(الأقسام في سورة النارعات من المفسرين من جعلها عامة لكل ما ينطبق عليه الوصف، ومنهم من جعلها خاصة بالملائكة لبعض القرائن، ومنهم من قال غير ذلك، لكن لفت نظري في تفسير السعدي وقد اختار أن الإقسام هنا بالملائكة قوله : (أو أنَّ النزعَ يكونُ لأرواحِ المؤمنينَ، والنشطَ لأرواحِ الكفارِ).
فهل يمكن أن يكون النزع أيسر من النشط؟
هذا الخطأ في بعض نسخ تفسير السعدي، والعبارة في الطبعة الثانية التي نشرتها دار السلام بتحقيق اللويحق، وفي طبعة ابن الجوزي على الصواب: (أو أنَّ النشطَ يكونُ لأرواحِ المؤمنينَ، والنزعَ لأرواحِ الكفارِ).
وفي
هامش طبعة دار السلام الثانية تعليق هذا نصه: ( في "ب" هكذا معدلاً في
هامش النسخة بخطّ الشيخ، وفي "أ": أن النزع يكون لأرواح المؤمنين، والنشط
لأرواح الكفار). والعبارة بعد ظهور
التصويب هي كالتلخيص لما اختاره ابن كثير في تفسيره؛ فإن ابن كثير هو الذي
اشتهر عنه أن النزع لأرواح الكفار، والنشط لأرواح المؤمنين. وأكثر
الآثار المروية عن مفسري السلف الذين فسروا النازعات والناشطات بالملائكة
تدل على أن النزع عام لأرواح المؤمنين والكفار، وكذلك النشط، إلا ما روي عن
سعيد بن جبير أنه قال: في تفسير قول الله تعالى: {والنازعات غرقا} : (نزع
أرواحهم ثمّ غرقت ثم قذف بها في النار). وكذلك ما رواه الضحاك عن ابن عباس، ولا يصحّ عنه. وذكر الفراء نحوه في "معاني القراء" حكاية عمن لم يسمّه ثمّ أعلّه. ثم اختاره ابن كثير في تفسيره، وعنه اشتهر. والصواب أنّ النزع عامّ لأرواح المؤمنين وأرواح الكفار، لكن يكون منه نزع يسير، ونزع شديد. فالنزع اليسير للمؤمنين، والنزع الشديد للكفار، كما صحّت بذلك الأحاديث. ومن المسلمين يُشدد عليه في النزع وفي سكرات الموت تخفيفاً عليه من ذنوبه. والنزع
لا يختص بأرواح الكفار، بل استعمال النزع في الاحتضار استعمال لغوي مشهور
حتى في ذكر سير الصالحين ربما قيل: أدركه وهو في النزع، أي: وهو يحتضر. وفي
سنن ابن ماجه: (باب ما جاء في المؤمن يؤجر في النزع، وذكر فيه حديث الوليد
بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي، عن عطاء، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم دخل عليها وعندها حميم لها يخنقه الموت، فلما رأى النبي صلى الله
عليه وسلم ما بها قال لها «لا تبتئسي على حميمك، فإن ذلك من حسناته». لكن
هذا الحديث في إسناده علة، وهي أن الوليد بن مسلم معروف بتدليس التسوية،
ولا تزول هذه العلة إلا بأن يصرح بالتحديث في جميع طبقات الإسناد أو يروى
الحديث من طريق آخر يتقوّى به. والعرب
تقول: أغرق النزع، إذا بلغ الغاية ولم يَدَع بقية لمستدرك، ويُرسل هذا
مثلا، ومنه أنّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما قيل له: إن أبا موسى
الأشعري يقول: (لا وتر بعد الأذان). قال: «لقد أغرق النزع، وأفرط في الفتيا، الوتر ما بينك وبين صلاة الغداة». رواه عبد الرزاق والبيهقي. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: (أغرق في النزع لم يُبق غاية). ويقال: أغرق الرامي النزع، إذا بلغ الغاية في نزع السهم واجتذابه إلى أقصى مداه. -
قال ابن القيم رحمه الله: ("النَّزعُ": هو اجْتِذَابُ الشيء بقوَّةٍ،
والإغراق في النَّزْع أن يجتذبه إلى آخره، ومنه إغراق النَّزْع في جَذْبِ
القَوس: أن يبلغ بَها غاية المَدِّ، فيقال: أغرق في النَّزْعِ، ثُمَّ صار
مثَلاً لكلِّ من بالغ في فعلٍ حتَّى وصل إلى آخره)ا.هـ.
وهذه الآيات الكريمات من الآيات التي تكثر معانيها وتتسع، ولذلك تعددت أقوال السلف في تفسيرها، لأن لفظ "النازعات" يُطلق على معانٍ عدة، ولأن قوله: {غرقا} يحتمل العود على الفاعل، وعلى المفعول، والفعل "نزع" يحتمل اللزوم والتعدي.
وكذلك قوله تعالى: {والناشطات نشطا} يحتمل وجوها من المعاني. لكن ينبغي أن يُتنبّه إلى أنَّ النشط غير الإنشاط، فإنه يُقال: نشط إذا رَبط، وأنشط: إذا حلَّ الرباط. والنُّشطة والأنشوطة العقدة التي تُجعل لتُنشط إنشاطاً فتحلَّ على الطريقة التي وضعها الناشط. فالملائكة تنزع الأرواح ثم تَنشِطها، أي تربطها على كيفية الله أعلم بها. وما وقع من تفسير النشط بالإنشاط في بعض التفاسير ففيه لبس ينبغي توضيحه؛ وذلك أن الفعل "نشط" يحتمل معاني عدة: المعنى الأول: الرَّبط، وحلّ الرباط هو الإنشاط، كما تقدَّم، فمن أراد هذا المعنى وعبّر عن الإنشاط بالنَّشْط فقد أخطأ. والمعنى الثاني: الجذب صُعُداً بيسر وسهولة. -
قال أبو زيد الأنصاري قال: (نَشطْت الدَّلْوَ من الْبِئْر نشْطاً، وَهُوَ
جَذْبُك الدَّلْوَ من الْبِئْر صُعُداً بِغَيْر قامَةٍ، فَإِذا كَانَ
بِقَامَةٍ فَهُوَ المتْحُ). القامة:
بناء يُبنى أو أعواد غلاظ توضع على شفير البئر على قدر قيام الرَّجل، توضع
عليها البَكرة لتُعين على جذب الدلو من أعماق البئر العميقة. وقوله: (بغير قامة): أي من دون حاجة إلى بكرة توضع على القامة، وذلك لقرب الماء. -
وقال الأصمعي: (يقال: بئر إنشاط - بكسر الألف - وهي التي يخرج منها الدلو
بجَذبة واحدة، وبئر نشوط: وهي التي لا يخرج الدلو منها حتى تنشط كثيراً). وهذا المعنى هو الذي اتكأ عليه من حمل قول الله تعالى: {والناشطات نشطا} على أن المراد به الملائكة تنزع أرواح المؤمنين بيسر وسهولة. والمعنى
الثالث: الجذب بشدة، وهو قريبٌ من الكَشط، وعلى هذا يُحمل قول من فسّر
الناشطات نشطاً بالجاذبات أرواح الكفار بشدة، وفهم أنّ مقصد الآية ترهيب
الكفار، وزجرهم عن الكفر. - قال سعيد
بن منصور: حدثنا الحكم بن ظهير قال: حدثنا السدي، عن عبد خير، عن علي، في
قوله: {والنازعات غرقا}، قال: (هي الملائكة تنزع الأرواح، أرواح الكفار). {والناشطات نشطا}، قال: (هي الملائكة تنشط أرواح الكفار ما بين الأظفار والجلد حتى تخرجها). لكن الحكم بن ظهير متروك الحديث. -
وقال الربيع بن أنس البكري في قوله تعالى: {والنازعات غرقاً . والناشطات
نشطاً }: (هاتانِ الآيتانِ للكفارِ عندَ نَزْعِ النفسِ، تُنْشَطُ نَشْطاً
عَنِيفاً مِثْلَ سَفُّودٍ في صُوفٍ، فكانَ خُرُوجُه شديداً). رواه ابن أبي
حاتم كما في الدر المنثور للسيوطي. -
وفي تفسير جويبر عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {والنازعات
غرقا} قال: (هي الملائكة تنزع أرواح الكفار لما عاينت ملك الموت؛ فيخبرها
بسخط الله؛ فغرقت؛ فينشطها انتشاطاً من العصب واللَّحم). والمعنى الرابع: نشط من المكان إذا خرج منه، ومنه سميت بقر الوحش بالنواشط، لأنها تنشط من مكان إلى مكان. ومنه قيل: إن الهموم تنشط بصاحبها، إذا كانت تحمله على الخروج من موضع إلى موضع طلباً لانفراج همّه، كما قال هميان بن قحافة: أمست همومي تنشط المناشطا ... الشامَ بي طوراً وطوراً واسِطا ومن
هذا المعنى أخذ بعض المفسرين قولهم: (إن الناشطات هي الأرواح)، وذلك لأنها
تنشط من الحياة الدنيا إلى البرزخ، وفي البرزخ هي في مراحل، تنشط من مرحلة
إلى مرحلة، حتى يستقرّ مثواها في الجنة أو في النار. ومنه أخذ القائلون بأنها النجوم قولَهم، لأنها تنشط من برجٍ إلى برجٍ. ومنه
يقال: نشطته شَعوب، أي: أصابته المنية، فأخرجته من الحياة إلى الممات، أو
من ظاهر الأرض إلى باطنها، وعلى هذا المعنى يُحمل قول مجاهد في {الناشطات
نشطا} قال: (هو الموت). وذكر ابن القيم
معنى محتملاً، وهو أن الناشطات هي نفوس المؤمنين تَنشَط عند الموت،
لسرورها بالبشارة وفرحها برضوان الله تعالى وثوابه، وهذا المعنى وإن كان
ثابتاً في أحاديث؛ ومنها ما ورد أن روح المؤمن تقول: قدموني قدموني، ولذلك
يُسنّ الإسراع بالجنازة إلا أنّ فعله: نشِطَ بكسر الشين لا بفتحها، والمصدر
منه "نشاط"، فإن صحّ شاهد على أنّ النَّشْط مصدر لفعل نَشِطَ فهو معنى
مقبول. وروى ابن جرير عن واصل بن السائب عن عطاء بن أبي رباح في تفسير قول الله تعالى: {والناشطات نشطا} قال: (هي الأوهاق). والأوهاق هي الحبال التي تجعل لها عقدة، ثم توضع في أعناق الدواب فتُجذب بها، وتوضع أيضاً في رقاب الأَسْرى ليُجذبوا بها. لكن واصل بن السائب متروك الحديث، والمعنى صحيح محتمل.
والخلاصة أنّ النزع والنشط يحتملان وجوهاً من المعاني في لسان العرب تتسع بهما دلالات الآيات بهذا التركيب البديع.
وعلى
القول بأن المراد بالنازعات والناشطات الملائكة؛ فأكثر القائلين بهذا
القول من السلف تدلّ أقوالهم على أن النزع والنشط عامان لأرواح المؤمنين
وأرواح الكفار، لكن يكون منهما نزع ونشط يسيران على المؤمنين، ونزع ونشط
شديدان على الكفار. - قال ابن القيم رحمه الله: (النزع مشترك بين نفوس بني آدم، والإغراق لا يختص بالكافر).