السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سؤال فيما ذكره ابن القيم في رسالته في قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}
بارك الله فيكم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
صحّ في الحديث القدسي أنّ الله تعالى قال: [ يا عبادي كلّكم ضالٌّ إلا من هديتُه فاستهدوني أهدكم] رواه مسلم وغيره من حديث أبي إدريس الخولاني عن أبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربّه جلَّ وعلا.
فالهداية منَّة من الله تعالى يؤتيها من يشاء من عباده، والله تعالى حكيم عليم، وهو أعلم بقلوب عباده وبما يكون فيها من شكر نعمة الهداية ومعرفة قدرها كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)}
والذين يسألون الآيات تعنّتاً ليس مرادهم طلب الهداية؛ وإنما مرادهم تعجيز الرسل بزعمهم ليلبسوا على الناس دينهم وليستأثروا بأتباعهم فلا يخرج منهم أحد إلى اتّباع الرسل، ولذلك لو أتتهم الآيات لم تزدهم إلا إمعاناً في الضلال والعناد والمكابرة وطلب الأعذار الواهية كما قال الله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)}
وسبب ذلك أنّهم سألوا الآيات وهم ممعنون في الغواية والضلال ليس لهم قصد صالح من طلبها، ولو أنّهم أرادوا معرفة الحقّ والاهتداء إليه واستهدوا الله لهداهم الله ؛ فإنّ الله يهدي من ينيب إليه، كما قال الله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)}
فليس بينهم وبين الهداية إلا أن ينيبوا إلى الله، لكنّ أكثرهم إنما يريد مغالبة الرسل وتعجيزهم بطلب الآيات، ولو شاء الله عزّ وجلّ لأنزل عليهم آية تذلّ لها رقابهم كما قال تعالى: {طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)}
ولكن الله من حكمته أن جعل الإيمان بالغيب فرقاناً بين المؤمنين والكافرين، وبيّن الدين، وأقام الحجج؛ فمن أراد الحقّ صادقاً من قلبه منيباً إلى الله فإنّ الله يهديه ولا يضلّه، ومن أعرض وتولّى كان مستحقّا لعقوبة الإضلال فوق ما كان لديه من الضلال، كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) }
والضلال على درجات ولا يزال يشتدّ ضلال العبد حتى يُختم على سمعه وقلبه ويجعل على بصره غشاوة، وهذا من انتقام الله عزّ وجلّ ممن أعرض عن ذكره ولم يعرف له قدره، قال الله تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)} فعدّ إعراضهم عن ذكره جريمة يستحقون بها النقمة.
والله تعالى لا يظلم الناس شيئاً ولكنّ الناس أنفسَهم يظلمون.
والمقصود أن الضلال الأول ناشئ عن جهل صاحبه وعدم معرفته بالحقّ، والله تعالى لا يعذّب أحداً على هذا الضلال حتى تقوم على صاحبه الحجّة لما دلَّ عليه قول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)}
والضلال الآخر عقوبة من الله جزاء عنادهم وإعراضهم عن الهدى بعد إذ جاءهم، وهو الضلال الذي يستحقون عليه العقوبة والنكال، نسأل الله تعالى العافية.
ومن الناس من يكون في أوّل أمره ضالاً ثمّ إذا أتاه الهدى من الله قبله واتّبعه فيكون ممن هداهم الله بعد أن كانوا من الضالين، كما في قول الله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)} .
وهذا الأمر يفيد المؤمن فائدة عظيمة وهي أن يتلقى نعمة الهداية بالقبول والشكر، وأن يعظّم شأنها في نفسه، وأن يستغفر الله مما كان منه زلل وتقصير في شكر هذه النعمة؛ فذلك أحرى أن يتمّ الله على عبده نعمة الهداية ، ويتجاوز عن سيئاته وتقصيره.