جمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه كان لأجل الاجتماع على قراءة واحدة، خوفا من الاختلاف فيه بسبب اختلاف القراءات.
هذه القراءات بين أيدينا الآن لا تحدث اختلافا، فما الذي أحدثته بالضبط حينذاك؟
وجزاكم الله خيرا.
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي دعا بعض من يكتب من أصحابه فأمرهم أن يكتبوا الوحي، ولم يكن المصحف قد جُمع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بل كان مفرقاً في صحف ولخاف، وقد ذكر بعض العلماء من أسباب عدم جمعه في مصحف واحد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن الوحي لم ينقطع في عهده صلى الله عليه وسلم وكان القرآن ينسخ الله منه ما يشاء ويثبت ما يشاء وينزل الوحي الجديد؛ وكان من الصحابة من جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم، وانقطع الوحي، وقُتل جماعة من قرّاء الصحابة في وقعة اليمامة أشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أبي بكر بجمع المصحف فأمروا زيد بن ثابت بكتابة المصحف فجمعه في القصّة المعروفة.
إلا أنّ أبا بكر لم يمنع من بيده شيء من الصحف التي كتبها من القرآن لأن اختلاف الصحابة كان مأمونا لما أدّبهم النبي صلى الله عليه وسلم ولما عقلوا من نهيه عن الاختلاف في القرآن وأن يقرأ كل واحد منهم كما عُلّم، وقد ورد في ذلك أحاديث.
فلما مضى كان في أوّل عهد عثمان رضي الله عنه وكانت الفتوحات قد توسّعت في عهده حدث الاختلاف؛ فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى . فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها أليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف).
والاختلاف هنا مجمل في هذه الرواية وقد فصّل في روايات أخرى وآثار أخرى.
فمن ذلك:
- ما ذكره ابن حجر والقسطلاني من رواية عمارة بن غزية أن حذيفة قال: يا أمير المؤمنين أدرك الناس قال: وما ذاك؟ قال: غزوت فرج أرمينية فإذا أهل الشام يقرأون بقراءة أُبيّ بن كعب ويأتون بما لم يسمع أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرأون بقراءة ابن مسعود فيأتون بما لم يسمع أهل الشام فيكفر بعضهم بعضًا).
- قال ابن حجر: (وفى رواية يونس فتذاكروا القرآن فاختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة).
- ومن ذلك ما رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف عن سويد بن غفلة قال: قال عليّ: (لا تقولوا في عثمان إلا خيرًا فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منّا.
قال: ما تقولون في هذه القراءة فقد بلغني أن بعضهم يقول قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كفرًا.
قلنا: فما ترى؟ قال: أرى أن تجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف).
ومن ذلك ما رواه ابن أبي داوود في المصاحف أيضاً عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: سمع عثمان قراءة أبي وعبد الله ومعاذ ، فخطب الناس ثم قال : « إنما قبض نبيكم منذ خمس عشرة سنة ، وقد اختلفتم في القرآن ، عزمت على من عنده شيء من القرآن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتاني به فجعل الرجل يأتيه باللوح ، والكتف والعسب فيه الكتاب ، فمن أتاه بشيء قال : أنت سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ثم قال : أي الناس أفصح ؟ قالوا : سعيد بن العاص ، ثم قال : أي الناس أكتب ؟ قالوا : زيد بن ثابت قال : فليكتب زيد وليمل سعيد قال : وكتب مصاحف فقسمها في الأمصار ، فما رأيت أحدا عاب ذلك عليه »
وقد استوعب ابن حجر الروايات والآثار في أسباب جمع القرآن في عهد عثمان بما لم أجده عند غيره، وقد أحسن في ذلك.
ومن ذلك قوله: (وأخرج بن أبى داود أيضا من طريق يزيد بن معاوية النخعي قال: إنى لفي المسجد زمن الوليد بن عقبة في حلقة فيها حذيفة فسمع رجلا يقول قراءة عبد الله بن مسعود وسمع آخر يقول قراءة أبى موسى الأشعري فغضب ثم قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال هكذا كان من قبلكم اختلفوا والله لأركبن إلى أمير المؤمنين.
-ومن طريق أخرى عنه: أن اثنين اختلفا في آية من سورة البقرة قرأ هذا {وأتموا الحج والعمرة لله} وقرأ هذا {وأتموا الحج والعمرة للبيت} فغضب حذيفة واحمرت عيناه.
-ومن طريق أبى الشعثاء قال: قال حذيفة: يقول أهل الكوفة قراءة بن مسعود ويقول أهل البصرة قراءة أبى موسى والله لئن قدمت على أمير المؤمنين لآمرنه أن يجعلها قراءة واحدة.
-ومن طريق أخرى أن ابن مسعود قال لحذيفة: بلغني عنك كذا!!
قال: نعم، كرهت أن يقال: قراءة فلان وقراءة فلان؛ فيختلفون كما اختلف أهل الكتاب).
قال ابن حجر: وهذه القصة لحذيفة يظهر لي أنها متقدمة على القصة التي وقعت له في القراءة؛ فكأنه لما رأى الاختلاف أيضا بين أهل الشام والعراق اشتد خوفه فركب إلى عثمان وصادف أن عثمان أيضا كان وقع له نحو ذلك فأخرج بن أبى داود أيضا في المصاحف من طريق أبى قلابة قال: لما كان في خلافة عثمان جعل المعلّم يعلم قراءة الرجل والمعلّم يعلم قراءة الرجل فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلّمين حتى كفّر بعضهم بعضا؛ فبلغ ذلك عثمان فخطب فقال: أنتم عندي تختلفون فمن نأى عنى من الأمصار أشد اختلافا).
قال ابن حجر: فكأنه والله أعلم لما جاءه حذيفة وأعلمه باختلاف أهل الأمصار تحقق عنده ما ظنه من ذلك.
قال: وفى رواية مصعب بن سعد فقال: عثمان تمترون في القرآن تقولون قراءة أبيّ قراءة عبد الله ويقول الآخر والله ما تقيم قراءتك.
-ومن طريق محمد بن سيرين قال: كان الرجل يقرأ حتى يقول الرجل لصاحبه كفرتُ بما تقول فرفع ذلك إلى عثمان فتعاظم في نفسه.
-وعند بن أبى داود أيضا من رواية بكير بن الأشج أن ناسا بالعراق يسأل أحدهم عن الآية فإذا قرأها قال: ألا إنى أكفر بهذه ففشا ذلك في الناس؛ فكُلِّم عثمان في ذلك).ا.هـ
وهذا يدلّ على أن هذه الأسباب اجتمعت وتظافرت وكان جمع القرآن عن إجماع من الصحابة رضي الله عنهم لما رأوه من الاختلاف فجمعوا الناس على مصحف واحد نصحاً للأمّة ودرءا للاختلاف والتنازع في كتاب الله تعالى، وما كان من خلاف ابن مسعود في أوّل الأمر فإنّه رجع عنه.