29 Aug 2015
الدرس التاسع: تحرير الأقوال المختلفة في التفسير
من المهارات الأساسية المهمّة في التفسير معرفة أصول دراسة الأقوال المختلفة في التفسير، والموقف الصحيح منها، وذلك يتبيّن بأربعة أصول:
الأصل الأول: معرفة شروط قبول القول في التفسير
الأصل الثاني: التفريق بين الأقوال المعتبرة في التفسير والأقوال غير المعتبرة.
الأصل الثالث: التفريق بين اختلاف التنوّع واختلاف التضادّ.
الأصل الرابع: التفريق بين الأقوال في التفسير وأوجه التفسير.
وقد يقع اختلاف في مسألة واحدة على أقوال متعددة؛ يكون منها أقوال متفقة، وأقوال متقاربة، وأقوال مختلفة اختلاف تنوّع، وأقوال مختلفة اختلاف تضاد، وأقوال غير معتبرة.
لقبول القول في التفسير ثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يكون معنى القول صحيحاً غير منكر.
والشرط الثاني: صحة دلالة الآية عليه بوجه من وجوه الاستدلال.
والشرط الثالث: ألا يخالف نصاً محكماً ولا إجماعاً.
فإذا استوفى أي قول من أقوال المفسرين هذه الشروط فهو قول مقبول، وإذا تخلّف أحد هذه الشروط فهو قول مردود.
والشرط الأول والثالث بينهما تلازم؛ لأنّ مخالفة القول لنصّ صحيح محكم غير منسوخ أو مخالفته للإجماع دليل على أنّ معنى القول منكر غير صحيح.
وبعض المفسرين قد يذكر قولاً صحيحاً في نفسه غير منكر؛ لكن لفظ الآية لا يدلّ عليه.
كما فسّر الحسن البصري وقتادة قول الله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} بما حاصله: إلا أن يكون بينكم وبين بعض الكفار رحم فتتقون قطيعتها؛ فتصلونها من غير أن تتولوهم في دينهم.
وقد صحَّحَ ابن جرير معنى هذا القول في نفسه، لكنَّه بيَّن أنَّ لفظ الآية لا يدلّ عليه؛ فلا يصحّ تفسير الآية به.
وقد يقع لبعضهم توهّم في الدلالة كما فسّر بعضهم قول الله تعالى: {من حمأ مسنون} أي: مُنْتِن، قال: وهو من أسن الماء إذا تغيّر وأنتن.
وهذا القول ردّه ابن عطية وقال: (التصريف يردّ هذا القول).
لأن "أَسِنَ" فعلٌ ثلاثي لازم؛ فلا يصاغ منه اسم مفعول، وإذا عدَّيته بالهمزة؛ فاسم المفعول منه: "مُؤسَن".
والقول بتحقق هذه الشروط مما يدخله الاجتهاد، ويختلف فيه النظر، ويقع فيه التفاضل بين الأقوال؛ فقد يكون تحققها ظاهراً بيّنا في بعض المسائل، وقد يخفى في مسائل أخر، وقد يقع التنازع في صحة المعنى المدلول عليه، أو في صحة الدلالة، أو في دعوى المخالفة لنص أو إجماع.
الأقوال المعتبرة هي التي لها حظّ من النظر، وإن كانت مرجوحة أو ضعيفة ضعفاً يسيراً؛ لأن لقائلها أصلاً معتبراً يعتمد عليه، ودلالة محتملة.
والأقوال غير المعتبرة هي الأقوال التي ليس لها حظّ من النظر، وهي التي يتبيّن خطأ أصحابها؛ إما باستدلال غير صحيح، أو توصّل إلى معنى منكر، أو معارضة قولهم لنص صحيح محكم أو إجماع.
- قال أبو الحسن ابن الحصار رحمه الله:
فليس كلُّ خلافٍ جاء معتبراً ... إلا خلافٌ له حظٌّ من النَّظَرِ
ومن الأقوال غير المعتبرة في التفسير:
1: الأقوال التي لا تجري على منهج أهل العلم والإيمان في الاستدلال والنظر والاجتهاد، وذلك مثل كثير من تفاسير أهل الأهواء، ولا سيما الباطنية منهم.
2: الأقوال التي تُبنى على اجتهاد مصادم لدلالة نصّ صحيح محكم أو إجماع صحيح.
3: الأقوال المنكرة التي لا تبنى على أصل معتبر من أصول التفسير.
4: الأقوال التي تُبنى على استدلال متوّهم يتبيّن خطؤه.
ومعنى اعتبار الأقوال في التفسير أن يُنظر فيها؛ فإن كان لها وجه صحيح في الاستدلال قُبلت، وإن تبيّن فيها خطأ رُدَّت، وإن لم تُعرف صحتها ولم يتبيّن خطؤها فيتوقّف فيها وتجعل عهدتُها على قائلها.
الأقوال المختلفة في التفسير هي التي تدلّ على معانٍ مختلفة، والاختلاف في التفسير على مرتبتين:
وهو الاختلاف الذي يمكن فيه الجمع بين الأقوال، والأقوال في هذه المرتبة على أنواع:
فمنها: ما يكون بعض الأقوال فيها من باب التفسير بالمثال.
ومنها: ما يكون التفسير فيه من باب التنبيه على أولى المعاني أو على معنى قد يُغفل عنه وهو داخل في معنى الآية.
ومنها: ما يكون التفسير فيه بلازم المعنى.
وسأذكر مثالين من المسائل التي يعدّ الاختلاف فيها من اختلاف التنوّع يتّضح بهما المراد إن شاء الله تعالى:
تفسير قول الله تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً} - قال عبد الحقّ بن غالب ابن عطية الأندلسي(ت:542هـ): (قوله: {وإذ} عطف على {إذ} المتقدمة، والبيت: الكعبة. و{مثابة} يحتمل أن تكون من ثاب إذا رجع؛ لأن الناسَ يثوبون إليها أي ينصرفون. ويحتمل أن تكون من الثواب أي يثابون هناك. قال الأخفش: دخلت الهاء فيها للمبالغة لكثرة من يثوب أي يرجع، لأنه قلَّ ما يفارق أحد البيت إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطراً، فهي كنسابة وعلامة. وقال غيره: هي هاء تأنيث المصدر، فهي مَفْعَلَةٌ أصلها مَثْوَبَة نقلت حركة الواو إلى الثاء فانقلبت الواو ألفا لانفتاح ما قبلها. وقيل: هو على تأنيث البقعة، كما يقال: مقام ومقامة. وقرأ الأعمش «مثابات» على الجمع. وقال ورقة بن نوفل في الكعبة: مثاب لأفناء القبائل كلها ... تخبّ إليها اليعملات الطلائح). - قال إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي(ت:774هـ): ({وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى (125) } قال العوفي، عن ابن عباس: قوله تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس} يقول: لا يقضون منه وطرا، يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {مثابة للناس} يقول: يثوبون. رواهما ابن جرير. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي، أخبرنا عبد الله بن رجاء، أخبرنا إسرائيل، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس} قال: يثوبون إليه ثم يرجعون. قال: وروي عن أبي العالية، وسعيد بن جبير-في رواية -وعطاء، ومجاهد، والحسن، وعطية، والربيع بن أنس، والضحاك، نحو ذلك. وقال ابن جرير: حدثني عبد الكريم بن أبي عمير، حدثني الوليد بن مسلم قال: قال أبو عمرو -يعني الأوزاعي -حدثني عبدة بن أبي لبابة، في قوله تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس} قال: لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا. وحدثني يونس، عن ابن وهب، قال: قال ابن زيد: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس} قال: يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه. وما أحسن ما قال الشاعر في هذا المعنى، أورده القرطبي: جعل البيت مثابا لهم ... ليس منه الدهرَ يقضون الوطر وقال سعيد بن جبير -في الرواية الأخرى -وعكرمة، وقتادة، وعطاء الخراساني {مثابة للناس} أي: مجمعاً). |
في هذين النقلين ثلاثة أقوال في معنى "مثابة".
القول الأول: مثابةً، أي: مرجعاً يثوبون إليه أي: يرجعون.
وهذا قول ابن عباس، وروي عن أبي العالية، وسعيد بن جبير-في رواية -وعطاء، ومجاهد، والحسن، وعطية العوفي، والربيع بن أنس، والضحاك بن مزاحم.
وحجة هذا القول أنّ المثابة مأخوذة من الثَّوب، وهو الرجوع، يقال: ثاب إلى المكان إذا رجع إليه، وثاب إلى رُشده إذا رجع إلى ما هو أصلح لشأنه، ومنه سميت الثيب ثيباً لمعاودتها الزواج، والثواب لأنه يعود لصاحبه.
والمثاب هو المرجع، ودخول التاء فيه ثلاثة أقوال ذكرها ابن عطية:
أحدها: للمبالغة، مثل: علامة ونسّابة.
والثاني: لتأنيث المصدر، وأصله: مَثْوَبَة، على مثال مَفْعَلةً.
والثالث: لتأنيث البقعة، لأنّ صيغة "مفعلة" قد يراد بها المصدر ، وقد يُراد بها اسم المكان مثل "مَقْبَرة".
القول الثاني: مثابة أي: مجمعاً يجتمع فيه الناس، وهو قول سعيد بن جبير في الرواية الأخرى، وعكرمة، وقتادة، وعطاء الخراساني.
وحجة هذا القول أنّ المثابة في اللغة تطلق على المكان الذي يُجتمع فيه، ومنه يقال: ثُبة للجماعة كما قال الله تعالى: {فانفروا ثبات أو انفروا جميعا}
والثُّبَات: الجماعات المتفرقة.
ومنه سمي الثوب ثوباً لأنه يشتمل على صاحبه.
والتثويب بالصلاة الدعوة لاجتماع الناس إليها.
القول الثالث: مثابةً أي: محلاً لكثرة الثواب؛ وهذا القول ذكره ابن عطية احتمالاً.
وحجة هذا القول أنّه لكثرة ما يثابُ فيه الناس على الأعمال الصالحة من الطواف والسعي والذكر والتلاوة والتوبة والإنابة وغيرها من الأعمال الصالحة كان "مثابة" للناس.
والاختلاف في هذه المسألة اختلاف تنوّع؛ لأن هذه المعاني كلّها صحيحة قد استوفت شروط قبول القول في التفسير، ويصحّ الجمع بينها من غير تعارض.
تفسير قول الله تعالى: {تلك إذا قسمة ضيزى} - قال عبد الحقّ بن غالب ابن عطية الأندلسي(ت:542هـ): ({تلك إذا قسمة ضيزى} أي عوجاء، قاله مجاهد، وقيل ضيزى معناه: جائرة، قاله ابن عباس وقتادة، وقال سفيان معناه: منقوصة، وقال ابن زيد معناه: مخالفة، والعرب تقول: ضِزْتُه حقه أَضِيزه، بمعنى: منعته منه وظلمته فيه). |
ذكر ابن عطية في معنى ضيزى أربعة أقوال:
القول الأول: عوجاء، وهو قول مجاهد.
القول الثاني: جائرة، وهو قول ابن عباس وقتادة.
القول الثالث: منقوصة، وهو قول سفيان الثوري.
القول الرابع: مخالفة [ أي خلاف الحق ] ، وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وهذه الأقوال كلها صحيحة من جهة اللغة، وكلمة "ضيزى" تجمع هذه المعاني كلّها من غير تعارض؛ فهي قسمة عوجاء جائرة منقوصة مخالفة.
وهو الاختلاف الذي لا يمكن فيه الجمع بين الأقوال؛ لأن القول بأحدها ينفي القول بما يضادّه.
تفسير قول الله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا} - قال إسماعيل بن عمر ابن كثير القرشي (ت:774هـ): (وقوله: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا} اختلف السلف والأئمة في المراد بقوله: {ثم يعودون لما قالوا} فقال بعض الناس: العود هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره، وهذا القول باطل، وهو اختيار بن حزم وقول داود، وحكاه أبو عمر بن عبد البر عن بكير ابن الأشج والفراء، وفرقة من أهل الكلام. وقال الشافعي: هو أن يمسكها بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق. وقال أحمد بن حنبل: هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة. وقد حكي عن مالك: أنه العزم على الجماع أو الإمساك وعنه أنه الجماع. وقال أبو حنيفة: هو أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه، ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية، فمتى تظاهر الرجل من امرأته فقد حرمها تحريما لا يرفعه إلا الكفارة. وإليه ذهب أصحابه، والليث بن سعد. وقال ابن لهيعة: حدثني عطاء، عن سعيد بن جبير: {ثم يعودون لما قالوا} يعني: يريدون أن يعودوا في الجماع الذي حرموه على أنفسهم. وقال الحسن البصري: يعني الغشيان في الفرج. وكان لا يرى بأسا أن يغشى فيما دون الفرج قبل أن يكفر. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {من قبل أن يتماسا} والمس: النكاح. وكذا قال عطاء، والزهري، وقتادة، ومقاتل ابن حيان. وقال الزهري: ليس له أن يقبلها ولا يمسها حتى يكفر. وقد روى أهل السنن من حديث عكرمة، عن ابن عباس أن رجلا قال: يا رسول الله، إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر. فقال: "ما حملك على ذلك يرحمك الله؟ ". قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر. قال: "فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله، عز وجل" وقال الترمذي: حسن غريب صحيح، ورواه أبو داود والنسائي من حديث عكرمة مرسلا. قال النسائي: وهو أولى بالصواب). |
المراد بالعَود لما قالوا:
فيه أقوال:
القول الأول: يعودون لقول كلمة الظهار مرة أخرى، وهذا قول بكير ابن الأشجّ ذكره ابن عبد البرّ عنه كما في تفسير ابن كثير، وقول الفراء، وداوود الظاهري وفرقة من أهل الكلام، واختيار ابن حزم الظاهري، ذكر ذلك عنهم ابن كثير في تفسيره.
القول الثاني: يعودون لإمساك الزوجة بعد الظهار، وهو قول الشافعي.
القول الثالث: أن يعود للظهار بعد تحريمه؛ وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه والليث بن سعد.
القول الرابع: أن يعود لجماع امرأته التي ظاهر منها أو يعزم على ذلك، وهذا قول أحمد بن حنبل.
وهذه الأقوال لا يمكن الجمع بينها؛ فالاختلاف فيها اختلاف تضاد؛ فينظر في حجج الأقوال، فيستبعد ما ليس له حجة صحيحة، وما بقي فينظر فيه، ويرجّح بين الأقوال فيه، والأقوال الصحيحة لا تتعارض؛ فإذا تبقّت أقوال صحيحة فالجمع بينها ممكن، ومتى تعذّر الجمع علمنا أنّ في بعض تلك الأقوال ما هو غير صحيح إما جميع القول أو بعضه.
فأما القول الأول فهو باطل كما ذكر ابن كثير؛ لأنّ مقتضاه أن الظهار الأول لا يُؤاخذ به وإنما يؤاخذُ المظاهرُ عند المعاودة، وهذا معنى باطل.
وأما القول الثاني فيردّه أنّ المظاهر أبيح له ما دون المماسّة، الإمساك داخل فيما أبيح له حتى يكفّر عن مظاهرته أو يفارق امرأته.
وأما القول الثالث فيقتضي أنّ كفارة الظهار واجبة بكلّ حال سواء أراد مفارقة امرأته أو أراد العود لها، وهذا مخالف لظاهر الآية.
فيتبقّى القول الرابع، وهو أنّ الكفارة تجب في حالين:
الأولى: أن يجامع امرأته وهذا فيه نصّ الحديث المستدلّ به، وإجماع أهل العلم على أنّ من جامع امرأته بعد الظهار فعليه الكفارة، وهو آثم لجماعه امرأته قبل أداء الكفارة لقول الله تعالى: {من قبل أن يتماسّا}
الثانية: أن يعزم على الجماع أو استبقاء الحياة الزوجية من غير تحريم زوجته عليه؛ وهو الأقرب لدلالة ظاهر الآية {من قبل أن يتماسّا}.
القرء في اللغة ما يأتي على وقت معتاد، والحيض والطهر كلاهما قرء لمجيء كلّ واحد منهما لوقته المعتاد.
لكن اختلف الفقهاء والمفسرون في المراد بالقروء في هذه الآية على قولين:
القول الأول: القروء الحِيَض، والمطلّق أحقّ بردّ مطلَّقته ما لم تتطهّر من الحيضة الثالثة، وهذا قول عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبيّ بن كعب، وأبي موسى الأشعري، وغيرهم.
وهو قول مجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، والسدي، والربيع بن أنس البكري.
وهو مذهب أبي حنيفة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وإسحاق بن راهويه، وأحمد.
والقول الثاني: القروء الأطهار، فإذا دخلت المطلّقة في الحيضة الثالثة لم يملك مطلّقها أن يرجعها، وهذا قول عائشة، وزيد بن ثابت، ورواية عن ابن عمر.
وهو قول سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله ، وسليمان بن يسار، وابن شهاب الزهري، وغيرهم.
وهو مذهب مالك بن أنس، والشافعي.
وعن الإمام أحمد رواية بأن القرء هو الطهر، لكن لا تنقضي عدّتها إلا بالاغتسال من الحيضة الثالثة.
وهذا الاختلاف اختلاف تضادّ لأنّه لا يمكن الجمع بين القولين؛ لأنها نزلت في حال لم يكن فيه للطلاق عِدّة ولا عَدد، فكان من شاء أن يطلّق طلّق بلا عدد، وراجع متى شاء بلا عِدّة.
ولم يكن قد نزل تحريم طلاق الحائضِ، ولا اشتراط أن يكون طلاق غير الحامل ومَن لا تحيض في طهر لم يجامعها فيه زوجها، فكانت دلالة هذه الآية ظاهرة في أنّ من طلّق امرأته وهي طاهرٌ فعدّتها ثلاث حِيَض، ومن طلّقها وهي حائضٌ فعدّتها ثلاثة أطهار.
ثمّ نزل بعد ذلك تشريع بقية أحكام الطلاق؛ ونزلت سورة الطلاق وفيها قول الله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلّقتم النساء فطلّقوهنّ لعدّتهنّ وأحصوا العدّة}.
فلما حرّم طلاق الحائض؛ بقي المعنى المحكم الذي لم يُنسخ هو أن تطلق المرأة في طهرٍ لم يجامعها زوجها فيه؛ فتعتدّ بثلاث حيض.
كما دلّ عليه البيان النبوي بقول النبي صلى الله عليه وسلم: « فتلك العدة التي أمر الله أن تطلّق لها النساء ».
ولو كان طلاق الحائض جائزاً لكانت العدة ثلاثة أطهار تامة.
ولذلك كان من أقوى الحجج لأصحاب القول الأول أنّ المطلقة تعتد بثلاث حيض تامات، وهي ثلاثة قروء.
وعلى القول الثاني تكون عدّة المرأة طهرين وبعض الثالث وهذا أقلّ من العدّة المأمور بها وهو ثلاثة قروء، ومفهوم العدد من أقوى المفاهيم؛ فلا يجزئ ما كان أقلّ منه.
وقول ثلاثة من الخلفاء الراشدين بالقول الأول من غير معارض أقوى منه يصيّره سنّة واجبة الاتباع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ». رواه أحمد، والدارمي، وأبو داود من حديث خالد بن معدان، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، وله طرق أخر.
وقول جماعة منهم بأنّ الأمد إلى أن تغتسل المرأة من الحيضة الثالثة قدر زائد على ما يدلّ عليه منطوق الآية، والظاهر أنهم ما قالوه وتوافقوا عليه وقضوا به إلا لأصل علموه من السنة يدلّ عليه.
اختلف في المراد بالذي بيده عقدة النكاح على أقوال أشهرها قولان:
أحدهما: هو الزوج، وهو قول عليّ بن أبي طالب، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن كعب القرظي، والقول الجديد لشريح القاضي، ومجاهد، وطاووس.
وقال به: أبو حنيفة، والأوزاعي، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، والشافعي في الجديد، وأبو ثور.
والقول الآخر: هو وليّ المرأة، وهو قول علقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، والشعبي، وابن شهاب الزهري، وعكرمة، وزيد بن أسلم، والسدي، ورواية عن ابن عباس.
والقول القديم لشريح، ومجاهد، وطاووس.
وقال به: ربيعة الرأي، ومالك، والشافعي في القديم على اختلاف في تفصيل قولهم.
والتحقيق – والله تعالى أعلم – أنّ في كلا القولين صواباً تحتمله دلالة الآية لاختلاف الأحوال وتعددها، ولذلك اختير التعريف بالاسم الموصول {الذي بيده عقدة النكاح} دون غيره مما يتعيّن به الزوج أو الوليّ أو غيرهما؛ فدلّ ذلك على أنه قد يقع على الزوج في أحوال، وقد يقع على غيره في أحوالٍ أخر.
وبيان ذلك أنّ عقدة النكاح لا تعقد إلا بطرفين:
أحدهما: الزوج أو وكيله.
والآخر: الوليّ أو من يقوم مقامه مع اشتراط رضا الزوجة.
وهؤلاء هم المعنيون بقول الله تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله}.
ثمّ حلُّ هذه العقدة قد يكون من قِبَل الزوجِ وحدَه وذلك بالطلاق، وقد يكون من قِبَل الحَكَمين عند الشقاقِ، وقد يكون من قِبَل الحاكمِ في الفسخ، وقد يكون من قِبَل الزوج والزوجة أو وليها بالتراضي على الخلع.
فالذي بيده عقدة النكاح هو الذي يملك حلّها، ولّما لم تكن الزوجات ممن يملك هذه العقدة أُفرِدْن بالذكر في قوله تعالى: {إلا أن يعفون}، والجمع لأجل جنس الزوجات.
وشمل الوصف بقوله تعالى: {الذي بيده عقدة النكاح} كلّ من كان في مقام يملك فيه حلّ عقدة النكاح.
فعفو النساء عما فرض لهنّ ظاهر لا إشكال فيه.
وعفو الزوج هو تفضّله بإعطاء الصداق الذي فرضه كاملاً، وهذا ظاهرٌ لا إشكال فيه.
وعفو غيره له ليس المراد به أنه يملك أن يتنازل له عن حقّ المرأة فيما وجب لها من الصداق، وإنما المراد أنه عفو حصله له بسبب حكم غيره، فأبيح له أخذه، وذلك قد يقع في أحوال التنازع والتخاصم.
ومن هذا المعنى قول الله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان}
أي: من أبيح له أخذ الدية بدلَ أخيه الذي قُتل؛ فهذا عفو من الله وتفضل منه بأن أباح له أخذ الدية، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: {من أخيه} أي أبيح له أخذُ الدية من أخيه القاتل، وقد قال بكلّ وجهٍ طائفة من أهل العلم.
- قال ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما: (العفو أن يقبل الدّية في العمد). رواه البخاري.
- وقال أبو منصور الأزهري: (ليس العفو في قوله: {فمن عفى له} عفواً من ولي الدم، ولكنه عفو من الله جل وعز، وذلك أنَّ سائر الأمم قبل هذه الأمة لم يكن لهم أخذ الدية إذا قُتل قتيل، فجعله الله لهذه الأمة عفواً منه وفضلاً، مع اختيار ولي الدم ذلك في العمد).
والمقصود أنّ قوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه} أي أبيح له أخذه، وكذلك في قوله تعالى: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} في الأحوال التي يكون المراد به غير الزوج.
فأما إذا كان الزوج هو الذي يعفو؛ فالعفو منه هو تفضّله بالمهر كاملاً.
وعفو غيره له هو أن يُترك له.
وذلك أنَّ العفو في اللغة يختلف معناه باختلاف ما يُعدّى به.
- قال أبو منصور الأزهري: (يقال: عفا فلان لفلان بماله إذا أفضل له، وعفا له عما عليه إذا تركه).
وإذا حُذف حرف التعدية احتمل المعنيين، كما في قول الله تعالى: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح}.
تصنيف الاختلاف إلى اختلاف تنوّع وتضادّ مما يدخله الاجتهاد؛ فقد يظنّ بعض الدارسين وجود تضادّ بين بعض الأقوال، ويجتهد بعضهم فيجد الجمعَ بينها ممكناً، وقد يكون الاختلاف على قولين أو أكثر؛ فيكون في كلّ قول بعض الصواب؛ فلا تردّ الأقوال كلها، ولا يرجّح قول منها على الأقوال الأخرى بإطلاق.
وهذا أصل مهمّ لأن الاختلاف الذي يرجّح فيه بين الأقوال إنما هو في حال تواردها على وجه واحدٍ من أوجه التفسير، وإذا كانت الأقوال المذكورة على أوجه متعددة صحيحة؛ فإنا نجمع بينها ولا نرجّح، وهو موضوع الدرس القادم إن شاء الله.
تفسير قول الله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}- قال محمد بن صالح العثيمين(ت:1421هـ): (قوله تعالى: {لا تضار والدة بولدها}: «المضارة» طلب ما يضر الغير؛ وفي الآية قراءتان: {لا تضارَّ} بفتح الراء؛ و [لا تضارُّ] بضمها: - فعلى قراءة الفتح تكون {لا} ناهية؛ و {تضارَّ} فعل مضارع مجزوم بـ {لا} الناهية؛ وحرك بالفتح لالتقاء الساكنين؛ فإذا قيل: لماذا لم يحرك بالكسرة لأن التحريك بالكسرة هو الغالب في التقاء الساكنين كما قال تعالى: {لم يكنِ الذين كفروا}؟ فالجواب أن الفتح أخف. - أما على قراءة الرفع فإن {لا} نافية. و{تضارُّ} فعل مضارع مرفوع؛ وعلامة رفعه الضمة الظاهرة، وأصله: «تضارِر» بكسر الراء الأولى، و{والدة} فاعل. ويحتمل أن يكون مبنياً لما لم يسمَّ فاعله، وأصله: «تضارَر» بفتح الراء الأولى، و {والدة} نائب فاعل؛ وفاعل الإضرار المولود له - على هذا الاحتمال -. قوله تعالى: {ولا مولود له بولده}: الواو حرف عطف؛ و {لا} نافية؛ و {مولود} معطوف على والدة). فيصحّ إعراب "والدة" بأنها فاعل، وبأنها نائب عن الفاعل. فإذا أعربت فاعلاً فالمعنى أنه يحرم عليها أن تضارّ الوالد وأولياء المولود بولدها. وإذا أعربت نائباً عن الفاعل فالمعنى أنه يحرم أن يَضارِرَ أحدٌ الوالدةَ بولدها سواء أكان الوالد أو أولياؤه أو غيرهم؛ يحرم عليهم أن يضارّوا الوالدة بولدها. وهذا الإعراب كما يجري على الوالدة فهو كذلك على المولود له، فتحرم مضارّته بولده كذلك، ويحرم عليه أن يضارّ هو بولده. وقد حذف مفعول "تضارّ" ومتعلقّ المضارة؛ فأفاد اللفظ عمومين: أحدهما: عموم من تقع عليه المضارة؛ فيحرم على الوالدة أن تضارّ أحداً بولدها، ويحرم على المولود له أن يضارّ أحداً بولده. والآخر: عموم ما تقع به المضارة؛ فكلّ ما يصحّ أن يعدّ مضارّة فهو محرّم. وقد ورد الوعيد للمضارّ بأن يضارّ الله به؛ كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا ضرر ولا ضرار، من ضارّ ضارّ الله به، ومن شاقّ شاقّ الله عليه)). رواه الحاكم وغيره، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه. وبمثل هذا العدل قامت أحكام الشريعة؛ فانظر كيف دلت هذه العبارة بألفاظ وجيزة على معانٍ واسعة). |
المثال الأول
المراد بالرجع في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)} الطارق.
اقتباس:
تفسير قوله تعالى: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) ) قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774هـ) : (قال ابن عبّاسٍ: الرّجع: المطر. وعنه: هو السّحاب فيه المطر. وعنه: {والسّماء ذات الرّجع}: تمطر ثمّ تمطر. وقال قتادة: ترجع رزق العباد كلّ عامٍ، ولولا ذلك لهلكوا وهلكت مواشيهم. وقال ابن زيدٍ: ترجع نجومها وشمسها وقمرها يأتين من ههنا). [تفسير القرآن العظيم: 8/376] قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : (ثمَّ أقسمَ قسماً ثانياً على صحةِ القرآنِ، فقالَ: {وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} أي: ترجعُ السماءُ بالمطرِ كلَّ عامٍ، وتنصدعُ الأرضُ للنباتِ، فيعيشُ بذلكَ الآدميونَ والبهائمُ، وترجعُ السماءُ أيضاً بالأقدارِ والشؤون الإلهيةِ كلَّ وقتٍ، وتنصدعُ الأرضُ عن الأمواتِ). [تيسير الكريم الرحمن: 920] قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (11-{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} الرَّجْعُ: الْمَطَرُ؛ لأَنَّهُ يَجِيءُ وَيَرْجِعُ وَيَتَكَرَّرُ). [زبدة التفسير: 591] |
- بالنظر إلى الأقوال الواردة في التفاسير في المراد بالرجع نجد أن هناك اتفاقا واختلافا.
- حاصل الأقوال الواردة في المراد بالرجع أربعة أقوال: المطر، والسحاب، والشمس والقمر والنجوم، ثم الأقدار والشؤون الإلهية.
- سنختصر الخطوات التي كنا نفصّلها سابقا، فننسب الأقوال مباشرة، ونلحق بكل قول حجته.
● الأقوال الواردة في المراد بالرجع في قوله تعالى: (والسماء ذات الرجع)
ورد في المراد بالرجع أربعة أقوال:
القول الأول: المطر، وهو قول ابن عباس، وقتادة. ذكر ذلك عنهم ابن كثير، وذكر هذا القول كذلك السعديّ والأشقر.
لأنه يرجع ويجيء ويتكرر، وهذا حاصل كلامهم.
القول الثاني: السّحاب فيه المطر، وهو مروي أيضا عن ابن عباس، ذكره ابن كثير.
القول الثالث: النجوم والشمس والقمر، وهو قول ابن زيد، كما ذكر ابن كثير.
وذلك لأنها تظهر مرة بعد مرة.
القول الرابع: الأقدار والشؤون الإلهية، ذكره السعديّ.
وذلك لأن السماء ترجع بها كل وقت.
.
المثال الثالث
متعلّق العطاء في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)} الليل
اقتباس:
تفسير قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) ) قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (قال الله تعالى: {فأمّا من أعطى واتّقى} أي: أعطى ما أمر بإخراجه، واتّقى الله في أموره). [تفسير القرآن العظيم: 8/417] قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : ({فَأَمَّا مَن أَعْطَى} ما أُمرَ بهِ مِنَ العباداتِ الماليةِ،كالزكواتِ، والكفاراتِ، والنفقاتِ، والصدقاتِ، والإنفاقِ في وجوهِ الخيرِ، والعباداتِ البدنيةِ كالصلاةِ، والصومِ وغيرهمَا، والمركّبةِ منهمَا، كالحجِّ والعمرةِ، {وَاتَّقَى} ما نهيَ عنهُ، مِنَ المحرماتِ والمعاصي، على اختلافِ أجناسِهَا). [تيسير الكريم الرحمن: 927] قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) : (5-{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}؛ أَيْ: بَذَلَ مَالَهُ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ، وَاتَّقَى مَحَارِمَ اللَّهِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا). [زبدة التفسير: ...] |
نعني بـ "متعلّق العطاء" المفعول المحذوف للفعل (أعطى)، فنتابع نفس الخطوات السابقة كالتّالي:
- الأقوال الواردة:
القول الأول: ما أمر بإخراجه
القول الثاني: ما أُمرَ بهِ مِنَ العباداتِ الماليةِ،كالزكواتِ، والكفاراتِ، والنفقاتِ، والصدقاتِ، والإنفاقِ في وجوهِ الخيرِ، والعباداتِ البدنيةِ كالصلاةِ، والصومِ وغيرهمَا، والمركّبةِ منهمَا، كالحجِّ والعمرةِ.
القول الثالث: المال المنفق في وجوه الخير.
- عدد الأقوال:
ثلاثة.
- الأدلة:
- إسناد الأقوال:
القول الأول: ابن كثير
القول الثاني: ذكره السعديّ.
القول الثالث: ذكره الأشقر.
- نوع الأقوال من حيث الاتفاق والتباين:
بين بعضها اتفاق وبين بعضها تباين.
كما ترون فإن ابن كثير فسّر متعلّق العطاء بالمأمور به من النفقات المالية والأمر قد يكون للوجوب أو الاستحباب، فكلام ابن كثير يشمل النفقات الواجبة والمستحبة.
والأشقر فسّره بالإنفاق المالي شاملا جميع وجوه الخير أي ما كان فرضا أو نفلا.
أما السعدي فجعل العطاء شاملا للعبادات المالية والبدنية.
فقولا ابن كثير والأشقر متفقان، وقول السعديّ مختلف عنهما.
● متعلّق العطاء في قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى)
ورد فيه قولان:
الأول: أنه المأمور به من النفقات المالية فرضا كانت أو نفلا، وهو حاصل ما ذكره ابن كثير والأشقر.
الثاني: أنه المأمور به من النفقات المالية والعبادات البدنية فريضة كانت أو نافلة، ذكره السعدي.
.
المثال الثاني
المراد بالحسنى في قوله تعالى: (وصدّق بالحسنى(6)) الليل.
اقتباس:
تفسير قوله تعالى: (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) ) قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وصدّق بالحسنى} أي: بالمجازاة على ذلك. قاله قتادة. وقال خصيفٌ: بالثّواب. وقال ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، وعكرمة، وأبو صالحٍ، وزيد بن أسلم: {وصدّق بالحسنى} أي: بالخلف. وقال أبو عبد الرحمن السّلميّ والضّحّاك: {وصدّق بالحسنى} أي: بلا إله إلاّ الله. وفي روايةٍ عن عكرمة: {وصدّق بالحسنى} أي: بما أنعم الله عليه. وفي روايةٍ عن زيد بن أسلم: {وصدّق بالحسنى} قال: الصلاة والزكاة والصوم. وقال مرّةً: وصدقة الفطر. وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا صفوان بن صالحٍ الدّمشقيّ، حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، حدّثنا زهير بن محمّدٍ، حدّثني من سمع أبا العالية الرّياحيّ يحدّث عن أبيّ بن كعبٍ، قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الحسنى، قال: ((الحسنى الجنّة)) ). [تفسير القرآن العظيم: [8/417] |
- الأقوال الواردة في المراد بالحسنى:
الأول: المجازاة على العطاء، قاله قتادة.
الثاني: الثواب، قاله خصيفٌ.
الثالث: الخلف، قاله ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، وعكرمة، وأبو صالحٍ، وزيد بن أسلم.
الرابع: ما أنعم الله به على العبد، وهو رواية أخرى عن عكرمة.
الخامس: لا إله إلا الله، قاله أبو عبد الرحمن السّلميّ والضّحّاك.
السادس: الصلاة والزكاة والصوم، وهو رواية عن زيد بن أسلم، وزاد في رواية أخرى قال: وصدقة الفطر.
السابع: الجنة، وهو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا صفوان بن صالحٍ الدّمشقيّ، حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، حدّثنا زهير بن محمّدٍ، حدّثني من سمع أبا العالية الرّياحيّ يحدّث عن أبيّ بن كعبٍ، قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الحسنى، قال: ((الحسنى الجنّة)).
- إسناد الأقوال:
تمّ في الخطوة السابقة.
- عدد الأقوال الأوليّة:
سبعة أقوال.
- بيان نوع الأقوال من حيث الاتفاق والتباين:
بين بعضها تقارب، وبين بعضها تباين، نلاحظ أن الأقوال السبعة يمكن اختصارها في ثلاثة أقوال فقط:
فالأقوال الأربعة الأولى متقاربة، إذ أنها تشير إلى معنى المجازاة على الإنفاق، فيجمع بينها في قول.
والقولان الخامس والسادس أشارا إلى العبادات المأمور بها، فيجمعا في قول.
أما القول السابع يفصل.
ويكون عندنا في المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن المراد بالحسنى الخَلَف من الله، والمجازاة على الإنفاق، ونيل الثواب.
القول الثاني: أن المراد بها الأعمال الصالحة من توحيد الله وغيره من العبادات.
القول الثالث: أن المراد بها الجنة خاصّة.[1]
- تنبيه مهم:
عند الاستشهاد بحديث نبوي، أو أثر عن الصحابة أو التابعين يختصر سند الحديث، ولا يساق كاملا، كما في المثال التالي:
اقتباس:
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا صفوان بن صالحٍ الدّمشقيّ، حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، حدّثنا زهير بن محمّدٍ، حدّثني من سمع أبا العالية الرّياحيّ يحدّث عن أبيّ بن كعبٍ، قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الحسنى، قال: ((الحسنى الجنّة)) ). [تفسير القرآن العظيم: [8/417] |
* يكتفى بالراوي مباشرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أبيّ بن كعب).
* ويذكر من رواه من أهل الحديث (ابن أبي حاتم).
* وينسب للمفسّر الذي استخلصت منه القول (ابن كثير).
ويكون اختصار الحديث الذي يُستدلّ به عند تحرير المسألة كالتالي:
((عن أبيّ بن كعبٍ، قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الحسنى، قال: ((الحسنى الجنّة)) رواه ابن أبي حاتم، وذكره ابن كثير في تفسيره.
- والخطوة النهائية كما تعودنا تكون كالتالي:
● المراد بالحسنى في قوله تعالى: (وصدق بالحسنى).
ورد في المراد بالحسنى ثلاثة أقوال:
الأول: أن المراد بالحسنى الخَلَف من الله والمجازاة على الإنفاق ونيل الثواب، وهو حاصل كلام ابن عبّاس، ومجاهد، وقتادة، وعكرمة، وأبي صالحٍ، وزيد بن أسلم، وخصيف. ذكر هذه الأقوال ابن كثير.
الثاني: أن المراد بها الأعمال الصالحة من توحيد الله وغيره من العبادات كالصّلاة والصوم والزكاة، وهو حاصل كلام زيد بن أسلم، وأبي عبد الرحمن السُّلمي، والضحاك. كما ذكر ذلك عنهم ابن كثير.
القول الثالث: أن المراد بها الجنة خاصّة، وهو تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال فيما رواه عنه أبيّ بن كعب، ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره: (سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الحسنى، قال: ((الحسنى الجنّة))، ذكر ذلك ابن كثير.
_________________
[1] قد فرّقنا بين القول الأول والثالث رغم أن الجنة داخلة في المجازاة ، لأن الثواب قد يشمل ما ينعم الله به على العبد في الدنيا إضافة إلى ثواب الآخرة، فبينهما فارق.
.
المثال الرابع
المراد بالشفق في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)}
اقتباس:
تفسير قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) ) قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (روي عن عليٍّ وابن عبّاسٍ وعبادة بن الصّامت وأبي هريرة وشدّاد بن أوسٍ وابن عمر ومحمّد بن عليّ بن الحسين ومكحولٍ وبكر بن عبد اللّه المزنيّ وبكير بن الأشجّ ومالكٍ وابن أبي ذئبٍ وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون أنّهم قالوا: الشّفق: الحمرة. وقال عبد الرّزّاق عن معمرٍ، عن ابن خثيمٍ، عن أبي لبيبة، عن أبي هريرة قال: الشّفق: البياض. فالشّفق هو حمرة الأفق؛ إمّا قبل طلوع الشّمس، كما قاله مجاهدٌ، وإمّا بعد غروبها كما هو معروفٌ عند أهل اللّغة، قال الخليل بن أحمد: الشّفق: الحمرة من غروب الشّمس إلى وقت العشاء الآخرة، فإذا ذهب قيل: غاب الشّفق. وقال الجوهريّ: الشّفق: بقيّة ضوء الشّمس وحمرتها في أوّل اللّيل إلى قريبٍ من العتمة. وكذا قال عكرمة: الشّفق الذي يكون بين المغرب والعشاء. وفي صحيح مسلمٍ، عن عبد اللّه بن عمرٍو، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: ((وقت المغرب ما لم يغب الشّفق)). ففي هذا كلّه دليلٌ على أنّ الشّفق هو كما قاله الجوهريّ والخليل، ولكن صحّ عن مجاهدٍ أنّه قال في هذه الآية: {فلا أقسم بالشّفق}: هو النّهار كلّه. وفي روايةٍ عنه أيضاً أنّه قال: الشّفق: الشّمس. رواهما ابن أبي حاتمٍ، وإنّما حمله على هذا قرنه بقوله تعالى: {واللّيل وما وسق}). {واللّيل وما وسق}. أي: جمع، كأنّه أقسم بالضّياء والظّلام. وقال ابن جريرٍ: أقسم اللّه بالنّهار مدبراً، وباللّيل مقبلاً. قال ابن جريرٍ وقال آخرون: الشّفق اسمٌ للحمرة والبياض، وقالوا: هو من الأضداد. [تفسير القرآن العظيم: 8/358-359] قالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ نَاصِرٍ السّعْدِيُّ (ت: 1376هـ) : (أقسمَ في هذا الموضعِ بآياتِ الليلِ، فأقسمَ بالشفقِ الذي هوَ بقيةُ نورِ الشمسِ، الذي هوَ مفتتحُ الليلِ). [تيسير الكريم الرحمن: 917] قالَ مُحَمَّدُ سُلَيْمَان الأَشْقَرُ (1430هـ) :(16-{فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ}:يُقْسِمُ اللَّهُ تَعَالَى بالشَّفَقِ، وَالشَّفَقُ: الحُمْرَةُ الَّتِي تَكُونُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى وَقْتِ صَلاةِ العشاءِ الآخِرَةِ). [زبدة التفسير: 589] |
- ورد في المراد بالشفق ثمانية أقوال، وعقّب ابن كثير على بعضها، وهذا مهم جدا كما أشرنا من قبل، أن نضيف إلى القول ما يعقب به المفسّر عليه من تصحيح أو تضعيف أو نحو ذلك.
● المراد بالشفق في قوله تعالى: (فلا أقسم بالشفق)
قد أورد ابن كثير في معناه أقوالا عن السلف.
القول الأول: أنه الحمرة.
روي عن عليٍّ وابن عبّاسٍ وعبادة بن الصّامت وأبي هريرة وشدّاد بن أوسٍ وابن عمر ومحمّد بن عليّ بن الحسين ومكحولٍ وبكر بن عبد اللّه المزنيّ وبكير بن الأشجّ ومالكٍ وابن أبي ذئبٍ وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون.
القول الثاني: أنه البياض، وهو مروي عن أبي هريرة.
القول الثالث: أنه اسم للبياض والحمرة فهو من الأضداد، قال ذلك ابن جرير وآخرون.
القول الرابع: أنه حمرة الأفق قبل طلوع الشّمس، قاله مجاهدٌ.
القول الخامس: أنه حمرة الأفق بعد غروب الشمس، وهذا القول كما ذكره ابن كثير ذكره السعدي والأشقر.
القول السادس: أنه النّهار كلّه، وهو رواية أخرى عن مجاهد.
القول السابع: أنه الشّمس، وهو رواية ثالثة عن مجاهد، رواهما ابن أبي حاتمٍ.
قال ابن كثير: وإنّما حمله (أي مجاهد) على هذا قرنه بقوله تعالى: {واللّيل وما وسق} فكأنه أقسم بالضياء والظلام).
ورجح ابن كثير القول الخامس: أن الشفق هو حمرة الأفق التي تكون بعد غروب الشمس، لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه عنه عبد اللّه بن عمرٍو، قال: ((وقت المغرب ما لم يغب الشّفق)). رواه مسلم.
وكذا قال عكرمة، وهو المعروف عند أهل اللغة كالخليل بن أحمد والجوهري، ذكره ابن كثير.
.
تنبيهات وإرشادات
- يراعى ترتيب الأدلة فتقدّم الآيات، ثم الأحاديث، ثم آثار الصحابة، ثم آثار السلف.
- يعتنى جيدا بالتعقيبات التي يذكرها المفسّر على كل قول.
- الجمع بين الأقوال أو الترجيح بينها مرحلة متقدّمة سيدرسها الطالب مستقبلا إن شاء الله، أما في هذا المستوى فيكفيه النقل عن المفسّرين.