ما هي القواعد في ترجيح أسباب النزول؟ لأنه ورد في سبب نزول سورة الضحى أكثر من سبب.
القواعد المتعلق بأسباب النزول والمرجحات بينها يُحتاج فيها إلى بسط وتفصيل يطول به المقام، لكن ينبغي أن يضبط طالب العلم فيه أصلاً مهماً، وهو أنّ القول في أسباب النزول مبناه على أمرين:
الأمر الأول: صحة النقل، فهو مما لا يُدرك بالرأي والنظر، ولا بدّ من التثبت من صحة النقل في أسباب النزول؛ فلا يُتساهل فيه كما قد يُتساهل في بعض أسانيد التفسير؛ لأن القول في أسباب النزول له حكم الرفع.
والأمر الآخر: صراحة اللفظ في كون الحادثة سبباً للنزول.
فقد يرد في كلام بعض المفسرين المتقدمين أن الآية نزلت في كذا وكذا، وهم إنما يريدون التفسير وتنزيل الآية على أحوال أو وقائع أو طائفة مخصوصة، ولذلك أمثلة
منها: ما رواه ابن جرير من طرق عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنَّ ابن الكوَّاء سأله عن قول الله عز وجل: {هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا} فقال علي: (أنت وأصحابك). يريد الحرورية.
ومنها: ما رواه سعيد بن منصور عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: (وجدت في القرآن آية نزلت في أهل القدر: {يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر (48) إنا كل شيء خلقناه بقدر}).
فهذا ونحوه ليس من أسباب النزول في شيء، وإنما هو من تنزيل الآيات على بعض الأحوال أو الوقائع لتبيين تناول حكم الآية لها.
وإذا روي في نزول الآيات أكثر من سبب، وكانت كلها صريحة في كون تلك الحادثة سبباً لنزول الآية؛ فينظر في ثبوت تلك الروايات؛ فإن كان أحدُها صحيحاً وما سواها غيرُ صحيح؛ فالصحيح هو المتعمد.
وإن روي في سبب النزول خبران صريحان صحيحان أو أكثر؛ فيجمع بينها، ويقال بصحة تلك الأسباب جميعاً، ولذلك أمثلة:
منها : ما جاء في نزول آيات اللعان؛ ففي حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنها نزلت في عويمر العجلاني وامرأته، وفي حديث ابن عباس وأنس بن مالك أنها نزلت في هلال بن أمية الواقفي وامرأته، وهذه أحاديث كلها صحيحة قد أخرجها البخاري ومسلم إلا حديث أنس فهو في صحيح مسلم.
ومنها: ما رواه البخاري في صحيحه من طريق الزهري عن عروة بن الزبير قال: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما}، فوالله ما على أحد جناح ألاَّ يطوف بالصفا والمروة!!
قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي! إنَّ هذه لو كانت كما أوَّلتها عليه، كانت: "لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما"، ولكنها أُنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلّون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المشلَّل، فكان من أَهَلَّ يتحرَّج أن يطوَّف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرَّج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله}. الآية قالت عائشة رضي الله عنها: «وقد سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما».
قال الزهري: ثم أخبرتُ أبا بكر بن عبد الرحمن فقال: (إنَّ هذا لعلمٌ ما كنت سمعتُه، ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم يذكرون أنَّ الناس - إلا من ذكرت عائشة - ممن كان يهلّ بمناة، كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن، قالوا: يا رسول الله! كنا نطوف بالصفا والمروة وإن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا، فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة؟
فأنزل الله تعالى: {إنَّ الصفا والمروة من شعائر الله} الآية.
قال أبو بكر: «فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما، في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا بالجاهلية بالصفا والمروة، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت، ولم يذكر الصفا حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت».
وأبو بكر هو ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي(ت:94هـ) الذي كان يلقّب براهب قريش، وكان من العلماء العباد، وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وهذا المسلك الذي سلكه بالجمع بين الأسباب الصحيحة هو المتعيّن.
لكن ينبغي أن يُعلم أنَّ تعدّد الأسباب له حالات:
الحالة الأولى: أن يتقارب زمن الأسباب؛ فتكون الآية نزلت ابتداء فيها جميعاً كما تقدم، وهو الأصل فيما يُروى من أسباب النزول لأنَّ الأصل أن نزول الآية مترتّب على سبب النزول فيكون زمن النزول مقارباً للحادثة المروية في سبب النزول.
والحالة الثانية: أن يتباعد ما بين الحادثتين كأن تكون إحداهما بمكة قبل الهجرة، والأخرى بالمدينة بعد الهجرة.
والحالة الثالثة: أن تنزل الآية أو الآيات في إحدى الخبرين بحرف، وتنزل في الخبر الآخر بحرف آخر.
ففي الحالة الأولى يُقال بالجمع مطلقاً.
وفي الحالتين الثانية والثالثة يقال بتكرر النزول.
ولذلك أمثلة منها ما جاء في سبب نزول قول الله تعالى: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} فإنَّ السورة مكية، وسياق الآيات بسِباقِه ولحاقِه في الجواب على ما يثيره المشركون من الشُّبَه والاعتراضات، ومن ذلك ما ذكره الله تعالى عنهم عقيب هذه الآية: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا} الآيات، وهي الآيات التي سألها المشركون.
وفي الصحيحين من حديث الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: بينا أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض حرث المدينة وهو يتوكأ على عسيب معه، فمررنا على نفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح.
فقال بعضهم: لا تسألوه أن يجيء فيه بشيء تكرهونه.
فقال بعضهم: لنسألنَّه، فقام إليه رجل منهم؛ فقال: يا أبا القاسم! ما الروح؟
فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعلمتُ أنه يوحَى إليه.
فقال: [ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتوا من العلم إلا قليلاً].
فظاهر الخبر مع ما تقدم يدلّ على أنّ الآية نزلت في المدينة بحرف آخر غير الذي نزل بمكة.
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وسورة {قل هو الله أحد} أكثرهم على أنها مكية، وقد ذكر في أسباب نزولها سؤال المشركين بمكة، وسؤال الكفار من أهل الكتاب اليهود بالمدينة، ولا منافاة؛ فإنَّ الله أنزلها بمكة أولًا، ثم لما سئل نحو ذلك أنزلها مرةً أخرى. وهذا مما ذكره طائفة من العلماء، وقالوا: إن الآية أو السورة قد تنزل مرتين وأكثر من ذلك؛ فما يذكر من أسباب النزول المتعددة قد يكون جميعه حقاً.
والمراد بذلك أنه إذا حَدَث سببٌ يناسبها نزل جبريل فقرأها عليه ليعلمه أنها تتضمن جواب ذلك السبب، وإن كان الرسول يحفظها قبل ذلك.
والواحد منا قد يُسأل عن مسألةٍ؛ فيذكر له الآية أو الحديث ليبين له دلالة النص على تلك المسألة، وهو حافظ لذلك، لكن يُتلى عليه ذلك النص ليتبين وجه دلالته على المطلوب).
- وقال أيضاً: (فقول أحدهم: نزلت في كذا، لا ينافي قول الآخر: نزلت في كذا، إذا كان اللفظ يتناولهما، كما ذكرناه في التفسير بالمثال، وإذا ذكر أحدهم لها سببًا نزلت لأجله، وذكر الآخر سببًا؛ فقد يُمكن صدقهما بأن تكون نزلت عقب تلك الأسباب، أو تكون نزلت مرتين، مرةً لهذا السبب، ومرةً لهذا السبب).
وأما سورة الضحى فقد روي في سبب نزولها أحاديث وآثار:
- فروى سفيان الثوري، عن الأسود بن قيس، قال: سمعت جندباً، يقول: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلم يقم ليلة - أو ليلتين - فأتته امرأة، فقالت: يا محمد! ما أرى شيطانك إلا قد تركك؛ فأنزل الله عز وجل: {والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى}). رواه البخاري ومسلم.
- وقال وكيع بن الجراح، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: (أبطأ جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فجزع جزعاً شديداً؛ فقالت له خديجة: (إني أرى ربك قد قلاك، مما نرى من جزعتك).
قال: فنزلت: {والضحى . والليل إذا سجى . ما ودعك ربك وما قلى}). رواه ابن أبي شيبة.
وهذا إسناد رجاله ثقات، لكنّه مرسل، ويعضده ما رواه ابن جرير في تفسيره من طريق عبد الواحد بن زياد العبدي، قال: حدثنا سليمان الشيباني، عن عبد الله بن شداد، أنَّ خديجة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أرى ربك إلا قد قلاك؛ فأنزل الله: {والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى}).
- وقال حفص بن سعيد القرشي: حدثتني أمي، عن أمها، وكانت خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنَّ جرواً دخل البيت ودخل تحت السرير ومات؛ فمكث نبي الله صلى الله عليه وسلم، أياماً لا ينزل عليه الوحي.
فقال: ((يا خولة! ما حدث في بيت رسول الله؟! جبريل لا يأتيني؛ فهل حدث في بيت رسول الله حدث؟!
فقلت: والله ما أتى علينا يوم خير من يومنا فأخذ برده فلبسه وخرج.
فقلت: لو هيأت البيتَ، وكنسته فأهويت بالمكنسة تحت السرير؛ فإذا شيء ثقيلٌ فلم أزلْ حتى أخرجته؛ فإذا بجرو ميّت؛ فأخذتُه بيدي فألقيتُه خلف الدار؛ فجاء نبي الله ترعد لحييه، وكان إذا أتاه الوحي أخذته الرعدة؛ فقال: ((يا خولة! دثريني)).
فأنزل الله: (({والضحى، والليل إذا سجى ما ودعك ربك، وما قلى})). رواه الطبراني في المعجم الكبير، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني، ويعقوب بن سفيان في مشيخته.
وهذا إسناد ضعيف، حفص وأمّه مجهولان.