18 Mar 2024
الدرس الثالث: آداب أهل التفسير
عناصر الدرس:
- تمهيد
- الآداب العامة لأهل التفسير
- آداب طالب علم التفسير
- آداب المفسر.
تمهيد
للتفسير عند أهله آدابٌ يتأدبون بها، وسماتٍ يتّسمون بها، يظهر بها أثر هذا العلم الجليل على نفوسهم، وسمتهم، وهديهم، في تعلّم التفسير، ورعايته، وتعليمه، وتلك الآداب منها ما يعمّ المفسّر ومتعلّم التفسير، ومنها ما يختصّ بالمفسّر، ومنها ما يختصّ بمتعلّم التفسير.
ومنها آداب واجبة، وآداب مستحبة.
الآداب العامة لأهل التفسير
أما الآداب العامّة لأهل التفسير طلاباً ومعلمين فتلخيصها في عشرة آداب:
الأدب الأول: صلاح النية في التعلم والتعليم
وذلك بتحقيق الإخلاص، وإحسان القصد.
- فأما الإخلاص لله تعالى فشرطٌ لقبول العمل والانتفاع به؛ فإنّ كلّ علم لا يراد به وجه الله تعالى لا ينفع صاحبه، بل ربما كان وبالاً عليه.
- وأما إحسان القصد، فيزداد به المعلّم والمتعلّم رفعةً وثواباً، ويُفتح لهما به أبوابٌ من فضل الله ورحمته وبركاته.
وإحسان القصد له جانبان:
أحدهما: تعظيم شأن النية بقوّة الاحتساب، وتصفية العمل من الشوائب القادحة في كمال الإخلاص.
- قال ابن المبارك: سمعت جعفر بن حيان يقول: « ملاك هذه الأعمال النيات؛ فإنَّ الرجل يبلغ بنيته ما لا يبلغ بعمله ».
- وذكر ابن رجب عن عبد الله بن المبارك أنه قال: « رُبَّ عملٍ صغيرٍ تعظِّمهُ النيَّةُ، وربَّ عمل كبيرٍ تُصَغِّره النيَّةُ ».
والجانب الآخر: تعدد المقاصد الحسنة في العمل الواحد؛ فيثاب عليها المؤمن بأنواع من الثواب ويجد لتلك المقاصد بركات عظيمة، وأثراً حسناً في تعلّمه وتفهّمه وتعليمه.
والسبيل إلى تحقيق الإخلاص وإحسان المقاصد دوام الالتجاء إلى الله، والإنابة إليه، والاجتهاد في الدعاء.
الأدب الثاني: تعظيم هدى الله تعالى واتباعه وبيانه والدعوة إليه
ومما ينبغي أن يُعنى به أهل العلم عامة وأهل التفسير خاصّة تعظيم هدى الله تعالى، والاجتهاد في معرفته في الشؤون العامة والخاصة، والحرص على اتباعه، وبيانه وتبليغه، وأن يتلقوا هدى الله تعالى بقوة نفس، وعزيمة على الاتباع، وشكر وتعظيم، ويقين بحسن عاقبة اتباع هدى الله.
وقد كانت أوّل وصية إلهية أوصى الله بها المكلفين عند بدء هذه الحياة الدنيا حين أهبط آدم وحواء وإبليس إلى الأرض هي الوصية باتّباع هداه؛ كما قال الله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)}
وقال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)}.
ونحن قد جاءنا أعظم الهدى من الله تعالى فجعلنا الله من خير أمّة أخرجت للناس، وأرسل إلينا أفضل رسله، وأنزل إلينا أعظم كتبه وأحسنها بياناً وهداية.
قال الله تعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتّبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم}.
فحقّ علينا أن نشكر نعمة الله علينا، وأنّ نعظّم ما جاءنا من الهدى، وأن نتبعه ونحسن البيان عنه والدعوة إليه.
الأدب الثالث: تعظيم القرآن والفرح به ونصرته وإعلاء شأنه في كلّ ميدان
وأهلُ التفسير أولى أن يكونوا معظمين للقرآن، فرحين به، داعين إلى الله به، مبيّنين هداه، وناصرين له، وذابّين عنه، ومن أعزّ شأنَ القرآن أعزّ الله شأنه.
وعظمة القرآن تعرف بعظمة قدره وعظمة صفاته؛ فينبغي أن يكون لأهل التفسير من اليقين والبصيرة بعظمة القرآن ما تمتلئ به نفوسهم تعظيماً وفرحاً بالقرآن.
وللفرح بالقرآن شأن عجيب، وأثر مبارك؛ فإنه من أسباب رضوان الله تعالى والفتح في معاني القرآن، إذ يحمل النفس على الإقبال على القرآن وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وتدبّره، وتفهّم معانيه، والانبساط لسماعه، والاستبشار بلطائفه، وتعظيم شأنه، والإنابة إلى الله تعالى، فينفتح له بذلك أبواب من الهدايات الخاصة.
والفرح بالقرآن من شكر نعمة الله علينا به، إذ هو من إحسان تلقّي هذه النعمة العظيمة، وقد دلّت النصوص على أنّ الله تعالى يُحبّ من العبد أن يُحسن تلقّي نعمه، وأنّ ذلك من أسباب رضوانه، ورحمته، وفضله العظيم.
ولا يستوي من يعظّم شأنَ نعمة ربّه ويفرح بها ويشكره عليها، ومن لا يبالي بها ولا يرفع بها رأسه، بل ربما نسب ما فهمه من معاني القرآن إلى فطنته وذكائه، وبحثه ودراسته، وقد يكون مخطئاً في فهمه، غارقاً في وهمه، قد زُيّن له أنه مصيب وهو في خطأ مبين.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)}
نقل الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد عن العلامة المفسّر الشيخ عبد الرحمن الدوسري صاحب تفسير "صفوة الآثار والمفاهيم" أنه سُئل عن أهمّ شروط المفسّر؛ فأجاب على البديهة: (أن تملأ قلبَه الفرحةُ بالقرآن).
الأدب الرابع: حسن السمت وصلاح الهَدْي
فالعلم النافع هو ما أورث البصيرة، وظهر أثره على الجوارح سمتاً حسناً، وهدياً صالحاً؛ حتى يكون إماماً في الخير داعياً إليه ببيانه واتباعه للهدى.
والسمت الحسن: حسن الهيئة والطريقة، وذلك يكون بالالتزام بالسنن الظاهرة، ومنها الوقار والسكينة، وترك الجهل والصخب، والتحلي بهيئة أهل الخير والفضل.
والهدي الصالح: هو العمل بالعلم على فقه وبصيرة.
والتحلي بحسن السمت وصلاح الهدي من أهمّ الآداب التي ينبغي لأهل التفسير أن يُعنوا بها، فإنهم محلّ الأسوة عند الناس، وهم المتصدّون لتبليغ معاني القرآن؛ فيجب أن يجمعوا بين بيان معاني القرآن وبيّناته، وبين الاهتداء بهديه في أنفسهم؛ فإذا فعلوا ذلك كانوا من أئمة الهدى ومن معلمي الناس الخير.
- قال روح بن عبادة القيسي: حدثنا هشام، عن الحسن البصري قال: «قد كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشّعه وهديه، وفي لسانه وبصره ويده». رواه الإمام أحمد في الزهد، والبيهقي في شعب الإيمان.
- وقال مالك بن أنس: قال ابن سيرين: «كانوا يتعلمون الهَدْيَ كما يتعلَّمون العلم». رواه الخطيب البغدادي في الجامع.
وليعلم طالب العلم أن تقويم السلوك خير من الاستكثار من المعرفة المجرّدة، وأنّ العمل اليسير على سلوك حَسن خير وأدعى للقبول والنفع من عمل دؤوب وتحصيل كثير مع سلوك سيء.
الأدب الخامس: الحلم والتأني والرفق والحزم
وهذه الخصال الأربع من أهمّ ما ينبغي أن يأخذ به أهل التفسير أنفسهم فإنَّ من حازها فاز ببلوغ غايته بإذن الله تعالى من التعلم والرعاية للعلم والتعليم، وأن يكون لتعلمه بركة وحبور ونفع عظيم، بعد التأسيس على شرطي القبول من الإخلاص والمتابعة.
والحلم والأناة خصلتان يحبّهما الله، والرفق ما كان في شيء إلا زانه، والله يعطي على الرفق ما لا يعطي على غيره، والحزم هو التأهب للأمور، وإعداد العدّة لها، والحذر مما يحول بينه وبين تحقيق مقاصده، والاجتهاد في العمل برفق وطول أناة، والحزم علاج ناجع للتسويف والتماوت والوهن.
ولا يتأتّى الحزم إلا ببصيرة نافذة بحسن عاقبة الاجتهاد فيما هو بصدده والمبادرة إليه؛ فيقوى عليه.
قال الحارث بن ضابئ البرجمي:
وفي الشك تفريط وفي الحزم قوة ... ويخطئ في الحدس الفتى ويصيب
وقال ابن الجوزي: (الرجلُ من عمل بالحزم، وحذر الجائزات).
ومن الحزم أن يأخذ المرء نفسه بما يستطيع المداومة عليه من التعلم والعمل والدعوة والتعليم؛ فإن القليل بالقليل يكثر، وأحبّ العمل إلى الله أدومه وإن قلّ، وإذا أحبّ الله عملاً تقبّله، ونفع به صاحبه، وبارك له فيه.
ومن الحزم تنظيم الوقت، والبدء بالأهم، والمداومة على التحصيل، وعدم استعجال الثمرة؛ فيسير العلم مع الإحسان والضبط خير من كثير لا يضبط، ولا يوضع موضعه، ولا يظهر أثره.
الأدب السادس: التحلي بالشمائل الحسنة، والخصال الحميدة
من الصدق، والأمانة، والنصح، والوفاء، والتواضع ولين الجانب، وكرم الصحبة، وحسن المواساة، وغيرها من محاسن الأخلاق.
وأهل القرآن هم خيار الناس؛ فينبغي لهم أن يكونوا من أحسنهم أخلاقاً.
والأخلاق مقسومة في الأصل ثم يدخلها الاكتساب والتغيّر بإذن الله وتقديره؛ والناس يُمتحنون فيما قسم الله لهم من الأخلاق؛ فمنهم من يشكر اللهَ على ما قسم له من الأخلاق الحسنة فتزداد حسناً وينتفع بها، ويهذّب ما ابتلي به من أخلاق سيئة، ويسأل الله أن يصرفها عنه؛ فتتهذّب أخلاقه وتحسن، ويتخلّص من الأخلاق السيئة أو يضعف أثرها.
ومن الناس من تُقسم له أخلاق حسنة فيضيّعها ويفرّط فيها بما يكتسب من أخلاق سيئة بسبب بمخالطة جلساء أو اتّباع شهوات أو مغيّرات أخر يتعرّض لها أو تعرض له.
ولذلك يشرع للعبد أن يسأل اللهَ تعالى أن يحسّن خلقه، ويصرف عنه مساوئ الأخلاق، وهذا يشمل صرف أعينها ومسبباتها.
- قال مرّة الهمداني، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «إن الله تعالى قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله تعالى يعطي المال من أحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب». رواه أحمد، وابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب المفرد، وغيرهم مرفوعاً وموقوفاً، ورجّح الدارقطني وقفه، وله حكم الرفع.
- وقال علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة العبدي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة العصر بنهارٍ، ثم قام خطيبا فلم يدع شيئا يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه».
وكان فيما قال: فذكر أحاديث...
قال: ثم ذكر الأخلاق فقال: «يكون الرجل سريع الغضب، سريع الفيئة، فهذه بهذه، ويكون بطيء الغضب بطيء الفيئة، فهذه بهذه، فخيرهم بطيء الغضب سريع الفيئة، وشرهم سريع الغضب بطيء الفيئة، وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم توقد، ألم تروا إلى حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه، فإذا وجد أحدكم ذلك فليجلس، أو قال: ليلصق بالأرض». رواه عبد الرزاق وأحمد والترمذي وغيرهم، وعليّ بن زيد ضعيف الحديث، لكن لهذا الحديث أصل ولبعضه شواهد.
فذكر القسمة ثم أمر بالتهذيب وأرشد إلى ما يهذّب به الغضوب غضبه حتى يضعف أثره ويتخلّص من شرّه، وهذا مما يدلّ على أنّ الأخلاق مقسومة في الأصل، وأنا مأمورون بتهذيب أخلاقنا، واكتساب الأخلاق الحسنة.
- وقال مالك بن أنس، عن ابن شهاب الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده، فقال: «ما يكون عندي من خير فلن أدّخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر». رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية مطولة في دلائل النبوة للبيهقي وفيها: «فرجعت فما سألت أحداً بعده شيئاً؛ فجاءت الدنيا، فما من أهل بيت من الأنصار أكثر أموالا منا».
- وقال عبد الملك بن عمير عن رجاء بن حيوة الكندي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يُعطه، ومن يتوقَّ الشرَّ يوقه». رواه أبو خيثمة في كتاب العلم والبيهقي في شعب الإيمان وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.
وأصول الأخلاق الحسنة خمسة من أحرزها رُجي له أن يكون حسن الخلق: الصدق، والأمانة، والعدل، والكرم، والرفق.
والكرم أصله كرم النفس؛ ومنه الصفح والتجاوز عن الزلات؛ ومنه بذل الإحسان، فقد يكون المقلّ كريماً.
الأدب السابع: التنزّه من الخصال المذمومة
فينبغي لأهل التفسير أن يتجنبوا ما يخلّ بالعدالة، ويخرم المروءة؛ وأن يتنزّهوا عما لا يليق، ويعرضوا عن اللغو، ويتركوا المماراة، والجدال بالباطل، ويجتنبوا التنطّع والتشدد في الدين.
وأخصّ ما يتأكّد اجتنابه الكبائر الباطنة من العجب والكبر، والحسد والغلّ، والتعالي والتفاخر، والتكثّر بالعلم.
الأدب الثامن: التجرّد من الهوى
وهو داءٌ دويّ ما خالط شيئاً إلا أفسده، ولا علماً إلا حُرم صاحبه بركته، قال الله تعالى: {ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله}.
ومن خطر اتباع الهوى أنه داء يستجري بصاحبه، ويتعاظم فيه حتى يفسد الحبّ والبغض في القلب؛ فيحبّ ويبغض على ما تهوى نفسه من خلاف الحق، ويحبّ ويبغض لأجل ذلك ما تضرّه محبّته أو بغضه، فتغلق في وجهه أبواب من الخير بسبب اتباعه هواه.
والهوى إذا استحكم في القلب أفسد التصوّر، وزُيّن لصاحبه سوء عمله؛ ودخل عليه العجب، فصار يرى ما أشرب من هواه حقاً، ويرى ما خالفه باطلاً، كما قال تعالى: { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)}.
وللهوى سلطان على النفس يأمرها وينهاها، ويدعوها إلى ما فيه ضلالها وهلاكها، ولذلك نهى الله تعالى عن اتّباع الهوى؛ فقال تعالى: {فلا تتبعوا الهوى}، وقال تعالى: {ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله}.
الأدب التاسع: الاحترازُ من القول في القرآن بغير علم
ومن أهمّ الآداب التي ينبغي لأهل التفسير العناية بها التحرز من القول في القرآن بغير علم، وألا يضربوا بعضه ببعض، ويثيروا الإشكالات من غير بيان فإنّ ذلك يوقع الشكّ في القلوب.
- قال ابن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كان قوم على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يتنازعون في القرآن، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم متغيرا وجهه، فقال: «يا قوم! بهذا هلكت الأمم، إن القرآن يصدق بعضه بعضا، فلا تكذبوا بعضه ببعض». رواه الطبراني في الأوسط، وأصله في صحيح مسلم.
- وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه من طرق متعددة يشدّ بعضها بعضاً أنّه سُئل عن آية من كتاب الله عز وجل فقال: «أيَّة أرض تقلني، أو أيَّة سماء تظلني، أو أين أذهب، وكيف أصنع إذا أنا قلت في آية من كتاب الله بغير ما أراد الله بها؟!».
- وقال مجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «القرآن كلام الله؛ فمن قال فليعلم ما يقول؛ فإنما يقول على الله عزَّ وجلَّ». رواه البيهقي في شعب الإيمان، وفي رواية أخرجها في كتاب الأسماء والصفات له: «إن القرآن كلام الله تعالى؛ فمن كذب على القرآن فإنما يكذب على الله عز وجل».
- وقال إبراهيم النخعي: «كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه». رواه أبو عبيد في فضائل القرآن، وابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت" والبيهقي في شعب الإيمان بمعناه.
- وقال حماد بن زيد: حدثنا عبيد الله بن عمر العُمَري قال: «لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليغلّظون القول في التفسير منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع». رواه الإمام أحمد في العلل، وابن جرير في تفسيره.
الأدب العاشر: التثبت في تلقي العلم وفيما ينقل عن أهل العلم
ينبغي لأهل التفسير أن يكونوا على قدر حسن من التثبت والتبيّن في أخذ العلم وتبليغه؛ فالتثبّتُ في العلم، وتفهم الحجج، ومعرفة مصادر الأقوال، والتمييز بين الغثّ والسمين من أسباب الرسوخ في العلم.
وحمل العلم من كل وجه من غير تمييز من أسباب فساد التصور في المسائل العلمية، وضعف الملكة العلمية.
- قال أحمد بن أبي الحواري: حدثنا مروان بن محمد، عن سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى قال: «الذي يأخذ كلّ ما سمع ذاك حاطب ليل». رواه أبو زرعة الدمشقي.
- وقال الربيع بن سليمان المرادي: سمعت الشافعي يقول: «مَثَل الذي يطلب العلم بلا حجة مثل حاطب ليل يحمل حطب فيها أفعى تلدغه وهو لا يدري». رواه الحاكم في المدخل، والخطيب البغدادي في نصيحة أهل الحديث، وزاد: قال الربيع: «يعني الذين لا يسألون عن الحجة من أين».
ويقبح بطالب العلم أن ينسب إلى إمام من الأئمة ما لا يصحّ عنه تعجلاً منه، أو سوء فهم وعدم تثبت.
وأقبح من ذلك أن يحكي الإجماع من غير معرفة بأصول حكاية الإجماع، أو يطلق الأحكام جزافاً، ويدّعي الدعاوى العريضة، ويتصرف في النقل بما يخلّ بالمعنى؛ فمن سلك هذا المسلك لم يوثق بعلمه، ولو كان عنده صواب كثير.
آداب طالب علم التفسير
لطالب علم التفسير آداب من تحلّى بها رجي له أن ينتفع بطلبه، ويجد ثمرته، ويُبارك له في شيوخه، وكتبه، وزملائه، وما يتعلمّه.
الأدب الأول: أخذ علم التفسير عن أهله
الذين أحسنوا تعلّمه، ورعايته، وتعليمه، فالعلم دين، وطلبه من أهله سنّة متَّبعة، فالأخذ عن الشيخ المتقن يضيء الطريق للطالب، ويختصر عليه كثيراً من الجهد والوقت، ويعينه على إحسان فهم المسائل العلمية وصحة تصورها، ويصوّبه فيما يخطئ في فهمه وتصوّره، ويبيّن له ما يشكل عليه، ويبصّره بما ينفعه ويرفعه، ويأخذ بيده حتى يشتدّ عودُه في العلم، وتستبين له معالمه.
ومن التمس العلم من غير أهله كان على خطر من الزيغ والضلالة، والافتتان بشبهاتهم، والتخلّق بأخلاقهم.
- قال هارون بن عميرة: قال أبو هريرة: «إنَّ هذا العلم دين؛ فانظروا ممن تأخذونه». رواه ابن أبي خيثمة.
- وقال هشام بن حسان عن محمد بن سيرين قال: «إنَّ هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم». رواه مسلم في مقدمة صحيحه.
وليحذر طالب العلم من الاغترار بالمتعالمين الذين يتكلمون في تفسير كتاب الله بغير علمٍ ولا هدى، والذين لم يأخذوا هذا العلم على سَنَن أهله القائمين به، وليجتنب القراءة في تفاسير أهل الأهواء قبل أن يكون لديه من العلم الصحيح ما يميّز به صوابهم من خطئهم.
الأدب الثاني: توقير الشيخ وتبجيله ومراعاة حاله والصبر على جفائه وحدّته
وإظهار الفرح والسرور بما يتعلم منه؛ فإنّ ذلك أدعى أن يوليه شيخه عناية حسنة، ويخصّه بأبواب من العلم ومهارات تختصر عليه كثيراً من الجهد والوقت فينتفع بها انتفاعاً عظيماً.
بل كان من أهل العلم من يبالغ في التلطّف لشيخه ليحظى بعنايته ومودّته وإقباله عليه، وإذا كان ممن يلازمه ويكثر التردد عليه فينبغي له أن يراعي أوقات راحته، ومشاغله في بيته فلا يحرجه.
- قال يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «إن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل؛ فأتوسّد ردائي على بابه؛ فتسفي الريح على وجهي التراب، فيخرج، فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك؟! ألا أرسلت إليَّ فآتيك؟!!
فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك. فأسأله عن الحديث». رواه ابن سعد، والدارمي، ويعقوب بن سفيان.
- وقال رزين بن حبيب الجهني، عن عامر بن شراحيل الشعبي قال: ذهب زيد بن ثابت ليركب ووضع رجله في الركاب؛ فأمسك ابن عباس بالركاب؛ فقال: «تنحَّ يا ابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم».
فقال: «لا، هكذا نفعل بالعلماء والكبراء». رواه يعقوب بن سفيان في المعرفة، والحاكم في المستدرك، وابن عساكر في تاريخه.
- وقال معمر، عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه قال: «من السنَّةِ أن يوقَّر العالِـم». رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.
وليصبر الطالب على ما يكون من المعلّم من جفاء وقسوة، وليحمل تصرفاته على أحسن المحامل ما وجد إلى ذلك سبيلاً، ولا يقطع الرغبة فيما عنده من العلم لخطأ يكون منه ما بقي أهلاً لأن يتلقّى عنه العلم.
الأدب الثالث: توقير مجلس العلم والتبكير إليه
وحسن الإقبال على المعلّم، والإجابة على ما يَسأل طلابه ليستظهر ما عندهم من العلم والفهم، واجتناب ما يشين المجلس من العبث، والصخب، واللغط، والتدافع، والاشتغال بغير الدرس.
وإذا وجد المجلسَ مكتظاً فينبغي له أن يجلس حيث ينتهي به المجلس، ولا يتخطّى الرقاب، ولا يؤذي الجلساء، ولا يقيم أحداً ليجلس مكانه هو أو غيره.
وإذا جاء بعده طالب والمكان مضيق فليفسح له ما استطاع.
وينبغي للطالب إذا حضر المجلس أن يكون له ما يدوّن فيه مسائل الدرس وما يستفيده من فوائد.
وإذا تحدّث شيخه فليحسن الإنصات إليه ولا يعاجله بالسؤال حتى يفرغ من حديثه أو يبادرهم الشيخ بالسؤال، ومن القبيح جداً أن يقطع حديث الشيخ في درسه أو تأخذه العجلة بالمشاركة في الحديث، ولو كان قد سمعه من قبل؛ فإن الشيخ أقرب إلى تمييز ما يقول، والطالب إنما حضر ليستفيد؛ فإن كان عنده مزيد علم في المسألة يظنّه قد خفي على الشيخ؛ فليمهل حتى يفرغ الشيخ من حديثه؛ ثم ليخرج ما عنده مخرج السؤال والعرض؛ فإنّ ذلك أدعى للقبول.
الأدب الرابع: إحسان مساءلة الشيخ، وعقل أجوبته، وتعرّف ما يستخرج به علمه.
والمساءلة الحسنة من أعظم أبواب تحصيل العلم، وقد ذكر عن عليّ بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما أنهم أدركوا العلم بلسان سؤول وقلبٍ عقول.
- قال يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: يا فلان هَلُمَّ فلنسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم اليوم كثير.
فقال: واعجباً لك يا ابن عباس!! أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ترى؟!!
فتركَ ذلك، وأقبلتُ على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل؛ فأتوسّد ردائي على بابه؛ فتسفي الريح على وجهي التراب، فيخرج، فيراني، فيقول: يا ابن عمّ رسول الله ما جاء بك؟! ألا أرسلت إليَّ فآتيك؟!!
فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك. فأسأله عن الحديث.
قال: فبقي الرجل حتى رآني، وقد اجتمع الناسُ عليَّ؛ فقال: «كان هذا الفتى أعقلَ مني». رواه ابن سعد، والدارمي، ويعقوب بن سفيان.
- قال جرير بن عبد الحميد الضبي، عن المغيرة بن مقسم الضبي، قال: قيل لابن عباس كيف أصبت هذا العلم؟
قال: «بلسان سؤول، وقلب عقول». رواه عبد الله بن الإمام أحمد في فضائل الصحابة لأبيه، والبيهقي في المدخل، وفيه انقطاع، ورواه المعافى بن زكريا في الجليس الصالح من طريق الأصمعي، عن عبد الحميد بن الحسن الهلالي، عن مغيرة، عن الشعبي، عن ابن عباس.
- وقال ابن وهب: حدثني يونس، عن ابن شهاب الزهري أنه قال: «إنما هذا العلم خزائن وتفتحها المسألة». رواه يعقوب بن سفيان في المعرفة، والبيهقي في المدخل، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه.
وإحسان السؤال من دلائل فقه الطالب، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: «ما سألني رجلٌ عن مسألة إلا عرفتُ: فقيه هو أو غير فقيه». رواه ابن أبي شيبة.
وذلك أنّ الفقيه يعرف لِمَ يسأل؟ وكيف يسأل؟ ومتى يسأل؟
فلا يسأل سؤالاً إلا بعد أن يمعن النظر في مسألته ويتحرّى معرفة الصواب فيها وما يشكل عليه منها، ثمّ يكون سؤاله بعد ذلك نافعاً له.
والفقيه إذا سأل شيخَه عن مسألة ضبط جوابها، وعرف حجة الجواب ووجهه، واستفاد منه في نظائر تلك المسألة، فتظهر له مسائل بعد ذلك تدلّ على أنه قد فقه الجواب السابق، فيتبيّن الشيخ أن تلميذه قد فقه عنه، وانفتح له بالجواب السابق أبواب من العلم.
- قال سعيد بن عبد العزيز التنوخي: قال سليمان بن موسى [الدمشقي]: «حسنُ المسألة نصف العلم». رواه أبو زرعة الدمشقي.
والاستكثار من المساءلة مع الفقه والضبط من أعظم الأبواب لتحصيل العلم وغزارته وبركته، وكانت هذه طريقة شائعة لدى أهل العلم.
- قال أبيّ بن كعب رضي الله عنه لزرّ بن حبيش: «لا تريد أن تدع آية في كتاب الله تعالى إلا سألتني عنها!!». رواه الإمام أحمد.
- وقال عامر الشعبي: «والله ما من آية إلا قد سألتُ عنها». رواه ابن جرير.
- وقال مغيرة بن سقلاب: حدثني محمد بن أحمد بن إسحاق، عن الزهري قال: «كان يصطاد العلم بالمساءلة كما يصطاد الوحش». رواه أبو نعيم في الحلية.
- وقال إبراهيم بن سعد الزهري: قال لي أبي: «ما سبقنا ابن شهاب من العلم إلا أنا كنا نأتي المجلس؛ فيستقبل ويشدّ ثوبه عند صدره ويسأل عما يريد، وكنا تمنعنا الحداثة». رواه يعقوب بن سفيان.
بل كان منهم من يجمع المسائل حتى إذا لقي العلماء سألهم، كما كان يفعل ذلك سعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين، وغيرهما.
- قال وُهَيب بن خالد: حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير قال: «كنا إذا اختلفنا بالكوفة في شيء كتبته عندي حتى ألقى ابن عمر فأسأله عنه». رواه ابن سعد.
ومن أقبح ما يقع من الطالب ويحرمه بركة علم شيخه مناكفته إياه، واعتراضه وتشغيبه عليه، وقد بدر من بعض الصالحين من طلبة العلم شيء من ذلك لبعض مشايخهم فحرموا بركة علمهم وندموا على ذلك.
فقد ذكر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف رحمه الله أنه كان يسائل ابنَ عباس ويماريه فحُرم بذلك كثيراً من علم ابن عباس، ثم إنه ندم على ذلك، وقال: «لو رفقتُ بابن عباس لأصبتُ منه علماً كثيراً». رواه الدارمي من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عنه.
الأدب الخامس: الصدق في طلب العلم، والنهمة فيه، والإعراض عن اللغو
فإنّ ذلك أدعى لإحسان التحصيل، والازدياد من العلم، فإنّ من أخذ العلم بقوة، وإقبال نفس، وتعظيمٍ لشأن العلم كان تلقيه للعلم تلقياً حسناً يضعه في مواضعه، ويعرف له قدره، وهذا من أسباب بركة العلم والانتفاع به.
ومن وجد في نفسه فتوراً وضعفاً فليتعاهد نفسه بتذكيرها بفضائل العلم عموماً وفضائل علم التفسير خاصة، وليداوم على الطلب والتحصيل؛ حتى تكون له نهْمةٍ في طلب العلم.
والنهمة في طلب العلم هي بلوغ الهمة في طلب العلم مبلغاً عالياً يثير حرص صاحبه على التعلم، وشدة الرغبة في الازدياد منه، والسعي الحثيث لذلك، حتى يهجر لأجله كثيراً من الملذات والمتع.
وكلما ازداد طالبُ العلم علماً عظمت رغبته في الازدياد منه أكثر؛ فهو منهوم لا يشبع، ولو قضى عمره كله في طلب العلم لأن الإنسان لن يبلغ في العلم غاية الكمال مهما بلغ اجتهاده وتحصيله، وفوق كل ذي علم عليم.
وينبغي لطالب العلم ألا يدع التعلم مهما طال به الزمن، وتقدّم به العمر؛ فالعلم بحر لا يُحاط به، ولا يدرك ساحله.
- قال زيد بن أبي أنيسة، عن سيار، عن الحسن البصري قال: «منهومان لا يشبعان: منهوم في العلم لا يشبع منه، ومنهوم في الدنيا لا يشبع منها». رواه الدارمي، وروي نحوه مرفوعاً من أحديث ابن مسعود، وأنس، وابن عباس بأسانيد ضعيفة لا تصح.
- وقال أبو الحسن المدائني في كتاب الحكمة: (قيل للشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟!
قال: «بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وبكور كبكور الغراب». رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق.
- وقال عبد الله بن يحيى بن أبي كثير: سمعت أبي يقول: «لا يستطاع العلم براحة الجسم». رواه مسلم في صحيحه.
ولا يستقيم لطالب العلم طريق الطلب إلا بالصدق في طلبه، والإعراض عن اللغو.
الأدب السادس: إعداد العدّة لطلب العلم
من دلائل الصدق في طلب العلم إعداد العدة الحسنة له، وكلّ صاحب صنعة إذا لم تكن عدّته وافية حسنة دخل عليه من الضعف والنقص بحسب ما فرّط فيها.
ولكل أمرٍ ذي بالٍ عُدّته التي ينبغي للصادق في طلبها أن يحرص على حيازتها وإحسانها، وقد قال الله تعالى في ذمّ المنافقين الذين لم يصدقوا في رغبة الجهاد في سبيل الله: {ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدة}.
فطالب العلم الصادق في طلبه يعدّ له عدّته اللازمة والمكمّلة، وكلما كان الطالب أحسن استعداداً، وأكمل عدة كان ذلك أرجى لحسن تحصيله العلمي.
ومن ذلك: تكميل الأدوات التي يحتاجها للدراسة والطلب بما يناسب حاله، وإعداد العدة لحضور مجالس العلم، والقراءة على المشايخ، وأن يعدّ ما يدوّن فيه مسائل العلم ويحفظها، وتهيئة مسكنه، ومحلّ إقامته ودراسته، وتدبير أمور معيشته بما يتفق مع طلبه للعلم ما أمكنه، وأن ينظم وقته لذلك مهما كان عنده من الشواغل والقواطع.
وتحصيل الكتب النافعة التي تعينه على إحسان التحصيل العلمي، ونمائه بكثرة مطالعتها، ومداومة القراءة فيها، وليُعن بالكتب الأصول في كلّ علم يُحتاج إليه، وليختر أجود طبعاتها ما أمكنه ذلك، ولا يكثر على نفسه من الكتب في أوّل الطلب فإنها تشغله بما لا يمكنه ضبطه.
ومن إعداد العدة تنظيم الملخصات، والمدوّنات العلمية، وتصنيفها، وتهذيبها؛ لأنها هي الثروة الحقيقية لطالب العلم.
الأدب السابع: العناية بالمهارات العلمية
ومن ذلك مهارات القراءة والتلخيص والفهرسة والبحث ودراسة المسائل وجرد المطولات؛ فالتمرّن عليها وإتقانها سبب لتحصيل علمٍ غزيرٍ مبارك لا يدركه الطالب بالتلقي من شيوخه، ولا بالقراءة المجردة.
وكان شيخنا ابن جبرين رحمه الله يقول ما معناه: انظروا إلى غزارة علم شيخ الإسلام ابن تيمية، وكثرة تفننه في العلوم والحجج؛ فإنه لم يتلقّ ذلك العلم كلّه تلقياً من شيوخه الذين درس عليهم، ولكنّه فهم آتاه الله إياه.
وحصول الفهم الحسن فيما لم يدرسه الطالب من مسائل العلم على شيوخه إنما يكون بتوفيق من الله عزّ وجلّ، وهو ينبني على أصلين:
الأصل الأول: ضبط المعارف الأساسية في العلوم.
والأصل الثاني: تحصيل المهارات العلمية التي يمكنه بها إجراء نظير ما درسه فيما لم يدرسه؛ حتى يتحقق بالعلم ويتفهم أصوله وفروعه وحججه وعلل الأقوال فيه.
والسبيل إلى تحصيل المهارة إنما يكون بالصبر على التكرار المتقن حتى ترتاض النفس لها، وتصبح تلك المهارة لها كالسجية التي لا تتكلفها، فحينئذ يكون اكتساب طالب العلم للمهارة اكتساباً صحيحاً.
وكثير من طلاب العلم إنما يعوّقهم عن تحصيل كثير من المهارات ضعف الصبر على احتمال التكرار، واكتفاؤهم بالمعرفة الأولية التي لا تُكسب مهارة، ولا تفيد رسوخاً، وإنما هي معرفة سهلة التحصيل سريعة الرحيل.
الأدب الثامن: التدرج في طلب العلم، وأخذه برفق ومداومة
مما ينبغي أن يتفطّن له طالب العلم أنّ العلم له جادّة مسلوكة، ودربٌ من سار عليه وصل؛ وله أصول ضابطة، وحدود من تعدّاها فقد أساء وظلم.
ومن ذلك أنّ يُتّبع في طلبه للعلم سبيل أهل العلم والإيمان؛ فيأخذه طالب العلم برفق وتؤدة على مرّ الليالي والأيام.
- قال عبد الله بن وهب: سمعت يونس بن يزيد يقول: سمعت الزهري يقول: «إن هذا العلم إن أخذته بالمكاثرة غلبك ولم تظفر منه بشيء، ولكن خذه مع الأيام والليالي أخذا رفيقا تظفر به». رواه أبو نعيم في الحلية.
- وقال عبد الرزاق: سمعت معمراً، يقول: سمعت الزهري، يقول: «من طلب العلم جملة فاته جملة، وإنما يدرك العلم حديث وحديثان». رواه الخطيب البغدادي في أخلاق الراوي.
- وقال عبد الله بن وهب: «سمعت من ثلاث مئة شيخ وسبعين شيخا، فما رأيت أحداً أحفظ من عمرو بن الحارث، وذلك أنه كان قد جعل على نفسه يتحفظ كل يوم ثلاثة أحاديث».
وفي ذلك حكمة فإنّ من أخذ العلم برفق، ودرسه كما ينبغي له أن يُدرس، وعَرف ما فيه من الهدى وعمل به، ثم ازداد علماً آخر وصنع فيه كما صنع فيما أخذه من قبل انتفع بعلمه ورسخ فيه، ونبت في العلم نباتاً حسناً، ومن أخذ العلم بالمكاثرة لم يمكنه ضبطه، ولا التفكر فيه، ولا مذاكرته وضبطه وتمييز صحيحه من ضعيفه، وصوابه من خطئه، وليس العلم بكثرة التحصيل من غير ضبط ولا تمييز.
ومن رام الوثوب إلى العلم الكثير وهو لم يضبط قليله ضيّع علمه، وأضعف الوثوق به، ولم يكن إماماً.
الأدب التاسع: العناية بحسن الضبط، وتقييد مسائل العلم
وبناء الأصول العلمية وتعاهدها بالمراجعة والتهذيب والزيادة؛ حتى تكون له عدّة صالحة في طلب العلم، وفي التعليم إذا تأهّل له.
وليحذر طالب العلم من التفريط في بناء الأصول العلمية، وليدع قول من يزهّده فيها، فإنّها رأس ماله في العلم، وحقيقة تحصيله العلمي.
وإذا عوّد طالب العلم نفسه تقييد مسائل العلم في دفاتر أو كتب أو ملفات إلكترونية، وأحسن حفظها وتصنيفها وتعاهدها وجد بعد مدّة من الزمن أنه قد جمع ثروة علمية لا يستهان بها، وأصبحت عنده كالكنز الذي يتعاهده ويخاف عليه من الضياع، ويستفيد بكثرة التعاهد والتهذيب والإضافة رسوخ تلك المعلومات في ذهنه، وتولّد الأفكار النافعة في الإفادة منها ونشرها.
وقد كان لكثير من العلماء أصولهم العلمية التي يحتفظون بها، ويداومون على مطالعتها وتنميتها، وتهذيبها، والإفادة منها؛ فإذا أرادوا التأليف نهلوا منها، وكانت تلك الأصول من أسباب تمكنهم العلمي وثراء مؤلفاتهم بالمسائل والنقول الحسنة عن العلماء.
وقد ذكر ابن رشيق المغربي عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنّه وقف على خمسة وعشرين تفسيراً مسنداً، وأنه كتب نقول السلف مجردًا عن الاستدلال على جميع القرآن، وهذا لا شكّ أنه أصل علميّ مهمّ في التفسير.
الأدب العاشر: إحسان المذاكرة والمدارسة
وهو من آكد الآداب وأهمّها، وإغفاله مضيعة للعلم، والمذاكرة والمدارسة من أرجى الأسباب لثبات العلم ورسوخه، وازدياد الطالب فهماً لما درس، ومعرفة بعلل لم يكن قد تفطّن لها من قبل، وتوسعاً لمداركه، وإدراكاً لأوجه من التناسب بين مسائل العلم ما لم يكن يدركها من قبل.
وربما كان قد فهم بعض المسائل العلمية فهماً خاطئاً غير صحيح فيتنبّه لذلك بالمذاكرة والمدارسة، وينفتح له بالمذاكرة والمدارسة أبواب من العلم والفهم.
والمذاكرة النافعة على نوعين: مذاكرة النفس، ومذاكرة الحذاق والنابهين من طلاب العلم.
- قال يحيى بن آدم: حدثنا أبو إسرائيل الملائي، عن عطاء بن السائب، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «تذاكروا الحديث فإن حياته المذاكرة». رواه ابن أبي شيبة، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في المدخل.
- وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر، عن قتادة، عن مطرف، قال سمعت ابن عباس، يقول: «مذاكرة العلم ساعة خير من إحياء ليلة». رواه البيهقي في المدخل.
- وقال أبو منصور الثعالبي: (المذاكرة صَيْقَل العقل، والكتب بساتين العقلاء).
- وقال أبو زكريا النووي: (بالمذاكرة يثبت المحفوظ ويتحرر ويتأكد ويتقرر ويزداد بحسب كثرة المذاكرة، ومذاكرة حاذق في الفنّ ساعة أنفع من المطالعة والحفظ ساعاتٍ بل أياماً)ا.هـ.
فإذا كان هذا نفع مذاكرة ساعة؛ فما الظن بالمداومة على المذاكرة.
- وقال هشيم بن بشير: أخبرنا يونس، قال: «كنا نأتي الحسن فإذا خرجنا من عنده، تذاكرنا بيننا». رواه الدارمي.
- وقال إبراهيم بن هاشم: سمعت سفيان بن عيينة، يقول: «قدم أيوب فجالس عمرو بن دينار من العشاء إلى الصبح». رواه الخطيب البغدادي في تاريخه.
بل كان من أهل العلم من يفضّل المذاكرة على قيام الليل، ولا سيّما مذاكرة عالم لا يكاد يلقاه إلا قليلاً، ويجد في مذاكرته نفعاً، وتثبتاً في العلم، وزيادة في البصيرة.
- وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل، يقول: لما قدم أبو زرعة نزل عند أبي فكان كثير المذاكرة له، فسمعت أبي يوماً، يقول: «ما صليت غير الفرض، استأثرت بمذاكرة أبي زرعة على نوافلي». رواه الخطيب البغدادي.
- وقال الوليد بن مسلم: قال الأوزاعي، عن الزهري: «إنما يُذهب العلم النسيانُ وقلة المذاكرة». رواه ابن أبي خيثمة في تاريخه، وابن عديّ في الكامل، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في المدخل، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه
- وقال الرياشي: سمعت الأصمعي وقد قيل له: حفظتَ ونسي أصحابك؟ !!
قال: «درستُ وتركوا». ذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.
الأدب الحادي عشر: أدب المزاملة في العلم
وحفظ حقوق زملائه من طلاب العلم، وأداء واجب الأخوة لهم، بالنصح لهم، ومعاونتهم على البرّ والتقوى، وستر خَلاتهم، وإظهار محاسنهم، والتعريف بهم فيما يحسنون ليُنتفع بهم؛ فإنّ ذلك من أسباب بركة طالب العلم والانتفاع بعلمه.
وليحذر قرناء السوء، ومن يظهر منه اللجاج والمجادلة والتشغيب.
ومن لم يتبيّن حالَه جيّداً من الطلاب فليعامله بحسن الظن مع الاحتياط؛ فيؤدي له الحقوق الواجبة، ويحسن إليه في مواضع الإحسان المعروفة إلى أنّ يتبيّن حاله، وتظهر شمائله ودواخله.
وتخيّر للصداقة من يكون أقرب إلى موافقة طبعك، وتكميل نقصك، وتفهّم مقاصدك، ورعاية حالك، وأعون لك على المذاكرة وتقويم السلوك، ولتكن مصاحبتك إيّاه لله.
ولا ينبغي لطالب العلم أن يستنكف من الاستفادة من أقرانه ومن دونهم؛ فربّ فائدة عزيزة لا ينالها طالب العلم إلا ممن هو دونه.
- قال إبراهيم الحربي: سمعت أحمد بن حنبلٍ يقول - وقيل له: مالكٌ على قدره يسمع من نظرائه!! - قال: «وما عليه؟! يزداد به علمًا ولم يضرَّه». رواه الخطيب البغدادي في الجامع.
ومن أحسنِ أوجه الاستفادة من الأقران تكميلُ الأصول العلمية التي يرجع إليها الطالب.
- قال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمرٌ، قال: «دخلتُ أنا وابن جريجٍ مسجدًا ومعي ألواحٌ ومعه ألواحٌ؛ فجعل يكتب عنّي وأكتب عنه». رواه الخطيب البغدادي في الجامع.
- وقال محمد بن أحمد بن الحسين القرشي: سمعت الحُمَيديَّ يقول: «صحبت الشافعيَّ من مكة إلى مصر؛ فكنت أستفيد منه المسائل، وكان يستفيد مني الحديث». رواه أبو بكر البيهقي في مناقب الشافعي.
الأدب الثاني عشر: الوفاء لمشايخه، وحسن العهد لهم
فهو من الآداب الكريمة والخصال الحميدة؛ فيعرف لهم فضلهم، ويدعو لهم، وينشر فضائلهم، ويذكر محاسنهم، ويشكر صنائعهم، ويرغّب في علومهم.
ومن الأدب مع الشيخ ألا ينتقل عنه حتى يستأذنه ويستوصيه؛ فإنَّ ذلك من أسباب بركة العلم، وأن يُرزق الطالب بعد التأهّل أصحاب صدق أوفياء.
وليحذر من أضداد ذلك؛ فإنّ لها مغبّة سوء على الطالب.
وليتثبّت في النقل عن شيخه في حال حياته وبعد موته؛ فلا ينقل عنه إلا ما هو متيقن منه، حسن الفهم له، وإذا شكّ في شيء فليراجعه فيه إذا كان حياً حتى يتفهّمه ويتبيّن حجة شيخه فيما ذهب إليه، وإذا كان ميّتاً راجع كبار أصحابه وأضبطهم لعلمه.
ومن القبيح أن ينقل عن شيخه بواسطة لا يسمّيها ما يُستغرب عنه ويستنكر؛ فهذا ضرب من التدليس واللؤم؛ فإنّ الناس إذا عرفوه بالأخذ عن شيخه حملوا قوله عن شيخه على المشافهة والعيان.
ولا يليق بطالب علمٍ يستفيد من شيخه علماً كثيراً أن يترك الكثير المستطاب، ويكون عوناً على التشنيع على شيخه بنقل غرائب العلم على غير وجهها.
ومن أعظم ما يوقع الوحشة بين الشيخ وتلميذه أن يحكي التلميذ عن شيخه خلاف ما يقرّره ويؤكد عليه في مجالسه ودروسه وكتبه.
آداب المفسر
وللمفسّر آداب ينبغي أن يراعيها:
الأدب الأول: ألا يتصدّر للتفسير قبل التأهّل
على طالب العلم ألا يتصدّر للتفسير قبل استكماله عدّة المفسّر بما يمكّنه من تدريس التفسير بإتقان؛ فالتصدّر قبل التأهل فتنة للمتصدر ومن يتلقى عنه؛ فقد يستجري به الحديث إلى القول في القرآن بغير علم، والإجابة من غير تثبّت؛ فيأثم من حيث أراد الأجر، ويبوء بعد رجاء الربح بالخسران، والعياذ بالله.
وتدريس التفسير على مراتب؛ فينبغي لطالب العلم أن يعي المرتبة التي تأهّل فيها للتدريس.
ومن عدّة المفسر:
1: دراسة مسائل التفسير وما يتصل بها من علوم القرآن دراسة حسنة يتمكن بها شرح مسائل التفسير وتقريبها للطلاب.
2: وإتقان مهارات التفسير إتقاناً يمكنه من معرفة مواضع الإجماع والخلاف، ومراتب الاختلاف، وطرق الجمع والترجيح، والتوجيه والتخريج، وتمييز الصواب من الخطأ.
3: والتأسيس الجيد في علوم الشريعة واللغة العربية، ولا يشترط التبحّر في تلك العلوم، بل يكفيه في مرحلة التأسيس في تلك العلوم مختصراتٌ شاملة لعامّة أبوابها ومسائلها، يدرسها بإيجاز تحت إشراف علمي، ويتدرب على إتقان المهارات الأساسية في كلّ علم منها.
الأدب الثاني: ألا يغترّ بعلمه، ولا بكثرة الأصحاب ولا قلّتهم
فالعبرة بصحة العمل وقبوله، وإذا تقبّل الله من عبد عملاً ولو كان يسيراً بارك له فيه، ونفعه به، وإذا لم يتقبّل الله منه لم تنفعه كثرة العمل؛ فلذلك ينبغي أن يحذر العالم من الاغترار بعلمه وكثرة أصحابه ومن يحضر مجالسه، وأن يحذر كذلك من الاغترار بقلّتهم.
فالكثرة قد يدخل بسببها العجب، وهو آفة مهلكة، تجلب المقت، وتمحق البركة، وكم من معجب وكل إلى نفسه؛ فخُذل وشقي.
والقلّة قد يقع بسببها الزهد في نشر العلم؛ فيكلّ ويترك نشر العلم.
ومن أهل العلم من يقلّ أصحابه في أكثر حياته، ثم يكثرون في آخرها، وقد تتبعت سير كثير من العلماء؛ فوجدت أكثر من ينشر علمهم من يتتلمذ عليهم في آخر حياتهم.
- قال أيوب بن سويد الرملي: سمعت الأوزاعي يقول: «كان عطاء بن أبي رباح أرضى الناس عند الناس، وما كان يشهد مجلسه إلا سبعة أو ثمانية». رواه أبو زرعة الدمشقي، ويعقوب بن سفيان بلفظ مقارب.
- وقال عبد الله بن وهب في كتاب العلم من جامعه كما في جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر: سمعت مالكاً يقول: «إنَّ العلمَ ليس بكثرة الرواية، ولكنه نور يجعله الله في القلوب».
الأدب الثالث: صلاح السريرة وحبّ الخير لطلابه وللناس والنصيحة لهم
مما يتأكد في حق العالم أن يكون عاملاً بعلمه، صالح السريرة، حسن السيرة، يحبّ الخير للناس كما يحبّه لنفسه، وأن ينصح لهم في تعليمه وتعامله، وأن يخرج إلى طلابه سليم الصدر، حسن الظنّ، لا يسمح بمقالة الطلاب بعضهم في بعض.
- قال عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «ينبغي للعالم أن يغسل قلبَه كما يغسل الرجلُ ثوبه من النجس». رواه البيهقي في شعب الإيمان.
- وقال برد بن سنانٍ، عن سليمان بن موسى الدّمشقيّ، عن أبي الدّرداء رضي اللّه عنه، قال: «لا تكون عالمًا حتّى تكون متعلّمًا، ولا تكون بالعلم عالمًا حتّى تكون به عاملًا، وكفى بك إثمًا أن لا تزال مخاصمًا، وكفى بك إثمًا أن لا تزال مماريًا، وكفى بك كاذبًا أن لا تزال محدّثًا في غير ذات اللّه عزّ وجلّ». رواه الدارمي.
سليمان بن موسى لم يدرك أبا الدرداء، لكن رواه ابن سعد في الطبقات من طريق كثير بن هشام الكلابي، عن جعفر بن برقان قال: بلغني عن أبي الدرداء؛ فذكره بنحوه؛ فيتقوّى به.
- وقال يونس بن سيفٍ الحمصيّ: حدّثني أبو كبشة السّلوليّ، قال: سمعت أبا الدّرداء رضي اللّه عنه، يقول: «إنّ من أشرّ النّاس عند اللّه منزلةً يوم القيامة عالمٌ لا ينتفع بعلمه». رواه الدارمي.
- وقال الوليد بن مسلم: حدثنا القاسم بن هزان قال: سمعت الزهري يقول: «لا يوثق للناس عمل عامل لا يعلم، ولا يُرضى بقول عالم لا يعمل». رواه يعقوب بن سفيان في المعرفة، وأبو نعيم في الحلية.
الأدب الرابع: أن يكون قدوة صالحة في أدبه وحلمه وعلمه وتعليمه
ينبغي للعالم أن يكون قدوة صالحة لطلابه ومن يأخذ عنه، فيكون رفيقاً حليماً في تعليمه وتعامله، ينتفع الطلاب من هديه وأدبه كما ينتفعون من علمه، بل الانتفاع بالأدب مفتاح للانتفاع بالعلم، ومن كان سيء المعاملة نفر الناس منه ولم يصبر عليه إلا قلّة ممن يجدون عنده ما لا يجدون عند غيره.
وقد قال الله تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}
وقال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)}
وعامّة الطلاب ينظرون إلى هدي العالِم وتعامله أكثر من نظرهم إلى علمه، وإذا اطمأنّت قلوبهم لهديه وعلمه كان كلامه أسرعَ إلى قلوبهم.
- قال علي بن محمد الحلواني: حدثنا أحمد بن بشر بن بكر قال: حدثنا أبي، عن الأوزاعي، عن الزهري قال: «كنا نأتي العالم فما نتعلّم من أدبه أحبّ إلينا من علمه». رواه أبو نعيم في الحلية.
- وقال عبد الرحمن بن عمر رُسْته: سمعتُ عبد الرحمن بن مهدي يقول: «إن كنّا لنأتي الرّجل ما نريد علمه وحديثه، إنّما نأتي نتعلّم من هديه وسمته ودلّه». رواه البيهقي في شعب الإيمان.
الأدب الخامس: ألا يتقدّم مَن هو أولى منه في المجلس حتى يؤذن له
فإنَّ تَقَدّم المرء أمام من هو خير له منقصة في حقه، وظلم لمن هو أولى منه بالمجلس، وكان الصحابة رضي الله عنهم ربما تدافعوا الإمامة والفتوى ومن أسباب ذلك خشية أن يتقدّم المرء مَن هو خير منه؛ فإنّ الإمام كالشافع للمأمومين بين يدي ربّهم جلّ وعلا.
- قال ابن أبي عدي، عن حسين المعلّم، عن عبد الله بن بريدة قال: قال سمرة بن جندب: «لقد كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما فكنت أحفظ عنه، فما يمنعني من القول إلا أن ها هنا رجالا هم أسنّ مني». رواه مسلم في صحيحه.
- وقال يحيى بن آدم: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم قال: «كان زرٌّ أكبرَ من أبي وائل». قال: «فكانا إذا جلسا جميعًا لم يحدّث أبو وائل مع زر». رواه يعقوب بن سفيان في المعرفة، والخطيب البغدادي في الجامع، وابن عساكر في تاريخ دمشق، ورواه ابن أبي خيثمة في تاريخه لكنّه أسقط عاصماً.
- وقال أبو حاتم الرازي: حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت يحيى بن معين يقول: «ما رأيت منذ خرجت من بلادي أحدا أشبه بالمشيخة الذين أدركت من أبي مسهر، والذي يحدث وفي البلاد من هو أولى بالتحديث منه فهو أحمق». رواه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، وابن عساكر في تاريخ دمشق.
فإن أذن له شيخه، وأحبّ له أن يتصدّر في المجلس انتفت الكراهة؛ لأنّ الشيخَ قد يرى من المصلحة تصدّر تلميذه في حياته لينظر كيف يلقي العلم للناس؛ فإن أصاب أيّده على صوابه، وإن أخطأ صوّبه.
- قال وهب بن جرير: حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال لسعيد بن جبير: «حدّث».
قال: «أحدث وأنت شاهد؟!!».
قال: «أوَليس من نعمة الله عليك أن تحدّث وأنا شاهد؛ فإن أخطأت علمتك؟!». رواه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، والبيهقي في المدخل.
وهذا لا يقتضي ألا يتصدّر التلميذ في حياة شيخه مطلقاً؛ فقد تصدّر كثير من العلماء في حياة شيوخهم، ولا سيما إذا دعت الحاجة للتصدر والتعليم والإفتاء وكان له من العلم ما يؤهّله للتصدر. وإنما الأدب مع الشيخ أنه إذا كان معه في مجلس ألا يتصدّر بحضرته إلا أن يأذن له، وكذلك إذا حضر حلقة شيخ آخر لم يكن له أن يتصدّر في حلقته بغير إذنه.
الأدب السادس: التثبّت والتبيين فيما يلقيه من العلم إلى الطلاب
ينبغي على العالم ألا يلقي إلى طلابه إلا علماً صحيحاً قد تثبّت منه بما تبرأ به ذمّته، وأن يتجنَّب التعجّل في الحديثِ وإطلاق الأحكام جزافاً، وإلقاء الكلام على عواهنه من غير تبيّن، وأن يتحرّز من القول على الله بغير علم؛ فكلّ ذلك مما يسقط أهلية المعلّم للتعليم ويُضعف الثقة به؛ وربما وقعت في نفس بعض من يستمع إليه كلمة خاطئة فساكنته زمناً طويلاً وعزّ خروجها منه.
وعليه أن يعطي الدرس حقَّه من الإعداد الجيد؛ فلا يلقي الدروس ارتجالاً من غير ضبطٍ حسن يُعتمد عليه؛ فإنّ طلاب العلم إنما أتوه ليعلّمهم، وينصح لهم في التعليم، وقد تركوا مشاغلهم ليستمعوا إليه، ويتتلمذوا عليه؛ فمن حقّهم عليه أن يحسن ما يلقي إليهم من العلم، وأن يجتهد في تحريره وتحبيره، وبيانه وترتيبه؛ حتى يكون أقرب إلى أفهامهم.
ومن عوّد نفسه إحسان إعداد الدروس رجي له أن تكون دروسه منارة لطلاب العلم، ومرجعاً متيناً لهم، وعدّة صالحة لطلب العلم.
- قال محمد بن عبد الله بن الحكم: أنبأنا ابن وهب قال: قال لي مالك وهو ينكر كثرة الجواب في المسائل: «يا عبد الله! ما علمت فقُلْ ودلَّ عليه، وما لم تعلم فاسكت عنه وإياك أن تتقلد للناس قلادة سوء».
- وقال مالك بن أنس: حدثني ربيعة، قال: قال لي ابن خلدة وكان نعم القاضي: «يا ربيعة إياك أن تفتي الناس فإذا جاءك الرجل يسألك فلا تكن همَّتك أن تخرجه مما وقع فيه، ولتكن همتك أن تتخلص مما سألك عنه». رواه البيهقي في المدخل.
وينبغي للعالم ألا يشقّ على الطلاب في تعليمهم، ولا ينفّرهم بغلظة ولا إهمال، وأن يبيّن لهم مسائل العلم بياناً يناسب أفهامهم، ويتدرّج بهم من صغار العلم إلى كباره، ويعطيهم صفو العلم وخلاصته، ويبيّن لهم منهاج طلب العلم.
- قال أبو عبد الله البخاري في صحيحه: (قال ابن عباس: {كونوا ربانيين}: حلماء فقهاء، ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره).
الأدب السابع: إحسان التذكير بالقرآن، وبذل العلم ونشره
قال الله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)}
- وقال حسان بن عطية، عن أبي كبشة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار». رواه أحمد، والبخاري.
والمفسّر وارث للنبي صلى الله عليه وسلم في أعظم إرثه وهو التذكير بالقرآن وبيان معانيه للناس؛ فينبغي للمفسّر أن يتخيّر ما يذكّر به في كلّ موقف بحسبه، وأن يجتهد في بذل العلم ونشره، ودعوة الناس للخير، وتعليم الطلاب، وإجابة السائلين.
وينبغي للمعلّم أن يراعي السياسة الشرعية في التعليم والدعوة؛ فلا يخالف المشهور المعروف في البلد ما دام له اجتهاد سائغ.
- قال معروف بن خربوذ المكّي، عن أبي الطفيل، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله». رواه البخاري في صحيحه وبوّب عليه: (باب من خص بالعلم قوما دون قوم، كراهية أن لا يفهموا).
وإذا علم العالم أو طالب العلم من حال السائل أنه إنما يسأل تفكّها وتكثّراً أو تعنّتاً وامتحاناً فلا يلزمه أن يجيبه، بل ربما كان الأصلح الإعراض؛ لأن هذه المقاصد دليل على جهل صاحبها، وقد قال الله تعالى: {وأعرض عن الجاهلين}.
والعالم يقدّر المصلحة الشرعية لكل حالة بحسبها، فلا يلزم العالم أن يجيب على أسئلة من لا يريد الانتفاع بجوابه، لكن إذا خشي أن يفتن السائل الحاضرين بسؤاله فتكون حاجتهم مقدمة على حاجته؛ فيبيّن لهم الهدى فيما سأل عنه السائل.
- قال يزيد النحوي، عن عكرمة، قال: قال لي ابن عباس: «انطلق فأفت الناس فمن جاءك يسألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإنك تطرح عن نفسك ثلثي مؤنة الناس». رواه البيهقي في المدخل.
الأدب الثامن: إعانة طلاب العلم ونفعهم بما يستطيع من أوجه الإعانة والنفع
وإرشادهم إلى ما فيه قيام مصالحهم، وأن يحسن في نفعهم بما لا يحرجهم، ولا يكشف ما لا يسرّهم كشفه، فكم من عالم ذُكر في سيرته أنه ألمّت به ملمّة كادت تصرفه عن طلب العلم فوفّقت له إعانة من شيخه بماله أو جاهه فعاد لطلب العلم واجتهد فيه حتى بلغ فيه مراتب العلماء.
الأدب التاسع: أن يعزّ شأن العلم ويصونه
ولا يذله بالتكسب به عند الكبراء بلسان الحال ولا بلسان المقال، ولا يهينه بإلقائه إلى من لا يلقي له بالاً، ولا يرفع به رأساً.
- قال أبو المليح الحسن بن عمر الرّقي: سمعت ميمون بن مهران يقول: «يا أصحاب القرآن! لا تتخذوا القرآن بضاعة تلتمسون به الشرف - يعني الربح - في الدنيا، والتمسوا الدنيا بالدنيا، والتمسوا الآخرة بالآخرة». رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق.
ومن جيّد نظم القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني قوله:
يقولون لي فيك انقباض وإنما … رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم … ومن أكرمته عزة النفس أكرما
ولم أقض حــــــــــــق العلم إن كان كلما … بدا طمـــــــــــع صيرته لي سلما
إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى … ولكن نفس الحر تحتمل الظما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم … ولو عظموه في النفوس لعَظما
الأدب العاشر: صيانة التفسير وحماية جنابه
وذلك بنفي انتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وتحريف الغالين، وتحذير طلاب العلم ممن يدّعي هذا العلم الشريف وليس من أهله، ويلبّس على العامة وطلاب العلم في تفسير كتاب الله تعالى.
وقد تقرر أنّ على أهل كل علم واجبان:
أحدهما: تعليمه لطالبيه على منهاج أهله.
والآخر: صيانته من انتحال مدّعيه ظلماً وزوراً.
- قال محمد بن عبد العزيز بن محمد الواسطي: حدثنا بقية بن الوليد، عن رزيق أبي عبد الله الألهاني، عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ». رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار.
- قال حماد بن زيد: حدثنا بقية بن الوليد، حدثنا معان بن رفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «يرث هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين». رواه البيهقي في السنن الكبرى وغيرها، وهو مرسل ضعيف، لكن له شواهد وطرق حسنه بها بعض أهل العلم.
- قال أبو بكر البيهقي: (وقد وجد تصديق هذا الخبر في زمان الصحابة، ثم في كل عصر من الأعصار إلى يومنا هذا).