أحسن الله إليكم ونفع بكم، صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير الظلم في هذه الآية بالشرك، والسؤال هو: هل يصح دخول الشرك الأصغر في معنى الآية؟
وهل يصح الاستدلال على هذا بتنكير ظلم في سياق النفي، وبدلالة معنى الفعل {يلبسوا}؟
الشرك الأصغر داخل في معنى الظلم من حيث الجملة، لكن هل هو من الظلم الذي لا يغفر الله لصاحبه إلا بالتوبة منه أو هو من جنس ظلم العبد لنفسه بالمعاصي فيُمكن أن يُكفَّر عن صاحبه بأنواع من المكفرات؟
قولان لأهل العلم، وممن ذهب إلى أنّ الشرك الأصغر لا يُغفر لصاحبه إذا مات عليه من غير توبة مَن استدلَّ بعموم قول الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يُشرك به}، واشتهر هذا القول عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وأنه لا يُغفر الشرك الأصغر إلا بالتوبة.
وخالفه ابن القيم في مواضع من كتبه، وذكر أن الشرك الأصغر والخفيّ داخلان في المغفرة لمن شاء الله أن يغفر لهم.
والقولان لهما حظّ من النظر، والأقرب أنّ التعريف في قوله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} تعريف للعهد الذهني، وهو الشرك الأكبر الذي وقعت فيه الخصومة بين الرسل وأعدائهم،
وهو المعهود في الأذهان عند الإطلاق، ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه: (وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلهاً آخر؟!!).
وفي قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} تعدية الفعل بالباء فيها تضمين معنى التسوية والعدل، كما قال تعالى: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} ، وقال تعالى: {وهم بربهم يعدلون}، وقال تعالى: {بل هم قوم يعدلون}، وقال تعالى: {قالوا وهم فيها يختصمون . تالله إن كنا لفي ضلال مبين . إذ نسويكم بربّ العالمين}.
والتسوية والعدل لا يتحققان إلا في الشرك الأكبر.
والمقترف للشرك الأصغر يناله من الذمّ والعقاب بمقدار ما شابه به المشركين في فعلهم، وذلك بدلالة الشَّبه، وإن لم يكن جرمه كجرمهم، ولا عقابه كعقابهم.
والسبيل إلى السلامة من الشرك كلّه كبيره وصغيره وظاهره وخفيه هو التوبة إلى الله تعالى منه والإنابة إليه، والاستعاذة بالله منه، والاستغفار مما وقع فيه العبد منه، كما في الأدب المفرد للبخاري عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: انطلقت مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أبا بكر، للشرك فيكم أخفى من دبيب النمل)).
فقال أبو بكر: وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلها آخر؟
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، للشرك أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إذا قلته ذهب عنك قليله وكثيره))
قال: ((قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)).
ولهذا الحديث من الطرق والشواهد ما صححه به أهل العلم.
لكن قد يقع إشكال لدى بعض طلبة العلم فيمن مات وهو ظالم لنفسه فيما دون الشرك؛ هل يتحقق له الأمن؟
فالجواب: أن يقال: من مات وهو مجتنب لكبائر الذنوب، صادق في إرادة أداء حقوق العباد؛ فإنَّ الله تعالى يغفر له ما دون الكبائر، ويؤدّي عنه حقوق العباد.
لقول الله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً}.
ولحديث ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله». رواه أحمد، والبخاري.
فمن صدق الله عزَّ وجلَّ في إيمانه فإنَّ إيمانه يحمله على اجتناب الكبائر وعلى أداء حقوق العباد؛ فيتحقق له الأمن التامّ يوم القيامة بإذن الله.
والآية ذكر فيها لفظ الإيمان؛ {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن} فأفادت بدلالة الإيماء الجلي أنّ المؤمن المحقق لهذا الشرط له الأمن التام يوم القيامة.
وأما من لم يحقق الإيمان، فمات وهو مرتكب لكبائر لم يتب منها، أو معتدٍ على حقوق العباد لا يريد أداءها؛ فإنه مستحق للعقاب؛ فلا يُعارض بين هذه الآية وبين النصوص الصحيحة الثابتة في وعيد عصاة المسلمين بأنواع من العقوبات بحسب ما اقترفوا.
لكن يبقى لهم نصيب من الأمن بما معهم من الإيمان؛ فهم في أمان من الخلود في النار إذا ماتوا وفي قلوبهم إيمان؛ فإن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
كما في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الطويل، وفيه أن الله تعالى يقول: (اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه).
وصح في ذلك أحاديث عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
فعاد الأمر إلى أنّ من حقق الإيمان فإنه سيجتنب الكبائر، ويجتنب البغي على الناس بغير الحق، فيسلم بذلك من أسباب العذاب، ويتحقق له الأمن التام يوم القيامة، وذلك أنّ الله تعالى لا يعذّب أحداً من عباده إلا لذنب في حقه تعالى لم يغفره، أو لحقّ من حقوق عباده لم يصدق العبد في أدائه لهم في حياته، ولم يُؤدَّ عنه، ولم يسامحوا فيه.
وأما أصحاب الكبائر وأهل البغي والظلم فلا يستحقون اسم الإيمان الذي يُمدح به المؤمن، ولا يُنفى عنهم مطلق الإيمان، وإنما لهم من الإيمان والأمن بقدر ما حققوا منه، فتحصل لهم بذلك النجاة من الخلود في النار، والعياذ بالله من النار.