18 Mar 2024
الدرس الثاني: فضل علم التفسير
عناصر الدرس:
- تمهيد
- بيان أوجه فضل علم التفسير
- بيان حاجة الأمة إلى علم التفسير
- الدعوة بالتفسير
تمهيد
إنَّ مما يعظّم رغبة طالب العلم في أيّ علم من العلوم تبصّره بفضائله، وتيقنه لفوائده، وحسن أثره عليه، ومعرفته بما يعود عليه من تعلّمه.
وإذا صحّت البصيرة قوي الدافع في نفس الطالب وعظمت الرغبة، وحسُن الإقبال على تعلّمه، وأخذه بقوّة وعزيمة، وصبر على ما يعترضه في طلبه من المشقة واللأواء، ومَن صبر ظفر، ومن سار على الدرب وصل.
وعلمُ التفسيرِ قد جمع من الفضائل والبركات ما امتاز به على سائر العلوم، وعُرف به فضله وشرفه، وذلك لتعلّقه ببيان معاني القرآن العظيم الذي جعل الله فيه تفصيل كلّ شيء، وجعله هادياً للتي هي أقوم في كلّ ما يُحتاج إلى الهدى فيه، فحوى أبواب الدين تأصيلاً وتفصيلاً، وتبييناً وتنبيهاً، فكلّ علم من علوم الشريعة ينهل من علم التفسير، ويرجع إليه، فهو واسطة عقد العلوم، وأوسعها مجالاً، وأرحبها فضاء، وأثره على العلوم والمتعلمين ظاهرٌ لا يخفى، ودائم لا ينقطع.
وحاجة الأمّة إلى تفسير القرآن وتبيين معانيه ماسّة في كلّ زمان ومكان؛ وذلك لافتقارهم إلى معرفة ما أنزل الله في كتابه من الهدى، وجواب ما أشكل عليهم فهمه، وخفي عليهم علمه.
وقد شرَّف الله أهلَ التفسير ورفع قدْرَهم، وأعلى شأنهم إذْ جعلَهم مرجعاً لعباده في فَهْمِ كلامه وبيانِ مراده، وكفى بذلك فضلاً وشرفاً.
بيان أوجه فضل علم التفسير
فضل علم التفسير يتبيّن من وجوه:
الوجه الأول: أنه معين على فهم كلام الله عز وجل؛ ومعرفة مراده، ومن أوتي فهم القرآن فقد أوتي خيراً كثيراً؛ فهو معين لا ينضب، وبحر لا يُدرك ساحله، إذ يُستخرج به من العلم والهدى شيءٌ كثيرٌ مبارك لا يُحدّ ولا يُستقصى، والناس يتفاوتون في فهم القرآن تفاوتاً كبيراً فمستقلّ ومستكثر.
الوجه الثاني: تعلّقه بأشرف الكلام وأحسنه وأصدقه وأحكمه، وأعظمه بركة وأجلّه قدراً، وهو كلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وقد روي من طرق متعدّدة أن فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه.
فالاشتغال بالتفسير اشتغال بأفضل الكلام وأحسنه تعلّما وتفهّماً، ومدارسة وتعليماً.
الوجه الثالث: أنّ متعلّمه من أعظم الناس حظّا وأوفرهم نصيباً من فضائل العلم؛ وذلك أن الله فضَّل العلم وشرَّفَه وشرَّف أهله ورفع درجتهم، والعلمُ بالقرآن هو أفضل العلوم وأحسنها، وأشرفها وأجمعها، وقد فصَّل الله في القرآن كل شيء؛ فمن ابتغى العلم من أفضل أبوابه وأحسنها؛ فعليه بتدبر القرآن وتفهّمه ومعرفة معانيه وتفسيره.
- قال أبو إسحاق السبيعي، عن مرة الهمداني، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: « من أراد العلمَ فليثوّر القرآن، فإنَّ فيه علمَ الأوَّلين والآخرين». رواه سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد لأبيه، والطبراني في المعجم الكبير واللفظ له.
وقد جمع الله في كتابه أصول الدين من مسائل الإيمان والعبادات والمعاملات والسلوك والمواعظ والآداب وغيرها؛ فمن أحسن التفقّه في كتاب الله تعالى فقد أحرز أصول العلوم، وقواعدها الحاكمة والضابطة.
والمفسّر يحتاج إلى التمكّن من علوم كثيرة متنوعة؛ يستلزمها اشتغاله بعلم التفسير؛ فينفتح له بتلك العلوم والأدوات العلمية أبواب من فهم القرآن ومعرفة معانيه، ويكتسب بتلك العلوم ما تتسع به مداركه، ويستعين به على استخراج علم غزير مبارك بتدبر القرآن والتفقه فيه.
الوجه الرابع: أن علم التفسير يدلّ صاحبه على ما يعتصم به من الضلالة، وقد قال الله تعالى: {وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِىَ إلى صراط مّسْتَقِيمٍ}، وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}.
وقد بيَّن الله تعالى في كتابه كيف يكون الاعتصام به أحسن البيان وأكمله، والمفسّر من أحسن الناس علماً بما يكون به الاعتصام بالله.
ومما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم خطبة في الإسلام في أشرف جمع كان على وجه الأرض وذلك في خطبته في حجة الوداع قال: « وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عنى فما أنتم قائلون؟».
قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.
فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس « اللهم اشهد، اللهم اشهد ». ثلاث مراتٍ. رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه.
والاعتصام بكتاب الله لا يكون إلا بفهم ما أنزل الله فيه، واتّباع ما فيه من الهدى، وسبيل ذلك معرفة تفسيره؛ وكلما كان المؤمن أكثر نصيباً من فهم مراد الله تعالى واتباعاً لما بينه الله من الهدى كان أعظم حظاً من الهداية والعصمة من الضلالة.
الوجه الخامس: أن علم التفسير من أعظم الأسباب المعينة على صلاح القلب والعمل لمن حسنت نيّته في طلبه؛ فإنّه يبصر به ما بيّنه الله في الكتاب من البصائر والهدى، ويكثر من تلاوة القرآن وتدبّره والتفكّر فيه؛ فيتبصّر ويتذكّر، ويخشع وينيب، ويعرف علل قلبه ونفسه، وكيف يطهّر قلبه ويزكّي نفسه بما يعرف من هدى القرآن.
وهذه المعرفة القلبية تزداد بازدياد العلم بمعاني القرآن وهداياته والبصيرة في الدين، وتصديق القول بالعمل.
الوجه السادس: أنَّ المفسِّرَ وارثٌ للنبي صلى الله عليه وسلم في أعظم إرثه، وهو بيان معاني القرآن الكريم، ومَن أحسن تحمُّلَ أمانةِ علمِ التفسيرِ وأحسنَ أداءَها كان من أخصِّ ورثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « بلّغوا عني ولو آية ». رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (4)}، وقال تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (44)}.
فالمفسِّرُ مبلِّغٌ ومبيّنٌ؛ والبلاغ المبين هو أخصّ وظائف الرسل كما قال الله تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)}، وقال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)}.
الوجه السابع: أن المفسّر كثير الاشتغال بالقرآن ومعانيه وهداياته ؛ بل يكاد يكون أكثر وقته في مصاحبة القرآن تلاوة وتدبرا ودراسة، وهذا من أجلِّ أنواع مصاحبة القرآن، أن تكون مصاحبته مصاحبة تلاوة وتفقّه فيه، واهتداء بهداه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه ». رواه مسلم من حديث معاوية بن سلام، عن أخيه زيد بن سلام، عن أبي سلام ممطور الحبشي، أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثامن: أن علم التفسير يُدخل صاحبه في زمرة خيرِ هذه الأمة ، كما في صحيح البخاري من حديث سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « خيركم من تعلم القرآن وعلمه ».
قال سعد: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرةِ عثمان حتى كان الحجاج قال: « وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا ».
وأبو عبد الرحمن السلمي - واسمه عبد الله بن حبيب بن ربيعة - هو القائل: « حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آياتٍ فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل؛ قالوا: فعلمنا العلم والعمل ». رواه الإمام أحمد.
- وقال الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: « كان الرجل منا إذا تعلَّم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعلم معانيهن والعمل بهن ». رواه ابن جرير.
فدلَّ هذا على أن تعلم القرآن يشمل تعلم ألفاظه، ومعانيه، وهداياته، فمن جمع هذه الأمور الثلاثة كان من خير هذه الأمة، ومعرفة معاني القرآن إنما تتحقق بمعرفة تفسيره.
- قال الشافعي رحمه الله: (من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصاً واستدلالاً، ووفَّقَه الله للقول والعمل بما علِم منه: فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفتْ عنه الرِّيَب، ونَوَّرت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة).
فهذه ثمانية أوجه من تأمَّلها حق التأمل أيقن بفضل علم التفسير، وأن الاشتغال به اشتغال بخير العلوم وأجلها.
بيان حاجة الأمة إلى علم التفسير
لا تنقطع حاجة الأمة عن علم التفسير؛ وبيان المفسّرين لما في كتاب الله تعالى من الهدى والبيّنات، وتفقيههم فيه، ودعوتهم بالقرآن، وتذكيرهم به، وإنذارهم بما فيه من الوعيد، وتبشيرهم بما تضمنه من البشائر لمن آمن به واتّبع ما فيه من الهدى، وإرشادهم إلى ما بيّنه الله في كتابه من الهدى الذي جعله مخرجاً لهم من الظلمات إلى النور، وفرقاناً يفرّقون به بين الحق والباطل، والضلالة والهدى؛ كما قال الله تعالى: {الر . كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}.
فحاجة الأمّة إلى فهم القرآن والاهتداء به ماسّة، وكم من فتنةٍ ضلَّت بها طوائف من الأمّة بسبب مخالفتها لهدى الله عز وجل الذي بيَّنه في كتابه، وقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ(115)}.
وقال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)} ، وقال تعالى: { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)}.
بل إن حاجة الناس إلى معرفة ما بيّنه الله في القرآن من الهدى، والحذر مما حذّرهم منه أشدّ من حاجتهم إلى الطعام والشراب والنفَس؛ لأن أقصى ما يصيب الإنسان بسبب انقطاع هذه الأمور أن يموت، والموت أمر محتّم على كل نفس، وما يصيبه بالضلال عن هدى الله من التعرض لسخطه وعذابه الأليم في نار جهنّم أشدّ وأعظم.
ومن المهم لطالب العلم أن يعرف أنواع ما تحتاجه الأمة من علم التفسير ليقوم بواجبه من الدعوة إلى الله بما تعلّم من تفسير القرآن وعرف من معانيه وهداياته؛ فيسهم في سدّ حاجة الأمة بما يسّره الله له وفتح به عليه، ولذلك كان على طالب علم التفسير أن يعي أن تحمّل أمانة هذا العلم تقتضي منه أن يأخذه بقوّة وعزيمة، وأن يتّبع فيه سبيل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، فيتعلَّم معاني القرآن، ويتبصّر بهداه، ويعقل أمثاله، ويفقه مراد الله تعالى بما أنزله في هذا الكتاب العظيم؛ ويعمل بما تعلّم، ويدعو إلى الله عزّ وجلّ؛ فمن كمّل هذه المراتب كان من خاصّة أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: {قُل هـذِهِ سَبيلي أَدعو إِلَى اللَّـهِ عَلى بَصيرَةٍ أَنا وَمَنِ اتَّبَعَني وَسُبحانَ اللَّـهِ وَما أَنا مِنَ المُشرِكينَ (108) }.
ولو لم يحصل للداعية إلا واو المعيّة هذه مع النبي صلى الله عليه وسلم لكفى بها شرفاً.
فمن عاش حياته بهذه المعيّة في الدنيا، وهي معيّة بالمحبة والاتّباع والدعوة إلى ما كان يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم فاز بالمعيّة الأخروية مع النبي صلى الله عليه وسلم.
أوجه حاجة الأمّة إلى فهم القرآن:
من الأوجه التي تعرف بها حاجة الأمة إلى فهم القرآن وبيان معانيه:
الوجه الأول: حاجة الأمّة إلى الاهتداء بهدى القرآن في الفتن التي تصيبها على كثرتها وتنوّعها وتتابعها؛ وتزداد تلك الحاجة باشتداد الفتن في الأمّة وكثرتها، وأسعدُ الناس بالحق أحسنهم استنباطاً لما يهتدي به في تلك الفتن، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ (83)}.
وهذا فيه وعد من الله بأن يخصَّ بعض عباده بعلم ما تهتدي به الأمة.
الوجه الثاني: حاجة الأمة إلى فهم القرآن والاهتداء به في معاملة أعدائها من اليهود والنصارى والذين أشركوا، على اختلاف مللهم، وتنوّع عداواتهم لأهل الإسلام، وأن يحذروا مما حذّرهم الله منه وتوعّد عليه المخالفين بالعذاب الأليم والعقوبات الشديدة، وقد قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)}.
وكم من فتنة ابتليت بها الأمة، وكم من عذابٍ عُذِّبَت به طوائف من هذه الأمة بسبب مخالفتهم أمر الله.
الوجه الثالث: حاجة الأمة إلى معرفة صفات المنافقين وعلاماتهم وحِيَلِهم وطرائقهم في المكر والخديعة، وكيف يتّقي المؤمنون شرورهم، ويحترزون من كيدهم وتضليلهم، وكيف يعاملونهم وهم بين ظهراني المسلمين، ومن بني جلدتهم، ويقولون بظاهر قولهم.
الوجه الرابع: حاجة الأمّة إلى الاهتداء بهدى القرآن في معاملة من يداخلهم من أصحاب الملل والنحل؛ فقد يُبتلى المسلمون في بلد من البلدان بطوائف منهم؛ وفي كتاب الله تعالى ما يرشد المؤمن إلى ما يعرف به ضلال أولئك الضالّين، وما يبصِّره بسبل دعوتهم إلى الحق ، ومعاملتهم على الهدى الرباني الذي لا وكس فيه ولا شطط؛ فيحتاج أهل كلّ بلد إلى من يفقّههم في هدى القرآن في معاملة تلك الطوائف التي ابتلوا بها.
الدعوة بالتفسير
أصل الدعوة إلى الله تعالى هو التذكير بالقرآن وتبليغ ألفاظه ومعانيه كما قال الله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45) }
- وقال تعالى: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)}
- وقال تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)}
- وقال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) }
والدعوة بالتفسير وبيان معاني القرآن دعوةٌ حسنةٌ مباركة لتعلّقها بكلام الله جل وعلا، فينبغي لطالبِ العلمِ أن يجتهدَ في تعلُّم علم التفسير؛ وأن يتعلّم كيف يدعو بالقرآن، وكيف يبيّن ما أنزل الله فيه من الهدى للناس، وكيف يبصّرهم بما يحتاجون إلى التبصير فيه من بصائر القرآن وبيّناته، وكيف يدعوهم إلى الله بأساليب حسنة مبنيّة على تبصير القرآن وإنذاره وتبشيره.
وأن يجتهد في محاولة تأهيل نفسه وإعدادها لسدّ حاجةِ الأمَّة في مجالٍ من مجالات الدعوة بالقرآن، أو يسهم في سدّها، ومن صدق في ذلك صدقه الله ووفّقه وأعانه.
عناية الصحابة رضي الله عنهم بالدعوة بالتفسير
وقد كان للصحابة رضي الله عنهم عناية بالتذكير بالقرآن والدعوة به؛ في كل ما يُحتاج فيه إلى بيان الهدى وتعليمه؛ فكانوا يفسّرون القرآن لطلاب العلم وللعامة، ويبيّنون للناس ما يشكل عليهم، ويجيبون أسئلة السائلين عن مسائل التفسير، وينبّهون على ما يشيع من الخطأ في فهم بعض الآيات كما نبّه أبو بكر الصديق وهو على المنبر على خطأ من تأوّل قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ (105)}، على ترك إنكار المنكر.
وكما ردّ عمر وعلي وابن عباس على من تأوّل قول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا (93)} على جواز شرب الخمر.
وكانوا يردّون على المخالفين ويناظرونهم عند الحاجة كما ناظر عليّ وابن عباس الخوارج.
وكانوا يتدارسون القرآن، ويتفقّهون في معانيه، ويرون لأهل العلم بالقرآن فضلهم ومنزلتهم.
روى أبو عبيد القاسم بن سلام بإسناده عن
- قال ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه « كان إذا اجتمع إليه إخوانه نشروا المصحف فقرؤوا وفسَّر لهم ». رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن.
- وقال الأعمش عن أبي الضحى، عن مسروق قال: « كان عبدُ الله يقرأ علينا السُّورة، ثم يحدِّثنا فيها ويفسِّرها عامَّةَ النهار ». رواه ابن جرير.
- وقال الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: « حججت أنا وصاحبٌ لي، وابنُ عباس على الحجّ، فجعل يقرأ سورة النور ويفسّرها ».
فقال صاحبي: « يا سبحان الله! ماذا يخرج من رأسِ هذا الرجل، لو سمعت هذا التركُ لأسلمت ». رواه الحاكم في المستدرك وصححه، وعبد الله بن الإمام أحمد في فضائل الصحابة لأبيه.
وكان الخلفاء الراشدون يبعثون إلى الأمصار معلّمين يعلمون الناس القرآن، ويفقّهونهم في الدين، وتلك سنّة ينبغي أن تبقى في الأمة ولا تنقطع.