في قول الله تعالى: {وهو
الذي كفّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم} هذه
المسألة لها تعلّق أيضا بكتب التفسير، ولها تعلّق بكتب السيرة وكتب البلدان
والكتب المؤلفة في أخبار مكّة.
7. معنى الاستفهام في قول الله تعالى: {عمّ يتساءلون} ، هذه المسألة لها تعلّق بكتب التفسير، وكتب أسباب النزول، وكتب البلاغة.
8. معنى الأمر في قول الله تعالى: {اعملوا ما شئتم}؛ هذه المسألة لها تعلّق بالتفسير وبأصول الفقه وبالبلاغة.
9. معنى "ضيزى" في قول الله تعالى: {تلك إذا قسمة ضيزى}؛ هذه المسألة لها تعلق بكتب التفسير، ومعاجم اللغة.
تعيين مراجع بحث المسألة:
وإذا
عرف الباحث نوع المسألة وتعلّقها بالعلوم الأخرى؛ فينبغي عليه أن يعرف
المراجع المهمّة لبحث تلك المسألة من كتب التفسير ومن كتب تلك العلوم، وهذه
المرحلة من أهمّ مراحل البحث العلمي في مسائل التفسير، ومن أحسن اختيار
مراجع المسألة؛ فقد أسّس بحثه على أساس متين، وسهل عليه أمر تحرير المسألة.
وتحديد المراجع يعتمد على عنصرين مهمّين:
العنصر الأول: نوع المسألة؛ فكلّ مسألة لها مراجعها الأصلية ونشأتها التي ينبغي للباحث أن يتعرّف مظانّها.
والعنصر الثاني: مقصد الباحث؛ فالباحث حين بحثه ودراسته تعرض له احتياجات علمية متنوّعة، ولهذه الاحتياجات أثرها في تحديد المراجع.
ولذلك قد لا يكون من غرض الباحث التقصّي في بعض المسائل لاشتغاله بمسائل أخرى.
المرحلة الثالثة: جمع كلام أهل العلم وترتيبه
بعد معرفة الباحث نوعَ المسألة وتعلّقَها
بالعلوم الأخرى، ومعرفته مصادر بحث هذه المسألة ووقوفه عليها تأتي مرحلة
جمع النقول وترتيبها، وهذه المرحلة هي بمثابة إعداد العدّة لدراسة المسألة؛ لأنّها تتضمّن جمع ما يتعلق بهذه المسألة بالاعتماد على المراجع المهمّة.
و"النقول" جمع "نقل"، ونقصد به ما يذكره المؤلف في المسألة؛ سواء من قوله أو من مما رواه أو نقله عن غيره.
فهي في نظر الناظر للبحث تُسمَّى نقلاً، لأنّ الباحثَ نقلها عن غيره.
ويفضّل عند السعة أن يدوّن الباحث تلك النقول بنصّها في مسوَّدة البحث، وأن يرتّبها على التسلسل التاريخي باعتبار المؤلفين.
وترتيب النقول على التسلسل التاريخي مهم جداً
للباحث؛ لأنّه يعرّفه بنشأة القول في المسألة وأوّلِ ذِكْرٍ لها في الكتب،
ثم كيف تناقلها العلماء وتداولوا بحثها، ويعينه على اكتشاف علل كثير من
الأقوال الخاطئة في التفسير.
وإذا وجد الباحث في كلام بعض أهل العلم إشارة
إلى كتابٍ أو قولٍ لعالم له كتاب مطبوع أو له أصحابٌ ورواة ينقلون علمه
فينبغي له أن يبحث عن قوله بنصّه، ويضيفه إلى النقول التي جمعها.
والمسائل تختلف من حيث وفرة النقول وندرتها؛
فالمسائل المشتهرة قد يتمكن الباحث من جمع نقول كثيرة فيها، وأمّا المسائل
الخفية والنادرة أو التي طرأت بسبب إشكال فغالباً ما يجد الباحث صعوبة في
جمع النقول المتعلّقة بها، وربما يجدها في غير مظانّها.
وإذا جمع الباحث ما يستطيع من النقول ثمّ رأى
أن النقول لم تكتمل لديه، وأنه ينقصه الوقوف على أقوال معينة لم يجدها بعد
اجتهاده؛ فينبغي له أن يستعين بسؤال أهل العلم والباحثين المتقدّمين
ليوقفوه عليها أو يدلوه على مظانها، وليستفِدْ من طرقهم في التوصّل إليها.
وإذا اجتمع للباحث ما يكفي من النقول لدراسة
المسألة أمكنه الانتقال إلى المرحلة التالية والشروع في الدراسة، وإذا لم
تكتمل لديه النقول في المسألة بعد اجتهاده وكان مضطراً للشروع في البحث
والدراسة فليعلم أنّ لهذا النقص أثره في دراسته؛ فليدع في بحثه فرصة لزيادة
التوثق.
المرحلة الرابعة: استخلاص الأقوال في التفسير وتصنيفها
إذا جمع الباحث النقول المتعلّقة بمسألته التي يريد دراستها أمكنه البدء باستخلاص الأقوال التي قيلت في المسألة منها، وهذا
الاستخلاص قد يكون مستفاداً من نصّ أقوال العلماء وترجيحاتهم، وتقديمهم
بعض الأقوال على بعض، وإما أن يكون مستفاداً من فهم لوازم أقوالهم وفحواها،
وسنأتي لمزيد بيان لهذا الأمر المهمّ بأمثلته إن شاء الله تعالى.
واستخلاص الأقوال في هذه المرحلة هو استخلاص
مبدئي؛ يراد منه استيعاب ما قيل في المسألة ولو كان بين تلك الأقوال توافق
أو تقارب، ولذلك قد يجمع الباحث في المسألة الواحدة عشرة أقوالٍ أو أكثر،
وهي في حقيقتها ترجع إلى قولين أو ثلاثة أو أربعة.
وهذا الاستخلاص المبدئي محلّه مسوَّدة البحث، لأنه سيُتبع بمراحل مهمّة قبل البدء بتحرير المسألة.
ولذلك قد يختزل الباحث الأقوال الكثيرة إلى
أقوال معدودة يرجعها إلى أصول جامعة أو يستبعد أقوالاً لا تصحّ نسبتها أو
لا يرى فائدة من ذكرها.
المرحلة الخامسة: تخريج أقوال المفسرين
وهذه المرحلة مهمّة جداً، وقد يغفل عنها بعض الباحثين، وإغفالها من أسباب ضعف بعض البحوث التفسيرية، وكثرة الخطأ فيها.
وسبب العناية بهذه المرحلة
أنّ كثيراً من الباحثين يكون رجوعهم في مسائل التفسير إلى تفاسير غير
مسندة كتفسير الماوردي وابن عطية وابن الجوزي والقرطبي وابن كثير وغيرها
من التفاسير التي تنقل أقوال المفسّرين من السلف من غير إسناد.
وهذه التفاسير على أهميتها وجلالة قدر أصحابها
وعلوّ مكانتهم في هذا العلم إلا أنّ الاكتفاء بعزو أقوال السلف إليها لا
يصحّ من حيث صنعة البحث العلمي إلا أن يذكروا قولاً من مصدر مفقود لا يمكن
الوصول إليه إلا من طريقهم.
والمراد بتخريج أقوال المفسّرين هو الرجوع إلى مصادرها الأصلية أو البديلة عند فقدان المصادر الأصلية.
وتمرّن الطالب على تخريج أقوال السلف في التفسير ينمّي معرفته بمصادر الأقوال ومظانّ ذكرها، وطرق الإسناد إليهم.
وهذا الأمر قد يبدو للباحث صعباً عسير المنال
في أوّل الأمر، لكنّ حرص الباحث على الإتقان ومداومته البحث من أسباب نضج
معرفته بمصادر الأقوال ومظانّ نشأة المسائل، فتتحسّن معرفته وتتوسّع
مداركه، وتصبح لديه ملكة يتمكن بها من سرعة الوصول إلى مصادر الأقوال،
ومعرفة أوّل نشأتها.
المرحلة السادسة: التحقق من صحة نسبة الأقوال
بعد أن يجتهد الباحث في حصر الأقوال التي قيلت
في المسألة التي يبحثها يبقى عليه أن يتحقق من صحّة نسبة تلك الأقوال إلى
من نُسبت إليه.
والتحقق من صحة نسبة الأقوال منه ما هو متيسّر
لكثير من الباحثين بشيء من التدرّب والتمرّن، وله طرق وأدوات علمية يسهل
تعلّمها، ولا يحسن الجهل بها.
ومنه ما يتطلّب بصيرة بأسانيد التفسير وأقوال
المفسّرين ومآخذها وعللها، ومعرفة حسنة بمناهجهم ومصادرهم، وهذه مرتبة لا
يدركها الباحث إلا بكثرة البحث والدراسة لمسائل التفسير مع اليقظة والملكة
العلمية الحسنة في الكشف عن علل التفسير.
وسنخصص لمهارة التحقق من صحة الأقوال درساً
مستقلاً بعون الله تعالى نذكر فيه من الأمثلة والتطبيقات ما يكفي بإذن الله
تعالى لتحصيل درجة مرضية من البحث العلمي في مسائل التفسير، ويبقى على
الطالب بعد ذلك الاجتهاد في المداومة على البحث والدراسة حتى يتمكّن من
أدوات الاجتهاد في التحقق من صحة نسبة الأقوال في التفسير، وهي مرتبة شريفة
في هذا العلم يتمكّن بها الباحث من التمييز بين ما يصحّ من الأقوال وما
لا يصحّ، فلا يغترّ بكثرة من تُنسب إليهم أقوال لا تصحّ عنهم في التفسير.
وكثير ممن يقرأ في التفاسير وهو لا يُحسن
التمييز بين ما يصحّ وما لا يصحّ من الأقوال يحصل له من الخلط والخطأ ما
يشوّش عليه معرفة التفسير الصحيح للآية.
المرحلة السابعة: توجيه أقوال المفسّرين
بعد جمع الباحث للأقوال واجتهاده في استيعابها
وحصرها وتحققه من صحة النسبة بما أمكنه، ينتقل إلى مرحلة مهمّة وهي توجيه
أقوال المفسّرين، والتعرّف على أدلتها ومآخذها، والأسباب التي حملتهم على
تلك الأقوال، والتخريج اللغوي لما يشكل من تلك الأقوال.
وقد تكون الروايات عن السلف مصحوبة بذكر
أدلتها، وقد تكون أقوالاً مجرّدة من الأدلة؛ فيجتهد في محاولة معرفة
مستندها من النصّ أو الإجماع أو الاجتهاد.
وهذه المهارة من المهارات التي يظهر فيها
تفاضل المفسّرين في علم التفسير؛ فحذّاق المفسّرين يظهر من دراستهم لمسائل
التفسير براعة في هذه المهارة؛ حتى إنّ المطّلع على بعض الأقوال قد
يستغربها أوّل الأمر، ويظنّ بُعْدَها عن الصواب وأوجه الاستدلال الصحيحة،
لكنّه ما إن يطالع توجيه بعض أولئك الحذّاق من المفسّرين حتى تتبيّن له
وجاهة تلك الأقوال، ويعرف مأخذها، وأسباب قوّتها.
وممن برع في توجيه أقوال المفسّرين: شيخ
المفسّرين أبو جعفر ابن جرير الطبري، وابن عطية، وشيخ الإسلام ابن تيمية،
وابن القيّم، وابن كثير، وابن حجر، وابن عاشور، والشنقيطي.
وهذه المرحلة تتطلّب من الباحث النظر في الأقوال بتيقّظ ورويّة وتأمّل لطرق حذّاق المفسّرين في دراسة أقوال المفسّرين وتوجيهها.
المرحلة الثامنة: تحرير مسائل التفسير
بعد جمع الباحث للأقوال في المسألة
واستيعابها، وتمييز ما تصح نسبته مما لا تصح، ومعرفة توجيهها، وأدلّتها،
يأتي الباحث إلى مرحلة تحرير المسألة ، وهي أهمّ مراحل البحث، وما سبق كله
إنما هو إعداد لهذه المرحلة.
وإحسان الباحث أداء المراحل السابقة مما يسهّل عليه أداء هذه المرحلة.
وتحرير مسائل التفسير له
طرق وخطوات تفصيلية وأدوات علمية إذا أحسن استعمالها طالب العلم تيسّر له
بإذن الله تعالى تحرير كثير من المسائل التفسيرية، وسنخصص لها درساً
مستقلاً بعون الله تعالى.
المرحلة التاسعة: الأسلوب والصياغة
بعد أداء المراحل السابقة يصل الباحث إلى تصوّر حسن للمسألة التي يبحثها ومعرفة بالقول الصواب فيها إن شاء الله، لكن يبقى عليه أمر مهمّ، وهو صياغة تلك المسألة بأسلوب حسن على ما يقتضيه المقام ونوع المخاطبين.
وقد درسنا في دورة أساليب التفسير أنّ لأهل
العلم ستة أساليب في عرض مادّة التفسير مستفادة من استقراء أنواع الخطاب في
الرسائل التفسيرية المفردة، وهي:
1. أسلوب التقرير العلمي.
2. والأسلوب الوعظي.
3. والأسلوب الاستنتاجي.
4. وأسلوب الحجاج.
5. والأسلوب البياني.
6. والأسلوب المقاصدي.
وإحسان الأسلوب مطلب مهمّ، فكم من عارفٍ بمسألة أخفق في تعليمها أو انصرف الناس عنه لضعف أسلوبه.
ولا يكاد يخلو طالب علم من قدرة على إتقان
أسلوب من هذه الأساليب، فالأسلوب الذي يفتح لطالب العلم فيه ينبغي له أن
يلزمه ويجتهد في الإفادة به.
ومن طلاب العلم من يُفتح له في أسلوبين أو أكثر، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وكلّ أسلوب له ما يناسبه من لغة الخطاب
والصياغة العلمية، لكننا سنعتمد في هذه الدورة أسلوب التقرير العلمي، لأنه
أقرب الأساليب إلى مقام التعليم وإعداد الباحثين في التفسير وعلوم القرآن.
وينبغي أن تكون صياغته اللغوية للبحث صياغة
سليمة رصينة، تؤدّي المعنى بوضوح وسلاسة، من غير لحن ولا حشو ولا تعقيد،
وأن يجتنب الاختصار المخلّ، والتطويل المملّ.
المرحلة العاشرة: المراجعة والتهذيب والعرض
وهذه المرحلة من المراحل المهمّة، وفيها يصحّح
الباحثُ كثيراً من الأخطاء، ويستكمل النواقص، ويقوّم البحث، ويجوّد
عبارته، ويحكم تحريره.
ومن أهمّ ما ينبغي في هذه المرحلة أن يحرص
الباحث على استيفاء البحث لأركانه وأصوله، ويتحقق من التزامه بقواعد
الاستدلال، وانضباط منهجه العلمي؛ فإذا رأى قولاً فاته تحرير صحة نسبته، أو
فاته عزوه لقائله، أو رأى خللا في طريقة عرض الأحاديث والآثار، اجتهد في
تصحيح ما يلزم من ذلك.
ومن المهمّ في هذه المرحلة أن يعتني الباحث
بعلامات الترقيم، وحسن تقسيم فقرات البحث، ومسائله، وسلامة كتابته من
الأخطاء الإملائية والنحوية والأسلوبية.
تمّ هذا الدرس بفضل الله تعالى.