26 Dec 2021
عناصر الدرس:
1. النهي عن كتابة غير القرآن في أوّل الإسلام.
2. إذن النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنه بالكتابة.
3. تكرر الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم بالكتابة.
4. أقوال العلماء في مقاصد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة غير القرآن.
النهي عن كتابة غير القرآن في أوّل الإسلام:
كان النبي صلى الله عليه
وسلم قد نهى عن كتابة غير القرآن في حياته، كما في صحيح مسلم ومسند الإمام
أحمد وغيرهما من طريق همّام بن يحيى عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن
أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمْحُه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)).
وفي مسند الدارمي من طريق سفيان بن عيينة قال: حدثنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أنهم استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في أن يكتبوا عنه، فلم يأذن لهم».
وقد ذهب كثير من أهل العلم
إلى أنّ الحكمة من ذلك ألا يختلط القرآن بغيره، وخصوصاً في أوّل الإسلام
قبل أن تستقرّ معرفة القرآن في النفوس ويشتهر حفظه وتتميّز تلاوته.
والتحقيق أنّ المقاصد أعمّ
من ذلك، فقد نُقل عن السلف الصالح ما يدلّ على تعدّد المقاصد، ومن أهمّها
ألا يختلط القرآن بغيره إذ لم تكن المعرفة بالقرآن شائعة في ذلك الزمان،
وأن لا يُشتغل بالكتابة عن الحفظ واتّباع الهدى.
فالكاتب قد يتّكل على الكتابة ويستكثر منها حتى يغفل عن التعاهد والحفظ وملاحظة الهدى واتّباعه.
والعلم ليس مسائل مجرّدة
يُطلب من المتعلّم حفظها وترديدها، بل لا يُعدّ العلم الذي يتعلّمه المرء
نافعاً حتى يتبيّن به الحقّ من الباطل، ويعرف به الهدى ويتّبعه؛ فيكون
للعلم حينئذ أثرٌ صالح على قلبه وجوارحه، ويكون العلمُ له نوراً يسير به
على الصراط المستقيم.
ولذلك كان من أشدّ الآيات على العلماء قول الله تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى
مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ
يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)}.
فدلّت هذه الآية على الوعيد الشديد لمن كتم أصلين عظيمين:
الأول: البينات التي بها يتبيّن الحق من الباطل،
والثاني:
الهدى، هو سلوك الصراط المستقيم بامتثال الأمر واجتناب النهي، والقيام
بالحقّ كما أمر الله تعالى وكما بيّن رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمعرفة البيّنات تثمر البصيرة في الدين، وتفضي بصاحبها إلى اليقين.
واتباع الهدى يثمر الاستقامة ويفضي بصاحبه إلى التقوى والإحسان.
فكتم البينات يكون بعدم تبليغ ما يتميّز به الحقّ من الباطل.
وكتم الهدى يكون بعدم العمل بالعلم.
فيصبح الناس في عماية عمياء لا يجدون من يبصّرهم في دينهم، ولا يجدون أسوة صالحة يقتدون بها.
وكتم البينات والهدى أشدّ
ضرراً وإثماً من منع الماء عن ابن السبيل، بل ضرره كبير كثير، كبير من جهة
عظم خطره وإثمه، وكثير من جهة تعدّيه لكثيرين ممن حُجب عنهم العلم والعمل،
ولذلك كثر اللاعنون لهذا الصنف بعد لعنة الله لهم، كما قال الله تعالى: {أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون}.
والمقصود أن الدعوة
الإسلامية في بزوغ فجرها كانت الحاجة فيها إلى تبليغ البينات والقيام
بالهدى ماسة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحثّ أصحابه على تلقّي
العلم منه بفرعيه المعرفي والسلوكي، فكان يعلّمهم أحكام الدين ويُفقّههم
فيه ويجيب على أسئلتهم، وكان يقول أيضاً: ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، و (( خذوا عني مناسككم))، وكان يقول: ((خير الهدي هدي محمد)).
وقد قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}
وهذا يقطع عن قلوب الصحابة التطلع إلى هدى خير من هذا الهدى الذي رأوا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وبلغهم عنه.
فأخذ الصحابة منه العلم الذي
يتبصّرون به في دينهم، ويميزون به الحقّ من الباطل فلا يلتبس عليهم،
وأخذوا عنه الهدى الذي ترسّموه وامتثلوه وقاموا به، ومُنعوا من الكتابة
ليكون إقبال قلوبهم على الأمرين: البينات والهدى، وبهما يكون القيام
بالدين.
ولا شكّ أنّ إقبال العامة
على الكتابة يشغلهم عن تمام القيام بالأمرين، وقد لا ينهض بهما مع الكتابة
إلا قلّة ممن تمرّسوا على الاجتهاد في العلم والعمل، وجمعوا القرآن
وأكثروا من تلاوته حتى أمن في حقهم التباس غيره به في الزمن الذي كان ينزل
فيه الوحي.
وسيأتي مزيد تفصيل للحديث عن مقاصد النهي عن الكتابة في أوّل الإسلام ، وأنها أعمّ من خشية اختلاط القرآن بغيره.
إذن النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنه بالكتابة:
ثم إن النبي صلى الله عليه
وسلم أذن لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في كتابة الحديث؛ وكان
شابّا كثير العبادة جامعاً للقرآن يقرأه كلَّه في ليلة حتى نهاه النبي
صلى الله عليه وسلم أن يختمه في أقل من سبع.
- قال ابن جريج: سمعت ابن
أبي مليكة يحدّث عن يحيى بن حكيم بن صفوان أن عبد الله بن عمرو بن العاص،
قال: جمعت القرآن فقرأته في ليلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني أخشى أن يطول عليك الزمان وأن تملّ، اقرأ به في كل شهر)).
قلت: أي رسول الله، دعني أستمتع من قوتي ومن شبابي.
قال: ((اقرأ به في عشرين)).
قلت: (أي رسول الله، دعني أستمتع من قوتي ومن شبابي).
قال: ((اقرأ به في عشر)).
قلت: يا رسول الله، دعني أستمتع من قوتي ومن شبابي.
قال: ((اقرأ به في كل سبع)).
قلت: (يا رسول الله، دعني أستمتع من قوتي ومن شبابي).
فأبى). رواه عبد الرزاق وأحمد وابن ماجة.
ومن كان كثير القراءة للقرآن
فإنه يُؤمَن عليه أن يلتبس عليه القرآن بالحديث، وهذا يشبه أن يكون سبباً
مؤثراً في إذن النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص
بكتابة الحديث، مع ورود الاستئذان منه في ذلك كما في مسند الإمام أحمد
ومستدرك الحاكم من حديث محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده،
قال: قلت: يا رسول الله، أتأذن لي فأكتب ما أسمع منك؟
قال: «نعم»
قلت: في الرضا والغضب؟
قال: «نعم، فإنه لا ينبغي أن أقول عند الرضا والغضب إلا حقاً».
- وفي مسند الإمام أحمد
والمعجم الكبير للطبراني من طريق عبيد الله ابن الأخنس قال: حدثني الوليد
بن عبد الله بن أبي مغيث، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو، قال: كنت
أكتب كلَّ شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم -أريد حفظه- فنهتني
قريش، وقالوا: أتكتب كلَّ شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ورسول الله صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ يتكلَّم في الغضب والرضا؟!
فأمسكت عن الكتاب؛ فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأومأ بإصبعه إلى فيه؛ فقال: (( اكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق )).
- وقال عمرو بن دينار: أخبرني وهب بن منبه، عن أخيه، قال: سمعت أبا هريرة، يقول: «ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحدٌ أكثر حديثاً عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب» رواه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي في الكبرى وغيرهم.
فكان عبد الله بن عمرو بن
العاص يكتب في صحيفة له سمّاها "الصادقة"؛ وكان يحفظها ويتعاهدها، وذكر بعض
متأخري أهل الحديث أن فيها نحو ألف حديث، وهذا التقدير أرى أنه مبنيّ على
تقدير عدد مرويات عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عبد الله بن عمرو بن
العاص؛ فقد اشتهر برواية هذه الصحيفة.
- قال أبو راشد الحبراني:
أتيت عبد الله بن عمرو بن العاص، فقلت له: حدثنا ما سمعتَ من رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فألقى بين يديَّ صحيفة؛ فقال: هذا ما كتب لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فنظرت فيها، فإذا فيها أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول
الله، علّمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت؛ فقال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم: ((يا أبا بكر، قل: اللهم فاطر السماوات
والأرض، عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت، ربّ كل شيء ومليكه، أعوذ بك
من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجرّه إلى
مسلم)). رواه الإمام أحمد في المسند والبخاري في الأدب المفرد والترمذي في سننه.
قوله: ( كتب لي) أي: أذن لي بكتابته أو أملى عليّ؛ فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن كاتباً.
- وقال أبو قبيل المعافري:
كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص، وسئل: أي المدينتين تفتح أولا:
القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبد الله بصندوق له حَلَق؛ فأخرج منه كتاباً
فجعل يقرأه؛ فقال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ
سئل: أي المدينتين يفتح أولا قسطنطينية أو رومية؟ فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: ((مدينة هرقل تفتح أولا)) يعني قسطنطينية). رواه أحمد وابن أبي شيبة والحاكم والدارمي والطبراني من طريق يحيى بن أيوب الغافقي عن أبي قبيل.
- وقال إسحاق بن يحيى بن
طلحة بن عبيد الله: حدثنا مجاهد قال: أتيت عبد الله بن عمرو فتناولت صحيفةً
من تحت مفرشه؛ فمنعني؛ قلت: ما كنتَ تمنعني شيئاً؟!!
قال:
(هذه الصادقة، هذه ما سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه ليس بيني وبينه
أحد، إذا سَلِمَتْ لي هذه وكتاب الله تبارك وتعالى والوهط؛ فما أبالي ما
كانت عليه الدنيا). رواه الخطيب البغدادي في تقييد العلم بهذا السياق، وإسحاق بن يحيى ضعيف الحديث،
قال البخاري: يتكلّمون في حفظه، ومن أهل الحديث من يعتبر حديثه، وقد
تابعه ليث بن أبي سليم عند الدارمي وابن عبد البرّ في جامع بيان العلم
وفضله بسياق مختصر.
والوهط بستان في الطائف تصدّق به عمرو بن العاص وكان ابنه عبد الله يقوم عليه.
تكرر الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم بالكتابة:
ثمّ إنّ النبي صلى الله عليه وسلم تكرر منه الإذن بالكتابة في أحوال متعددة:
1. ففي
الصحيحين من حديث الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي
كثير، حدثني أبو سلمة هو ابن عبد الرحمن، حدثني أبو هريرة قال: لما فتح
الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، قام في الناس، فحمد
الله وأثنى عليه، ثم قال: ((إن الله حبس عن مكة الفيل،
وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لن تحلّ لأحد كان قبلي، وإنها أُحِلَّت
لي ساعة من نهار، وإنها لن تحلّ لأحد بعدي، فلا ينفر صيدها، ولا يختلى
شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما
أن يفدى، وإما أن يقتل))
فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إلا الإذخر»
فقام أبو شاه - رجل من أهل اليمن - فقال: اكتبوا لي يا رسول الله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اكتبوا لأبي شاه».
قال الوليد: فقلت للأوزاعي: ما قوله: اكتبوا لي يا رسول الله؟
قال: «هذه الخطبة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم».
2: وقال سليمان الشيباني، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ««نهى
النبي صلى الله عليه وسلم أن يخلط التمر والزبيب جميعا، وأن يخلط البسر
والتمر جميعا، وكتب إلى أهل جرش ينهاهم عن خليط التمر والزبيب» رواه أحمد وابن أبي شيبة ومسلم، النسائي في السنن الكبرى وبوّب له: (الكتاب بالعلم إلى البلد النائي).
3. وفي صحيح مسلم وسنن الترمذي والنسائي والبيهقي وغيرها من طرق عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه (أنّ
نبي الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى، وإلى قيصر، وإلى النجاشي،
وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي
صلى الله عليه وسلم).
4. وفي الصحيحين من حديث ابن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده».
قال عمر: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا؛ فاختلفوا وكثر اللَّغَط، قال: «قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع» فخرج ابن عباس يقول: «إنَّ الرزية كلَّ الرزية، ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه».
تنبيه:
- أما ما رواه الإمام أحمد
في المسند من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار،
عن أبي هريرة، قال: كنا قعوداً نكتب ما نسمع من النبي صلى الله عليه وسلم
فخرج علينا، فقال: «ما هذا تكتبون؟»
فقلنا: ما نسمع منك.
فقال: «أكتاب مع كتاب الله؟!»
فقلنا: ما نسمع.
فقال: «أكتاب غير كتاب الله؟! امحضوا كتاب الله، وأخلصوه»
قال: (فجمعنا ما كتبنا في صعيد واحد، ثم أحرقناه بالنار).
ففي إسناده عبد الرحمن بن زيد، وهو ضعيف الضبط جداً، ترك حديثه بعض الأئمة.
- وأما ما رواه الترمذي من
طريق الخليل بن مرة، عن يحيى بن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: (كان رجل من
الأنصار يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيسمع من النبي صلى الله عليه
وسلم الحديث فيعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: يا رسول الله إني أسمع منك الحديث فيعجبني ولا أحفظه، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ((استعن بيمينك))، وأومأ بيده للخط).
لكن هذا الحديث ضعيف الإسناد جداً، وقد قال الترمذي عقبه: (هذا حديث إسناده ليس بذلك القائم، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: الخليل بن مرة منكر الحديث).
أقوال العلماء في مقاصد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الكتابة:
اختلف أهل العلم في مقاصد نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الكتابة، وفي مفهوم تكرر الإذن بالكتابة أهو ناسخ للنهي؟ أم إذن خاصّ في أحوال مخصوصة؟
- فقال ابن حبان في صحيحه:
(زَجْرُه صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عنه سوى القرآن، أراد به الحث
على حفظ السنن، دون الاتكال على كتابتها وترك حفظها والتفقه فيها.
والدليل
على صحة هذا إباحته صلى الله عليه وسلم لأبي شاه كَتْبَ الخطبة التي
سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذنه صلى الله عليه وسلم لعبد
الله بن عمرو بالكتابة).
- وقال أبو بكر البيهقي في المدخل إلى السنن: (قد
روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أذن في الكتابة عنه، ولعله إن شاء
الله أذن في الكتابة عنه لمن خشي عليه النسيان، ونهى عن الكتابة عنه لمن
وثق بحفظه، أو نهى عن الكتابة عنه من خاف عليهم الاختلاط وأذن في الكتابة
عنه حين أمن منه)ا.هـ.
قلت: يريد الخوف عليهم من اختلاط القرآن بغيره.
- وقال أبو سليمان الخطابي
في معالم السنن: (يشبه أن يكون النهي متقدماً وآخر الأمرين الإباحة، وقد
قيل: إنه إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط به
ويشتبه على القارئ؛ فأما أن يكون نفس الكتاب محظوراً وتقييد العلم بالخطّ
منهياً عنه فلا.
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بالتبليغ، وقال: (( ليبلغ الشاهد الغائب ))
فإذا لم يقيّدوا ما يسمعونه منه تعذَّر التبليغ، ولم يُؤْمَن ذهابُ
العلم، وأن يسقط أكثر الحديث؛ فلا يبلغ آخرَ القرون من الأمة، والنسيان من
طبع أكثر البشر، والحفظ غير مأمون عليه الغلط، وقد قال صلى الله عليه
وسلم لرجل شكى إليه سوء الحفظ: (( استعن بيمينك))، وقال: (( اكتبوها لأبى شاه)) خطبة
خطبها؛ فاستكتبها، وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كُتباً في
الصدقات والمعاقل والديات أو كتبت عنه فعملت بها الأمة وتناقلتها الرواة
ولم ينكرها أحد من علماء السلف والخلف؛ فدلَّ ذلك على جواز كتابة الحديث،
والعلم والله أعلم).
- وقال أبو محمد البغوي في
شرح السنة: (والنهي يشبه أن يكون متقدما، ثم أباحه، وأذن فيه، وقد قيل:
إنما نهي عن كتبة القرآن والحديث في صحيفة واحدة، لئلا يختلط غير القرآن
بالقرآن، فيشتبه على القارئ، فأما أن يكون نفس الكتاب محظورا، فلا، يدل
عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «بلغوا عني».
وفي الأمر بالتبليغ إباحة
الكتبة، والتقييد، لأن النسيان من طبع أكثر البشر، ومن اعتمد على حفظه لا
يؤمن عليه الغلط، فترك التقييد يؤدي إلى سقوط أكثر الحديث، وتعذر التبليغ،
وحرمان آخر الأمة عن معظم العلم).
- وقال ابن القيّم رحمه الله
في تهذيب السنن: (قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الكتابة
والإذن فيها، والإذن متأخر، فيكون ناسخاً لحديث النهي، فإن النبي صلى الله
عليه وسلم قال في غزاة الفتح: "اكتبوا لأبي شاه"
يعني خطبته التي سأل أبو شاه كتابتها، وأذن لعبد الله بن عمرو في
الكتابة، وحديثه متأخر عن النهي، لأنه لم يزل يكتب، ومات وعنده كتابته،
وهي الصحيفة التي كان يسميها "الصادقة"، ولو كان النهي عن الكتابة متأخراً
لمحاها عبدُ الله لأَمْرِ النبي صلى الله عليه وسلم بمحو ما كتب عنه غير
القرآن، فلما لم يمحها وأثبتها، دل على أنَّ الإذن في الكتابة متأخر عن
النهي عنها، وهذا واضح. والحمد لله)ا.هـ.
- وقال أيضاً:
(إنما نهى النبي عن كتابة غير القرآن في أول الإسلام؛ لئلا يختلط القرآن
بغيره، فلما علم القرآن وتميز، وأفرد بالضبط والحفظ، وأمنت عليه مفسدة
الاختلاط أذن في الكتابة).