السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أرجو من فضيلة الشيخ الجواب على سؤال التالي المتعلق بمختصر تفسير سورة الفاتحة ... عسى الله أن يجعل ذلك في موزاينه
قال الشيخ حفظه الله تحت تسمية سورة الفاتحة بالسبع المثاني:
اقتباس:
وقد استُدّل لهذا الاسم بقوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم}، وبتفسير النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الصحابة رضي الله عنهم للمراد بالسبع المثاني في هذه الآية أنه سورة الفاتحة، كما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه. و(السبع المثاني) اسم مشترك مع السبع الطوال، وقد فسّرت هذه الآية بها أيضاً، وهو قول ابن مسعود ورواية عن ابن عباس. |
السؤال هو: كيف لابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين تفسير الآية بالسبع الطوال وقد جاء التفسير النبوي لهذه الآية بأنها سورة الفاتحة؟
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
هذا السؤال مهم، وينبغي أن يكون طالب العلم على بصيرة حسنة بجوابه، لأنه قد تعرض له مسائل كثيرة من هذا النوع.
وخلاصة الجواب على هذا السؤال في جانبين:
الجانب الأول: أنّ التفسير النبوي على نوعين من حيث تعيين المراد:
- النوع الأول: ما يكون نصاً في المراد لا يحتمل غيره؛ بحيث يكون هو الصواب الوحيد في المسألة ؛ فهذا النوع لا تحلّ مخالفته.
- والنوع الثاني: أن يكون التفسير النبوي من باب التمثيل، أو ذكر بعض المراد، أو التنبيه على الأولى، أو غير ذلك مما لا يقتضي حصر المراد في ذلك التفسير؛ فيكون التفسير النبوي حجة صحيحة يجب قبولها، لكنها لا تمنع من قبول الأقوال الصحيحة الأخرى عن الصحابة رضي الله عنهم وعن التابعين، وخاصة ما يكون له حكم الرفع أو يعتضد بدليل بيّن، ولا يخالف أصلاً صحيحاً.
ومن أمثلة هذا النوع تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للمسجد الذي أسس على التقوى بالمسجد النبوي، مع أنّ الآية نزلت في مسجد قباء، وهذا التفسير له سبب يتبيّن بمعرفة سياق التفسير، وهو محمول على أنّ المسجد النبوي أولى بهذا الوصف من مسجد قباء لا أنّ الآية لم تنزل في مسجد قباء، وكذلك تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للغاسق بأنّه القمر، هو من باب التنبيه على بعض ما يشمله معنى الآية، لا أنّ المراد محصور فيه، ولذلك تعددت أقوال المفسرين من الصحابة والتابعين في معنى الغاسق.
وقد تكون المفردة من المشترك اللفظي الذي يُفسّر بأكثر من معنى كما تقدّم شرحه في الدرس في اسم "أمّ الكتاب" وأنه يُطلق على سورة الفاتحة، وعلى اللوح المحفوظ، وعلى الآيات المحكمات.
والجانب الثاني: أنّ المفسرين من الصحابة والتابعون رضي الله عنهم قد تأدّبوا أدباً عظيماً زجرهم عن القول في القرآن بغير علم، فإذا صحّ القول عنهم فمستنده إما النصّ وإما الاجتهاد، فإذا كان مستندهم النصّ كان لهم من الدليل على قولهم مثل ما لأصحاب القول الآخر، وإن كان مستندهم الاجتهاد فهو يحتمل الصواب والخطأ، فإن أصابوا كان لهم أجران، وإن أخطأوا عن اجتهاد كان لهم أجر اجتهادهم وخطأهم مغفور، ولا يُظنّ فيهم أنّهم يتعمّدون مخالفة نصّ بلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وهم أحرص الناس على اتّباعه.
ولذلك فإن مثل هذا النوع من المسائل نجمع فيه أقوال الصحابة فإن صحّت عنهم وكان مستندها الاجتهاد فلا شكّ أن قول النبي صلى الله عليه وسلم هو المقدّم ولا تحلّ مخالفته لكن قد يكون لقول الصحابة وجهٌ معتبرٌ في التفسير لا يخالف التفسير النبوي فيُقبل حينئذ من غير معارضة القول النبوي به.
وإن كان قول الصحابي مما لا مدخل للاجتهاد فيه فهو محمول على الرفع أي على أنّه إنما قال ذلك لنصّ بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سيّما إذا تعددت الأقوال عن الصحابة وخلت من معارضِ فإنه يمتنع توافقهم على شيء ليس له أصل يُعتمد عليه.
وفي هذه المسألة ننظر أولاً في ثبوت هذه الأقوال عنهم:
1. فأما ابن مسعود فقد اختلفت الرواية عنه:
- فروى سفيان الثوري عن يونس بن عبيد عن ابن سيرين عن ابن مسعود في قوله: {ولقد آتيناك سبعًا من المثاني} قال: " السّبع الطّول "، أخرجه ابن جرير، وابن سيرين لم يدرك ابن مسعود، وإن كان قد تتلمذ على جماعة من كبار أصحابه.
- وروى ابن علية وهشيم بن بشير عن يونس عن ابن سيرين ووافقهم هشام بن حسان عن ابن سيرين أنه قال: سئل ابن مسعودٍ عن سبعٍ من المثاني، فقال: (فاتحة الكتاب). وقد أخرج هذه الروايات ابن جرير في تفسيره.
فسفيان الثوري على إمامته قد خولف في هذه الرواية والذين خالفوه أكثر وهم من ثقات الرواة فقولهم مقدّم على قوله.
2. وأما ابن عباس فنسبة القول إليه صحيحة، وقد تعددت الروايات عنه في ذلك من طريق سعيد بن جبير ومن طريق مجاهد وقد خرّجها أبو داوود في سننه والنسائي في السنن الكبرى وابن جرير في تفسيره، وصحّ هذا القول أيضاً عن بعض أصحابه كمجاهد وسعيد بن جبير، وهما من متأخري أصحابه وأحدثهم سنّا وأكثرهم ملازمة له في آخر حياته، وهذه قرينة يستفاد منها أنه لم يكن قولاً قديماً له رجع عنه.
وقال عبد الملك بن عبد العزيز ابن جريج: أخبرني أبي أن سعيد بن جبير أخبره أن ابن عباس قال: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني} قال: «أم القرآن »، وقرأها على سعيد: {بسم الله الرحمن الرحيم ..} حتى ختمها , ثم قال: «بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة» , قال ابن عباس: «فقد أخرجها الله لكم فما أخرجها لأحد قبلكم» رواه عبد الرزاق وابن جرير.
لكن عبد العزيز ابن جريج والد عبد الملك ضعيف الحديث، قال فيه البخاري: لا يتابع في حديثه.
فالقول الصحيح عن ابن عباس من جهة الرواية أن السبع المثاني هي السبع الطوال.
ولا ريب أن التفسير النبوي أولى وأصحّ ، وقد نزلت سورة الحجر قبل أن تنزل السبع الطوال، لكن هذه الآية وردت فيها الصفة وحُذف الموصوف؛ فقول ابن عباس إما أن يكون مستنداً على نصّ بلغه، وإما أن يكون اجتهاداً منه في تقدير الموصوف.
وقد روى أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنس البكري، عن أبي العالية الرياحي في قول اللّه تعالى: {ولقد آتيناك سبعًا من المثاني} قال: " فاتحة الكتاب سبع آياتٍ "
قال أبو جعفر: قلت للرّبيع: إنّهم يقولون: السّبع الطّول! فقال: (لقد أنزلت هذه وما نزل من الطّوَل شيءٌ). رواه ابن جرير.
قال ابن كثير بعد أن أورد حديث أبي هريرة، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: (( أمّ القرآن هي: السّبع المثاني والقرآن العظيم))، قال: (فهذا نصٌّ في أنّ الفاتحة السّبع المثاني والقرآن العظيم، ولكن لا ينافي وصف غيرها من السّبع الطّول بذلك، لما فيها من هذه الصّفة، كما لا ينافي وصف القرآن بكماله بذلك أيضًا، كما قال تعالى: {اللّه نزل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا مثاني} فهو مثاني من وجهٍ، ومتشابهٌ من وجهٍ، وهو القرآن العظيم أيضًا، كما أنّه عليه السّلام لـمّا سئل عن المسجد الّذي أسّس على التّقوى، فأشار إلى مسجده، والآية نزلت في مسجد قباء، فلا تنافي، فإن ذكر الشيء لا ينفي ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصّفة، واللّه أعلم)ا.هـ.