17 Nov 2018
تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)}
تفسير
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ
نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا
لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله:
{إنّ الّذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلّما نضجت جلودهم
بدّلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إنّ اللّه كان عزيزا حكيما}
{سوف نصليهم نارا} أي: نشويهم في نار.
ويروى أن يهودية أهدت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - شاة مصليّة، أي: مشويّة.
وقوله: {كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها} الأحسن إظهار التاء ههنا مع الجيم، لئلا تكثر الجيمات، وإن شئت: أدغم التاء في الجيم؛ لأن الجيم من وسط اللسان والتاء من طرفه، والتاء حرف مهموس فأدغمته في الجيم.
فإن قال قائل بدل الجلد الذي عصى بالجلد الذي غير العاصي، فذلك غلط من القول، لأن العاصي والآلم هو الإنسان لا الجلد.
وجائز أن يكون: بدل الجلد النضج، وأعيد كما كان جلده الأول، كما تقول: قد صغت من خاتمي خاتما آخر فأنت وإن غيرت الصوغ فالفضة أصل واحد، وقد كان الجلد بلي بعد البعت، فإنشاؤه بعد النضج كإنشائه بعد البعث.
وقوله: {ليذوقوا العذاب} أي: ليبلغ في ألمهم.
وقوله: {إنّ اللّه كان عزيزا حكيما} العزيز:
البالغ إرادته، الذي لا يغلبه شي " وهو مع ذلك حكيم فيما يدبر،
لأن ّ الملحدين ربما سألوا عن العذاب كيف وقع؟ فأعلم الله عزّ وجلّ
أن جميع ما فعله بحكمة). [معاني القرآن: 2/65-66]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: إنّ الّذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إنّ اللّه كان عزيزاً حكيماً (56) والّذين آمنوا وعملوا الصّالحات سندخلهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً لهم فيها أزواجٌ مطهّرةٌ وندخلهم ظلاًّ ظليلاً (57)
تقدم
في الآيات وصف المردة من بني إسرائيل وذكر أفعالهم وذنوبهم، ثم جاء
بالوعيد النص لهم بلفظ جلي عام لهم ولغيرهم ممن فعل فعلهم من الكفر،
والقراءة المشهورة نصليهم بضم النون من أصليت ومعناه قربت من النار وألقيت
فيها، وهو معنى صليت بتشديد اللام، وقرأ حميد «نصليهم» بفتح النون من
صليت، ومعناه شويت، ومنه الحديث، أتي رسول الله بشاة مصلية، أي مشوية،
وكذا وقع تصريف الفعل في العين وغيره، وقرأ سلام ويعقوب «نصليهم» بضم
الهاء، واختلف المتأولون في معنى تبديل الجلود، فقالت فرقة: تبدل عليهم
جلود غيرها، إذ نفوسهم هي المعذبة والجلود لا تألم في ذاتها، فإنها تبدل
ليذوقوا تجديد العذاب، وقالت فرقة: «تبديل الجلود» هو إعادة ذلك الجلد
بعينه الذي كان في الدنيا، تأكله النار ويعيده الله دأبا لتجدد العذاب،
وإنما سماه «تبديلا»، لأن أوصافه تتغير ثم يعاد، كما تقول: بدل من خاتمي
هذا خاتما وهي فضته بعينها، فالبدل إنما وقع في تغيير الصفات، وقال ابن
عمر، كلما احترقت جلودهم بدلوا جلودا بيضاء كالقراطيس، وقال الحسن بن أبي
الحسن، تبدل عليهم في اليوم سبعين ألف مرة، وقالت فرقة: الجلود في هذا
الموضع سرابيل القطران، سماها جلودا للزومها فصارت كالجلود، وهي تبدل دأبا
عافانا الله من عذابه برحمته، حكاه الطبري، وحسن الاتصاف بعد هذه
المقدمات بالعزة والإحكام، لأن الله لا يغالبه مغالب إلا غلبه الله، ولا
يفعل شيئا إلا بحكمة وإصابة، لا إله إلا هو تبارك وتعالى). [المحرر الوجيز: 2/584-585]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّ
الّذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارًا كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم
جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب إنّ اللّه كان عزيزًا حكيمًا (56) والّذين
آمنوا وعملوا الصّالحات سندخلهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها
أبدًا لهم فيها أزواجٌ مطهّرةٌ وندخلهم ظلا ظليلا (57)}.
يخبر تعالى عمّا يعاقب به في نار جهنّم
من كفر بآياته وصدّ عن رسله، فقال: {إنّ الّذين كفروا بآياتنا [سوف نصليهم
نارًا]} الآية، أي ندخلهم نارًا دخولًا يحيط بجميع أجرامهم، وأجزائهم.
ثمّ أخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم، فقال: {كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم
جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب} قال [الأعمش، عن ابن عمر] إذا أحرقت جلودهم
بدّلوا جلودًا بيضًا أمثال القراطيس. رواه ابن أبي حاتمٍ.
وقال يحيى بن يزيد الحضرميّ إنّه بلغه
في قول اللّه: {كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب}
قال: يجعل للكافر مائة جلدٍ، بين كلّ جلدين لونٌ من العذاب. رواه ابن أبي
حاتمٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا
عليّ بن محمّدٍ الطّنافسيّ، حدّثنا حسينٌ الجعفيّ، عن زائدة، عن هشام، عن
الحسن قوله: {كلّما نضجت جلودهم [بدّلناهم جلودًا غيرها]} الآية. قال:
تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرّةٍ. قال حسينٌ: وزاد فيه فضيلٌ عن هشامٍ عن
الحسن: كلّما أنضجتهم فأكلت لحومهم قيل لهم: عودوا فعادوا.
وقال أيضًا: ذكر عن هشام بن عمّارٍ:
حدّثنا سعيد بن يحيى -يعني سعدان-حدّثنا نافعٌ، مولى يوسف السّلميّ
البصريّ، عن نافعٍ، عن ابن عمر قال: قرأ رجلٌ عند عمر هذه الآية: {كلّما
نضجت جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرها} فقال عمر: أعدها عليّ فأعادها، فقال
معاذ بن جبلٍ: عندي تفسيرها: تبدّل في ساعةٍ مائة مرّةٍ. فقال عمر: هكذا
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد رواه ابن مردويه، عن محمّد بن أحمد
بن إبراهيم، عن عبدان بن محمّدٍ المروزيّ، عن هشام بن عمّارٍ، به. ورواه
من وجهٍ آخر بلفظٍ آخر فقال: حدّثنا محمّد بن إسحاق، عن عمران، حدّثنا
إبراهيم بن محمّد بن الحارث، حدّثنا شيبان بن فرّوخ، حدّثنا نافعٌ أبو
هرمز، حدّثنا نافعٌ، عن ابن عمر قال: تلا رجلٌ عند عمر هذه الآية: {كلّما
نضجت جلودهم [بدّلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب]} الآية، قال: فقال
عمر: أعدها عليّ -وثمّ كعبٌ-فقال: يا أمير المؤمنين، أنا عندي تفسير هذه
الآية، قرأتها قبل الإسلام، قال: فقال: هاتها يا كعب، فإن جئت بها كما سمعت
من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صدّقناك، وإلّا لم ننظر إليها.
فقال: إنّي قرأتها قبل الإسلام: "كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرها
في السّاعة الواحدة عشرين ومائة مرّةٍ". فقال عمر: هكذا سمعت من رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلم.
وقال الرّبيع بن أنسٍ: مكتوبٌ في الكتاب
الأوّل أنّ جلد أحدهم أربعون ذراعًا، وسنّه تسعون ذراعًا، وبطنه لو وضع
فيه جبلٌ لوسعه، فإذا أكلت النّار جلودهم بدّلوا جلودًا غيرها.
وقد ورد في الحديث ما هو أبلغ من هذا،
قال الإمام أحمد: حدّثنا وكيعٌ، حدّثنا أبو يحيى الطّويل، عن أبي يحيى
القتّات، عن مجاهدٍ، عن ابن عمر، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
"يعظم أهل النّار في النّار، حتّى إنّ بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة
سبعمائة عامٍ، وإنّ غلظ جلده سبعون ذراعًا، وإنّ ضرسه مثل أحدٍ".
تفرّد به أحمد من هذا الوجه.
وقيل: المراد بقوله: {كلّما نضجت جلودهم} أي: سرابيلهم. حكاه ابن جريرٍ، وهو ضعيفٌ؛ لأنّه خلاف الظّاهر). [تفسير القرآن العظيم: 2/336-338]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ولما
ذكر الله وعيد الكفار، عقب بوعد المؤمنين بالجنة على الإيمان والأعمال
الصالحة، وقرأ ابن وثاب والنخعي، «سيدخلهم» بالياء وكذلك «يدخلهم» بعد ذلك
وقد تقدم القول في معنى من تحتها في سورة البقرة ومطهّرةٌ معناه: من الريب
والأقذار التي هي معهودات في الدنيا وظليلًا معناه: عند بعضهم يقي الحر
والبرد، ويصح أن يريد أنه ظل لا يستحيل ولا ينتقل، كما يفعل ظل الدنيا،
فأكده بقوله ظليلًا لذلك، ويصح أن يصفه بظليل لامتداده، فقد قال عليه
السلام: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة سنة ما
يقطعها»). [المحرر الوجيز: 2/585]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله:
{والّذين آمنوا وعملوا الصّالحات سندخلهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار
خالدين فيها أبدًا} هذا إخبارٌ عن مآل السّعداء في جنّات عدنٍ، الّتي تجري
فيها الأنهار في جميع فجاجها ومحالّها وأرجائها حيث شاؤوا وأين أرادوا،
وهم خالدون فيها أبدًا، لا يحوّلون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولًا.
وقوله: {لهم فيها أزواجٌ مطهّرةٌ} أي:
من الحيض والنّفاس والأذى. والأخلاق الرّذيلة، والصّفات النّاقصة، كما قال
ابن عبّاسٍ: مطهّرةٌ من الأقذار والأذى. وكذا قال عطاءٌ، والحسن،
والضّحّاك، والنّخعيّ، وأبو صالحٍ، وعطيّة، والسّدّيّ.
وقال مجاهدٌ: مطهّرةٌ من البول والحيض والنّخام والبزاق والمنيّ والولد.
وقال قتادة: مطهّرةٌ من الأذى والمآثم ولا حيض ولا كلف.
وقوله: {وندخلهم ظلا ظليلا} أي: ظلّا عميقًا كثيرًا غزيرًا طيّبًا أنيقًا.
قال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن بشّارٍ،
حدّثنا عبد الرّحمن -وحدّثنا ابن المثنّى، حدّثنا ابن جعفرٍ -قالا حدّثنا
شعبة قال: سمعت أبا الضّحّاك يحدّث، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه
عليه وسلّم قال: "إنّ في الجنّة لشجرةً يسير الرّاكب في ظلّها مائة عامٍ لا
يقطعها، شجرة الخلد"). [تفسير القرآن العظيم: 2/338]
* للاستزادة ينظر: هنا