الصفحة الرئيسة
/
مكتبة الأسئلة والأجوبة
/
إشكال في تفسير ابن عباس لقول الله تعالى: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ...} الآية.
قال البغوي:
(أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا إبراهيم بن موسى، أنا هشام، أن ابن جريج أخبرهم: أخبرني ابن أبي مليكة أن علقمة بن وقاص أخبره أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقل له: لئن كان كلّ امرئ فرح بما أوتي وأحبَّ أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبنَّ أجمعون.
فقال ابن عباس: «ما لكم ولهذه؟! إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه فأخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم»، ثم قرأ ابن عباس رضي الله عنهما {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب} كذلك حتى قوله: {يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا}).
أحسن الله إليكم، شيخنا كيف نفهم حديث ابن عباس هذا في ضوء ما قرره أهل العلم من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟
محمد بن إسماعيل المذكور في هذا الإسناد هو الإمام البخاري صاحب الصحيح، والحديث في صحيحه.
والإشكال الذي عرض لمروان بن الحكم سببه خطأ في فهم الآية، فأراد ترجمان القرآن ابنُ عباس رضي الله عنهما أن يجلّي له معنى الآية، ومتى تبيّن معنى الآية ارتفع الإشكال، ثم نُعمل القاعدة التفسيرية "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، وذلك بأنَّ من شابه اليهود في فعلهم الذي ذمّهم الله به وتوعّدهم عليه فهو مستحق للعقوبة بقدر مشابهته إياهم.
ودلالة الشبه من دلالات مفهوم الموافقة، وهي على ثلاث مراتب: دلالة الأولى، ودلالة المثل، ودلالة الشبه.
وقول الله تعالى: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا} ذكر الفرح هنا في موضع الذمّ؛ فهو فرح مذموم لتعلقه بأمرٍ يُبغضه الله.
وقوله: {بما أتوا} أي من معصية الله تعالى.
وفرح العبد بما يأتي من معصية الله دليل على نفاق في القلب أو مرض.
وهذا بخلاف حال المؤمن فإنه إذا أتى شيئاً من معصية الله استاء لذلك وودَّ أنه لم يفعله، وتمنى التوبة منه، لأن الأصل في المؤمن أنه يحبّ ما يحبّه الله، ويبغض ما يبغضه الله، وفي قلبه من محبة الله تعالى وخشيته والحياء منه ما يحمله على الاستياء من معصيته التي وقع فيها.
ولذلك كان الاستياء من معصية الله تعالى من دلائل الإيمان كما في مسند الإمام أحمد والسنن من حديث عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب بالجابية، فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي فيكم، فذكر الحديث بطوله وفيه: «ومن سرَّته حسنته وساءته سيئته؛ فهو مؤمن».
وأما الكافر والمنافق والذي في قلبه مرض فيحبّ ما يأتي من معصية الله تعالى، ويفرح به، ويُعرض عن ذكر الله فلا يبالي أيحبّ الله ذلك العمل أم يبغضه، ومَن فعل ذلك فقد تعرّض لسخط الله وعقوبته.
وقوله تعالى: {ويُحبّون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا} أي: يُحبّون أن يُحمدوا في دينهم بما ليس من شأنهم، بل هم مقيمون على معصية الله تعالى ومخالفة أمره، ويفرحون بما هم فيه من معصية الله تعالى.
فتفسير ابن عباس وبيانه لمعنى الآية يزيل الإشكال، ويجلّي معنى الآية، ولا يعارض القاعدة المتقررة؛ لأنه لا خلاف أنَّ من شابه اليهود في فعلهم هذا الذي توعدهم الله عليه فهو مستحقّ للعقوبة بقدر مشابهته إيّاهم.
وأما المؤمنون الذين يعملون الصالحات، وتسرّهم طاعة الله، ويستاؤون لما يأتون من معصيته؛ فهم في أمان من هذا الوعيد.
وفي الصحيحين من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه، وحلفوا وأحبّوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا؛ فنزلت: [لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا] الآية.
ولا مانع من تعدد أسباب النزول للآية الواحدة كما هو متقرر في غير ما موضع، وهؤلاء المنافقون شابهوا اليهود في صنيعهم فكان لهم مثل حكمهم.
- قال أبو جعفر الطحاوي: (لا تضادّ في ذلك؛ لأنه قد يجوز أن يكون الأمران جميعاً قد كانا؛ فكان من المنافقين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكره رافع وأبو سعيد، وكان من أهل الكتاب ما كان منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ذكره ابن عباس؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية في ما كان من الفريقين جميعاً؛ فعلم رافع وأبو سعيد ما نزلت فيه مما كان من المنافقين، وعلم ابن عباس ما نزلت فيه مما كان من أهل الكتاب، ولم يعلم واحد من الفريقين ما علم الفريق الآخر ما نزلت فيه؛ فحدّث كلُّ فريقٍ من الفريقين بما علم به مما كانت الآية نزلت فيه من السببين اللذين كان نزولها فيهما، وكان نزولها في الحقيقة في السببين جميعاً لا في أحدهما دون الآخر)ا.هـ.
وقوله تعالى: {يفرحون بما أتوا} "ما" موصولة، وحذف مفعول "أتوا" للإبهام المفيد للتحقير وللعموم في جنس ما فرحوا له الفرح المذموم، وهو فرح في معصية الله تعالى.
ويكثر حذفه مفعول أتى للرغبة عن ذكره والتصريح به، كما قال أبو نواس في قصيدة التوبة:
ما حُجّتي فيما أتَيْتُ ومَا ... قوْلي لربّي بلْ وما عذْري
يا سَوْأتَا ممّا اكتسَبْتُ ويا ... أسفي على ما فاتَ من عُمْري!
وقد قرأ العشرة {أتوا} بالقطع، أي: فعلوا.
ومجيء الإتيان بمعنى الفعل كثير في لسان العرب، وقد قال الله تعالى: {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى} وقوله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم...} الآية.
ومنه قول طرفة بن العبد:
ألستَ ترى أن قد أتيتَ بمؤيَدِ
وقول النابغة في اعتذاره:
ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه ... إذا فلا رفعت سوطي إلى يدي
وقرئ في غير العشر [آتوا] بالمدّ، أي: أعطوا، وهذا محمول على ما يؤتون من العهود والمواثيق، وما يؤتون من الأموال على وجه يكونون فيه عصاة؛ إما بالمراءاة، وإما بالكيد للإسلام وأهله وخديعتهم.
وقرئ أيضاً: [بما أوتوا] أي: أعطوا، وهذا محمول على الفرح المذموم بما أُعطوا من متاع الدنيا، ومن العلم والذكاء والحيل وغير ذلك .
وفي قوله تعالى: {لا تحسبنّ} ثلاث قراءات:
الأولى: {لا تحسبَنّ} بتاء الخطاب في أوّل الفعل، وفتح الباء، وهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي، والخطاب على هذه القراءة للنبي صلى الله عليه وسلم.
والثانية: [لا تحسبُنَّ] بتاء الخطاب، وضمّ الباء للجمع، والخطاب للمؤمنين، وهي قراءة نافع وابن عامر.
والثالثة: [لا يحسبَنَّ] بالياء، على إسناد الفعل للذين يفرحون بما أتوا، وهي قراءة ابن كثير، وأبي عمرو.
وقوله تعالى: {فلا تحسبنهم} فيه ثلاث قراءات أيضاً:
الأولى: {فلا تحسبنَّهم} بالتاء، وفتح الباء، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
والثانية: [فلا تحسبُنَّهم] بالتاء، وضمّ الباء، وهي قراءة نافع وابن عامر، والخطاب للمؤمنين
والثالثة: [فلا يحسبُنَّهم] بالياء، وضمّ الباء للجمع، وهي قراءة ابن كثير، وأبي عمرو.
وهذه القراءت كلها سبعية، وتدلّ على أن الحكم ينبغي أن يكون في غاية الوضوح لجميع هؤلاء، بحيث لا يقع منهم تردد ولا ارتياب في أنّهما مأخوذون بما أتوا.
وتكرار {فلا تحسبنّهم} قبل ذكر جواب {لا تحسبنّ} الأولى للتأكيد، واسترعاء الانتباه.
فدلّت الآية بعموم ألفاظها، وتعدد قراءاتها، وأسباب نزولها، وتعدد الأوجه فيها دلالة واضحة على أنّها عامة في كلّ من يتناوله لفظها من الفرح بما يأتي من معصية الله، ومحبّة أن يُحمدوا في دينهم بما لم يفعلوا.
فمن شابه اليهود والمنافقين في الفرح بما يأتي من معصية الله، ومحبة أن يُحمد في دينه بما ليس من شأنه؛ فهو مثلهم فيما شابههم فيه، ويستحق من العذاب من جنس ما توعدهم الله عليه.
كالذي يسرق ويفرح بسرقته ويحبّ أن يُحمد بالأمانة، والذي يفسق ويفرح بفسقه ويُحبّ أن يُحمد بالإيمان والعمل الصالح وهو مقيم على فسقه؛ فلفظ الآية يتناوله بدلالة الشبه من دلالات مفهوم الموافقة، وإن لم يكن في مرتبة أهل الكفر والنفاق.
والآثار المروية عن السلف الصالح تدلّ على أنّهم فهموا من هذه الآية عموم لفظها ولم يعرض لهم الإشكال الذي عرض لمروان بن الحكم.
- قال أفلح بن سعيدٍ: سمعت محمّد بن كعبٍ القرظيّ قال: «كان في بني إسرائيل رجالٌ عبّادٌ فقهاء، فأدخلتهم الملوك، فرخصوا لهم وأعطوهم، فخرجوا وهم فرحون بما أخذت الملوك من قولهم وما أُعطوا؛ فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {لا تحسبنّ الّذين يفرحون بما أتوا}». رواه ابن أبي حاتم.
وهذا مثل يصدق على كلّ من يتشبه به.
- وقال ابن القيم رحمه الله: (من لا إخلاص له ولا متابعة. فليس عمله موافقًا للشرع، ولا هو خالصٌ للمعبود، كأعمال المتزيِّنين للنّاس المرائين لهم بما لم يشرعه الله عز وجل ورسوله. وهؤلاء شرار الخلق، وأمقَتُهم إلى الله عز وجل. ولهم أوفر نصيبٍ من قوله: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يفرَحون بما أتَوا من البدعة والضّلالة والشِّرك، ويحبُّون أن يُحْمَدوا باتِّباع السُّنّة والإخلاص.
وهذا الضَّرب يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إلى العلم والفقر والعبادة عن الصِّراط المستقيم، فإنّهم يرتكبون البدعَ والضَّلالات والرِّياء والسُّمعة، ويحبُّون أن يُحْمَدوا بما لم يفعلوه من الاتِّباع والإخلاص والعلم، فهم أهل الغضب والضّلال)ا.هـ.
ولذلك كان من أخطر المصائب في الدين الفرحُ بالذنب؛ فإنه من أعظم موانع المغفرة.
- قال ابن القيم رحمه الله: (فرحك بالذنب إذا ظفرتَ به أعظمُ من الذنب).
وخلاصة ما تقدم من تفسير الآية وفقه هدايتها أنّ الذين نزلت فيهم هذه الآية هم اليهود والمنافقون.
وأن الذين يشابهونهم فيما ذمّهم الله عليه من الفسّاقِ فهم مذمومون مستحقون للعقوبة بقدر ما شابهوا فيه اليهود والمنافقين.
- أما المؤمن الذي تسوؤه سيّئته، ويحبّ أن يتوب منها، وأن يتوب الله عليه ويعافيه منها؛ فليس من هؤلاء، وإن كان مذنباً فاسقاً بإقامته على معصيته.
- وأما التائب الذي يقلع عن الذنب، ويندم على ما كان منه، ويعزم على ألا يعود إليه، ويصدق في توبته؛ فهو من أهل محبّة الله تعالى كما قال تعالى: {إن الله يحبّ التوابين ويحبّ المتطهرين} وليس من أولئك المذمومين في شيء.
والله تعالى أعلم.